الحمد لله تملأ الميزان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: معشر الأبناء والإخوان! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بناءً على رغبة مركز الدعوة والإرشاد التابع لهيئة الإفتاء والدعوة والإرشاد والبحوث العلمية، بناء على تلك الرغبة التي تتمثل في امتداد إلقاء كلمات بين الأبناء والإخوان في بيوت الله، حيث لا يشهد أكثر الأحياء دروس المسجد النبوي، فرأى المركز أن يتابع، وأن يغشى عليهم مساجدهم ليبلغهم دعوة الله.

هذا والكلمة التي أسأل الله تعالى أن ييسرها ويفتح فيها علينا وينفعنا بها جميعاً هي: (الحمد لله تملأ الميزان). هذا اللفظ الكريم جاء في حديث طويل أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، وفيه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصبر ضياء، والصدقة برهان، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ).

في الحلقة السابقة -وسميناها محاضرة- تناولنا جملة: (الصلاة نور) والآن نتناول هذه الجملة: (الحمد لله تملأ الميزان) وإن أطال الله في الأعمار وأعاننا على دراسة هذا الحديث، ففي كل أسبوع نتحدث عن جملة، فلا تنتهي الجمل السبع إلا وقد حفظنا الحديث، ومن حفظه حفظه الله، إذا حفظه لفظاً وعملاً، كان من الفائزين.

فإذا تيسر للمؤمن أن يحفظ لنبيه صلى الله عليه وسلم مثل هذا الحديث، وهو عبارة عن درر غالية ثمينة تعدل الدنيا وما عليها، فبسم الله مع الأبناء والإخوان نتدارس قوله عليه الصلاة والسلام: ( الحمد لله تملأ الميزان ).

نبحث أولاً كلمة: (الحمد لله) هذه الجملة المركبة من مضاف ومضاف إليه، الجار والمجرور في حكم الإضافة، وهي جملة خبرية: (الحمد لله) ثابت لله عز وجل، ما هو الحمد؟

الحمد والمدح بمعنى واحد، فلان حمد فلاناً، أو مدحه، ما هناك بون ولا فرق بين المعنيين، الحمد والمدح بمعنى واحد، إلا أن الحمد يكون على الجميل الاختياري، بخلاف المدح، إذ لا نقول: فلان مدح الله تعالى؛ لأن صفات الجلال والكمال ذاتية لله رب العالمين، فنحمده فنقول: الحمد لله، فنثبت جميع ألفاظ المحامد التي عرفها الناس، وحمد بها بعضهم بعضاً، وامتدح بها بعضهم بعضاً، جميع المحامد لله؛ لأن كلمة (أل) في لسان العرب في مثل هذا الموطن من الكلام تدل على الاستغراق، بحيث أن جميع ألفاظ الحمد تضمها وتحويها، ولا يخرج منها لفظ، كل ما عرف الناس من ألفاظ الحمد والمدح اندرجت ودخلت في هذا الحيز وأحاطت بها كلمة: (الحمد لله)، فلم يبق لأحد حمد!

والحقيقة هي كذلك، وعزته وجلاله مستحق للحمد له وحده دون غيره استحقاقاً على الحقيقة، لم؟ الجواب: أروني من نحمده لكم، نحمد هذا الشاب لتقواه، شاب تقي نشأ في عبادة الله فهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، نحمده لتقواه، هل هذه التقوى ذاتية أو موهوبة له أعطيها؟ الجواب: موهوبة له! أعطاه الله إياها، وفقه لها، هداه إليها.

إذاً: فمن يحمد على الحقيقة؟ الذي أعطى التقوى ووهبها ويسرها وأعان عليها، أو الذي تلبس بها عارية؟ الحمد إذاً لله، وهذا الشيخ الكريم مضياف، كريم، كلبه لا ينبح من كثرة الضيوف، طعامه مبذول، وماله غير مردود، نمدحه ونبالغ، هل له الحمد حقيقة؟ هو الذي خلق المال؟ الجواب: لا، هو الذي سخر نفسه بأن تعطي وتبذل وتهب؟ الجواب: لا، يحمد الذي أعطاه المال، ووفقه لإنفاقه في مرضاته، يحمد الذي جعل من طباع الشيخ وغرائزه غريزة الكرم، وخلق الكرم، فالفاعل الحق هو الله.

إذاً: فالذي يحمد هو الله، وهذا شجاع بطل، يختطف الفارس من على صهوة جواده، ويضرب به الأرض، نأخذ في مدحه: هذا عنترة، هذا فلان! والحقيقة الحمد لله الذي قوى ساعديه، وربط جأشه، وأعطاه من القوة البدنية ما يستطيع أن يضرب بها وينتصر، فكل ما عنده موهوب له، كان في يوم من الأيام أجبن مني، وأعجز من جدتي، ولكن الذي أكسبه القوة، وأعطاه خلق الشجاعة هو الله، فهو الذي يستحق الحمد على الحقيقة، فالحمد لله.

وإن جئنا إلى الصفات الخلقية فالأمر واضح: فلان معتدل القامة، حسن القد، جميل المنظر، أزهر اللون، فهذه الزهرة في لونه، والاعتدال في قامته، والاستقامة في جسمه هو الذي خلقها؟ من الذي يحمد؟ يحمد الخالق الواهب الله، الذي جمله وحسنه، أما غير الله فلا حق له في ذلك.

فلان عالم نحرير، بحر زاخر، يفتي بالمذاهب الأربعة، يقول ويثري، يخطب ويبين، هل هو الذي علم نفسه؟ من الذي علمه؟ من الذي ثقفه؟ من الذي وفقه؟ من الذي أرشده؟ من أكسبه الذكاء؟ من قوى حافظته وذاكرته؟ إنه الله، فلا يحمد إذاً إلا الله.

وهكذا بالتتبع والاستقراء لا نجد من يستحق الحمد إلا الله؛ فلهذا قال: الحمد لله، من بقي له شيء؟

الحمد لله ملكاً واستحقاقاً، وقد استغرق جميع المحامد، وليعلم الأبناء والإخوة الحضور أن كلمة (الحمد لله) بالذات هذه الكلمة لولا أن الله عز وجل منحناها وهدانا إليها وعرفها لنا؛ ما كنا لنعرفها، فإنه عز وجل حمد نفسه بنفسه، وعلمنا هذه الكلمة فقلناها له، ولولا علمنا ذلك ما علمنا، ولو بحثنا كيف نشكره لما عرفنا كيف نشكره! فامتن علينا بمنة أن علمنا كلمة (الحمد لله)، كأنما قال: قولوا: (الحمد لله).

(الحمد لله) وزن هذه الكلمة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها (تملأ الميزان)، أي: ميزان يوم القيامة.

والإخوة والأبناء يعرفون أن هناك ميزاناً يوضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد، والإيمان بهذا الميزان جزء من عقيدتنا نحن أهل الإسلام، فقد نطق القرآن بذلك، وبينت السنة مراد الله من ذلك، وأصبح الإيمان بالميزان عقيدتنا نحن أهل الإسلام.

قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47] أي: العدل لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [الأنبياء:47] وزن حبة من خردل أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

هذا الذي جعل المؤمن يتحاشى أن يتناول حبة عنب لا تحل له، يتحاشى أن يتناول حبة تمرة؛ لأنه يعرف أنه يسأل عنها، ويوضع حجمها في ميزانه.

وفي بيان هذا الميزان يقول الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه في سورة القارعة: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4] يكون الناس في خفة عقولهم، في أحلامهم، حيث يفقدون رشدهم وصوابهم، للهول، للفزع؛ لأنها القارعة التي تقرع القلوب، فتكاد تطير، حسبك أن الناس يكونون في تلك الساعة الرهيبة كالفراش المبثوث، المتفرق هنا وهناك، لا يعرفون ذهاباً ولا إياباً، لا يعرفون طلوعاً ولا هبوطاً، لا يعرفون أين يتجهون! ولقد جربنا هذا في قارعة الدنيا قبل قارعة الآخرة، في الحرب العالمية الثانية كانت إذا جاءت الطائرات حاملة قنابل؛ لتقذف بها في مصالح الحكومة؛ والله لكما قال الله، فالطالع إلى العمارة كالهابط لا يدري أين يذهب، والماشي في الشارع لا يدري أين يذهب، والذي يدخل إلى المغارات والسراديب، عدد داخل وآخر خارج، لا يدري الداخل لم؟ ولا الخارج لم؟ وهذا فقط دوي المدفع وأزيز الطائرات.

فكيف بالقارعة: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:3-4] ولاحظوا الفراش كيف يتجمع على المصباح، فيحترق وهو لا يشعر! ولا يدري.

إذاً: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:6-9]، وأم الإنسان هنا ليست والدته، إنما أم رأسه، فيؤخذ ويلقى أسفل، ومنهم من يؤخذ كالجرادة، تؤخذ ناصيته من وراء مع قدميه ويلقى في النار.

واقرءوا إن شئتم: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن:41] هذه الناصية تجمعها من قدميه، فيكسر الشخص كسراً، ويلقى مع الإهانة هكذا في النار.

لنفهم ونحن غافلون، ولولا الغفلة لصعقنا الآن! إذاً: عرفتم هذا الميزان؟ لم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله تملأ الميزان ) ؟ يقولها معاشر الأبناء! ليرغبكم في قولتها؛ ليحفز إليكم لفظها؛ من أجل أن تعيشوا عليها، وحسبها أنها تملأ ميزانك في وقت أنت في حاجة إلى حسنة واحدة.

لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأب يوم القيامة توضع أعماله في كفة الميزان، فيبقى مفتقراً إلى ما يرجح كفة ميزانه، فيبحث عن حسنة، ومن أين يجدها؟ وكيف يحصل عليها؟ فيأتي ابنه وفلذة كبده، فيقول: أي فلان! لقد كنت لك خير الآباء، وكنت وكنت، فهلاّ حسنة واحدة يرجح بها ميزاني فأنجو من عذاب الله؟ فيقول: إي أبتاه! لقد كنت لي خير الآباء، ولقد كنت لي كذا وكذا، ولكن نفسي نفسي! وتذهب الأم إلى ابنتها، فتقول كما قال الأب لابنه، فيشح الابن بالحسنة خشية أن يوبق في النار، والغافلون مثلي لا يهمهم، حسنة جاءت أو ضاعت غير مهم، أما الريال والريالان والثلاثة نثرب لها ونحزن! لأننا أموات في صور أحياء، وقد ضربت مثلاً، أعيده تذكيراً وتعليماً.

نحن الذين عرفنا الطريق إلى الله، وعجزنا عن السير إليه، مثلنا مثل من وضع في بيت من الزجاج الشفاف الذي يكشف ما وراءه، ولكنه من نوع كثيف غليظ، لا يسمع صوتاً ولا حركة، ولا يشم رائحة، فيرى أمامه الجنة والنار والعباد والدنيا ولكن لا يستطيع أن يشم رائحة ولا ينال شيئاً مما يشاهد! هكذا محجوب في هذا البيت الزجاجي، فإن انفتح له ولو كوة صغيرة تنسم نسيم الحياة، وجاءه الروح والريحان، وتنعم وعاش وكأنه في الجنان، يشاهد الصالحين، يسمع أصواتهم، ويراهم وهم يتزاورون في دار السلام.

لكن إذا بقيت كما هي لا كوة ولا نافذة تفتح ولا باب، نشاهد فقط كالمخدر الذي لا يفيق أبداً، أما غيركم ممن لا بصيرة لهم في دين الله ولا معرفة لهم بالله، ولا بالطريق إلى الله؛ فهم يعيشون في بيت مظلم لا كوة ولا نافذة، لا يرون شيئاً، يعيشون في الظلام!

فنحن نريد أن يفتح الله لنا باباً أو نافذة، حتى نجد برد الرحمة في قلوبنا.

شكر الله عز وجل وحمده في سائر أحوال العبد

(الحمد لله) تملأ الميزان، يا من يريدون أن يمتلئ ميزانهم لينجوا من عذاب الله ويفوزوا برضوان الله، فقد أرشدكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الكلمة، فلتكن دائماً بين شفاهكم لا تخطئكم (الحمد لله) وهل تعلمون أن (الحمد لله) رأس الشكر؟ لا تستهينن بني! بـ(الحمد لله) فإنها رأس الشكر! ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الحمد لله) رأس الشكر؛ فلهذا من لم يحمد الله ما شكر الله.

ومن هنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة جلت أو حقرت ) صغرت أو كبرت، قلت أو كثرت، ( فيقول: الحمد لله ) إيماناً وتخرج من نياط قلبه، (الحمد لله) فلا تخرج ميتة على سبيل العادة كما تخرج من أفواهنا، (الحمد لله) هذه تعدل تلك النعمة التي أنعم الله بها عليك، وإن كانت قصوراً ودوراً، وإن كانت أموالاً طائلة، وإن كانت ما كانت، قولك: (الحمد لله) أفضل من تلك النعمة، مهما جلت وعظمت، ( ما من عبد ينعم الله تعالى عليه بنعمة، فيقول: الحمد لله؛ إلا كان الذي أعطى أفضل من الذي أعطي )، الحمد لله!

وفي الحديث الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يحب من العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها، وإذا شرب الشربة -الواحدة- أن يحمده عليها ) وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب خير هدى وخير هدي، فكلمة (الحمد لله) لا تكاد تفارق شفتيه، والحمد لله أن هذه الأمة -أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم- امتازت بهذه الفضيلة، حتى إنها لتعرف عند الأمم السابقة، وقد جاء وصفها وذكرها والحديث عنها في كتب الله، جاء وصفها بأمة الحمد، وفي بعض الألفاظ: بالحمادين، فهم يعرفون بالحمادين، وبأمة الحمد، ولهذا كانت الطبقة المنورة بين المسلمين دائماً كلمة (الحمد لله) لا تفارقهم، كيف أنت؟ يقول: الحمد لله بخير، وهو مريض في سياقات الموت، فلان كيف حالك؟ الحمد لله! سقط من على دابته: الحمد لله! أكل.. شرب.. لبس (الحمد لله)، علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحدنا إذا لبس ثوباً يقول: الحمد لله الذي كسانيه، أو كساني هذا الثوب، ولو شاء لعراني!

الحمد لله تملأ الميزان، كيف تملؤه؟ هذا غيب، ولكن الإيمان بمدلولها واجب، توضع الحمد لله فيمتلئ بها الميزان!

نعم هي معنى من المعاني، والمعاني كالمحسوسات عند الله، وسيأتي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض )، فآمن المؤمنون وصدق المصدقون؛ حتى انكشف لنا وعرفنا أيضاً أنها حقيقة ملموسة، فعندما أقول: سبحان الله والحمد لله، تأخذ هذه الكلمة تتموج ويتناقلها أجزاء الأثير، تتموج حتى تملأ ما بين السماء والأرض!

هذا عرفناه من طريق الاختراعات العصرية؟! كيف تصل الكلمة إذاً بواسطة الأقمار الصناعية؟ باللاسلكي وبالسلكي، الآن هذه الكلمة تسجل في الهواء، وهناك الآلاف وهي ما زالت تتموج، وإذا بارك الله فيها يحفظها فتتموج حتى تملأ ما بين السماء والأرض، وتعطى ذلك -عبد الله- كله أجوراً.

فلا غرابة إذاً أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله تملأ الميزان ).

معاشر الأبناء! (الحمد لله) يسن لنا قولها ونعيش عليها أيضاً عندما نريد أن ندخل المسجد، نقول: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك.

وإذا خرجنا نقدم الرجل اليسرى ونقول: بسم الله -أي: خروجنا- والحمد لله -على أن أقدرنا على أن نخرج- اللهم افتح لي أبواب فضلك!

وإذا أتى الأكل فإن العبد ينهي أكله بكلمة: الحمد لله، وإذا شرب ينهي شربه بكلمة: الحمد لله، وإذا نام ينام على كلمة: الحمد لله، وإذا استيقظ يستيقظ على كلمة: الحمد لله، يستيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم من نومته، فيلهج: ( الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور ).

حتى إذا ركب أحدنا دابته أو سيارته أو سفينته، ما إن يجلس ويستقر على كرسيه، أو على رحله، أو سرجه؛ حتى يقول: الحمد لله، سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14].

(الحمد لله) تملأ الميزان، يا من يريدون أن يمتلئ ميزانهم لينجوا من عذاب الله ويفوزوا برضوان الله، فقد أرشدكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الكلمة، فلتكن دائماً بين شفاهكم لا تخطئكم (الحمد لله) وهل تعلمون أن (الحمد لله) رأس الشكر؟ لا تستهينن بني! بـ(الحمد لله) فإنها رأس الشكر! ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الحمد لله) رأس الشكر؛ فلهذا من لم يحمد الله ما شكر الله.

ومن هنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة جلت أو حقرت ) صغرت أو كبرت، قلت أو كثرت، ( فيقول: الحمد لله ) إيماناً وتخرج من نياط قلبه، (الحمد لله) فلا تخرج ميتة على سبيل العادة كما تخرج من أفواهنا، (الحمد لله) هذه تعدل تلك النعمة التي أنعم الله بها عليك، وإن كانت قصوراً ودوراً، وإن كانت أموالاً طائلة، وإن كانت ما كانت، قولك: (الحمد لله) أفضل من تلك النعمة، مهما جلت وعظمت، ( ما من عبد ينعم الله تعالى عليه بنعمة، فيقول: الحمد لله؛ إلا كان الذي أعطى أفضل من الذي أعطي )، الحمد لله!

وفي الحديث الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يحب من العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها، وإذا شرب الشربة -الواحدة- أن يحمده عليها ) وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب خير هدى وخير هدي، فكلمة (الحمد لله) لا تكاد تفارق شفتيه، والحمد لله أن هذه الأمة -أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم- امتازت بهذه الفضيلة، حتى إنها لتعرف عند الأمم السابقة، وقد جاء وصفها وذكرها والحديث عنها في كتب الله، جاء وصفها بأمة الحمد، وفي بعض الألفاظ: بالحمادين، فهم يعرفون بالحمادين، وبأمة الحمد، ولهذا كانت الطبقة المنورة بين المسلمين دائماً كلمة (الحمد لله) لا تفارقهم، كيف أنت؟ يقول: الحمد لله بخير، وهو مريض في سياقات الموت، فلان كيف حالك؟ الحمد لله! سقط من على دابته: الحمد لله! أكل.. شرب.. لبس (الحمد لله)، علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحدنا إذا لبس ثوباً يقول: الحمد لله الذي كسانيه، أو كساني هذا الثوب، ولو شاء لعراني!

الحمد لله تملأ الميزان، كيف تملؤه؟ هذا غيب، ولكن الإيمان بمدلولها واجب، توضع الحمد لله فيمتلئ بها الميزان!

نعم هي معنى من المعاني، والمعاني كالمحسوسات عند الله، وسيأتي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض )، فآمن المؤمنون وصدق المصدقون؛ حتى انكشف لنا وعرفنا أيضاً أنها حقيقة ملموسة، فعندما أقول: سبحان الله والحمد لله، تأخذ هذه الكلمة تتموج ويتناقلها أجزاء الأثير، تتموج حتى تملأ ما بين السماء والأرض!

هذا عرفناه من طريق الاختراعات العصرية؟! كيف تصل الكلمة إذاً بواسطة الأقمار الصناعية؟ باللاسلكي وبالسلكي، الآن هذه الكلمة تسجل في الهواء، وهناك الآلاف وهي ما زالت تتموج، وإذا بارك الله فيها يحفظها فتتموج حتى تملأ ما بين السماء والأرض، وتعطى ذلك -عبد الله- كله أجوراً.

فلا غرابة إذاً أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله تملأ الميزان ).

معاشر الأبناء! (الحمد لله) يسن لنا قولها ونعيش عليها أيضاً عندما نريد أن ندخل المسجد، نقول: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك.

وإذا خرجنا نقدم الرجل اليسرى ونقول: بسم الله -أي: خروجنا- والحمد لله -على أن أقدرنا على أن نخرج- اللهم افتح لي أبواب فضلك!

وإذا أتى الأكل فإن العبد ينهي أكله بكلمة: الحمد لله، وإذا شرب ينهي شربه بكلمة: الحمد لله، وإذا نام ينام على كلمة: الحمد لله، وإذا استيقظ يستيقظ على كلمة: الحمد لله، يستيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم من نومته، فيلهج: ( الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور ).

حتى إذا ركب أحدنا دابته أو سيارته أو سفينته، ما إن يجلس ويستقر على كرسيه، أو على رحله، أو سرجه؛ حتى يقول: الحمد لله، سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14].

معاشر الأبناء والحضور! بالمناسبة نقول: الحمد لله، عرفنا أن جميع المحامد قد استغرقها الله، ولم يبق منها لسواه، ولكن هل يجوز لنا أن يحمد بعضنا بعضاً؟ الجواب: يجوز بشروط، فلنحفظ هذه الشروط. ‏

الاقتصاد في المدح

أولاً: الاقتصاد، القصد القصد فلا غلو، إذ الإفراط في المدح يؤدي بالعبد إلى الغلو، والغلو في ديننا حرام: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171].

فإذا كان ولابد فالقصد، ما معنى القصد؟ لا تبالغ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بنفسه، فقال فداه أبي وأمي: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ) (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في إطرائي ومدحي كما فعل النصارى في عيسى عليه السلام.

إذاً: فالمبالغة في المدح ممنوعة، ولكن بالعدل والقصد.

اجتناب المدح بالزور والكذب

ثانياً: لا يحل أن تمدحه بمعنى: تحمد شيئاً لا يستحق ذلك، وليس فيه مقتضى المدح، وإلا كنت قائلاً بالزور! لننتبه، إذا كانت العنبة حامضة لا يجوز أن تقول: ما أحلاها! تمدحها بالحلاء، وهي حامضة، أليس هذا كذباً وزوراً؟ بلى، وإذا كان الشيخ بخيلاً، وتعرف من بخله ما يعرفه غيرك من أهله، وقلت: الشيخ كريم، لقد قلت يا بني الزور، ونطقت بالباطل.

وإذا قلت: فلان عالم وهو جاهل؛ قلت باطلاً وزوراً؛ لا أنك تمدح.

إذاً: فلا تمدحن إلا إذا وجد سبب المدح، تقول في الأعمى: ما أبصره! لا يحل هذا، وفي الظالم: ما أعدله! باطل ولا يصح!

فلا بد وأن يكون النعت أو الوصف التي تصف به قائماً بذاته، ولا تبالغ، هذا أولاً.

عدم مواجهة الممدوح بالمدح

ثالثاً: لا تمدحن امرءاً في وجهه، إذ التعاليم النبوية قاضية بذلك، فقد امتدح رجل آخر في حضرته وبين يديه، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع؛ فقال: ( أي فلان! لقد قصمت ظهر أخيك )، وامتدح رجل آخر بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ( لقد قطعتم عنق أخيكم ).

ولهذه التربية النبوية مزايا وفوائد لا نستطيع استيفاءها، ولكن نرمز رمزاً ونشير إشارة، كثيرون أولئك الذين يمدحون أمام الناس من أجل فضيلة، وإذا بهم يغترون ويتخلون عن تلك الفضيلة ويحل محلها الرذيلة.

كم من إنسان يمدح في وجهه فيحسب أنه خير الحاضرين! وأكمل أهل المدينة أجمعين! فيأخذ في الكبر والانتفاخ، وإذا به يصاب بأخطر داء؛ حتى يصبح شر المجتمعين.

فلهذا لا يمدح امرؤ بين يديه، فإن غاب فلا بأس أن تمدحه بالعدل والفقه، أما الذي لا فضل له ولا صفة كمال فتمدحه فذلك المدح الحرام، وقد أخذناه من القرآن الكريم، هل رأيتم الله عز وجل حمد نفسه ولم يذكر سبب الحمد؟ تتبعوا القرآن، أول سورة اسمها سورة الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2] لم؟ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3-4]، هذا الذي استوجب له الحمد!

سورة الأنعام: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الأنعام:1] لم؟ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] فالذي يخلق السماوات والأرض ما يمدح؟ وصانع السيارة يمدح؟! الذي خلق مادة الظلمة والنور، وكانت لا ظلمة ولا نور، وأوجدهما، كيف لا يمدح بهما؟

سورة الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1] الكتاب العظيم، الكتاب الذي لا نظير له، لا يشابهه كتاب، الكتاب الذي عجز الجن والإنس عن محاكاته والإتيان بمثله، هذا الكتاب أنزله على عبده.

الناس يمدحون كاتب مقالة في صحيفة، أو مؤلف رسالة جمع كلماتها ومعانيها ممن سبقه، يمدحونه ويثنون عليه، وإذا لم تمدحه يغضب، والذي أنزل القرآن كله؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1].

سورة سبأ مفتتحة بالحمد: الْحَمْدُ لِلَّهِ [سبأ:1] لم؟ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1].

فاطر: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر:1] من هنا استوحينا أن الحمد أو المدح لا يمكن أن يكون إلا إذا وجد ما يقتضيه، إذا وجد كرم قل: فلان كريم، وجدت تقوى قل: فلان تقي، وجد صلاح قل: فلان صالح، أو من الصالحين، أما مع انعدام ما يقتضي المدح فالمدح ظلم وباطل ولا يحل أبداً.

أولاً: الاقتصاد، القصد القصد فلا غلو، إذ الإفراط في المدح يؤدي بالعبد إلى الغلو، والغلو في ديننا حرام: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171].

فإذا كان ولابد فالقصد، ما معنى القصد؟ لا تبالغ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بنفسه، فقال فداه أبي وأمي: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ) (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في إطرائي ومدحي كما فعل النصارى في عيسى عليه السلام.

إذاً: فالمبالغة في المدح ممنوعة، ولكن بالعدل والقصد.