لماذا نصوم -2


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! لقد بدأنا بالأمس حديثنا عن الصيام، وتساءلنا وقلنا: لماذا نصوم نحن المسلمين؟ وكيف نصوم؟

ولقد عرفنا الكثير من موجبات صيامنا ومقتضياتها، وأول موجب للصيام: أن صيام رمضان قاعدة من قواعد الإسلام الخمس، فمن قال: لا أصوم جاحداً منكراً لما شرع الله فقد أسقط بناء الإسلام، ولم يبق له حظ فيه كمانع الزكاة الجاحد لفرضيتها، وكتارك الصلاة الجاحد لفرضيتها، فالكل يكفر والعياذ بالله.

إذاً نصوم لتلك الفضائل التي اشتمل عليها الصيام، والميزات العظيمة التي ينالها المؤمنون في الدنيا والآخرة.

وها نحن عند قول المؤلف: [ إننا نعظم رمضان.

سؤال: لماذا نعظم رمضان؟ ].

لماذا نحن المسلمين نعظم رمضان ونكبره ونجله؟

نعظم رمضان ونجله ونكبره ونكبر من شأنه؛ لأن الله مولانا عظمه بإنزال كتابه فيه، ونحن أولياء الله نحب ما يحب الله ونكره ما يكرهه ].

ولي الله سواء كان رجلاً أو امرأة ذاك الذي يحب ما يحبه الله ويكره ما يكره الله، وهذا ذكرناه سابقاً وقلنا: الولاية هي الموافقة، فوافق سيدك ومولاك في محابه ومكارهه تكن -والله- وليه، وعاكسه بأن يحب فتكره، ويكره فتحب تكن -والله- عدوه ولست بوليه.

ومرة ثانية ليحمل هذه الحقيقة أبناؤنا من زوار هذا المسجد النبوي!

اعلموا أن ولاية الله عز وجل تتحقق للعبد بالإيمان والتقوى؛ لقول الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، كأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب؟ فكان الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، آمنوا بما أراد الله لهم أن يؤمنوا به، وآمنوا بكل ما أخبر الله تعالى به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يردون شيئاً أبداً، آمنوا الإيمان السليم الصحيح، وكانوا طوال حياتهم يتقون، ولكن يتقون ماذا؟

نحن نتقي البرد باللباس، والحر بالمبردات، والعدو بالسيف والرمح، والله نتقيه بماذا؟

أنستطيع أن نهرب منه أو نحاربه؟! إن الله يتقى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمرك أن تمسك أمسك، وإذا أمرك أن تعطي أعط، وإذا أمرك أن تأخذ خذ، ولا تقل: لم أو لا، أبداً.

إن طاعة الله تعالى تكون بفعل أوامره التي أمر بها وترك نواهيه التي نهى عنها، بهذا يتقى الله، فلا يغضب عليك ولا يسخط، ثم لا يعذب ولا ينتقم ولا يبطش.

إذاً: يتقى عذاب الله وسخطه بشيئين: بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أمرك الله أمر إلزام، أو أمرك رسوله صلى الله عليه وسلم أمر إلزام يجب أن تذعن وأن تفعل، وإذا نهاك الله ورسوله نهي تحريم يجب أن تمتثل؛ وبهذا أنت اتقيت الله فلا عذاب ولا سخط.

يجب أن نعرف أوامر الله ما هي، وأن نعرف نواهيه ما هي.

مبدئياً أنا بلغني أن ربي يحب أموراً ويكره أخرى، وأنني لا أتقي عذابه إلا بفعل أوامره وترك نواهيه، فماذا يجب علي الآن؟

يجب أن نعرف تلك الأوامر ما هي، فإن قيل لي: إن عالماً بها وراء نهر السند، يجب أن أركب ناقتي وأسافر بها، لأنني لا أستطيع أن أنجو من عذاب الله إلا بمعرفة أوامره ونواهيه، وفعل المأمور وترك المنهي، هذا من باب التمثيل. نعم جاء المؤمنون من الأندلس غرب أوروبا إلى المسجد النبوي يعكفون أمام التابعين ويروون السنة ويحملون العلم، كما جاءوا من وراء نهر السند كذلك، ولا تعجب فهذا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من هذه الدار، وكان بيته قريباً من المسجد، خرج على ناقته إلى حمص بالشام من أجل حديث واحد، بلغه أن فلاناً يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول كذا وكذا، فأبى إلا أن يسمع بأذنه هذا الذي يخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرج أربعين يوماً ذهاباً وإياباً من أجل حديث واحد.

ونحن لما هبطنا في قريتك أو في مسجدك نعرض الكتاب والسنة وتمضي عليك أربعون سنة لا تجلس جلسة واحدة لتتعلم، وفي المدينة النبوية لم يخل مسجدها من علم وعلماء، وتمضي على أحدنا أربعون أو خمسون سنة لا يجلس جلسة واحدة؛ لأننا ما عرفنا حقيقة ولاية الله، أو ما عرفنا الله معرفة تثمر لنا حبه في قلوبنا والخوف منه في نفوسنا، ومن لم يحب الله كيف يتقرب إليه؟ ومن لم يخف الله كيف يتقيه؟ ولا ننسى العدو إبليس فهو الذي يصرف الناس عن العلم والمعرفة، ليبقوا في قبضته يسوقهم حيث شاء.‏

نعظم رمضان كون ربنا عز وجل أنزل فيه القرآن وجعل فيه ليلة القدر

قال: [ لماذا نعظم رمضان؟ ]

لأن ربنا تعالى عظمه، أيعظم سيدي شيئاً ولا أعظمه؟ أعوذ بالله، وأين الولاية إذاً؟

قال: [ قال تعالى في كتابه العزيز القرآن الكريم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185] ].

أليس هذا تعظيماً له؟

قال: [ وزاده تعظيماً حيث خصه بليلة القدر ].

وما أدراك ما ليلة القدر؟ خص الله رمضان دون الشهور الأحد عشر بليلة القدر.

قال: [ التي هي خير من ألف شهر، فقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ [القدر:1] -أي: القرآن- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3] ].

وقد علمنا أن الألف شهر أكثر من ثلاث وثمانين سنة، وعرفنا أنها نعمة الله على هذه الأمة، فلما لم تكن أعمارها طويلة كالأمم السابقة عوضها الله عز وجل بليلة القدر، فالذي يدركها مرة في عمره أضاف إلى عمره ثلاثاً وثمانين سنة، والذي يدركها كل سنة وصام أربعين أو خمسين سنة كم سيكون عمره؟!

سيكون أكثر من أعمار الأمم السابقة، قولوا: الحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم، إذ هذه رغبة الحبيب صلى الله عليه وسلم، كأنه تقالّ أعمار أمته فأعطاه الله هذا العوض الكبير.

وماذا في ليلة القدر؟

في ليلة القدر هذه تؤخذ أحداث السنة حتى حركة يدي هذه وجلستكم هذه، تؤخذ كلها من الديوان الكبير من اللوح المحفوظ الإمام المبين، فقبل أن يخلق الله أي شيء خلق القلم وقال: اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة.

والملائكة المكلفون ينسخون أحداث عام (1416هـ)، ويأخذون في تنفيذها كما هي؛ فلهذا يقول العلماء: قد يتزوج الرجل ويلد وهو في ديوان الموتى! يخطب أحدهم في شوال -وأكثر الأعراس عندنا في شوال- ويبني بزوجته وتحمل تسعة أشهر وتلد في رجب مثلاً، ويتوفى هو في جمادى الآخرة.

إذاً: تزوج وولد له وهو في عداد الموتى، وإن شككتم أو ما فهمتم فاسمعوا: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:1-5].

والمضللون حولوا هذه الليلة إلى ليلة النصف من شعبان، مكرة يهودية حمراء، فحتى لا نهتم بليلة القدر، حولوا ليلة القدر إلى النصف من شعبان، وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتجون بهذه الآية: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان:3-6]، فقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] كقوله: فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3].

قبل هذه الفترة التي نهضت بها الأمة لوجود أسباب النهضة كانت ليلة النصف من شعبان هي التي يعتقد أنها الليلة المباركة، ولقد صليت مع أمي مائة ركعة فيها، رحمة الله عليها.

إذاً: المضللون حولوا ليلة القدر إلى شعبان؛ حتى لا نظفر بليلة فيها ثلاث وثمانون سنة وربع.

لا يزال ملايين من الناس يحيون ليلة النصف من شعبان في بلادنا، وما زال ملايين يفعلون هذا الجهل، وهل يجلسون في حلق العلم ويتعلمون؟ لا يفعلون ذلك.

عظمة القرآن ومكانته عند الله تعالى وواجبنا نحوه

قال: [ والقرآن العظيم وليلة القدر من خير ما أوتي المسلمون ].

إي والله، ليلة القدر والقرآن العظيم من خير ما أعطي المسلمون، هل أعطيت أمة مثل القرآن الكريم؟

هذه التوراة فيها ألف سورة أين هي التوراة؟ إن فيها الآن مليون كذبة، زادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وحرفوا وشرعوا، وما بقي إلا جزء قليل منها، والإنجيل أين هو؟ لقد حولوه إلى خمسة أناجيل، إنجيل برنابا، وإنجيل لوقا، وإنجيل كذا، خمسة أناجيل. قد يقول قائل: يا شيخ أنت واهم، لقد حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً في يوم من الأيام، وضحك عليهم العالم فاجتمعوا في روما ولفقوها وقالوا: نجعلها خمسة أناجيل، وهذا القرآن الكريم والله ما نقص منه حرف واحد، ولا كلمة واحدة، وقد انعقدت مؤتمرات -أخبرنا عنها- للعمل على كيف يستطيعون أن يسقطوا حرفين فقط (قل) ففشلوا في عشرات المؤتمرات، لقد قالوا: إذا استطعنا أن نسقط (قل) نستطيع أن نقول لهم: هذا القرآن ليس من كلام الله، هذا من كلام محمد نفسه.

لكن كلمة (قل) في مثل: (قل يا أيها الناس)، (قل يا أيها الكافرون)، (قل هو الله)، لا يمكن أن يقولها لنفسه: قل، لأن هذا لعب سيضحك عليه الناس! فلا بد أن من فوقه يقول له: قل، ففشلوا في ذلك.

قال: [ والقرآن العظيم وليلة القدر من خير ما أوتي المسلمون، وأنعم الله به عليهم في هذه الحياة ].

عرفنا ليلة القدر فما حقيقة القرآن؟ وما مكانته؟ هل نقرؤه على الموتى؟ لأن الكثيرين ما زالوا يقرءونه على الموتى لا إله إلا الله! ماذا فعل بنا الثالوث الأسود المكوّن من المجوس واليهود والنصارى؟ القرآن العظيم يقرأ على الموتى! لو تسمع في التاريخ أن أمة أنزل الله عليها كتاباً فيه الحكمة والهدى والبيان والمعرفة، فبدل أن يجتمعوا عليه في بيوتهم وبيوت ربهم يستخرجون منه العلوم والمعارف والحكم صاروا يقرءونه على موتاهم، والعياذ بالله، تقول: هل هذا يقع في البشر؟ أيقرءونه على الميت ليقوم للصلاة أم ليتوب إلى الله يقول: أستغفر الله؟ وهل الميت يسمعهم؟ وإذا سمعهم هل يستجيب لهم ويقوم ويتوب؟ فكروا يا عباد الله، إن هذا من وضع الثالوث.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين وهو يبين ووالله ما أوصى بأن يقرءوا القرآن على ميت قط، ولا قرأه على ميت أبداً، هل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف أو جحد؟ أعوذ بالله.

والقضية عندنا ليست قضية القراءة على الموتى وإنما القضية إعراضنا عنه وعن تدبره ومعرفة ما يحويه من الهدى والنور لحياتنا، لا أننا نقرؤه على ميت؛ فلهذا هبطنا، فمن يعود بنا إلى سماء كمالاتنا؟ دلوني يرحمكم الله.

أوما هبطنا؟ أما كنا سادة البشرية؟ أما كنا قادة الإنسانية؟ لمن هذه الحضارات وهذه الكمالات؟ لمن تلك العلوم والمعارف الإسلامية؟ هيا نعود، ولكن ما هو السلم الذي يرجع بنا؟ إنه القرآن، وكذلك السنة النبوية؛ لأنها المفسرة والمبينة للقرآن، فلو تركنا للقرآن فقط، ولم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم لم نعرف الدين، أو سنعرف (50%) منه فقط؛ لأن القرآن الحاوي للهدى والنور أسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبينه للناس: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].

السنة ضرورية، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد له أن يشرح لنا ويبين لنا مراد الله عز وجل، فإن أردنا أن نعود فلن يكون ذلك في ظرف أربع سنوات أو خمس وعشرين سنة أو ربع قرن وإنما في أربعين يوماً فقط.

إن الإعلانات الآن رسمية متيسرة وتقع في كل دقيقة وساعة، فلو عزم المسلمون وتعهدوا لربهم أنهم من يوم الخميس من شهر كذا سوف يفزعون إلى ربهم بنسائهم وأطفالهم ورجالهم إلى بيوت ربهم، العرب والعجم، فإذا دقت الساعة السادسة مساء أقبلوا كلهم نساء ورجالاً وأطفالاً إلى بيوت ربهم، ويجلسون بعد صلاة المغرب جلوسنا هذا، النساء وراء سترة تسترهن ومكبرات الصوت بين أيديهن، والغلمان والأطفال كالملائكة صفوفاً، والفحول أمثالكم جالسون، ومعلم مرب يعلم ليلة آية من كتاب الله وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرءون الآية ويحفظونها وتفسر لهم وتشرح، وتوضع أيديهم على المطلوب، فإن كان عقيدة عقدوها في نفوسهم، وإن كان واجباً عزموا على النهوض به، وإن كان محرماً عزموا على تركه والتخلي عنه، وإن كان أدباً عزموا على التأدب به.. وهكذا ليلة بعد ليلة أربعين يوماً أصبحت أمة الإسلامية أمة واحدة؛ لا مذهبية ولا طائفية ولا عنصرية ولا قبلية، مسلمون، لو قالوا: الله أكبر اهتزت أركان الدنيا، وعدنا كما بدأنا.

إن هذا الكلام سوف ينقل إلى اليهود وجمعيات التنصير ويقولون: علينا أن نعمل بكل جهد حتى لا يتم هذا، إن شئتم حلفت لكم بالله أنهم ما يريدون أبداً أن تعود هذه الأمة إلى سماء كمالها، وهم يعملون بكل جهد على أن نبقى فسقة فجرة ندعو الله ولا يستجيب لنا.

أنا أتحدى من يقول لي: اذهب إلى قرية من القرى واعمل هذا، والله لو كنت في الأربعين أو الخمسين مع هذا الحماس لنفذتها، فأذهب إلى قرية ويلتزم أهلها -لأنهم عقلاء يدَّعون الإسلام- على أن يجتمعوا كل ليلة في مسجدهم وإن ضاق وسعوه، ولا يتخلف رجل ولا امرأة غير مريض أو ممرض، ويتعلمون الكتاب والحكمة، وانظر إليهم بعد سنة ما الذي يظهر؟ المودة ستظهر والإخاء والحب والولاء والتعاون والبر والتقوى، وسينتهي الخبث والظلم والحسد والكبر والشرك والباطل، وتصبح القرية كأنها كوكب في الأرض من كواكب السماء.

وإن قلت: هذا مستحيل، فالجواب أن هذا الطعام يشبع، هل أصبح لا يشبع الناس؟ هذا الماء يروي، هل أصبح لا يروي؟ هذه النار تحرق، هل بطل مفعولها فلا تحرق؟ هذا الحديد يقطع، أصبح لا يقطع؟

هذه سنن لِمَ لا تتبدل، وسنة الله في الكتاب والحكمة تتبدل؟! والله لا تتبدل، وما أقبل فرد أو أمة عليها إلا كملوا وسعدوا، فهي العلاج لأمراضنا وعللنا وأسقامنا ونحن نشاهد ذلك ونعرفه: الزنا واللواط والربا والخمر والحشيش وعقوق الوالدين والطلاق والكذب والغش والخداع، أين الإسلام والمسلمون؟ ما سبب هذا الجهل بالله ومحارمه؟

في حيلة أخرى جرب بعضهم الاشتراكية، فهل رفعتهم إلى عنان السماء؟ وجربوا العلمانية، فإلى أين وصلوا؟ وجربوا الخرافة والطرق والبدع، أين انتهت بهم؟

إما أن نسلم لله قلوبنا ووجوهنا فيصبح لا أمل لنا إلا في الله، ولا غاية ولا هدف نهدف له إلا رضا الله، وحينئذ التقت القلوب وتعاونت النفوس.

رؤيا مبشرة بكون المتعلم والمعلم يدعى في الملكوت الأعلى عظيماً

الحمد لله، أفضح نفسي لكم تشجيعاً لكم ونحن نودعكم عما قريب: أحد المؤمنين الصالحين جاءني قبل أمس وأخبرني برؤيا، والرجل أعطاه الله رؤى لا يكاد يمر شهر ولا عام إلا ويرى الحبيب صلى الله عليه وسلم في روضته، فقال: يا شيخ! رأيت حلقتك والناس يفدون إليها حتى امتلأت الحلقة، وما زلت كعادتي أنتظر إذ جاء رجلان فجلسا إلى جنبي، فقال أحدهما للآخر: هذا الشيخ يدعو ودعوته كلها من أجل اتفاق الأمة.

والله صدق، أكثر من أربعين سنة ما دعونا فيها باسم مذهب؛ لا حنبلي ولا شافعي ولا مالكي ولا حنفي ولا زيدي ولا أباضي ولا غيره، وإنما قال الله وقال رسوله.

إذا جاءني الرجل قال لي: أنا مالكي جئت أسأل، أقول له: قل: أنا مسلم وإلا لا نجيبك، وأخ يقول: أنا حنفي، هل يجوز لي كذا أو كذا؟ نقول له: قل: أنا مسلم.

ولهذا صدقت الرؤيا أو لا؟ والله صدقت.

ثم قال أحدهما للآخر: هذا فلان دعي في السماء عظيماً، وهذا عشنا عليه، يروى في أحد الموطآت: ( من علم وعمل بما علم وعلّمه دعي في السماء عظيماً ).

عظماء الرجال من هم؟ هل لهم لينين أو ستالين أو نابليون؟! من عظماء الرجال الذين يُدعون في الملكوت الأعلى بالعظماء؟

إنهم الذين يعلمون ويعملون بما علموا ويعلمونه غيرهم كثر أو قل، هؤلاء يدعون في الملكوت الأعلى بالعظماء.

قال: فسألت: من أنتما؟ قالا: نحن من ملائكة الرحمة، الحمد لله.. الحمد لله.

وتذكرون أن الله تعالى قال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، يجب أن تحفظ هذه الجملة وإن كنت بربرياً لا تنطق بالعربية، تعوّد على أن تنطق بهذه الكلمة: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، لم تعجز عنها وتنساها؟

هم أولياء الله المؤمنون المتقون، ما هم الدجالون المفترون الكذابون، قال تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64] من يعقب؟ لا أحد.

وفسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى بقوله: ( الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له ) أي يراها هو أو يراها آخر ويقول: رأيت لك كذا وكذا.

ها أنتم الآن تتعلمون فما علمتم من شيء فاعملوا به، وعلموه أطفالكم ونساءكم وإخوانكم وجيرانكم، حتى تنالوا هذه المرتبة: ( من علَم وعمل بما علَم وعلّمه دعي في السماء عظيماً )، أعرفتم عظماء الرجال من هم؟ إياكم أن تقولوا: نابليون كما علموكم.

نعظم رمضان كون الرسول صلى الله عليه وسلم يعظمه

قال: [ ونعظم رمضان أيضاً: لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم له ].

عظمنا رمضان لأن الله عظمه، ونعظمه لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم عظمه.

قال: [ فقد روى ابن خزيمة من طريق البيهقي وصححه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: ( خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان. قال: يا أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم مبارك ) ].

(أظلكم) من فوقكم نزل عليكم، (شهر عظيم مبارك) وهذه الكلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم.

فالذي يقول: رمضان ليس مباركاً ملعون، لا حظ له في الإسلام.

قال: [ ( شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ) ].

ليس من ألف ليلة، بل من ألف شهر.

[ ( شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً ) ].

صيامه فريضة وقيامه نافلة وتطوع، والتطوع هو: أن تقوم بشيء ليس واجباً عليك، تتملق ربك وتتزلف إليه به؛ لتعلو منزلتك وتقرب من ربك؛ فلهذا الواعون البصراء يؤدون التطوع كالفريضة؛ لأن الهدف أن يرضى الله، وكلاهما يوجب رضا الله ويحققه، فلا يتهاونون بالتطوع.

قال: [ ( من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ) ].

أي أن من عمل خصلة من الخير، أو من البر والإحسان تطوعاً وتنفلاً كان كمن أدى فريضة في غير رمضان.

قال: [ ( ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ) ].

أي أن من أدى فيه نافلة كانت كفريضة، فيرتفع منسوبها، ومن أدى فيه فريضة تضاعف له إلى سبعين ضعفاً.

قال: [ ( وهو شهر الصبر ) ].

رمضان شهر الصبر، فالذين كانوا يضحكون طوال النهار والليل يتوقفون عنه في رمضان ويصبرون.

والذين كانوا يأكلون ويشربون في كل ساعة يمتنعون عن ذلك في نهار رمضان ويصبرون.

والذين كانوا إذا مرت بهم زوجاتهم يكادون يقعون عليهن هيجاناً، في رمضان صابرون؛ لأنهم صائمون، كيف صبروا؟

إن رمضان يعودك الصبر ويمرنك عليه.

قال: [ ( والصبر ثوابه الجنة ) ].

واقرءوا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] (بغير حساب)، وهذا كأن تملأ لأخيك قرابه وأدواته، لكن إذا كان بحساب قيل لك: أعطه خمسة وعشرين، فهذا معنى الحساب وبدون حساب.

إذا كان بالحساب فهو محدود مكيل أو موزون أو معدود، أما (بغير حساب) فلا حد له.

إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ [الزمر:10] أي: الصائمون، أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، أي أخذاً فقط؛ فلهذا كان المسلمون يفرحون برمضان ويبكون ليلة وداعه،وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم يخطب الناس في هذه الليلة المباركة.

قال: [ ( وشهر المواساة ) ].

رمضان شهر المواساة، فالمسلمون يواسي بعضهم بعضاً، والمواساة تكون بالمساعدة الخيرية الإحسانية، فهذا يأتي بكيس أرز وهذا بعنقود عنب وهذا بدراهم.

هذه المواساة للفقير والمحتاج ليعالج جراحاته ويسد فقره وحاجته، فرمضان شهر المواساة.

قال: [ ( وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه ) ].

رزقك المقدر بمقدار يزاد فيه نسبة زائدة من طعامك وشرابك وما عندك، إذاً: يزاد في رزق المؤمن فيه.

قال: [ ( من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه ) ].

من فطر فيه صائماً عشاه أو سحره ما هو الأجر؟

قال: [ ( كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء ) ].

هذه خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها في المسجد في ليلة صبيحتها رمضان؛ ليدفعهم دفعاً ويشجعهم على الصيام ويفرحهم به.

قال: [ وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار ) ].

وذلك لأن أكثر المؤمنين صائمون وهم من أهل الجنة فتفتح لهم، وأبواب النار أغلقت؛ لأن الفسقة والفجار قليلون في رمضان.

قال: [ قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ) ].

أي المردة من الشياطين، أما الشياطين الصغيرة المغلوبة بكلمة: أعوذ بالله فينتهي أمرها لا تصفد، لكن المردة هي التي تصفد.

قال: [ وقال في حقه صلى الله عليه وسلم: ( عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام، من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان ).

وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ( من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه ) ].

(من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة) لا سفر ولا مرض ولا خوف، (لم يقضه صوم الدهر)، لو أراد أن يصوم الدهر لا يقضيه وإن صامه كله، والأمر بيّن وواضح؛ لأن يوماً في رمضان لا يعوض أبداً، فلا يوجد يوم من غير رمضان كرمضان، ولهذا لا تعويض له.

قال: [ لماذا نعظم رمضان؟ ]

لأن ربنا تعالى عظمه، أيعظم سيدي شيئاً ولا أعظمه؟ أعوذ بالله، وأين الولاية إذاً؟

قال: [ قال تعالى في كتابه العزيز القرآن الكريم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185] ].

أليس هذا تعظيماً له؟

قال: [ وزاده تعظيماً حيث خصه بليلة القدر ].

وما أدراك ما ليلة القدر؟ خص الله رمضان دون الشهور الأحد عشر بليلة القدر.

قال: [ التي هي خير من ألف شهر، فقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ [القدر:1] -أي: القرآن- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3] ].

وقد علمنا أن الألف شهر أكثر من ثلاث وثمانين سنة، وعرفنا أنها نعمة الله على هذه الأمة، فلما لم تكن أعمارها طويلة كالأمم السابقة عوضها الله عز وجل بليلة القدر، فالذي يدركها مرة في عمره أضاف إلى عمره ثلاثاً وثمانين سنة، والذي يدركها كل سنة وصام أربعين أو خمسين سنة كم سيكون عمره؟!

سيكون أكثر من أعمار الأمم السابقة، قولوا: الحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم، إذ هذه رغبة الحبيب صلى الله عليه وسلم، كأنه تقالّ أعمار أمته فأعطاه الله هذا العوض الكبير.

وماذا في ليلة القدر؟

في ليلة القدر هذه تؤخذ أحداث السنة حتى حركة يدي هذه وجلستكم هذه، تؤخذ كلها من الديوان الكبير من اللوح المحفوظ الإمام المبين، فقبل أن يخلق الله أي شيء خلق القلم وقال: اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة.

والملائكة المكلفون ينسخون أحداث عام (1416هـ)، ويأخذون في تنفيذها كما هي؛ فلهذا يقول العلماء: قد يتزوج الرجل ويلد وهو في ديوان الموتى! يخطب أحدهم في شوال -وأكثر الأعراس عندنا في شوال- ويبني بزوجته وتحمل تسعة أشهر وتلد في رجب مثلاً، ويتوفى هو في جمادى الآخرة.

إذاً: تزوج وولد له وهو في عداد الموتى، وإن شككتم أو ما فهمتم فاسمعوا: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:1-5].

والمضللون حولوا هذه الليلة إلى ليلة النصف من شعبان، مكرة يهودية حمراء، فحتى لا نهتم بليلة القدر، حولوا ليلة القدر إلى النصف من شعبان، وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتجون بهذه الآية: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان:3-6]، فقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] كقوله: فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3].

قبل هذه الفترة التي نهضت بها الأمة لوجود أسباب النهضة كانت ليلة النصف من شعبان هي التي يعتقد أنها الليلة المباركة، ولقد صليت مع أمي مائة ركعة فيها، رحمة الله عليها.

إذاً: المضللون حولوا ليلة القدر إلى شعبان؛ حتى لا نظفر بليلة فيها ثلاث وثمانون سنة وربع.

لا يزال ملايين من الناس يحيون ليلة النصف من شعبان في بلادنا، وما زال ملايين يفعلون هذا الجهل، وهل يجلسون في حلق العلم ويتعلمون؟ لا يفعلون ذلك.


استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
انتبه .. إنها الساعة الحاسمة 3860 استماع
لماذا نصوم - شرح آخر -1 3656 استماع
القرآن حجة لك أو عليك 3551 استماع
لماذا نصوم -1 3490 استماع
سر الوجود 3489 استماع
الأمة الوسط 3483 استماع
وصايا لقمان كما وردت في القرآن 3348 استماع
دولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى أن تقوم الساعة 3234 استماع
مناسك الحج 3190 استماع
الذكر والشكر 3142 استماع