مختصر التحرير [63]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله: [ ولم يزل الله متكلماً كيف شاء وإذا شاء بلا كيف ]، سبق الكلام على هذا، وأن كلام الله له كيفية ولكنها غير معلومة كبقية الصفات.

ثم قال المؤلف: [ يأمر بما شاء ويحكم ]، يعني بما يشاء، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] فهو تعالى يأمر بما يشاء ويحكم بما يشاء أمراً كونياً وأمراً شرعياً، وحكماً كونياً وحكماً شرعياً.

والأمر الكوني ما يحصل به الخلق إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فقوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] هذا أمر كوني.

والأمر الشرعي هو ما يكلف به العباد ليفعلوه، مثل قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43].

وإذا كان الله يأمر بما شاء كوناً ويأمر بما شاء شرعاً، فليس من حقنا أن نعترض على ما أمر به كوناً أو شرعاً؛ لأن ذلك عدوان، فلو أن الله تعالى أمر بسيل جارف هدم البناء وأغرق الزروع، وجب علينا أن نستسلم، ولا يجوز أن نقول: لماذا أمر الله بهذا المطر والفيضان؟ لأن الله يأمر بما شاء.

أمر الله لنا بالحج والزكاة والصيام مع ما فيها من نوع الكلفة والمشقة، فليس لنا أن نعترض على الله ونقول: لماذا يأمرنا بها وفيها مشقة كلفة؟ ليس لنا أن نعترض، بل علينا أن نسلم بأمر الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا [الأحزاب:36]، أي: أمراً كونياً أو شرعياً، أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

كذلك يحكم بما يشاء، وكل حكمه عدل، فحكمه على أهل النار بالنار عدل، وحكمه لأهل الجنة بالجنة عدل، بل فضل، فليس لنا أن نعترض على حكم الله، ليس لنا أن نقول: لماذا أوجب الله الوضوء من لحم الإبل ولم يوجب الوضوء من لحم الخنزير مثلاً؟ فلحم الخنزير محرم، لكن لو أكله الإنسان حين إباحته عند الضرورة لم يجب عليه الوضوء، ولو أكله حين تحريمه مع استغنائه عنه لم يجب عليه الوضوء، ولو أكل لحم إبل وهو طيب من الطيبات وجب عليه الوضوء، فليس لنا أن نعترض ونقول: لماذا لم يوجب الله الوضوء من لحم الخنزير مع خبثه، وأوجب الوضوء من لحم الإبل مع طيبه؟ لأن الأمر لله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] ولهذا قال: (يحكم بما يشاء).

لو قال قائل: ما مناسبة ذكر الأمر بما يشاء والحكم بما يشاء في بحث الكتاب (القرآن)؟

نقول: لأن القرآن مشتمل على أوامر وعلى أحكام، فليس لنا أن نعترض على ما جاء في هذا القرآن من الأوامر والأحكام.

ثم قال: [ وفي بعض آية إعجاز ]، إشارة إلى مسألة مختلف فيها، وهي: هل الإعجاز لابد أن يكون بآية أو بسورة أو بأي جملة؟

يرى المؤلف رحمه الله أن الإعجاز يكون بأي جملة ولو كان في بعض آية، ومعلوم أن مراد المؤلف ما كان كلاماً مركباً، أما كلمة (ثم نظر) مثلاً يقول واحد: (ثم) بعض آية أو نصف آية؛ لأن (نظر) ثلاثة حروف و(ثم) ثلاثة حروف، لو قال قائل: هل في كلمة (ثم) إعجاز؟ نقول: هذا غير مركب، وإلا كل إنسان يقدر أن يقول: ثم، و(نظر) كذلك مثلها، لكن تركيب الآية وفي محلها من الآيات يعتبر إعجازاً لا يقدر الناس أن يصوغوا مثل هذا الأسلوب أبداً، وأما مجرد كلمة ولو كانت نصف آية فلا يمكن أن نقول: إنها إعجاز؛ لأننا لو قلنا إنها إعجاز استطال علينا الكفار، يقولون: إنكم تقولون في بعض آية إعجاز ولو لم تكن جملة مركبة، ونحن نستطيع أن نقول (ثم) ألف مرة، ونقول: (نظر) ألف مرة.

فقول المؤلف: (في بعض آية إعجاز)، لا يريد مثل هذه الكلمة الواحدة، إنما يريد المشتملة على جملة.

وهي أيضاً معجزة لا باعتبار انفرادها، بل بانضمامها إلى ما بعدها وقبلها، ويجب أن نقول هذا لئلا يستطيل علينا الكفار ويقولون: نحن نقدر أن نقول كذا.

تفاضل القرآن من حيث الثواب لا من حيث المتكلم به

ثم قال المؤلف: [ ويتفاضل وثوابه ].

يعني: يتفاضل القرآن بذاته ويتفاضل ثوابه، واعلم أن تفاضل القرآن يكون على وجهين، أو أن البحث في تفاضله يكون على وجهين:

الوجه الأول: من حيث المتكلم به، وهو من هذا الوجه لا يتفاضل؛ لأن المتكلم به واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فالمتكلم بــ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] المتكلم بــ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1-2].

إذاً: لا يتفاضل من حيث المتكلم به، أما من حيث موضوعه ومدلوله فلا شك أنه يتفاضل، فآية الكرسي أعظم آية في كتاب الله مع أنها ليست أطول آية، لأن آية الدين أطول منها، ومع ذلك كانت أعظم آية في كتاب الله.

وأعظم سورة في كتاب الله الفاتحة، وليست أطول سورة.

الثواب أيضاً يختلف، بعضه أكثر ثواباً من بعض، وإن كان من حيث الجملة كل حرف منه بعشر حسنات، لكن يتفاضل حسب تفاضل موضوعه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن )، أي تعدل ثلث القرآن في الثواب وفي المعنى.

إذاً: القرآن يتفاضل ويتفاضل كذلك ثوابه، لكن من حيث المتكلم به لا يتفاضل.

لو سمعنا خطبة من شخص رصينة جيدة مؤثرة واقعية، والرجل طالب علم، وسمعنا خطبة من شخص عامي متفككة ملحونة موضوعها رديء، تتحدث عن زمن بعيد، فهل الخطبتان تتفاضلان؟

الجواب: تتفاضلان من حيث الأسلوب والموضوع ومن حيث الخاطب أيضاً؛ لكن القرآن لا يتفاضل من حيث المتكلم لأنه واحد، أما هذا المثال الثاني الذي قلت يتفاضل من حيث المتكلم به ومن حيث الأسلوب ومن حيث الموضوع والأداء والانتفاع فكلها تتفاضل، يقولون: هناك واحد يخطب في بعض القرى يقول: اللهم أيد السلطان بن السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد من سلاطنة الأتراك، فلا يدري الرجل أن هؤلاء قد أكلت الأرض عظامهم!

على كل حال بعض الخطباء يخطب بموضوعات لا تتناسب مع الوقت ولا تمت إلى الوقت بصلة، وهذا لا ينبغي، أما في مسألة المواعظ العامة فهي صالحة لكل زمان.

تفاضل القرآن في الإعجاز

يقول المؤلف رحمه الله: [ ويتفاضل وثوابه، ويتفاوت إعجازه ].

وكله معجز لكن إعجازه يتفاوت، سبحان الله العظيم! بعض القرآن تجد آياته وكأنها شهب من شدة تأثيرها، لو قرأت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وجدت هذا الإيجاز مع الإعجاز التام كأنها عناوين، كأن قصص الأنبياء عناوين، قصة موسى في الأعراف أطول منها وهي قصة واحدة، لكن في (اقتربت) تجدها مختصرة، وتجد أنه ليس فيها محاورة مع الرسل وأقوامهم، بل ليس فيها إلا حال الأقوام بالتكذيب ثم الأخذ؛ لأن أصل ابتداء السورة فيه تكذيب قريش، فناسب أن لا يذكر من الأمم إلى التكذيب والعقوبة: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:1-8].

ووصف الله اليوم الآخر لأن هذه الأمة لا تؤخذ بعقوبة عامة كالأمم السابقة، فأنذرها الله تعالى بعذاب الآخرة، ثم قال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ [القمر:9-11].

هذه السورة الحقيقة إذا قرأها إنسان يتأثر تأثراً عظيماً، ثم في النهاية ذكر: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:47-48]، أعوذ بالله! إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:49-50].

فتجد في هذه السورة من الإعجاز ما هو أعظم بكثير من الإعجاز في مثل سورة (تبت) أو غيرها من السور التي ليس فيها مثل هذه الزواجر والمواعظ، ولكن مع ذلك نصف القرآن كله بأنه معجز.

ثم قال المؤلف: [ ويتفاضل وثوابه ].

يعني: يتفاضل القرآن بذاته ويتفاضل ثوابه، واعلم أن تفاضل القرآن يكون على وجهين، أو أن البحث في تفاضله يكون على وجهين:

الوجه الأول: من حيث المتكلم به، وهو من هذا الوجه لا يتفاضل؛ لأن المتكلم به واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فالمتكلم بــ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] المتكلم بــ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1-2].

إذاً: لا يتفاضل من حيث المتكلم به، أما من حيث موضوعه ومدلوله فلا شك أنه يتفاضل، فآية الكرسي أعظم آية في كتاب الله مع أنها ليست أطول آية، لأن آية الدين أطول منها، ومع ذلك كانت أعظم آية في كتاب الله.

وأعظم سورة في كتاب الله الفاتحة، وليست أطول سورة.

الثواب أيضاً يختلف، بعضه أكثر ثواباً من بعض، وإن كان من حيث الجملة كل حرف منه بعشر حسنات، لكن يتفاضل حسب تفاضل موضوعه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن )، أي تعدل ثلث القرآن في الثواب وفي المعنى.

إذاً: القرآن يتفاضل ويتفاضل كذلك ثوابه، لكن من حيث المتكلم به لا يتفاضل.

لو سمعنا خطبة من شخص رصينة جيدة مؤثرة واقعية، والرجل طالب علم، وسمعنا خطبة من شخص عامي متفككة ملحونة موضوعها رديء، تتحدث عن زمن بعيد، فهل الخطبتان تتفاضلان؟

الجواب: تتفاضلان من حيث الأسلوب والموضوع ومن حيث الخاطب أيضاً؛ لكن القرآن لا يتفاضل من حيث المتكلم لأنه واحد، أما هذا المثال الثاني الذي قلت يتفاضل من حيث المتكلم به ومن حيث الأسلوب ومن حيث الموضوع والأداء والانتفاع فكلها تتفاضل، يقولون: هناك واحد يخطب في بعض القرى يقول: اللهم أيد السلطان بن السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد من سلاطنة الأتراك، فلا يدري الرجل أن هؤلاء قد أكلت الأرض عظامهم!

على كل حال بعض الخطباء يخطب بموضوعات لا تتناسب مع الوقت ولا تمت إلى الوقت بصلة، وهذا لا ينبغي، أما في مسألة المواعظ العامة فهي صالحة لكل زمان.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
مختصر التحرير [69] 3200 استماع
مختصر التحرير [54] 3187 استماع
مختصر التحرير [70] 3078 استماع
مختصر التحرير [33] 2823 استماع
مختصر التحرير [36] 2820 استماع
مختصر التحرير [47] 2753 استماع
مختصر التحرير [23] 2741 استماع
مختصر التحرير [45] 2739 استماع
مختصر التحرير [4] 2688 استماع
مختصر التحرير [34] 2621 استماع