شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 608-614


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فهذا الدرس رقم: (202) من شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الأحد الحادي والعشرون من شهر جمادى الأولى من سنة (1427هـ).

وبالأمس أخذنا ما يتعلق بصفة القبر، والنهي عن التجصيص والبناء، وحكم الكتابة على القبر وما يتعلق بذلك، وتلقين الميت، واليوم أيضاً عندنا مجموعة من الأحاديث المتعلقة بالقبور وزيارتها وأحوالها وغير ذلك.

الحديث الأول رقمه (585):

وهو حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ). والحديث رواه مسلم والترمذي وزاد: ( فإنها تذكر بالآخرة )، وزاد ابن ماجه أيضاً: ( وتزهد في الدنيا ).

تخريج الحديث

ما يتعلق بتخريج الحديث:

فقد رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يزور قبر أمه؛ وذلك لأن في أول الحديث قصة: ( أنهم مروا بـالأبواء، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبر أمه فبكى بكاءً طويلاً وأبكى من حوله، وقال: إني استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ).

ورواه مسلم أيضاً في كتاب الأضاحي؛ وذلك لأن في بعض طرق الحديث أنه قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم).

وأيضاً رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم في الجنائز.

أما الزيادة التي ذكرها المصنف وهي: ( فإنها تزهد في الدنيا ) وقال: رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود.

فهذه الزيادة -زيادة ابن ماجه- فيها ضعف، في سندها أيوب بن هانئ وهو ضعيف.

وأيضاً فقد سبق أن بينا أن الزيادات التي ينفرد بها بعض الرواة في أحاديث مشهورة ينبغي توقيها والتأني في قبولها؛ لأن الغالب أنه يغلب عليها نوع من النكارة أو الشذوذ، فإذا كان الراوي ضعيفاً كما هنا أيوب بن هانئ، فإن الزيادة تكون منكرة إذا زادها راو ضعيف.

معاني ألفاظ الحديث

ما يتعلق بألفاظ الحديث:

قوله: ( كنت نهيتكم ) يعني: أنه سبق من النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن زيارة القبور، وهذا لم يحفظ عن طريق أحد من الصحابة إلا من طريق هذا الحديث، فإنه بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحكم أول الإسلام كان هو النهي عن زيارة القبور، ثم نسخ ذلك.

وقد ذكر بعض أهل العلم السبب في النهي أول الإسلام، فقال: لحداثة الناس بالجاهلية، وما يمكن أن يحدث عند زيارتهم للقبور من العويل والبكاء والصياح، أو ما يمكن أن يحدث من النياحة والكلام عن الميت والتغني بمحامده.. إلى غير ذلك، فلذلك نهاهم أول الإسلام، فلما استقر الأمر واستقر الإيمان في قلوبهم أذن الله تعالى لهم بالزيارة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها ) والزيادة: ( فإنها تذكر بالآخرة )؛ لأن القبر أول منزل من منازل الآخرة، وقد ورد أن عثمان رضي الله عنه كان يذكر عنده الجنة والنار فلا يبكي، فإذا ذكر عنده الموت بكى، فقيل له في ذلك، فقال: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة).

وفي الحديث أيضاً في بعض ألفاظه عند مسلم قوله: ( كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ) وادخار لحوم الأضاحي، يعني: أنهم كانوا يقومون بعمل تجفيف لهذه اللحوم ثم يدخرونها لفترة طويلة، كما يفعله كثير من الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسر النهي أنه أصابت بعض قبائل العرب مجاعة، فجاءوا للمدينة كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي وهو في مسلم : ( أنهم جاءوا عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) فأصابت بعض قبائل العرب مجاعة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يدخروا شيئاً من لحوم الأضاحي، وإنما تأكله أو تتصدق به فوراً ولا تدخر أكثر من ثلاثة أيام من أجل هذه النازلة أو الدافة كما في بعض الألفاظ؛ (الدافة) يعني: القوم الذين يكون لهم صوت، يدفون يعني: لهم صوت.

ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال هذا الأمر العارض بالادخار وقال:

( كلوا ) يعني: من لحوم الأضاحي.

( وادخروا ما بدا لكم ) مع أن السنة في الأضاحي كما هو مشهور أن يقسمها أثلاثاً: يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث.

حكم زيارة الرجال للمقابر

فيما يتعلق بمسائل الحديث ففيه مسألتان مهمتان شهيرتان.

المسألة الأولى: زيارة الرجال للقبور، حكم زيارة الرجال للمقابر:

القول الأول: مشروعية واستحباب زيارة الرجال للقبور وأدلته

وهذه المسألة واضحة وسهلة؛ وذلك أن جماهير أهل العلم يرون مشروعية واستحباب زيارة الرجال للقبور وأن ذلك من السنة، وهذا حكاه غير واحد من أهل العلم إجماعاً؛ فقد حكاه النووي وحكاه أيضاً الحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، وحكاه العكبري وغيرهم من الأئمة: أن العلماء أجمعوا على استحباب زيارة القبور.

ولا شك أنه لو كانت المسألة إجماعاً لم تكن هذه المسألة فقهية تذكر فيها الأقوال، وإنما غالب العلماء أحياناً يحكون الإجماع ويقصدون به مذهب الجماهير، ولا يلتفتون إلى خلاف الواحد والاثنين والثلاثة، مع أن الأئمة إذا كان الإمام مشهوراً فإن قوله يخرق الإجماع، ولا يمكن حكاية الإجماع مع حفظ الخلاف لبعض الأئمة من الصحابة أو السلف أو غيرهم، إلا أن يقال: إنه كان ثمة خلاف ثم استقر الأمر على الإجماع، وهذا أيضاً صعب؛ لأن الناس والعلماء بعد انتشار الأمة واتساعها يصعب حصر أقوالهم، ويوجد الخلاف فيهم مثلما يوجد فيمن قبلهم أو أكثر.

الخلاصة: أن هذا هو القول الأول: أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وهذا كما قلت مذهب الجماهير بما في ذلك الأئمة الأربعة: مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة .

حجتهم على هذا القول:

من أقوى حججهم حديث الباب، وهو حديث صحيح رواه مسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فزوروها ) وهذا أمر، وأقل أحوال الأمر هو الاستحباب، ولذلك يؤخذ من الحديث استحباب زيارة الرجال للقبور.

وأيضاً من أدلتهم: فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه زار قبور أصحابه بـالبقيع، كما في الصحيحين من طرق، وكذلك زار قبر أمه بـالأبواء كما في الصحيح أيضاً.

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور القبور، وقد يزورها في ملأ من أصحابه كما في الصحيحين أيضاً من حديث البراء بن عازب : ( أنه انتهى إلى القبر، وقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] ).

إذاً الدليل الثاني: فعل النبي صلى الله عليه وسلم المتواتر من طرق كثيرة جداً.

الدليل الثالث: فعل الصحابة، فإنه كان مشهوراً عندهم زيارة القبور، وفي ذلك أحاديث وآثار كثيرة جداً.

القول الثاني: وجوب زيارة الرجال للقبور ولو مرة في العمر وأدلته

القول الثاني: أن زيارة القبور فرض ولو مرة في العمر، وهذا جنح إليه الإمام ابن حزم كما في المحلى، واحتج أيضاً بحديث الباب، ولكنه حمل الأمر في الحديث على الوجوب، فقال: ( فزوروها ) أمر للوجوب، ولا يوجد صارف يصرفه عنه.

والواقع أن ما ذهب إليه ابن حزم قول ضعيف؛ لاعتبارات:

أولاً: لما سبق أن ذكرناه أن الأوامر والنواهي إذا كانت في مقام الآداب والأخلاق والإرشاد وغيرها، فإن الأصل فيها أنها تكون الأوامر للاستحباب، والنهي يكون للكراهة وهذا منها.

فنقول: ما كان هذا وجهه فالأصل أنه للاستحباب وليس للوجوب، وعلى هذا عمل الأئمة في معظم أو في الكثير من المسائل.

وفي حديث الباب على وجه الخصوص أيضاً اعتبار آخر يضعف القول بأنه للوجوب، وهو أنه أمر بعد نهي، يعني: إذا جاء في الشرع في البداية نهي عن شيء ثم أمر به، فهذا عند بعض العلماء يدل على الإباحة، يقولون: الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة ؛ لأنه كان منهياً عنه، فلما أمرهم به كأنه يقول لهم: إن الحرمة قد زالت، ولذلك نظائر، وقد يكون من ذلك مثلاً عندما يكون الإنسان ممنوعاً من شيء بالصيام أو بالإحرام ثم يؤذن له بعد ذلك، مثلاً: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187] فالأمر أمر إباحة، يعني: أنه كان ممنوعاً حال الصيام ثم أذن لهم، وكذلك بالنسبة للمحرم في منعه من الصيد أو من غير ذلك.

وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] فهنا ليس الاصطياد مستحباً ولكن مأذون به، يعني: وإذا حللتم فجائز لكم أن تصطادوا، أو تصطادوا إن شئتم، وليس الأمر أمر استحباب، وإنما هو لبيان رفع الحظر.

وقد يدل الأمر على الاستحباب، والأقرب في مثل حديث الباب أن يقال: بأن الأمر ليس للإباحة، وإن كان هذا مال إليه بعضهم، ولكن نقول: الأقرب أن الأمر في قوله: ( فزوروها ) للاستحباب، لماذا نرجح أن الأمر للاستحباب وليس للإباحة؟

لوجود التعليل في الحديث، وقد ذكرنا سابقاً أيضاً: أن كون النص يأتي معللاً فإن هذا يقويه ويعزز جانبه، فلما قال: ( فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ) دل ذلك على أن الأمر للاستحباب.

القول الثالث: كراهة زيارة الرجال للقبور وأدلته

القول الثالث في المسألة: أن زيارة القبور للرجال مكروهة، وهذا قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن سيرين، فثبوته عن هؤلاء الأئمة وهم من أعلام السلف يدل على أن المسألة ليس فيها إجماع، فخلاف هؤلاء معتبر، ولعل هؤلاء الأئمة لم يبلغهم النسخ، فبقوا على أصل النهي الوارد.

ولذلك نقول: المسألة فيها ثلاثة أقوال، والراجح: هو أن زيارة القبور مستحبة، لقوة الأدلة وسلامتها من المعارض.

حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

في هذا الحديث أيضاً مسألة أخرى متعلقة بذلك: وهي زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام فيها أو لها حالتان:

الحالة الأولى: أن تكون زيارة من قرب، أن تكون زيارة من غير سفر، يعني: من دون شد رحل، مثل إنسان مقيم في المدينة أو زائر للمدينة، فهل يشرع له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا يشرع؟ يشرع، هذه هي الصورة الأولى: أن تكون زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دون سفر، ومن دون شد رحل.

فهذه الحالة لا شك أنها مشروعة، ونقول: إن هذه الزيارة من أولى ما ينطبق عليها البحث السابق، فإذا كانت زيارة القبور مشروعة، قبور الوالدين وقبور المسلمين، فأولى ما تتحقق فيه المشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبري صاحبيه، هذا إذا كانت من غير شد رحل.

الحالة الثانية: أن تكون بشد رحل، وشد الرحل معناه السفر:

لأن الإنسان إذا أراد أن يسافر وضع الرحل على البعير وما يسمى بالشداد وتهيأ للسفر، وليس المقصود شد الرحل على وجه التنصيص، فاليوم الناس لا يشدون رحلاً، وإنما يركبون السيارات أو الطيارات أو القطارات أو غيرها من وسائل السفر، فالمقصود السفر إذاً، فالأمر متعلق بالسفر بغض النظر عن آلته وصفته، فهل يجوز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا يجوز؟

فيها خلاف قوي ومشهور أيضاً:

القول الأول: عدم جواز شد الرحل لزيارة قبر النبي وأدلته

القول الأول في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك محرم، أنه لا يجوز كما ذكرت:

لا يجوز السفر أو شد الرحل لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا مذهب الإمام مالك، وأكثر أصحاب الإمام أحمد، ونصره الإمام ابن تيمية رحمه الله في فتوى مطولة، وكذلك جماعة من الحنابلة ابن عبد الهادي، وكان بينه وبين السبكي مناظرة طويلة ومرادة، وكتب في قضية شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك ابن القيم رحمه الله وابن الجوزي من الحنابلة، وقبلهم أيضاً ابن عقيل من الحنابلة.. وغيرهم.

فهذا القول الأول: أنه لا يجوز شد الرحل من أجل زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام.

وحجة هؤلاء على ما ذهبوا إليه:

أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ).

وهذا النص أو هذا اللفظ ذكر غير واحد من أهل العلم أنه متواتر، فقد جاء في الصحيحين حديث أبي هريرة كما ذكرناه، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري وحديث ابن عمر وجابر وغيرهم، وفيه أحاديث عديدة، فهو حديث مشهور، إن لم يكن متواتراً فهو حديث مشهور وصحيح: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ).

وجه الاستدلال من الحديث على هذه المسألة قالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال ) خبر بمعنى النهي، فكأنه يقول: (لا تشدوا الرحال) وهذا معناه أنه لا يجوز لكم، وهذا معناه النهي؛ لأنه ليس خبراً على وجهه، فالرحال قد تشد لأي مكان، وإنما هو خبر معناه أنه لا يجوز في الشريعة شد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، هذا وجه الاستدلال بهذا النص وهذه المجموعة من الأحاديث.

وقالوا: إن المقصود بالحديث هو أنه لا يجوز السفر إلى بقعة بقصد التعبد لله عز وجل، هذا المعنى؛ لأنه أيضاً الرحال قد تشد للتجارة، وقد تشد لطلب العلم، وقد تشد لصلة الأرحام، وقد تشد لمعان كثيرة، وقد تشد للهجرة.. إلى غير ذلك من الأبواب والأسباب، وهذه فائدة مهمة، وبعض الناس يلتبس عليه الأمر.

المقصود في الحديث: أنه لا يجوز أن يسافر الإنسان إلى بقعة في الأرض أو مكان بزعم أن هذا المكان له خصوصية تعبدية إلهية وفضيلة، كونك تسافر مثلاً إلى مكان من أجل الخضرة أو من أجل الماء أو من أجل المطر أو من أجل التجارة أو الطب أو الزراعة، أو أي مقصد دنيوي، أو للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ هذا كله جائز، لكن المنهي عنه هو السفر باعتقاد وجود فضيلة لهذه البقعة التي تسافر إليها، لماذا؟ لأن القول بوجود فضيلة هذا لا يكون إلا إلى الله، لا يكون إلا إلى الشرع، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68] يعني: لا يملك أي إنسان أن يقول: هذا المكان فاضل وهذا مفضول لخصوصه.

طبعاً المسجد فاضل، لكن المسجد فضيلته بكونه مسجداً، وليس بخصوص البقعة، فالمقصود بالبقعة: أن يكون حكماً لازماً لا يتغير، فهذا معنى الحديث، وهو معنى ينبغي فهمه حتى لا يقع عند الإنسان إشكال في سوء فهم الحديث وتعميمه على غير محله، وقد رأيت كثيراً حتى من طلبة العلم من يقع لهم اللبس في تعميم الحديث، وإنما يصح الحديث على السفر إلى بقعة في الأرض باعتقاد أن الله فضلها يوم خلق السماوات والأرض، يعني تفضيلاً أزلياً.

وأما اعتقاد أن الإنسان يذهب لدنيا أو لتجارة أو لدعوة إلى الله أو لطلب علم، فهذا لا بأس به، والعلماء ألفوا في الرحلة في طلب العلم كما ألف الخطيب البغدادي، والله تعالى ذكر لنا قصة موسى والخضر وسفره: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62] سماه سفراً وتعب فيه أيضاً.

فالسفر لطلب العلم وما أشبه ذلك من مقاصد الدين والدنيا ليس منهياً عنه.

أيضاً صلاة الجنازة، لو سافر واحد إلى مكة لأن هناك عالماً جليلاً أو شخصاً قريباً له سيصلى عليه في الحرم المكي مثلاً، فهذا لا بأس به.

أولاً: السفر إلى مكة مشروع، فهي من النقاط المستثناة كما في الحديث، وغريب أن يقع اللبس عند بعضهم لما صلي على بعض العلماء في مكة، طيب، مكة مستثناة يجوز السفر إليها بقصد خصوصية البقعة أصلاً، فإذا وجد سبب آخر فلا بأس، لكن لو كانت الجنازة في الرياض أيضاً فيجوز السفر بقصد الصلاة عليها؛ لأنه لم يسافر للبقعة واعتقاد فضيلتها، وإنما سافر لمقصد آخر.

إذاً: هذا هو مفهوم ومعنى الحديث المعروف: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )، وهذه هي طريقة الاستدلال به على عدم شد الرحل لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام.

القول الثاني: جواز شد الرحل لزيارة قبر النبي وأدلته

القول الثاني: أن ذلك جائز حتى لو كان فيه شد رحل، وهذا قال به خلائق لا يحصون من أتباع المذاهب الأربعة: من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية وغيرهم، وهو منصوص في الكثير من كتبهم حتى كتب الحنابلة كـالإنصاف والمغني وغيرها تنص على هذا، بل قد يتوسع بعضهم ويقول بمشروعيته واستحبابه، وبعضهم قد يطلق ألفاظاً تدل على أنه يقترب عندهم من الوجوب كما في نصوص بعض الأحناف وسواهم.

وممن رجح هذا القول وانتصر له بقوة السبكي كما ذكرنا في مناظرته مع ابن عبد الهادي وكذلك الحافظ ابن حجر والإمام النووي وغيرهم.

والواقع أنك إذا نظرت إلى أدلة هذا القول لا تجد له مستنداً، فإنهم أو بعضهم استدلوا بنحو عشرين حديثاً، وكلها أحاديث شبه موضوعة أو موضوعة، وهذا ما تجده عند قراءة كتاب السبكي - شفاء السقام في زيارة خير الأنام أو نحو ذلك- فإن الأحاديث المذكورة كلها أحاديث تالفة، يعني: ركيكة اللفظ ضعيفة الإسناد، فيها رواة متروكون ومجاهيل.

وهذه الأحاديث مشهورة، مثل: ( من زار قبري وجبت له شفاعتي )، ومثل: ( من حج ولم يزرني فقد جفاني )، ومثل: ( من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي )، ومثل: ( من زارني في قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة )، ومثل: ( من زارني وزار قبر أبي إبراهيم كان له أجر شهيد ) أحاديث كثيرة من هذا الباب، وكل هذه الأحاديث كما قلنا ما بين الموضوع والضعيف جداً التي لا يستقيم بها استدلال، فلا داعي للإطالة والإطناب بها؛ لأنها موجودة في كتب أهل العلم لمن أحب أن يتزود منها.

ومن استدلالاتهم أيضاً على هذا الحكم قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64].

وقد استدل بعضهم بهذه الآية بناء على أن هذه الآية ليس فيها تفصيل بين حال الحياة وحال الموت!

والواقع أن هذا أيضاً استدلال ضعيف؛ لأن الآية واضح أنها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم حال حياته، حينما كان يأتيه الناس ويستغفر لهم، أما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإن أحكام الموت تجري على البشر كلهم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

والنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لم يرد أنه يستغفر لأعيان الناس وآحادهم في قبره عليه الصلاة والسلام، وهذا حكم يحتاج إلى توقيف وإلى دليل، ولا دليل عليه، وأما شفاعته يوم القيامة فهي شيء آخر مختلف.

فنقول: الآية صريحة في أنه حال الحياة وليس بعد الوفاة، فلا يصح الاستدلال بها على مشروعية السفر للقبر وإتيانه.

أيضاً: هم قد يستدلون أحياناً بعمومات، مثل عموم زيارة القبور كما ذكرنا، ولا شك أن العموم هنا لا يتم الاستدلال به؛ لأنه لم يذكر فيه السفر.

وقد يقال: إن السفر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه اعتقاد فضيلة لهذه البقعة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانت الفضيلة فضيلة أصلية وهي فضيلة ما ورد في المسجد النبوي أنه بألف صلاة فهنا ينبغي أن تكون النية وأن يكون القصد بقصد السفر إلى ماذا؟ إلى البقعة التي لها أصل الفضيلة، وإذا زار البقعة زار المسجد.

وأيضاً مما استدلوا به: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكباً أو راجلاً كل سبت ويصلي فيه ) حديث ابن عمر عند مسلم وغيره.

والجواب: أن هذا ليس فيه شد رحل، وكذلك زيارة البقيع ليس فيها شد رحل، فلا يتم الاستدلال بذلك.

بعضهم يستدلون بقصة غريبة عن العتبي : أنه كان جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي، يخاطب صاحب القبر عليه الصلاة والسلام وهو في قبره: يا رسول الله، إن الله عز وجل يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64] وإني أتيتك معترفاً بذنبي وأنا أسألك الاستغفار، قال: ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت في الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الطهر والكرم

ثم بكى الأعرابي وانصرف.

يقول العتبي : فأصابتني سنة من النوم، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: يا عتبي ! الحق الأعرابي وأخبره أن الله تعالى قد غفر له!

فهذه القصة من الغريب، يعني أن أئمة أجلاء ساقوها في هذا المساق، ويندر أن يكتب أحد في باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويذكر هذه القصة.

على سبيل المثال ممن ذكرها الإمام النووي في المجموع، وذكرها ابن قدامة في المغني، وذكرها ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [النساء:64]، وذكروها على سبيل الاستحسان، ليس الاحتجاج بها؛ لكن الاستحسان والاستئناس بها.

ولكن نقول: إن الواقع أن هذه القصة -أولاً- لا تصح من حيث السند، وأيضاً هي عبارة عن رؤيا، والعتبي من هو؟ وهذا لا مجال للاستدلال فيه بحال من الأحوال على مثل هذه المسائل التي فيها الأخذ والرد.

ولذلك نقول: إن الراجح أنه لا يشرع شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما تستحب زيارته إذا كان في المدينة، سواء كان من أهلها أو زارها، وأن من أراد السفر إلى المدينة فعليه أن ينوي زيارة المسجد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ومسجدي هذا )، وإذا زار المسجد زار القبر استحباباً، أما أن ينشئ السفر لقصد زيارة القبر فلا.

وابن تيمية رحمه الله أطال النفس في هذه المسألة، وقد امتحن بسببها وأوذي وسجن؛ لأن المشهور عند كافة الفقهاء هو استحباب ذلك وفضيلته، فلما قال ابن تيمية رأيه وأعلنه رحمه الله وقع عليه النكير، وتنادى إليه بعض العلماء وأجلبوا إليه، وسعوا به إلى السلطان، وسجن وأوذي، ووقع بسبب ذلك أمور عظيمة، مع أن المسألة هي من مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف.

وابن تيمية رحمه الله نصر قوله بالحجة والدليل والرأي الذي يراه، ولم يأت ببدع من الأمر، بل هو مسبوق إلى هذا القول من الحنابلة والمالكية والأئمة وغيرهم، والصحابة أيضاً في الصحيح: ( لما رأى أبو بصرة أبا هريرة رضي الله عنه قادماً، قال أبو بصرة لـأبي هريرة : من أين أقبلت؟ قال: من الطور -يعني: ذهب لزيارة الطور، وذهب لاعتقاد فضيلة الطور؛ لأن الله تعالى أقسم به- فقال: لو رأيتك ما تركتك تذهب؛ لأني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ).

ولكن غالباً ما يكون بين العلماء أحياناً بسبب الاختلاف ضيق في النفوس وتشبع ببعض الآراء وتعصب لها، والتعصب في الواقع مذموم حتى لو كان للحق، فلا يتعصب الإنسان للحق، وإنما يتمسك بالحق؛ لأن التعصب يفضي إلى سوء الأخلاق وإلى الشدة على المخالفين، وإلى تجنب العدل والإنصاف فيهم، وإلى الظلم والهوى، وإلى التعسف، وأحياناً إلى أن يتجاوز الإنسان ما شرع الله عز وجل بسبب العصبية وفرط الهوى، وربما تمنى الإنسان موت المسلم المصلي القانت العابد النافع لنفسه ولأمته ولغيره، بسبب أنه لم يرق له اجتهاد أو فتوى أو قول من الأقوال، وما ذلك إلا بسبب غلبة الجهالة عند الناس وضعف فقههم، وإلا فإن العدل والأناة خير!

ولذلك نجد أن كثيراً من المحن التي امتحن بها العلماء والناس في التاريخ سببها التعصب، ولذلك الإمام ابن مفلح في الفروع في كتاب الطهارة نقل كلاماً يقول عن أبي الوفاء بن عقيل وغيره، يقول: إني رأيت الناس لا يمنعهم من الظلم شيء إلا العجز، ثم قال: لا أقول العوام، بل العلماء، فإني رأيت أن الحنابلة لما كان لهم دولة وسلطة استطالوا على الشافعية ومنعوهم من القنوت، وسعوا بهم إلى السلطان وضيقوا عليهم، فلما كانت النوبة أو الدولة إلى الشافعية استطالوا على الحنابلة وسبوهم ونبزوهم بالتجسيم، وسعوا بهم إلى السلطان وآذوهم!

ثم قال: وهل هذه إلا أخلاق العسكر! أي: أخلاق الجنود، وليست أخلاق العلماء، هذه أخلاق الجنود والعساكر الذين يؤذون الناس ويظلمونهم ويبغون عليهم بغير الحق في أيام دولتهم وقوتهم، فإذا زالت دولتهم لزموا المساجد وتظاهروا بالزهد.

وقديماً كان المتنبي يقول:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

ولا يردع الإنسان عن الظلم إلا التقوى، ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ [الأحزاب:72]؟ بطبعه: كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فهذا من المعاني العظيمة.

فوائد الحديث

من فوائد حديث الباب:

أولاً: مشروعية زيارة القبور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها ) .

مشروعية تذكر الآخرة: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] فإنها تذكر بالآخرة.

من فوائد الحديث -أيضاً- وهي فائدة مهمة: وقوع النسخ في الشريعة خلافاً لمن أنكر ذلك من الخوارج وغيرهم، فإن النسخ يقع في القرآن ويقع في السنة على تفصيل طويل، وهو يعني النسخ يعني: إبطال حكم شرعي بحكم آخر يأتي بعده، والنسخ يعرف بأحد أمور:

إما أن يعرف النسخ بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مثل حديث الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها.. كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تدخروا فادخروا) فبين الناسخ وبين المنسوخ، وهذا أحسن ما يكون، أن يكون بيان الناسخ والمنسوخ على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أيضاً قد يعرف النسخ عن طريق الصحابة، مثل قول جابر : ( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ) فهذا من الصحابة.

وكذلك مسائل عديدة كان الصحابة يراقبون فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمرين مختلفين، فيجدون أن الأمر الآخر هو الناسخ، ولعله من هذا.

على سبيل المثال مما مر معنا: حديث علي رضي الله عنه: ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد ) عند الشافعي وغيره ممن يقولون إن هذا ناسخ، أن القعود ناسخ للقيام، وقد رجحنا سابقاً أنه لا يلزم النسخ، لكن المقصود المثال، أنه قد يعرف النسخ عن طريق الصحابي.

أيضاً قد يعرف النسخ عن طريق الإجماع على ترك حكم من الأحكام، ولعل من أفضل الأمثلة في هذا: الحديث الذي رواه الترمذي في سننه وأشار إليه في العلل -علل الترمذي- الذي مع السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شرب -يعني الخمر- فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، قال في الرابعة: فإن شرب فاقتلوه) فهذا الحديث أشار إليه الترمذي في العلل، وقال: إنه لم يخرج في جامعه حديثاً اتفقوا على عدم العمل به إلا هذا الحديث، وذكر حديثاً آخر.

فقال العلماء: إن هذا الحديث لم يعمل به من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، لم يقتل شارب الخمر في الرابعة، وإن كان قد يوجد أقوال ضعيفة ومهجورة في هذا، لكن المشهور عند الأئمة والعلماء: أن شارب الخمر يجلد فحسب، وقد ورد أن بعض الصحابة ابتلوا بشرب الخمر، وتكرر منهم، وتكرر الحد عليهم، ومع ذلك لم يقتل أحد منهم، مثل من؟

مثل أبي محجن الثقفي، ومثل أيضاً عبد الله الذي جلد في الخمر الذي كان يلقب بـ حمار، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بعض الصحابة: (لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا لعنه الله، قولوا: رحمك الله، وقال: إنه يحب الله ورسوله) والحديث في البخاري.

فالمهم أنه يعرف النسخ -إذاً- بترك العمل بالحديث والإجماع على تركه، وهنا يقول العلماء: إن الناسخ ليس هو الإجماع، وإنما يكون الناسخ أمر آخر عرف بالإجماع، مثل أن يكون النبي نفسه صلى الله عليه وسلم ترك العمل به، فترك العمل به فيه نوع من النسخ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء تلقوا ذلك بالقبول، واعتبر هذا إجماعاً.

الأمر الرابع الذي يدل على النسخ التقدم والتأخر مع التعارض، وجود تعارض بين نصين أحدهما متقدم والآخر متأخر لا يمكن الجمع بينهما

ما يتعلق بتخريج الحديث:

فقد رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يزور قبر أمه؛ وذلك لأن في أول الحديث قصة: ( أنهم مروا بـالأبواء، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبر أمه فبكى بكاءً طويلاً وأبكى من حوله، وقال: إني استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ).

ورواه مسلم أيضاً في كتاب الأضاحي؛ وذلك لأن في بعض طرق الحديث أنه قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم).

وأيضاً رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم في الجنائز.

أما الزيادة التي ذكرها المصنف وهي: ( فإنها تزهد في الدنيا ) وقال: رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود.

فهذه الزيادة -زيادة ابن ماجه- فيها ضعف، في سندها أيوب بن هانئ وهو ضعيف.

وأيضاً فقد سبق أن بينا أن الزيادات التي ينفرد بها بعض الرواة في أحاديث مشهورة ينبغي توقيها والتأني في قبولها؛ لأن الغالب أنه يغلب عليها نوع من النكارة أو الشذوذ، فإذا كان الراوي ضعيفاً كما هنا أيوب بن هانئ، فإن الزيادة تكون منكرة إذا زادها راو ضعيف.

ما يتعلق بألفاظ الحديث:

قوله: ( كنت نهيتكم ) يعني: أنه سبق من النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن زيارة القبور، وهذا لم يحفظ عن طريق أحد من الصحابة إلا من طريق هذا الحديث، فإنه بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحكم أول الإسلام كان هو النهي عن زيارة القبور، ثم نسخ ذلك.

وقد ذكر بعض أهل العلم السبب في النهي أول الإسلام، فقال: لحداثة الناس بالجاهلية، وما يمكن أن يحدث عند زيارتهم للقبور من العويل والبكاء والصياح، أو ما يمكن أن يحدث من النياحة والكلام عن الميت والتغني بمحامده.. إلى غير ذلك، فلذلك نهاهم أول الإسلام، فلما استقر الأمر واستقر الإيمان في قلوبهم أذن الله تعالى لهم بالزيارة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها ) والزيادة: ( فإنها تذكر بالآخرة )؛ لأن القبر أول منزل من منازل الآخرة، وقد ورد أن عثمان رضي الله عنه كان يذكر عنده الجنة والنار فلا يبكي، فإذا ذكر عنده الموت بكى، فقيل له في ذلك، فقال: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة).

وفي الحديث أيضاً في بعض ألفاظه عند مسلم قوله: ( كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ) وادخار لحوم الأضاحي، يعني: أنهم كانوا يقومون بعمل تجفيف لهذه اللحوم ثم يدخرونها لفترة طويلة، كما يفعله كثير من الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسر النهي أنه أصابت بعض قبائل العرب مجاعة، فجاءوا للمدينة كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي وهو في مسلم : ( أنهم جاءوا عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) فأصابت بعض قبائل العرب مجاعة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يدخروا شيئاً من لحوم الأضاحي، وإنما تأكله أو تتصدق به فوراً ولا تدخر أكثر من ثلاثة أيام من أجل هذه النازلة أو الدافة كما في بعض الألفاظ؛ (الدافة) يعني: القوم الذين يكون لهم صوت، يدفون يعني: لهم صوت.

ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال هذا الأمر العارض بالادخار وقال:

( كلوا ) يعني: من لحوم الأضاحي.

( وادخروا ما بدا لكم ) مع أن السنة في الأضاحي كما هو مشهور أن يقسمها أثلاثاً: يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث.

فيما يتعلق بمسائل الحديث ففيه مسألتان مهمتان شهيرتان.

المسألة الأولى: زيارة الرجال للقبور، حكم زيارة الرجال للمقابر:

وهذه المسألة واضحة وسهلة؛ وذلك أن جماهير أهل العلم يرون مشروعية واستحباب زيارة الرجال للقبور وأن ذلك من السنة، وهذا حكاه غير واحد من أهل العلم إجماعاً؛ فقد حكاه النووي وحكاه أيضاً الحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، وحكاه العكبري وغيرهم من الأئمة: أن العلماء أجمعوا على استحباب زيارة القبور.

ولا شك أنه لو كانت المسألة إجماعاً لم تكن هذه المسألة فقهية تذكر فيها الأقوال، وإنما غالب العلماء أحياناً يحكون الإجماع ويقصدون به مذهب الجماهير، ولا يلتفتون إلى خلاف الواحد والاثنين والثلاثة، مع أن الأئمة إذا كان الإمام مشهوراً فإن قوله يخرق الإجماع، ولا يمكن حكاية الإجماع مع حفظ الخلاف لبعض الأئمة من الصحابة أو السلف أو غيرهم، إلا أن يقال: إنه كان ثمة خلاف ثم استقر الأمر على الإجماع، وهذا أيضاً صعب؛ لأن الناس والعلماء بعد انتشار الأمة واتساعها يصعب حصر أقوالهم، ويوجد الخلاف فيهم مثلما يوجد فيمن قبلهم أو أكثر.

الخلاصة: أن هذا هو القول الأول: أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وهذا كما قلت مذهب الجماهير بما في ذلك الأئمة الأربعة: مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة .

حجتهم على هذا القول:

من أقوى حججهم حديث الباب، وهو حديث صحيح رواه مسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فزوروها ) وهذا أمر، وأقل أحوال الأمر هو الاستحباب، ولذلك يؤخذ من الحديث استحباب زيارة الرجال للقبور.

وأيضاً من أدلتهم: فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه زار قبور أصحابه بـالبقيع، كما في الصحيحين من طرق، وكذلك زار قبر أمه بـالأبواء كما في الصحيح أيضاً.

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور القبور، وقد يزورها في ملأ من أصحابه كما في الصحيحين أيضاً من حديث البراء بن عازب : ( أنه انتهى إلى القبر، وقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] ).

إذاً الدليل الثاني: فعل النبي صلى الله عليه وسلم المتواتر من طرق كثيرة جداً.

الدليل الثالث: فعل الصحابة، فإنه كان مشهوراً عندهم زيارة القبور، وفي ذلك أحاديث وآثار كثيرة جداً.

القول الثاني: أن زيارة القبور فرض ولو مرة في العمر، وهذا جنح إليه الإمام ابن حزم كما في المحلى، واحتج أيضاً بحديث الباب، ولكنه حمل الأمر في الحديث على الوجوب، فقال: ( فزوروها ) أمر للوجوب، ولا يوجد صارف يصرفه عنه.

والواقع أن ما ذهب إليه ابن حزم قول ضعيف؛ لاعتبارات:

أولاً: لما سبق أن ذكرناه أن الأوامر والنواهي إذا كانت في مقام الآداب والأخلاق والإرشاد وغيرها، فإن الأصل فيها أنها تكون الأوامر للاستحباب، والنهي يكون للكراهة وهذا منها.

فنقول: ما كان هذا وجهه فالأصل أنه للاستحباب وليس للوجوب، وعلى هذا عمل الأئمة في معظم أو في الكثير من المسائل.

وفي حديث الباب على وجه الخصوص أيضاً اعتبار آخر يضعف القول بأنه للوجوب، وهو أنه أمر بعد نهي، يعني: إذا جاء في الشرع في البداية نهي عن شيء ثم أمر به، فهذا عند بعض العلماء يدل على الإباحة، يقولون: الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة ؛ لأنه كان منهياً عنه، فلما أمرهم به كأنه يقول لهم: إن الحرمة قد زالت، ولذلك نظائر، وقد يكون من ذلك مثلاً عندما يكون الإنسان ممنوعاً من شيء بالصيام أو بالإحرام ثم يؤذن له بعد ذلك، مثلاً: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187] فالأمر أمر إباحة، يعني: أنه كان ممنوعاً حال الصيام ثم أذن لهم، وكذلك بالنسبة للمحرم في منعه من الصيد أو من غير ذلك.

وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] فهنا ليس الاصطياد مستحباً ولكن مأذون به، يعني: وإذا حللتم فجائز لكم أن تصطادوا، أو تصطادوا إن شئتم، وليس الأمر أمر استحباب، وإنما هو لبيان رفع الحظر.

وقد يدل الأمر على الاستحباب، والأقرب في مثل حديث الباب أن يقال: بأن الأمر ليس للإباحة، وإن كان هذا مال إليه بعضهم، ولكن نقول: الأقرب أن الأمر في قوله: ( فزوروها ) للاستحباب، لماذا نرجح أن الأمر للاستحباب وليس للإباحة؟

لوجود التعليل في الحديث، وقد ذكرنا سابقاً أيضاً: أن كون النص يأتي معللاً فإن هذا يقويه ويعزز جانبه، فلما قال: ( فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ) دل ذلك على أن الأمر للاستحباب.

القول الثالث في المسألة: أن زيارة القبور للرجال مكروهة، وهذا قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن سيرين، فثبوته عن هؤلاء الأئمة وهم من أعلام السلف يدل على أن المسألة ليس فيها إجماع، فخلاف هؤلاء معتبر، ولعل هؤلاء الأئمة لم يبلغهم النسخ، فبقوا على أصل النهي الوارد.

ولذلك نقول: المسألة فيها ثلاثة أقوال، والراجح: هو أن زيارة القبور مستحبة، لقوة الأدلة وسلامتها من المعارض.