رجال دين أم تُجَّار أفيون؟! - أبو محمد بن عبد الله
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
لقد فسد رجال دين الكنيسة في أوروبا، واصطلحوا مع القيصر ضد الأمة النصرانية، وخدَّر القساوسةُ الشعوبَ للقياصرة باسم الدين والإله، وأَجْلَبُوا بِخَيْلِهم ورَجْلِهم يُحرِّفون نصوص الكتاب المقدَّس ومعانيه، ليصنعوا منها مادة تُخَدِّر المُواطِنَ، ويصير كالميت في يدي غسَّاله، حتى صدق عندهم أن: "الدين أفيون الشعوب"، ثم صدَّروا ذلك لأمة الإسلام، غير أن الله سلَّم فتكفَّل بحفظ الدين والقرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، وقيَّض للأمة المرحومة أسباب الرحمة من بقاء طائفة الحق المنصورة ومَن يجدد لها دينها كلَّ قرنٍ.. غير أنه وُجِد فعلا مَن فسد مِن علماء المسلمين، واختلَّت عنده الموازين، فأخذ يُشَرْعِنُ تصرفات الحكام والسلاطين، ويقف في صفهم، ويفعل بدينه ما فعل القساوسة بدينهم، ويحاول أن يقسم الحياة بين الله-سبحانه- وبين قيصر، حتى قال بعضهم في العصر الحاضر: "أرى أنَّ مقولة: دَعْ ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كلمة حكيمة تصلح لزماننا، ذلكم أن الانفصام بين الدين وبين الدولة صار أمرًا مقضيًا لا مرد له، ولا طاعن عليه، ولا محيد عنه!"([1]).
ويعلن بعضهم "شعارَه الوطني بقوله: الدين لله والوطن للجميع"([2]).
ويقول بعض الأدعياء: "نحن رجال الدين والسياسة لها رجالها!" كما فعلت الكنيسة في تطويع الجماهير للأباطرة، وأعطت لهم قداسة الله في الأرض، وكما يقول توماس جفرسن: "إن القسيس في كل بلد وفي كل عصر من أعداء الحرية، وهو دائمًا حليف الحاكم المستبد؛ يُعينه على سيئاته في نظير حمايته لسيئاته هو الآخر"([3])، فبعضهم نَزَّل نصوصَ طاعةِ وُلاَّةِ الأمر الذين يحكمون بشريعة الله، ويعدلون في حكمهم، على الذين يتركونها ويستبدلون بها قوانين وضعية مخالفة لشريعة الله –سبحانه- قلبًا وقالبًا؛ فأجلبوا بخيلهم ورَجْلِهم يبحثون في النصوص ليلْوُوا أعناقها، أو يبتروها لتوافق ما ذهبوا إليه.
فهم تكريسًا لطاعة الحكام يأتون بحديث طاعة الحبشي: «اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّر عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة»([4])، ولا يذكرون حديث العبد الآخر، أو الرواية الأخرى لحديث العبد هذا: «إن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع - حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا»([5]).
والفرْقُ أن النص الثاني يشترط في الطاعة أن يكون الحكم بما أنزل الله، والقيادة بكتاب الله، وهذا يعني أن العدالة تتحقق تلقائيًّا، والحقوق تُعطى كاملة، والواجبات تؤدَّى، وتتحرر الشعوب من عبودية البشر وإذلال السلطات مهما كانت دينية أو سياسية، بينما النص الأول يعفيهم من ذلك كله، وبذلك هم وقعوا فيما وقعت فيه الكنيسة، من الحكم باسم الدين لا بالدين نفسه! وطوَّعوا المظلومين للظلمة باسم الدين، وحققوا مقولة:"الدين أفيون الشعوب"! وقد صدق من نطق بها فيما يتعلق بذلك الدين المحَرَّف في أوروبا، وصدق فيما يتعلق بالأفهام المغلوطة والمنحرفة للدين الإسلامي المحفوظ، التي صدرت وتَصْدُر من علماء بلاط أو مصالح شخصية وضيقة مِن أناس ابتاعوا دينهم بدنيا غيرهم، أو اشتروا بآيات الله ثمنا قليلًا.
نعم وُجِدت هذه الصورة-وما زالت- في بعضِ ممن ينتسب لعلماء المسلمين ويتزيّا بزِيِّهم قديمًا وحديثًا، ولكن لا ضرر ما دام في المسلمين من ليسوا كذلك، وما دام الدين نفسه محفوظًا تقاس به الأشياء والأشياخ والأشخاص، كما قال الإمام علي(رضي الله عنه): "إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"([6]).
ثم إنه ليس في ديننا رجال دين لا سياسة عندهم، ورجال سياسة لا دين عندهم، بل كلهم رجال دين وسياسة؛ بل إن سياستهم دين وعبادة.
وهناك فرْقٌ بين التخصص العلمي أو الفني، وبين الانفصام الكنسي والانفصال العَلماني بين الدِّين والسياسة، أو بين العقيدة والشريعة، وكون المسلم يشتغل بأعمال السياسة لا يعني أنه تخلى عن إسلامه أو تدينه وتقواه، بل إن العدل في سياسة الرعية والتزام السياسة الشرعية يقوم بها الحاكم المسلم تديُّنًا لله-سبحانه- مخافة عقابه ورجاء ثوابه.
ـــــــــــــ هوامش ـــــــــــــــــــ
[1]- انظر: محمد إبراهيم شقرة، هي السلفية نسبة وعقيدة ومنهجًا، في (www.almaktabh.net).
[2]- انظر: محمد بن سعيد القحطاني، الولاء والبراء في الإسلام، الرياض، دار طيبة، ط 5، 1422هـ/ 1991م، 324.
والقائل هو، سعد زغلول.
[3]- انظر: كرين برنتن، أفكار ورجال، قصة الفكر الغربي، 502.
[4]- البخاري ، الجامع الصحيح، كتاب الأذان (10)، باب إمامة العبد والمولى (54)، حديث (693)، 1، 230.
[5]- مسلم، صحيح مسلم ، كتاب الإمارة (33)، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (8)، حديث (1838)، 2، 892.
[6]- أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهانى (-502هـ/1109م)، الذريعة إلى مكارم الشريعة ، تحقيق أبو اليزيد أبو زيد العجمي، القاهرة، دار السلام، ط1 ، 1428 هـ /2007 م، 171.