سلسلة كن صحابياً الصحابة والعلم


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد.

فما زلنا نبحث عن إجابة السؤال المهم: كيف سبق الصحابة وكيف نلحق بهم؟ ومع الدرس الخامس من دروس مجموعة: كن صحابياً، وسنتعرف في هذا الدرس على علامة جديدة من علامات الطريق الذي سار فيه الصحابة.

وقد تعرفنا في الدرس السابق على علامة مهمة جداً من علامات الطريق الذي سار فيه الصحابة، ألا وهي: علامة الإخلاص، وذلك في درس: الصحابة والإخلاص، وسيكون حديثنا عن نقطة مهمة جداً في بناء جيل الصحابة، ومهمة جداً في بناء أي جيل يريد أن يصل إلى ما وصلوا إليه، هذه النقطة هي: العلم، وكما قلنا: إنه لا يوجد عمل يمكن أن يُقبل بدون إخلاص، وكذلك لا يوجد عمل يمكن أن يُقبل إلا بعلم؛ لأن كثيراً من الناس يعبد الله عز وجل بنية صادقة، لكن بطريقة خاطئة جاهلة، وهذا يضر ولا ينفع، ففي أي مجال من مجالات الحياة وليس فقط في مجالات الدين، إذا عمل الإنسان بدون علم فإنه يضر ولا ينفع، فالطبيب الجاهل هل ينفع المرضى أم يضرهم؟ من المؤكد أنه يضرهم، والمهندس الجاهل، والنجار الجاهل، والسباك الجاهل كذلك، وكذلك العبادة، فالعابد الجاهل يضر ولا ينفع، فيضر نفسه وغيره ومجتمعه، ولذلك فإن قضية العلم قضية محورية في حياة الأمة المسلمة، ومن المؤكد أن الصحابة قد أخذوا بالهم من أول آية نزلت من هذا الكتاب المعجز، الذي هو دستور حياتهم بكاملها، فقد كانت كلمة: (اقرأ)، وهذا شيء غريب جداً، لأن كلمة: (اقرأ) تنزل في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الأمية، وليس فقط في جزيرة العرب، بل في جميع أطراف المعمورة، فمن كل كلمات القرآن الكثيرة تكون أول كلمة تنزل هي كلمة: (اقرأ) وليست أول كلمة فحسب، بل أول خمس آيات جميعها تتحدث عن قضية العلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، إذاً فالقضية الأساسية التي يبنى عليها هذا الدين بكامله هي قضية العلم، وهي مسألة العلم.

وقد كان هذا النزول لكلمة: (اقرأ) بياناً وإيضاحاً وتبييناً لطبيعة هذا الدين، هذا الدين الذي لا يقوم على الخرافات والضلالات، ولا يقوم على الجهل والتخبط، وإنما يقوم على أسس علمية ثابتة ومعروفة، هذا الدين الذي يشجع أبناءه على أن يكونوا علماء سبَّاقين، وليس فقط لمجرد العلم ولكن أيضاً السبق في العلم، والريادة في العلم، والتفوق في العلم.

وانظروا هنا إلى ألفاظ هذا الحديث الغريبة على آذاننا، ولكن هو معنى دقيق جداً يلفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنظار.

فعند ابن ماجة ، والترمذي وقال: حسن، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إن الدنيا ملعونة)، وهذه كلمة شديدة جداً، (ملعون ما فيها)، أي: أي شيء في الدنيا فهو ملعون، وهذا على إطلاق الحديث، والذي يلعن هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فهو وحي من الله عز وجل، فكل شيء في الدنيا ملعون ليس له أي قيمة، وتافه وحقير، حتى وإن كان ملكاً أو سلطاناً أو سلاحاً أو قوة أو أي شيء، ثم استثنى الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه اللعنة أربعة أشياء: الأولى والثانية: (إلا ذكر الله تعالى وما والاه) وما والاه: أي ما قارب الذكر من أعمال الطاعة والبر وغيرها من الأعمال في الدنيا التي يحبها الله عز وجل، الثالثة والرابعة: (وعالماً، ومتعلماً) فهذه أيضاً مستثناة من اللعنة، إذاً العملية التعليمية التي تدور بين العالم والمتعلم عملية عظيمة جداً في ميزان الله عز وجل، ويبقى الذي هو خارج نطاق هذه العملية، فهو ملعون بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقه الصحابة أن القيمة الحقيقية التي تصلح للمفاضلة بين الناس هي العلم، فالتفاضل بين الناس لا يكون بالمال ولا بالسلطان ولا بالجند ولا بالمظهر، وإنما المهم أن تعلم أهمية العلم، لكن قد يأتي سائل فيقول: لكن الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، يعني: أن الأتقى هو الأفضل، فكيف ذلك؟ أقول له: فمن الذي يتقي الله عز وجل؟ أليس العالم به؟ أليس العالم بصفاته سبحانه وتعالى؟ أليس العالم بشرعه؟ أليس العالم بخلقه؟ ألم تسمع إلى كلام الله عز وجل في كتابه الكريم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]؟ وما هي الخشية؟ أليست هي التقوى؟ وعندما تخشى الله عز وجل تكون متقياً لله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وكلما ازداد العالم علماً ازداد خشية وتقوى لله عز وجل، وليس معنى العالم أني أقصد كبار هيئة العلماء وكبار الفقهاء، فأي شخص عرف معلومة صحيحة أصبح بها عالماً، وكلما عرف أكثر ارتفعت قيمته، وأعظم العلماء هم أعظم الناس قيمة، وليس فقط في ميزان الناس ولكن أيضاً في ميزان الله عز وجل.

فهذه معلومات في غاية الأهمية، ولهذا فالذي يصرف وقته في تعلم العلم أفضل من الذي يصرف وقته في العبادة، ولم أقل: بأنه أفضل من الذي يصرف وقته في اللعب أو في المعصية أو في المنكر! لا، وإنما أفضل من الذي يصرف وقته في العبادة، واسمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) وانظروا إلى قيمة هذا العلم؛ لأن العالم أشد معرفة لمداخل الشيطان، وأكثر قدرة على التصدي له، ولذلك فهذا العالم أشد على الشيطان من ألف عابد، وليس المقصود بالعلم: العلم الشرعي فقط، من تفسير وفقه وحديث وعقيدة، بل علوم الحياة أيضاً، وقد تكلمنا عن ذلك في محاضرة كاملة واسمها: ( أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة )، وتحدثنا عن علوم الحياة وقيمتها في ترسيخ معنى الإيمان بالله عز وجل في قلب العالم، لذلك فإنه من المؤكد أن العالم الذي يدرس تركيب الخلية مثلاً أعظم تقديراً لله عز وجل من الذي يعلم وجودها إجمالاً، فهذه الخلية على صغرها إلا أنها دولة كاملة، وعالم ليس له نهاية، ففيها قيادة، وإدارة، ومراكز طاقة، ومراكز تغذية، ومراكز دفاع، ومراكز بناء، ومراكز هدم، فتتحرك وتتكاثر، وتقوم بوظائف لا تحصى ولا تعد، فيكون الذي يعرف تفاصيل هذه الأمور أشد إيماناً بالله عز وجل من الذي لا يعلم بهذه التفاصيل، وكذلك العالم الذي يدرس تفاصيل حياة النبات ونشأته وتركيبه ليس كالذي يعلم فقط أن النبات شيء معجز، وأيضاً العالم الذي يدرس الأفلاك واتساعها، والنجوم وأعدادها، والمجرات وصفتها ليس كالذي يعلم فقط أن هناك نجوماً في السماء، وقس على هذا بقية العلوم كالكيمياء والفيزياء والجيولوجيا، وعلوم البحار والطب والأحياء، وعلوم أخرى لا تنتهي، وصدق الله عز وجل القائل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] فكل هذه العلوم، أي: علوم الشرع وعلوم الحياة تقود إلى خشية الله عز وجل، ومن ثم تقود إلى تقواه، ومن ثم تقود إلى رضا الله عز وجل، وهذا هو الذي نبحث عنه، وهو طريق الصحابة الذي ساروا فيه، وهذه الحقائق كانت واضحة كالشمس في عيون الصحابة، وبعد أن علموا هذه المعلومات رفعوا جداً من قدر كل عالم، وحرصوا على العلم في كل لحظة من لحظات حياتهم، لذا كان لا بد أن تتعلم شيئاً في كل يوم، لأن الله قد رفع من قيمة العلم من أول يوم خلق فيه آدم عليه السلام، وذلك عندما أسجد الله سبحانه وتعالى ملائكته لآدم عليه السلام؛ لقيمة العلم الذي كان عنده، لا بكثرة التسبيح وطول القيام، أو الطاعة المطلقة، أو القوة الخارقة، أبداً، فالملائكة تتفوق في كل هذه الأمور، ولكن الله عز وجل من على آدم عليه السلام بنعمة رفعت من قدره إلى الدرجة الذي جعل الملائكة يسجدون له تكريماً له، ألا وهي العلم كما ذكرنا، واقرءوا القرآن وتدبروا في آيات الله عز وجل وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:31-34] فلماذا سجد الملائكة؟ ولماذا هذا التكريم لهذا المخلوق الجديد؟ لأنه يعلم ما لا تعلم الملائكة، فرفع الله قدره بذلك، إذاً فآدم عليه السلام مستخلف في الأرض، وذرية آدم عليه السلام مستخلفة في الأرض لأجل نقطة العلم هذه، فإذا فقد أبناء آدم هذه الصفة فقدوا المبرر لكونهم خلفاء الله في الأرض، أي: أن حياتك ستصبح من الأصل ليس لها قيمة، لأن غاية الخلق هذا العلم، وعندما تكون غاية إنزاله إلى الأرض لم تتحقق فكأنه لم يُخلق أصلاً، وهذا الذي يرفع جداً من قيمة العلم في الإسلام.

إذاً: العلم هو أساس الاستخلاف في الأرض، ومن غير العلم لا نستحق أن نكون خلفاء في الأرض، وهذا الكلام قد وقع مع آدم عليه السلام ووقع مع كل الأنبياء من بعده، فليس هناك نبي إلا ويذكر الله عز وجل في حقه أنه كان عالماً، وأنه أوتي علماً، وأنه فُضِّل بالعلم، وانظر إلى كلام الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43]، فالذي يُتّبع هو الذي عنده علم، والذي يكون سبباً في هداية الناس هو العالم.

الصحابة كانوا ينظرون إلى العلم نظرة خاصة جداً، نظرة معظّمة جداً، نظرة تجل جداً العلم وكل من حمل العلم، وهذه نماذج تبين لنا كيف كان الصحابة يقدرون قيمة هذا العلم؟ وما هو مفهومهم عن العلم؟

فهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه ذهب -وهو لم يتم الثالثة عشرة من عمره- للالتحاق بجيش المسلمين المشارك في بدر، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رده لصغر سنه، فرجع إلى أمه رضي الله عنه يبكي من الحزن، ولكنه عند عودته فكّر في أن يخدم الإسلام بطريقة أخرى، فهل أستطيع أن أخدم الإسلام بطريقة غير طريقة الجهاد في سبيل الله ما دام الجهاد غير ميسّر لي في هذا الوقت؟

إن أحدنا حين يفشل في إحدى مجالات الدعوة، أو إحدى مجالات العمل للإسلام، أو يُغلق عليه باب من أبواب العمل للإسلام من غير إرادته، أي: أنه لو أراد الجهاد وليس هناك فرصة للجهاد، أو أراد أن ينفق وهو فقير، فهو عنده رغبة في العمل لله عز وجل لكن ليس له إمكانيات، ففي ذلك الوقت يحبط، ويعتقد أن هذا هو آخر الدنيا! وهذا خطأ، فنحن إمكانيات مختلفة ومواهب مختلفة، فكل فرد منا يستطيع أن يعمل في مجاله، وهذه هي حلاوة الإسلام وحلاوة التكامل والتكافل والتعاون في الإسلام، فإذا كان لم ينفع زيد في هذا الوقت في الجهاد فمن الممكن أن ينفع في شيء آخر.

فـزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه تذكر أنه يتميز بملكة الحفظ، وملكة القدرة على التعلم، وملكة القراءة، والقراءة كان شيء نادراً في ذلك الزمان، فأخبر بذلك أمه وأقاربه، وطلب منهم أن يذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه أن يوظّف طاقته العلمية في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خدمة دين الإسلام، فذهبت به أمه النوار بنت مالك رضي الله عنها وأرضاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا نبي الله هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة) وهذه فعلاً إمكانيات عالية جداً، وبالذات في ذلك الزمن الذي كان فيه الكثير من الناس لا يستطيعون القراءة أو الكتابة، ثم تكمل السيدة النوار بنت مالك فتقول: (وهو يريد أن يتقرب بذلك إليك، وأن يلزمك، فاسمع منه إذا شئت)، وهذا الكلام أنا أريد أن أقوله لجميع شباب المسلمين: زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه بدأ رحلته في خدمة الإسلام وعمره ثلاث عشرة سنة، وبعض المسلمين كان يسد ثغرة الجهاد والقتال، وزيد بن ثابت ذهب ليسد ثغرة أخرى مهمة جداً، فكل بحسب إمكانياته، فالشباب عندهم طاقة عالية جداً، فهناك شباب عندهم مهارة في الكمبيوتر، وهناك شباب عندهم مهارة في الخطابة، وهناك شباب عندهم مهارة في الرياضة المفيدة، وهناك شباب عندهم مهارة في الكتابة والبحث والدراسة، وهناك شباب عندهم مهارة في الترجمة، فكل واحد من المؤكد أن عنده مجالاً متفوقاً فيه، والمهم أن تكون رغبة خدمة الإسلام موجودة، وعند ذلك سوف تجد المجال الذي تستطيع أن تسد فيه إن شاء الله تعالى.

واستمع النبي صلى الله عليه وسلم لـزيد بن ثابت واختبره، وقدّر مواهبه وأُعجب به، ثم أراد أن يستفيد منه على نقاط أوسع، فعرض عليه فرعاً جديداً من فروع العلم، ولم يقل له الرسول صلى الله عليه وسلم: تعلم الفقه أو الحديث أو العقيدة، لا، ولكنه قال له: تعلم اللغات الأجنبية، وتخيل وفي هذا العمق في التاريخ الرسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم باللغات الأجنبية في تكوين الأمة المسلمة، لأنه علم في غاية الأهمية، ولأن المسلمين يحتاجون جداً إلى هذه اللغة في ذلك الزمن، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتعلم العبرية، حيث قال له: (يا زيد تعلم لي كتابة اليهود العبرية فإني لا آمنهم على ما أقول) ومن المؤكد أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان يعيش معنا في هذه الأيام لأمر بتعلم اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية وغيرها، فكم ستكون مقدار الفائدة عندما يكون عند المسلمين شباب يتقنوا اللغات الأخرى غير اللغة العربية، وليس ذلك على حساب اللغة العربية، وكم مقدار الفائدة التي من الممكن أن يفيدوا الإسلام ويخدموا الأمة الإسلامية بكاملها، وكم سيكتشفون من حيل وألاعيب وخطط للأعداء، وكم من الممكن أن يكونوا دعاة إلى الله عز وجل ويردون على الشبهات، فهذا عمل كبير جداً من الممكن أن يعمله الذين يفهمون لغة أخرى، وانظروا إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه بهذه الحمية وهذا الإخلاص لدين الله عز وجل، وهذه الرغبة في خدمة هذا الدين، فيذهب ويتعلم اللغة العبرية، فهل تعلمها في سنة أو سنتين أو أربع؟ وفي أي كلية تعلمها؟ يقول زيد بن ثابت : فتعلمتها في سبع عشرة ليلة، فكنت أتكلمها كأهلها، فانظروا إلى هذه البركة عندما يكون عند الواحد رغبة فالله عز وجل يساعده، والمهم أن يكون هذا التعلم ليخدم دين الله سبحانه وتعالى، وليثبت أقدام الدولة الإسلامية في الأرض، ثم تعلم اللغة السريانة في وقت يسير كذلك، ثم صار بذلك ترجمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه مترجم الدولة الإسلامية في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمره ثلاث عشرة سنة، وبدأ زيد يترقى في مناصب العلم، وبدأ يبرع وينبغ في تخصصه رضي الله عنه وأرضاه، وصار كاتباً للوحي وليس مترجماً فحسب، فهو يستطيع أن يكتب ويقرأ عربي وغير عربي، ثم صار حافظاً لكتاب الله عز وجل، وكانت هذه نادرة في الصحابة أن يكون واحداً يحفظ كل الكتاب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك كثير من الصحابة حفظوا الكتاب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن الكثير يحفظونه والرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم.

فـزيد بن ثابت كان من هؤلاء القلة، فقد حفظ القرآن كاملاً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما مات الرسول صلى الله عليه وسلم كلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بجمع القرآن بعد وفاة كثير من الحفاظ في موقعة اليمامة المشهورة، فجمع القرآن وهو لم يبلغ من العمر ثلاثاً وعشرين سنة، وانظروا إلى هذه المهمة الصعبة، فهي مهمة من أعظم المهمات، ومن أخطر المهمات أن يجمع القرآن الكريم ليظل مجموعاً ومحفوظاً إلى يوم القيامة، والعجب أن هذه المهمة؟ هذه المهمة أوكلت إلى الشاب الصغير زيد بن ثابت في وجود عمالقة الصحابة، وفي وجود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وغيرهم، فلماذا كل هذا؟ إنه العلم الذي رفع من قدر زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فالعلم يرفع أقواماً ويضع آخرين، والعلم ميراث الأنبياء، من أخذه أخذ بحظ وافر.

واسمع إلى قول عمر بن الخطاب في زيد بن ثابت رضي الله عنه: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت زيد بن ثابت ، فانظر إلى هذا التعظيم والتبجيل، فهذا عمر بن الخطاب شيخ من شيوخ الصحابة وعملاق من عمالقة الصحابة يقول: الذي يريد أن يعرف شيئاً عن القرآن فليذهب إلى هذا الشاب زيد بن ثابت .

وانظر إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة، فقد كانوا يطلقون عليه لفظاً جميلاً وعميقاً جداً، فيقولون عنه: البحر عبد الله بن عباس ؛ لسعة علمه، أي: أنه هو الحبر وهو البحر رضي الله عنه وعن أبيه.

هذا الصحابي الجليل عندما رأى زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو يريد ركوب دابته، فوقف بين يديه وأمسك له بركابه وأخذ بزمام دابته، أي: أنه يساعده في ركوب الدابة، فانظروا إلى هذا الاحترام والتعظيم والتبجيل من ابن عباس لـزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، مع أن الفرق بينهما ليس كبيراً، وإنما ثمان سنوات فقط، أي: أن زيد بن ثابت أكبر من عبد الله بن عباس بثمان سنوات فقط، فقال له زيد بن ثابت حياء منه: دع عنك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول عبد الله بن عباس بفهم عميق: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا. فهذا هو احترام العلماء في الإسلام، وانظر إلى الجمال في التعامل بين الصحابة، ماذا قال له زيد بن ثابت ؟ قال: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده له، فأخذها زيد وقبّلها، ثم قال: هكذا أُمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء هم القدوة، وهذا هو المجتمع الصالح الذي نريد أن نبني مجتمعاً مثله، وتأمل قول أبي هريرة رضي الله عنه عندما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه: اليوم مات حبر الأمة -مات في سنة خمس وأربعين للهجرة، وله من العمر ست وخمسون سنة- وعسى أن يجعل الله في ابن عباس رضي الله عنهما خلفاً له. وصدق أبو هريرة ، فقد كان عبد الله بن عباس نعم الخلف لنعم السلف رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه أسلم وكان عمره ثمان عشرة سنة، وشهد العقبة، وشهد كل المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدر وأحد والأحزاب وفتح مكة وتبوك وغيرها، وخرج في الفتوحات الإسلامية في الشام أيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان في وقت من الأوقات أمير الشام، ومع كل هذه الحياة الجهادية إلا أنه كان متفوقاً جداً في مجال العلم، ومن يوم إسلامه وهو مهتم بقضية العلم، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليعلم أهلها الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، وكان موسوعة علمية متحركة.

وعندما رجع معاذ بن جبل من اليمن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشام مجاهداً، وكما أنه من عادته رضي الله عنه بجوار الجهاد تحصيل العلم وتعليمه الناس، تأمل قول أبي إدريس الخولاني رحمه الله -من التابعين- وهو يقول في حق معاذ بن جبل : أتيت مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: أن هذا اللقاء في هذا المسجد يحضره مشايخ وكبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وإذا بشاب فيهم أكحل العين براق الثنايا، وكلما اختلفوا في شيء ردوه إليه، فقلت لجليس لي: من هذا؟ فقال: معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه. فهذه قيمة العلم، وهذه قيمة تحصيل العلم، فهو منذ لحظات الشباب الأولى في حياته رضي الله عنه وأرضاه وهو يحصّل العلم، ولهذا وصل وسبق، ولهذا كانت الناس ترفعه فوق رأسها رضي الله عنه وأرضاه.

كذلك يروي لنا يزيد بن قطيب رحمه الله أيضاً -من التابعين- فيقول: دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى جعد الشعر وقد اجتمع الناس حوله، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ، فقلت: من هذا؟ فقالوا: معاذ بن جبل رضي الله عنه، فكان رضي الله عنه موسوعة علمية فعلاً، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حقه كلمة عجيبة جداً: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل) أي: أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، فهو عالم أسطورة، وهو لا يُقارن بطلبة في معهد إسلامي أو في كلية شرعية، وإنما يقارن بعمالقة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه يشهد له بهذه الشهادة من أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على علو قدرهم وغزارة علمهم كانوا إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له وتعظيماً لعلمه.

فما الذي رفع قدره؟ وما الذي أعز منزلته؟ إنه العلم، وقد فقه ذلك معاذ رضي الله عنه فظل إلى آخر لحظات حياته طالباً للعلم، وظل إلى آخر لحظات حياته معلماً لغيره رضي الله عنه وأرضاه، قال في آخر حياته وهو على فراش الموت: اللهم إنك كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لغرس الأشجار وجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر -أي: الصيام في الأيام الشديدة الحر- ومكابدة الساعات -أي: القيام الكثير في الليل- ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. فمتعته في الدنيا كانت: الصيام، والقيام، وتحصيل العلم، فهو يعيش في الدنيا من أجل هذه، ويستغرب الإنسان أن كل هذا العلم، وكل هذا الفهم، وأعلم أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحلال والحرام وقد مات وعمره 37 سنة في السنة الثامنة عشرة للهجرة.

وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة، ومن أفضل علماء الإسلام، وقد وصل إلى هذه الدرجة وهو لم يكن شاباً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان طفلاً، فقد مات الرسول صلى الله عليه وسلم وله من العمر أربع عشرة سنة فقط، لكنه لم يحصل هذه المنزلة من فراغ أو بسهولة، فلقد سعى سعياً حثيثاً لكي يصبح عالماً من علماء الإسلام، يقول عن نفسه: كان إذا بلغني الحديث عند رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتيت باب بيته في وقت قيلولته، أي: أنه يذهب إلى الصحابي الذي عنده حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت القيلولة، ليضمن وجوده في البيت، فيأخذ الصحابي وهو خارج من بيته فيسأله عن الحديث، وكان يقول: وتوسدت ردائي عند عتبة داره، فتسفُّ عليّ الريح من التراب ما تسفُّ، ولو شئت أن أستأذن عليه لأذن لي، أي: أنه لو طرق عليه الباب لفتح له، ومع ذلك لا يريد أن يطرق بابه، لماذا؟ يقول: وإنما كنت أفعل ذلك لأطيب نفسه، فإذا خرج من بيته رآني على هذه الحالة، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلاَّ أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق بالمجيء إليك، فالعلم يؤتى ولا يأتي، ثم أسأله عن الحديث، وبهذا أصبح عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة.

فتأمل هذا الكلام للعبرة وللتقليد، فهذا هو المجهود الذي كان يبذله للتعلم، وربما أن أحدنا أحياناً يكسل عن الذهاب إلى المكتبة التي بجواره، من أجل أن يبحث عن حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل الوصول إلى هذا الحديث كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه ورضي الله عن أبيه كان ينام في الريح والتراب..

إذاً كان هذا مجهود الصحابة في تحصيل العلم، واحترامهم لقيمة العلم، لكن هناك ناس تبذل مجهوداً كبيراً جداً في تحصيل العلم، لكنها لن تصل إلى علم الصحابة، لماذا؟ لأن الصحابة كانوا يتعلمون العلم بضوابط معينة، ولهذا تعلموا تعليماً صحيحاً، وسنوجز ونذكر بعضاً من هذه الضوابط التي حرص الصحابة عليها في تحصيل العلم، وأي جيل يحرص على هذه الضوابط فإنه سيتعلم تعليماً صحيحاً، ومنها:

وحدة المصدر

الضابط الأول: وحدة المصدر، أي: أن المصدر الرئيسي والأول لعلم الصحابة كان هو: الكتاب والسنة، وكون هذا هو المصدر الرئيسي لعلم الصحابة فقد أدى ذلك إلى ما يسمى بوضوح الرؤية، فقد أخذوا علماً نقياً طاهراً مضمون الصحة والصواب، لا العلم الدنيوي الذي يرد عليه الصحة والخطأ، والذي يتقرر صحته بعد ذلك بعدة تجارب، فهذا هو المقياس الذي يمكن أن نقيس عليه أي شيء آخر، فليس هناك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم -إن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- أيُّ أخطاء، فهو منهج صحيح تماماً بلا ريب، فإذا اعتمد عليه المسلمون فلن يضلوا أبداً.

روى الإمام مالك في موطئه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي) فهذا أول ضابط في تحصيل العلم، وسواء في العلوم الشرعية أو غير العلوم الشرعية.

وهناك سؤال: كيف يمكن أن يكون الكتاب والسنة هما الضابط في علوم الدنيا (العلوم غير الشرعية)؟

والجواب: أن هناك قواعداً وأصولاً وضعها القرآن والسنة، وعلماء الطب والهندسة والفلك والجيولوجيا وكل علم لا بد أن يعرف هذه الأصول، ولا يخترعوا شيئاً أو يبدأوا في علم أو يفكروا في نظرية تتعارض مع ما جاء في كتاب الله عز وجل، فلا يصح لأحد أن يقول: إن الإنسان أصله قرد! ويقول: إنه عالم من علماء الأحياء، والذي يقول هذا الكلام يعلم أن الله سبحانه وتعالى بيَّن في كتابه الكريم آن آدم أول الخلق، وأنه خلقه ولم يكن قرداً قبل ذلك، بل ولم يكن حشرة قبل ذلك كما يدّعي علماء التطور، إذاً فهذا علم يتعارض مع القرآن والسنة، وليس له أي قيمة ولا أي وزن، ولا يجب لعالم مسلم أن يسير في طريق هذا العلم؛ لأنه متعارض مع المصدر الرئيسي.

ولذلك عندما خرج الصحابة أحياناً عن هذا المصدر في الفهم، أو عن هذا الضابط الذي هو وحدة المصدر، كان صلى الله عليه وسلم يغضب غضباً شديداً؛ وبهذا نستطيع أن نفهم الرواية التي أتت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وجاءت أيضاً في سنن الدارمي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع عمر بن الخطاب وهو يقرأ في التوراة، فجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال أبو بكر : ثكلتك الثواكل - أي: أنه يكلم عمر بن الخطاب - ما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟) أي: أترى أن هذا الذي قد أتاك قليل وتريد أن تضيف عليه من مصدر آخر؟!: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتحدثوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) إذاً: فالصحابة فهموا من هذا الموقف أنه لا يوجد شيء يتقدم على كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن أن يتعلموا قانوناً أو قاعدة أو مفهوماً يتعارض مع هذين المصدرين العظيمين، أعني: الكتاب والسنة.

وعبد الله بن عباس حبر هذه الأمة قد تعلم هذا الدرس جيداً، فقد جاء في البخاري أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث؟: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] أي: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي تقرءونه لا يزال حدثاً لم يشب، ولم يختلط بغيره، فهو نقي وخالص وطاهر، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوه بأيديهم وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! لا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أُنزل عليكم، أي: ومع أن هذين المصدرين -الكتاب والسنة- هما المصدر الحقيقي الخالص، لا يسألونكم فكيف بكم تسألونهم؟!

العلم النافع

الضابط الثاني: العلم النافع، أي: لا بد أن يكون هذا العلم الذي تتعلمه علماً نافعاً، ودائماً يوصف العلم المرغب فيه شرعاً بكونه نافعاً.

روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) أي: أنه ليس صحيحاً أن يصرف الإنسان عمره ووقته وجهده في تعلم علم لا يعود بالفائدة والنفع على أمته وعلى الأرض بصفة عامة، مثل الذي ينفق عمره في الجري وراء تفصيلات لا ينبني عليها عمل في قصص الأنبياء والسابقين، فمثلاً: كم كان طول سفينة نوح عليه السلام؟ كم يوماً مكث الطوفان؟ وأي نوع من أنواع الحيوانات سبقاً في الصعود على سفينة نوح؟ وكم مكث قابيل عند قتله لـهابيل شهراً أم سنة قبل دفنه؟

وتفصيلات أخرى لا ينبني عليها أي عمل وليس لها أي معنى.

وأيضاً في علوم الحياة المختلفة، فليس صحيحاً أن يصرف الإنسان وقته في أشياء لا تنفع، وربما قد تضر كبعض العلوم الفلسفية، وكصرف الوقت في قراءة القصص والروايات، أو كتابة أو قراءة الشعر الإباحي، أو غير هذا من العلوم التي لا تقبلها الفطرة السليمة، فضلاً عن أن يعيش الإنسان عمره وحياته ليدرسها.

وهذا يرجعنا للمناهج التعليمية في المدارس والجامعات، فلا بد أن يكون المنهج معمولاً لينتفع به الطالب ومن ثم ينفع الأمة بعد ذلك، فلو شعر الطالب أن العلوم التي يدرسها مجرد حشو ليملأ فراغ السنة الدراسية وأنه لا يمكن أن يستفيد منه، فغير ممكن أن الطالب يستطيع أن يحصِّل هذا العلم، إذ لم يكن عنده النية الصادقة المخلصة في أن يتعلم العلم لينفع نفسه وأمته، وأيضاً لن يستفيد، إذاً فالعلم لا بد أن يكون علماً نافعاً، ولا بد أن يتعلمه بنية أن يستغله في بناء الأمة وفي نفع الإنسان في الأرض بصفة عامة.

إن العلم الذي ليس فيه صفة النفع ليس علماً ضرورياً، بل على العكس، فهو شر يجب الاستعاذة منه، والحذر من تضييع الوقت في سبيل تحصيله؛ ولهذا نستطيع فهم الحديث اللطيف والدعاء الجميل الذي كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) فيستعيذ بالله عز وجل من أن يضيع وقته في علم لا ينفع، ثم قال: (ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).

نشر العلم وبثه

الضابط الثالث: أن ينقل العلم إلى غيره؛ لأن العلم لا يقف عند المتعلم فقط، وإنما لا بد أن ينتقل هذا العلم من العالم إلى غيره، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة. ولو أن كل عالم سواء في العلوم الشرعية أو في علوم الحياة كتم علمه ولم ينقله إلى غيره لكانت كارثة على الأرض، ولسارت الأرض لا محالة ولا شك في ذلك إلى دمار وهلاك.

ولهذا لا يُطلق اسم (عالم) على شخص دون أن يكون معلماً لغيره، فالعالم الحقيقي هو الذي يقضي حياته بين التعلم والتعليم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فلا بد أن يتعلم ويعلم غيره.

وانظر إلى كلام جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره، أي: لو أن آخر هذه الأمة الذين جاءوا في القرن الثاني والثالث وحتى العشرين يلعنون أول هذه الأمة من الصحابة ومن جاء بعدهم، ويشوهوا التاريخ الإسلامي بصفة عامة، من كان عنده علم فليظهره، فالذي يعرف تصحيح هذه المعلومات لابد أن يتكلم ويعلم غيره، وليس له أن يحتفظ بهذه المعلومات في نفسه، وهو يعلم أن أول هذه الأمة رجال عظماء وفضلاء، فهذا شيء خطير جداً في كتمان هذا العلم، ثم قال رضي الله عنه: فإن كاتم ذلك العلم ككاتم ما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أي: لو سمعت أحداً يسب في الصحابة أو يلعن في هذا الجيل ولم تُظهر هذه المعلومة في الناس، فكأنك كتمت ما أُنزل على رسول الله، لأن الدين كله جاء عن طريقهم، وتخيل لو جاء أحدهم فطعن في عمر وفي أبي بكر وفي عثمان وكذا من الصحابة، فأين الدين الذي هو عندنا؟ وأين السنة التي أتتنا عن طريقهم؟ وأين القرآن الذي أتي إلينا نقلاً عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

إذاً فنقل العلم إلى الغير من أهم الضوابط، وليس صحيحاً أن يتعلم الإنسان العلم ويحتفظ به لنفسه، بل لا بد أن تسعى إلى تعليم الغير بأي علم تتعلمه، حتى وإن كانت آية واحدة فقط، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية).

عدم الفتوى بغير علم

الضابط الرابع: عدم الفتوى بغير علم. وهذه مشكلة وقع فيها الكثير من الناس، وهي مصيبة وكارثة أن يفتي الإنسان بغير علم، سواء في أمور الدين أو غيرها، فلا يجوز للمسلم أن يفتي بدون علم في أمور الإسلام أو في أمور الطب أو في أمور الزراعة أو في أمور التجارة أو حتى في وصف الطريق، كان يصف لشخص الطريق بالتخمين، فعلينا أن نتعلم كلمة: (لا أعلم)، وليس عيباً أن نقول: لا أعلم، لكن العيب الحقيقي هو الفتوى بغير علم، والصحابة قد تعلموا هذا النهج من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخيلوا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعلم البشر وأحكم البشر لم يكن يتردد عن قوله: لا أعلم، إذا كان فعلاً لا يعلم.

فقد روى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي البلدان شر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا أدري، فلما أتاه جبريل عليه السلام قال: يا جبريل أي البلدان شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل ربي عز وجل، فانطلق جبريل عليه السلام، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم جاء فقال: يا محمد إنك سألتني أي البلدان شر فقلت: لا أدري، وإني سألت ربي عز وجل: أي البلدان شر؟ فقال: أسواقها) فالأسواق تلهي الناس عن ذكر الله، ويكثر فيها الكذب والحلف على غير الحقيقة، ويكثر فيها الشحناء والبغضاء بين المسلمين، والفتنة بالمال، والاختلاط وأمور كثيرة، لكن الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه أحكم وأعلم البشر إلا أنه لم يتجرأ على الفتوى بغير علم، وكان صلى الله عليه وسلم يشدد النكير على من أفتى بغير علم من صحابته صلى الله عليه وسلم.

فقد روى أبو داود عن جابر رضي الله عنهما قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجّه، فنام فاحتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك) فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال كلمة ثقيلة جداً: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال)، أي: أن الجاهل الذي لا يعلم شفاءه أن يسأل: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب) شك من أحد الرواة (على جرحه خرقه، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)..

فالشاهد من القصة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتهم هؤلاء بقتل الرجل؛ لأنهم أفتوا بغير علم، وهذه قضية في منتهى الخطورة.

العمل بالعلم

الضابط الخامس: العمل، أي: العمل بما تعلم؛ لأنه ما الفائدة أنك تعرف كذا وكذا من أمور العلم ثم تعمل بغيرها؟ وما هي الفائدة في أنك اكتسبت خبرات طويلة جداً، وقرأت كتباً عظيمة جداً، وحضرت دروس علم ومجالس علم، ثم في النهاية تعمل بطريقة أخرى غير التي تعلمتها؟! وأين أيضاً قيمة العلم عنده؟

وتأموا في كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، عند الدارمي رحمه الله: يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقواماً يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، فهم لا يتعلمون العلم لأجل أن يعملوا به، وإنما لأجل أن يقال فيهم أنهم علماء، ولأجل أن يقولوا عنهم أنهم يحملوا علماً كبيراً جداً، ولأجل تكبر حلقته والناس يستمعون له، لأجل هذا فقط هو يتعلم العلم، وهذا ليس بعالم.

ثم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه. أي: أنه لو ذهب إلى عالم غيره يسخط عليه، فهذا هو العالم المباهي بعلمه، والذي لا يخلص لله سبحانه وتعالى، وقد تحدثنا فيما مضى عن قيمة الإخلاص، وقلنا: إن من الثلاثة الذين تسعر بهم النار: رجل تعلم العلم لغير ذات الله عز وجل، فهو لم يتعلمه لوجه الله عز وجل.

ثم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل.

فعمله محبط؛ لأنه فُقِد منه الإخلاص، فإذاً لا بد أن تعمل بالذي تعرفه، فهذا الموضوع في غاية الأهمية، والضابط هذا يحتاج منا إلى كلام كثير جداً.

وإن شاء الله في المحاضرة القادمة جميعها سوف تكون عن هذا الموضوع، وستكون عن الصحابة والعمل، وهنا قد تحدثنا عن الصحابة والعلم، وإن شاء الله في اللقاء القادم سنتحدث عن الصحابة والعمل.

وأختم هذه المحاضرة بكلمة بليغة عميقة ورائعة للعالم الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، وهو يوضح فيها قيمة العلم، يقول: تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعلميه لمن لا يعلم صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة.

فهذا هو العلم في منظور معاذ بن جبل رضي الله عنه ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

وجزاكم الله خيراً كثيراً.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.