خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/985"> د. راغب السرجاني . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/985?sub=8344"> سلسلة كن صحابيا
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
سلسلة كن صحابياً القابضون على الجمر
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فمع الدرس الثاني من مجموعة المحاضرات التي أطلقنا عليها اسم: كن صحابياً، وقد تكلمنا في الدرس السابق عن جيل الصحابة، هذا الجيل العظيم الجليل الفريد، الذي كان وساماً حقيقياً على صدر البشرية، أولئك الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة خاتم أنبيائه وأفضل رسله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا له نعم المعين على أمور الدعوة، ونعم الجنود في كل الميادين، فحملوا الرسالة من بعده كما ينبغي أن تحمل تماماً، وما فرطوا وما بدلوا وما غيروا، بل أناروا الأرض بنور الإسلام، وروت دماؤهم أطراف المعمورة لتعبيد الناس لرب العالمين، لا يريدون منهم جزاء ولا شكوراً، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ونسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
واليوم سنطرح سؤالاً قد يستغرب منه أناس كثيرون ألا وهو: هل أنت صحابي؟ في مصطلح أهل الحديث هذا مستحيل، لأن الصحابي أو الصحابية هو: رجل أو امرأة عاش في حقبة معينة من الزمان توافرت فيه أو فيها شروط معينة، وهذه الحقبة من الزمان مرت ولا يمكن أن تعود، فهذه الشروط من المستحيل أن تتوافر فينا.
وشروط الصحابي في مصطلح أهل الحديث هي:
الشرط الأول: أن يكون قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو اجتمع به، يعني: أنه لابد أن يكون قد رآه بعينه، ولا يكفي أن يكون معاصراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون في بلد والرسول صلى الله عليه وسلم في بلد آخر، ولذلك النجاشي رحمه الله تعالى ليس صحابياً، مع أنه كان معاصراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد آمن به في حياته لكن لم يره.
أما قولهم: (أو اجتمع به) يعني: حتى يدخل في ذلك من اجتمع برسول الله ولم يره لفقد نعمة البصر، كـعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه، فقد اجتمع بالرسول لكنه لم يره؛ لأنه كان ضريراً رضي الله عنه وأرضاه.
الشرط الثاني: أن يكون قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ولا يكفي أن يكون معاصراً له وقد ظل كافراً سنوات طويلة إلى أن مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن الرجل، حينها لا يكون من الصحابة، وممكن أن يكون من التابعين الذين تعلموا على أيدي الصحابة.
الشرط الثالث: أن يكون قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ورآه، ثم مات على هذا الإيمان، ولم يرتد وبقي على ردته.
فهذه الشروط الثلاثة لو تحققت في أي واحد سيصبح صحابياً، والصحابة كثيرون جداً، فقد بلغ عددهم أكثر من مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، ونحن لسنا منهم؛ لأننا لم نعاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نره، ولم تمر بنا هذه التجربة كما ذكرناها في هذه الكلمات.
إذا كان مستحيلاً في مصطلح أهل الحديث أن تكون صحابياً، فكيف تكون صحابياً في عقيدتك في إيمانك في أفكارك في فهمك لهذا الدين في طموحاتك وأهدافك في حميتك للإسلام في غيرتك على حرمات المسلمين، في التطبيق لكل صغيرة وكبيرة في هذا الدين؟
المقصود في هذه المجموعة أن نفقه الأسباب الحقيقية التي جعلت من الصحابة صحابة، فليس فضل الصحابة فقط أنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاشوا معه في نفس الفترة الزمنية، فقد عاصره أبو جهل وأبو لهب والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط.. وغيرهم من المشركين، وإنما يرجع فضل الصحابة إلى التزامهم بتعاليم هذا الدين التزاماً حرفياً، واتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعاً دقيقاً، وحبهم لهذا الشرع حباً خالصاً صادقاً حقيقياً.
والمقصود في هذه المجموعة أن نكون قوماً عمليين، لا أن يكون همنا فقط أننا نسمع الحكايات ونتندر بالروايات، وإنما همنا أن نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء العمالقة أو قريباً مما وصلوا إليه، هذا هو المقصود من كلمة: كن صحابياً، وهذا هو المقصود من سؤال: هل أنت صحابي؟ وقد قال لي أحد أصحابي شيئاً غريباً جداً، ولعل ذلك الشيء الغريب هذا هو سبب تحضير كل هذه المجموعة من المحاضرات، قال: إنني كلما قرأت قصص الصحابة أو استمعت إليها أصابني اليأس والإحباط. فقلت: سبحان الله! هذا عكس المراد تماماً، فنحن نقرأ سير الصحابة والصالحين لكي نتحمس للعمل ولكي ننشط عند الفتور، ثم قلت له: لماذا تشعر بهذا الإحساس؟ قال: لأنني كلما قرأت عن الصحابة وجدت لهم أعمالاً يستحيل علينا فعلها، ووجدت إصراراً على الجهاد، ووجدت ثباتاً على الإيمان، ووجدت عزيمة على الصيام والقيام والبذل والعطاء، ووجدت مواصلة لأعمال البر والخير، ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً، ليس هناك فرق بين مرحلة الطفولة ومرحلة الشباب ومرحلة الكهولة أو الشيخوخة، فالجهد كله لله عز وجل، والمال كله في سبيل الله، والفكر كله في سبيل الله، وتستطيع أن تقول: الحياة كلها في سبيل الله، فعندما أجد ذلك أشعر بضعفي الشديد وبُعدي عن طريقهم، فيسيطر عليَّ الإحباط واليأس. انتهى كلام صاحبي هذا. فقلت له: والله أنا معك في نصف كلامك وأتفق معك فيه تماماً، وأما النصف الثاني فأنا أختلف معك فيه اختلافاً جذرياً، فكما تقول: إن الصحابة جيل فريد، وحياة عجيبة، وعطاء ما انقطع لحظة، ولذلك فقيمته عالية وغالية جداً، ويكفي أن تسمع إلى قول الله عز وجل وهو يقول في حق المهاجرين والأنصار: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، وانتبه فالله عز وجل لم يذكر شرط الإحسان في عمل الصحابة، وإنما شرط الإحسان في التابعين لهم، فقال: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]؛ لأن الصحابة كلهم قد عملوا بإحسان، وهذا معلوم ضمناً من حال الصحابة، فتأمل الدرجة كيف هي عالية وغالية عند الله سبحانه وتعالى وعند الرسول وعند كل المؤمنين، وهذا هو الذي أتفق فيه معك، لكن ما أختلف فيه معك هو الشعور بالإحباط واليأس عند سماع هذه الحكايات وعند قراءة هذه السيرة، فبدلاً من الإحباط واليأس هناك شيء أفضل من ذلك، ألا وهو أن نشغل أنفسنا بمعرفة كيف سبق السابقون؟ وكيف اللحاق بهم؟ والمسألة بالعقل، وتعالوا لنُفكر معاً، فنقول: ما دام أن الصحابة قد ساروا في طريق معروف وواضح، وهذا الطريق موصوف لنا كما وصف لهم، وذلك في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، إذاً فالتعرف على الطريق والسير فيه يضمن لنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه، والمثال يوضح ذلك: فلو قلت لك: امش في هذا الطريق ولا تتجه يميناً ولا يساراً، وستجد نفسك في الإسكندرية، طريق مستقيم من هذه النقطة إلى تلك النقطة، وأي واحد سيسلكه سيوصله إلى الإسكندرية، وكذلك الصحابي مشى في الطريق ولم يتجه يميناً ولا يساراً، حتى وصل إلى ما كان يريد أن يصل إليه، والذي منا سيمشي في نفس الطريق من غير أن يتجه يميناً ولا شمالاً سيصل إلى نفس الذي وصل إليه الصحابة، ولذلك فإن المشكلة أننا كثيراً ما نتجه يميناً ويساراً، فمرة تريد أن تستكشف طرقاً جانبية فتبتعد عن الطريق المستقيم، ومرة تفكر أنك أذكى من الشرع تستطيع أن تأخذ طرقاً مختصرة لتصل سريعاً، بينما الأصل أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق، وطريق الشرع هو دائماً الطريق المستقيم من غير يمين ولا شمال، وانظر إلى ربنا وهو يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، تقولها سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم في صلاتك، وذلك حتى تتربى وتتعلم.
ويقول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، أي: الطرق المختصرة في ظنكم، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، ودائماً يوصف الطريق أو الصراط بأنه مستقيم، والذي يحاول أن يقف في طريق مختصر فرعي من الطريق المستقيم لا يصل أبداً، ومن انحرف ولو درجة فلا يرجى له وصول.
والذي ينظر إلى طريق التربية الذي مشى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه طريق طويل، ففيه دعوة وابتلاء وصبر وكفاح، فيقول: لا، أنا سآخذ طريقاً مختصراً، وسأدخل مباشرة على بدر وأغير بالسيف، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم!! أقول له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مشى في طريق طويل قبل بدر، فيقول لك: لا، أنا سآخذ طريقاً مختصراً، عند ذلك ستكون النتيجة: لا وصول؛ لأن الطريق المستقيم أقصر الطرق.
وهذا مثل الذي يحمل الناس على الإيمان بالعنف والزجر والتخويف، ثم يقول: إن هذا أسرع وأكثر اختصاراً! بينما كلنا نعرف طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان طريقه الرفق واللين والبشاشة والابتسامة والحب والمودة، نعم قد تبدو لأول وهلة أنها أطول، لكن في الحقيقة هي أقصر الطرق إلى القلوب، والصحابة كانوا يسيرون في هذا الطريق المستقيم ولا يحيدون عنه يميناً ولا شمالاً، وانظر إلى هذا الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (أخبرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم)، فهذا هو الدين، استقم ولا تحيد عنه يميناً ولا شمالاً، وإلى هذا المعنى لفت رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنظار في حواره الرائع الطويل مع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يدركه، وأنا لن أقوله كله، فهو موجود في البخاري لمن يريد أن يرجع له، لكن هناك نقطة مهمة جداً تخصنا الآن، ألا وهي بعد أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي زمان على أمته سيكون فيه الخير، ولكن فيه دخن، سأل حذيفة : (فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم)، وركز جداً جداً في كلام الرسول؛ لأنه يوصف واقعاً نعيشه الآن، قال: (نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت -أي:
دعاة على أبواب جهنم، منهم يقول لك: خذ سيجارة، وبعدها يصبح مدمن سجائر، خذ شمة وبعدها يصبح مدمن مخدرات، خذ كأساً من الخمر وبعدها يصبح مدمن خمر، عش شبابك وانبسط وصاحب النساء، ثم يصبح زانياً، خذ رشوة ثم يصبح مرتشياً.
إنها قضية في منتهى الخطورة، لذا نحن في هذه المجموعة لا نبحث عن فضائل الأعمال، وإنما نبحث عن النجاة من جهنم، نبحث عن الطريق المستقيم الذي سيوصل إلى الجنة، وأي طريق غيره ما هو إلا باب من أبواب جهنم، كباب الإشتراكية والرأسمالية والعلمانية.. وغيرها، وكلها لا توصل إلى المراد؛ لذا نحن في هذه المجموعة نريد أن نتعرف على معالم طريق الصحابة، وما هو الطريق المستقيم الذي مشى فيه الصحابة؟ ولا نريد طرقاً مختصرة ولا نريد انحرافات، ولا نريد أن ندخل في التيه الذي دخل فيه بنو إسرائيل، عندما رفضوا الطريق المستقيم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، فرفضوا وعاندوا واستكبروا، واقترحوا خططاً بديلة وأساليب مختلفة، فماذا كانت النتيجة؟ الدخول في التيه أربعين سنة، قالوا نجرب الطريق هذا سنة أو اثنتين أو ثلاث ثم يتضح لهم أن الطريق غلط، ثم يقولون: نجرب هذا الطريق، ثم احتمال هذا الطريق، فبقوا كذلك أربعين سنة في التيه، ثم في النهاية لم يدخلوا القرية المقدسة إلا من حيث أمرهم نبيهم؛ لأنه طريق واحد فقط الذي يوصل إلى الحق، وهو الطريق المستقيم الذي يأمر به الأنبياء، فيا ترى ما هو مفهوم الصحابة للإخلاص؟ ويا ترى ما مفهومهم للعلم والعمل والدنيا والجنة والأخوة وعن التوبة.. وغيرها من المعاني وما هو الطريق المستقيم في كل معنى من هذه المعاني؟ هذا هو مقصود هذه المجموعة: كن صحابياً، وليس معرفة الطريق الذي مشى فيه الصحابة معرفة نظرية، لحشو العقل بكمية ضخمة جداً من المعلومات، ونحن لا نزال واقفين مكاننا، لا، ليس هذا هو طلبنا.
نريد أن نقف وقفة تحليلية حول الإحباط واليأس عند سماع قصص الصحابة، أقول: لا داعي للإحباط ولنكن عمليين، ولنبحث عن أسباب الإحباط لكي نعالج المسألة علاجاً متكاملاً، والحقيقة أنني قد وجدت بعض الأسباب التي أورثت في اعتقاد كثير من المسلمين أنه يصعب عليه جداً تقليد الصحابة، وهذه الأسباب تتلخص فيما يلي:
عدم وجود النبي صلى الله عليه وسلم بيننا
إذا كان حتمياً فلا أمل في الوصول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد مات ولن يعود إلى يوم القيامة، وإذا لم يكن حتمياً فهناك أمل في أن نصل إلى ما وصل إليه الصحابة، وتعالوا بنا لنرد على هذا السؤال بهدوء، ونرى ما هي الإجابة عليه؟
بداية لا ينكر أحد أهمية وجود النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجيل الأول، بل لا يكون هناك دين من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يتلقى عن رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم إنه كان القدوة الكاملة الحسنة في كل شيء لكل المؤمنين، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]، واسأل نفسك الآن؟ هل اختفت القدوة النبوية من حياتنا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبداً، فما زالت سنته وطريقته وكلماته حية بين أظهرنا، وستظل حية إن شاء الله إلى يوم القيامة، وقد أنكر الله بشدة على أولئك الذين فتروا عن العمل، عندما غاب عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه تعليقاً على غزوة أحد: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فهذه الآية نزلت عندما أشيع يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وعند ذلك أحبط بعض الصحابة فجلسوا في أرض القتال، وفقدوا كل حمية للقتال، وفقدوا كل رغبة في النصر، وكل أمل في الحياة، والحياة بالنسبة للصحابة في الأرض ولو ساعة واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من الخلود في الأرض بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت مصيبة كبيرة جداً فقدان الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت المصيبة على الصحابة أشق بكثير من المصيبة علينا؛ لأنهم عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخالطوه وتعاملوا معه وصلوا خلفه واستمعوا لحديثه، عاشوا حياة كاملة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك قيل: قد قتل صلى الله عليه وسلم، إنها مصيبة عظيمة جداً، ومع عظم هذه المصيبة لم يعذرهم ربهم سبحانه وتعالى في عدم العمل بنفس الحمية حتى مع المصيبة الثقيلة، واعتبر أن ما فعله هؤلاء الصحابة كان قصوراً في الفهم يستحقون عليه اللوم الشديد والتهديد المرعب، فقال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144].
وعلى العكس من ذلك تماماً، فهذا الصحابي الجليل ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه عندما مر على هؤلاء الذين قعدوا بعد إشاعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، فإن الله حي لا يموت، فقوموا وقاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه حتى استشهد، فـثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه رجل مؤمن، ورجل واقعي يتعامل مع الواقع الذي يعيشه بكل ظروفه وملابساته، فيعمل في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غيابه، ويتأقلم بسرعة مع الأحداث فيعمل بكل طاقته فيها، وليس هناك أمر تتمناه مستحيل الحدوث، وليس هناك معنى لكلمة (لو) في حياة المسلم، فيقول أحدهم: والله لو كنت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلت كذا وكذا، ولكن قدر الله وما شاء فعل، فأنا لست صحابياً، لذلك لن أستطيع أن أعمل مثل الصحابة.
هذا وهم، (فإن لو تفتح عمل الشيطان) كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ، ثم ما أدراك أنك إذا كنت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أنك تتبعه؟ فقد كان هناك آلاف من المشركين الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك حاربوه عليه الصلاة والسلام، وكذلك فقد كان هناك آلاف من المنافقين عاشوا في المدينة، وصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه مباشرة، ومع ذلك ما آمنوا به.
أيضاً ما أدراك أنك كنت ستتغلب على فتنة ترك دين الآباء، وفتنة اتباع نبي من قبيلة أخرى، وفتنة المحاربة من أهل الأرض أجمعين، وفتنة التعذيب والتجويع والهجرة؟ اعلم أن ما اختاره الله عز وجل لك هو الأفضل، لذا لا يُقبل من المسلم أن يتعلل بغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لا يفعل مثل الصحابة، بل يكون حاله وفهمه كفهم ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، وأعظم منه كان موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أعتقد أن بشراً على وجه الأرض حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله؛ لأنه كان أعظم من يحبه فعلاً على وجه الأرض، وكان أبو بكر أقرب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يمنعه هذا الحزن العميق من وضوح الرؤية وعمق الفهم، فخطب في الناس قائلاً: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. فهذه هي حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول، وهذه هي حقيقة العبودية لله عز وجل، ونحن لا نعبد الرسل فنربط أعمالنا بوجودهم، إنما نحن نعبد الله عز وجل ونربط أعمالنا به سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى الحي الذي لا يموت، والباقي الذي لا يفنى، فلماذا يفتر الناس عن العمل في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]؟ نحن لا نريد أن نكون مثل أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك عندما ذهب ليتلقى الألواح من ربه، فلم يصبروا على فراقه فعبدوا العجل، نعم نحن لم نعبد العجل ولن نعبده إن شاء الله، لكن منا من يعبد هواه ويعبد شهواته ويعبد رغباته، وانظر إلى قول الله عز وجل: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]، فهواه في كذا، والله عز وجل أمره بشيء آخر، فيتبع هواه ويترك أمر الله عز وجل، فهذا لا يعبد الله حق العبادة؛ لأن العبودية اتباع وليست مجرد كلمات تطلق في الهواء، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، أي: أن العبودية ليست مجرد كلام، ثم إن الدين قد اكتمل وتم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فليس هذا الدين قابلاً للزيادة، كما أنه ليس قابلاً للنقصان وما طلب من الصحابة من أحكام وتشريعات وتكليفات هو نفس ما يطلب منا، فالصلاة هي الصلاة، والصيام هو الصيام، والإنفاق هو الإنفاق، والجهاد هو الجهاد، والمعاملات هي المعاملات، والأخلاق هي الأخلاق، والدين هو هو، لم يتغير ولم يتبدل ولم يزد ولم ينقص، وقد عُلِم أن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فإن كان الله عز وجل يعلم فينا ضعفاً يقود إلى استحالة التطبيق لشرائع الإسلام في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان قد خفف عنا هذا الشرع؛ لأنه عادل لا يظلم سبحانه وتعالى، يعني: أن الصحابة يصلون خمساً فنحن نصلي ثلاثاً، والصحابة يدعون إلى الله فنحن ترفع عنا الدعوة، والصحابة يدافعون عن الأمة ويجاهدون في سبيل الله وينشرون كلمة الله عز وجل في الأرض، فيفتحون البلاد بالإسلام، ويعبدون الناس كلهم لله عز وجل، ونحن لا نفعل ذلك؛ لأننا أضعف من ذلك، فهل هذا الكلام قد حصل؟! لا، ولن يحصل، لأن الله عز وجل الحكيم القدير العليم بخلقه وأحوالهم وشئونهم وقدراتهم سبحانه وتعالى، فرض علينا نفس الدين ونفس الشريعة ونفس التكاليف التي كانت مفروضة على الصحابة الكرام.
إذاً: نستطيع أن نطبق نفس التطبيق، وما كان الله عز وجل ليفرض علينا شيئاً لا نقدر عليه، فهو لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ثم تعالوا بنا لننظر في يوم القيامة، هل هناك حساب مختلف؟ فالحساب هو الحساب، والميزان هو الميزان، ولا يوجد هناك ميزان للجيل الأول وميزان للجيل الثاني وميزان للجيل العاشر، وإنما هو ميزان واحد، فـأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسعد وأبو هريرة وخالد وخديجة وعائشة وأم عمارة رضي الله عنهم أجمعين، كل هؤلاء سيوزنون في نفس الميزان الذي سيوزن فيه بعد ذلك موسى بن نصير وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وابن كثير والنووي والبخاري وقطز وكل الصالحين وكل الطالحين، بل والناس أجمعين، وفي نفس الميزان سنوزن أنا وأنت، وكل الحضور وكل السامعين وأهل الأرض أجمعين؛ من أجل ذلك لابد أن تعرف مع من ستقارن نفسك، لذلك في أمور الإيمان انظر إلى من هو أعلى منك، فهذا أدعى إلى العمل، وفي أمور الدنيا انظر إلى من هو أسفل منك، فهذا أجدر ألا تزدري نعمة الله عز وجل عليك، فإذا كان الله عز وجل سينصب ميزاناً واحداً ويحاسب حساباً واحداً، وقد فرض شرعاً واحداً، وخلق طريقاً مستقيماً واحداً، وعلم سبحانه وتعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يموت بعد سنوات معدودات من بعثته لا تتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة، وأنه لن يخلد في الأرض، ومع كل ذلك لم يخفف عن اللاحقين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الشرع، ولن يخفف عن كل من سيأتي إلى يوم القيامة، إذا كان كل ذلك حقيقياً، فلا شك أن اللاحقين من أمثالنا ومن سبقنا ومن سيلحق بنا كل هؤلاء يستطيعون التعرف على معالم الطريق الذي سار فيه الصحابة، ويصلون إلى ما وصل إليه الصحابة، حتى في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء مفهوم وواضح بالعقل؛ لأنه ليس هناك في دين الله إبهام، وليس هناك في دين الله غموض، وليس هناك في دين الله عز وجل ظاهر وباطن، وإنما كله ظاهر وواضح وجلي، وليس عندنا أسرار خفية يطلع عليها بعض الصالحين، فيعبدون الله عز وجل بطريقة غير معلومة لنا في كتاب الله، أو في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].
رفع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة فوق دائرة البشرية
إذاً: أليس اتباع الصحابة بعد فهم هذه الحقيقة أمراً ممكناً؟ فالصحابة بشر لهم أجساد كأجسادنا، ولهم فطرة كفطرتنا، ولهم غرائز كغرائزنا، ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ومع كل هذه الأمور البشرية والنوازع الإنسانية إلا أنهم قهروا أنفسهم على اتباع الحق وإن كان مراً، وعلى السير في طريق الله عز وجل وإن كان صعباً أو وعراً، وليس معنى ذلك أن أقول كما يقول أولئك الذي قلَّ أدبهم، وانعدم حياؤهم، فقالوا: الصحابة رجال ونحن رجال، وسوغوا لأنفسهم بذلك الطعن في الصحابة وانتقاص بعضهم، أبداً، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود عكس ذلك بالضبط، فنقول: هم أعظم البشر مطلقاً بعد الأنبياء، وكونهم أعظم البشر لا يلغي ذلك بشريتهم ولا يقلل من شأنهم، وإنما العكس، فيرفع جداً من قيمتهم؛ لأنهم انتصروا على أنفسهم في امتحان عسير ما استطاعت السماوات والأرض والجبال أن يدخلن فيه أصلاً، فحملوا الأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض والجبال، فتقليدهم ممكن، بل وضروري جداً؛ لأنهم بشر نجحوا في امتحان وضعه الله عز وجل، وهو أعلم بقدرات البشر، ومع ذلك فأنا لا أدعي أننا سنكون مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإنما أقول: إنما يجب أن نتخذهم قدوات عملية، قدوات صالحة، وإننا نستطيع بإمكانياتنا البشرية وبمنهج الإسلام الواضح أن نسير في نفس الطريق الذي ساروا فيه، ونصل بإذن الله إلى ما وصلوا إليه، وهذا إذا كنا نريد أن نمشي في هذا الطريق فعلاً.
إذاً: السبب الثاني في إحساس بعض المسلمين أن تقليد الصحابة عسير: هو نسيان هؤلاء المسلمين أن الصحابة بشر لهم كل طبائع البشر، وليسوا خلقاً خاصاً، فليسو جناً ولا ملائكة، وإنما هم بشر نجحوا في حمل الأمانة.
وقبل أن أترك هذه النقطة أحب أن أشير إشارة سريعة، ألا وهي أن بعض الدعاة يساهمون في هذه المشكلة بذكرهم مبالغات شديدة في حق الصحابة، وهذه المبالغات إما أن تكون غير صحيحة أصلاً، ومن باب أولى ألا تذكر هذه المبالغات مطلقاً، وإنما يذكر الصحيح في حق الصحابة والحمد لله يكفي، والصحابة الكرام ليسوا محتاجين إلى المبالغة لكي نعظمهم، فهم عظماء بأحوالهم الحقيقية، فمثلاً: بعض الدعاة يذكر أن سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه قُدِّم له كوب فيه سم عن طريق أحد أعدائه، وحتى يثبت لعدوه أن الله عز وجل لا يضر مع اسمه شيء، قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، وشرب السم ولم يحصل له شيء، سبحان الله! هذه الرواية غير صحيحة, بل هي مخالفة للسنة؛ لأنه يجب على سيدنا خالد بن الوليد أن يأخذ بالأسباب، ولا ينفع أن يشرب السم ويطلب النجاة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أكل من الشاة المسمومة وأخبر أنها مسمومة لفظ قطعة اللحم التي أكلها ولم يبلعها، مع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم والله عز وجل يحميه، لكن لابد أن يأخذ بالأسباب، وهذا هو الذي علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نعمله، وهذا هو الذي يفترض أن نقوله على الصحابة، فالصحابي رجل يأخذ بكامل الأسباب، ويسير في طريق واضح، حتى لا يأتي أحد في المستقبل فيشرب السم، ويقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، وأنا أقلد الصحابي خالداً رضي الله عنه، فهذا الكلام ليس صحيحاً.
وأحياناً قد تكون هذه المبالغات حقيقية، يعني: أنها فعلاً حصلت، لكنها كرامات خاصة جداً لبعض الصحابة، فهي شيء خارق للعادة يحصل للصحابي أو للصالح بدون قصد منه، وهذه مهمة جداً، يعني: لا يتعمد الصحابي أنه يعمل الشيء ويكرره مرة ومرتين وثلاثاً، لا، فهذا شيء أعطاه ربنا سبحانه وتعالى له هدية وإكراماً منه، فهم لا يستطيعون أن يكرروا هذه الكرامة إلا إذا أراد الله عز وجل ذلك.
مثال ذلك: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عندما نادى في المدينة وقال: يا سارية الجبل! فسمعه سارية رضي الله عنه وأرضاه وهو على بعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة، فهذه كرامة ثابتة لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، لكن ليس مطلوباً منك أن تعمل مثله، فأنت ممكن أن تستعمل لا سلكياً أو تلفونياً أو قمراً صناعياً، ويمكن أن تستعمل كل تقنية حديثة، وهذه المخاطبة إنما كانت خاصة جداً بـعمر بن الخطاب في هذه الحادثة فقط، ولم تتكرر مع أحد آخر، وعمر بن الخطاب عاش حياته كلها يتعامل بالبريد الذي كان عامة أهل زمانه يتعاملون به، ويأخذ بكل الأسباب، ولذلك يجب على الدعاة عندما يحكون مثل هذه الكرامات أن يفسروا للناس أن هذا حصل مرة وهو شيء خاص جداً، ثم إن حياة كل الصحابي بعد ذلك سائرة بالقوانين الإلهية الثابتة في هذا الكون.
وأحياناً قد تكون المبالغات حقيقية، لكنها مبالغة غير مقبولة من الصحابي، بمعنى أن الصحابة كلهم قد خالفوه فيها، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى الصحابي عن فعل هذه المبالغات، مثال ذلك: شدة زهد أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يعتبر أي ادخار للمال فوق يوم واحد كنز للمال، حتى ولو كنت دافعاً زكاته، ومعلوم أن كل الصحابة لم يكونوا على هذا، فقد خالفوا أبا ذر في هذا الاعتقاد.
مثال آخر: كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، ويختم القرآن في كل ليلة، ويسرد الصوم، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه عن هذا الأمر وأمره بالاقتصاد في العبادة، يعني: يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهذا أقصى شيء، بل في بداية الأمر أمره أن يصوم ثلاثة أيام في الشهر، وبعد ذلك يومان في الأسبوع، وبعد هذا يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويختم المصحف في كل شهر مرة، أو في أسبوع، أو ثلاثة وليس أقل من ذلك، فهذه قواعد وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا آتي بعد ذلك وأقول في درس عن القيام: يا أخوة هذا عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم الليل، وكل يوم يختم القرآن، وكان يصوم كل يوم، بحيث إن الشخص الذي أمامك يتعقد، ولسان حاله: من المستحيل أن أصوم كل يوم، ومن المستحيل أن أقوم كل يوم بالقرآن كله، فيعرف أنه ليس من الممكن أن يقلده؛ لذا لابد أن تعرف الصحابي الذي عمل هذا العمل، هل قد وافق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: لا تعمل هذا الفعل، عند ذلك لا يستقيم أن أتخذ هذا الفعل قدوة؟
وأحياناً قد تكون المبالغات حقيقية والصحابة فعلاً قد عملوها ولم يؤمروا بعدم فعلها، لكن أنت كداعية مفروض عليك أن تعرف أنت من تكلم؟ فربما واحد لا يزال في بداية طريق الالتزام فلا تعسر عليه جداً الأمور، وتعطيه أموراً أنت تعلم أنه لن يستطيع أن يعملها، فالداعية الحكيم هو الذي يذكر من القصص ما يناسب الشخصية التي يتحدث معها، وهذا هو الأمر الذي نحن نتكلم عليه، فالمبالغات الشديدة في وصف الصحابة، والمبالغات الشديدة في الأفعال التي كان يقوم بها الصحابة، سواء كانت هذه المبالغات حقيقية أم غير حقيقية، أدت إلى أن بعض الناس اعتقدوا أن الصحابة ليسوا بشراً، وليس عندهم نفس النوازع التي عندنا، وبالتالي لن نستطيع أن نقلدهم.
النظر إلى إمكانيات الصحابة على أنها إمكانيات رجل واحد
وتعالوا لننظر مجال الأحاديث وحفظها، وطلب العلم ونقله، تجد أبا هريرة أسطورة علمية ومكتبة حافظة وكمبيوتر متحرك، لكن في مجال الإفتاء والأحكام الشرعية تجد غيره أبرز منه، فتجد عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب.
وتعالوا لننظر مجال الإنفاق، فـأبو بكر الصديق وإن كان أبو بكر الصديق قد تفوق في كل المجالات، كذلك تجد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف.
وتعالوا لننظر أيضاً في الإدارة تجد عمر بن الخطاب ، وفي إدارة الأمور تجد معاوية رضي الله عنه، فكل واحد متفوق في شيء، وكل واحد بارز في شيء، ونحن أيضاً منا من ينفق في سبيل الله ببساطة وبسرعة، ولكن حظه من العلم قليل، وواحد خطيب مفوه، لكن ليست له في السياسة خبرة، وواحد بارع في علوم القرآن، لكن ليس بارزاً جداً في القضاء، فهناك إمكانيات مختلفة في مواهب مختلفة، وحصيلة علمية مختلفة، وتربية مختلفة، توجد ثغرات كثيرة جداً، ونحن محتاجون لكل هذه المواهب لسد كل هذه الثغرات، وعليه عندما تنظر إلى جيل الصحابة بهذه الصورة فإنك وإن كنت ستتخذ كل الجيل بصفة عامة قدوة، إلا أنك ستتخذ من بينهم قدوة خاصة في المجال الذي أنت بارز فيه، فلو أنك قائد في الجيش سيكون قدوتك خالداً ، ولو أنك إداري سيكون قدوتك عمر وهكذا، وبذلك يصعب تسلل الإحباط إلى قلبك.
إغفال أخطاء الصحابة
فقد كانوا سريعي العودة إلى الله عز وجل، وسريعي التوبة من ذنوبهم، ومع ذلك انتبهوا معي فعند ذِكْرِ هذه الأخطاء يجب أن يراعى الأدب الكامل والاحترام العظيم لمقام أولئك الأخيار، فهذه سيئات تذوب في بحار حسناتهم، وإن شاء الله سنفرد في هذه المجموعة محاضرة خاصة بعنوان: (الصحابة والتوبة) وسنتكلم فيها بالتفصيل عن هذا الموضوع، وفي مجموعة كاملة تكلمنا فيها عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين، ويمكن أن تعودوا لها لو أردتم أن تتعمقوا في هذا الموضوع.
إذاً: فهذه أربعة أسباب، واحتمال أن هناك غيرها أدت إلى إحباط بعض المسلمين من سماع قصص الصحابة المثالية، وخلصنا إلى أن تقليد الصحابة ليس فقط أمراً ممكناً، ولكنه أمر مطلوب شرعاً، ومن هنا كانت هذه المجموعة بعنوان: كن صحابياً.
وهذا المعنى إذا سئلت: هل أنت صحابي، تستطيع أن تقول: نعم، أنا صحابي في الفهم، صحابي في الجهاد، صحابي في التوبة، صحابي في الأخوة.. وهكذا، ونستطيع بعد ذلك أن نقرأ قصص الصحابة بفكر جديد، وبفكر البحث عن الطريق الذي وصل بالصحابي إلى هذه الدرجة العالية، وفكر الاجتهاد الحقيقي المخلص في السير في نفس الطريق الذي سار فيه الصحابة.
أولاً: عدم وجود النبي صلى الله عليه وسلم بيننا؛ لأنه هو الذي ربى الصحابة، وعليه فغير ممكن أن نكون مثل الصحابة، وهنا سأسألك سؤالاً في غاية الأهمية: هل وجود الرسول صلى الله عليه وسلم حتمي للدلالة على الطريق الصحيح؟ أي: هل من أجل أن نعرف الطريق الذي يريد الله عز وجل منا أن نمشي فيه أن يكون الرسول بيننا؟
إذا كان حتمياً فلا أمل في الوصول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد مات ولن يعود إلى يوم القيامة، وإذا لم يكن حتمياً فهناك أمل في أن نصل إلى ما وصل إليه الصحابة، وتعالوا بنا لنرد على هذا السؤال بهدوء، ونرى ما هي الإجابة عليه؟
بداية لا ينكر أحد أهمية وجود النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجيل الأول، بل لا يكون هناك دين من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يتلقى عن رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم إنه كان القدوة الكاملة الحسنة في كل شيء لكل المؤمنين، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]، واسأل نفسك الآن؟ هل اختفت القدوة النبوية من حياتنا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبداً، فما زالت سنته وطريقته وكلماته حية بين أظهرنا، وستظل حية إن شاء الله إلى يوم القيامة، وقد أنكر الله بشدة على أولئك الذين فتروا عن العمل، عندما غاب عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه تعليقاً على غزوة أحد: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فهذه الآية نزلت عندما أشيع يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وعند ذلك أحبط بعض الصحابة فجلسوا في أرض القتال، وفقدوا كل حمية للقتال، وفقدوا كل رغبة في النصر، وكل أمل في الحياة، والحياة بالنسبة للصحابة في الأرض ولو ساعة واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من الخلود في الأرض بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت مصيبة كبيرة جداً فقدان الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت المصيبة على الصحابة أشق بكثير من المصيبة علينا؛ لأنهم عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخالطوه وتعاملوا معه وصلوا خلفه واستمعوا لحديثه، عاشوا حياة كاملة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك قيل: قد قتل صلى الله عليه وسلم، إنها مصيبة عظيمة جداً، ومع عظم هذه المصيبة لم يعذرهم ربهم سبحانه وتعالى في عدم العمل بنفس الحمية حتى مع المصيبة الثقيلة، واعتبر أن ما فعله هؤلاء الصحابة كان قصوراً في الفهم يستحقون عليه اللوم الشديد والتهديد المرعب، فقال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144].
وعلى العكس من ذلك تماماً، فهذا الصحابي الجليل ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه عندما مر على هؤلاء الذين قعدوا بعد إشاعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، فإن الله حي لا يموت، فقوموا وقاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه حتى استشهد، فـثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه رجل مؤمن، ورجل واقعي يتعامل مع الواقع الذي يعيشه بكل ظروفه وملابساته، فيعمل في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غيابه، ويتأقلم بسرعة مع الأحداث فيعمل بكل طاقته فيها، وليس هناك أمر تتمناه مستحيل الحدوث، وليس هناك معنى لكلمة (لو) في حياة المسلم، فيقول أحدهم: والله لو كنت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلت كذا وكذا، ولكن قدر الله وما شاء فعل، فأنا لست صحابياً، لذلك لن أستطيع أن أعمل مثل الصحابة.
هذا وهم، (فإن لو تفتح عمل الشيطان) كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ، ثم ما أدراك أنك إذا كنت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أنك تتبعه؟ فقد كان هناك آلاف من المشركين الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك حاربوه عليه الصلاة والسلام، وكذلك فقد كان هناك آلاف من المنافقين عاشوا في المدينة، وصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه مباشرة، ومع ذلك ما آمنوا به.
أيضاً ما أدراك أنك كنت ستتغلب على فتنة ترك دين الآباء، وفتنة اتباع نبي من قبيلة أخرى، وفتنة المحاربة من أهل الأرض أجمعين، وفتنة التعذيب والتجويع والهجرة؟ اعلم أن ما اختاره الله عز وجل لك هو الأفضل، لذا لا يُقبل من المسلم أن يتعلل بغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لا يفعل مثل الصحابة، بل يكون حاله وفهمه كفهم ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، وأعظم منه كان موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أعتقد أن بشراً على وجه الأرض حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله؛ لأنه كان أعظم من يحبه فعلاً على وجه الأرض، وكان أبو بكر أقرب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يمنعه هذا الحزن العميق من وضوح الرؤية وعمق الفهم، فخطب في الناس قائلاً: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. فهذه هي حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول، وهذه هي حقيقة العبودية لله عز وجل، ونحن لا نعبد الرسل فنربط أعمالنا بوجودهم، إنما نحن نعبد الله عز وجل ونربط أعمالنا به سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى الحي الذي لا يموت، والباقي الذي لا يفنى، فلماذا يفتر الناس عن العمل في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]؟ نحن لا نريد أن نكون مثل أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك عندما ذهب ليتلقى الألواح من ربه، فلم يصبروا على فراقه فعبدوا العجل، نعم نحن لم نعبد العجل ولن نعبده إن شاء الله، لكن منا من يعبد هواه ويعبد شهواته ويعبد رغباته، وانظر إلى قول الله عز وجل: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]، فهواه في كذا، والله عز وجل أمره بشيء آخر، فيتبع هواه ويترك أمر الله عز وجل، فهذا لا يعبد الله حق العبادة؛ لأن العبودية اتباع وليست مجرد كلمات تطلق في الهواء، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، أي: أن العبودية ليست مجرد كلام، ثم إن الدين قد اكتمل وتم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فليس هذا الدين قابلاً للزيادة، كما أنه ليس قابلاً للنقصان وما طلب من الصحابة من أحكام وتشريعات وتكليفات هو نفس ما يطلب منا، فالصلاة هي الصلاة، والصيام هو الصيام، والإنفاق هو الإنفاق، والجهاد هو الجهاد، والمعاملات هي المعاملات، والأخلاق هي الأخلاق، والدين هو هو، لم يتغير ولم يتبدل ولم يزد ولم ينقص، وقد عُلِم أن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فإن كان الله عز وجل يعلم فينا ضعفاً يقود إلى استحالة التطبيق لشرائع الإسلام في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان قد خفف عنا هذا الشرع؛ لأنه عادل لا يظلم سبحانه وتعالى، يعني: أن الصحابة يصلون خمساً فنحن نصلي ثلاثاً، والصحابة يدعون إلى الله فنحن ترفع عنا الدعوة، والصحابة يدافعون عن الأمة ويجاهدون في سبيل الله وينشرون كلمة الله عز وجل في الأرض، فيفتحون البلاد بالإسلام، ويعبدون الناس كلهم لله عز وجل، ونحن لا نفعل ذلك؛ لأننا أضعف من ذلك، فهل هذا الكلام قد حصل؟! لا، ولن يحصل، لأن الله عز وجل الحكيم القدير العليم بخلقه وأحوالهم وشئونهم وقدراتهم سبحانه وتعالى، فرض علينا نفس الدين ونفس الشريعة ونفس التكاليف التي كانت مفروضة على الصحابة الكرام.
إذاً: نستطيع أن نطبق نفس التطبيق، وما كان الله عز وجل ليفرض علينا شيئاً لا نقدر عليه، فهو لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ثم تعالوا بنا لننظر في يوم القيامة، هل هناك حساب مختلف؟ فالحساب هو الحساب، والميزان هو الميزان، ولا يوجد هناك ميزان للجيل الأول وميزان للجيل الثاني وميزان للجيل العاشر، وإنما هو ميزان واحد، فـأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسعد وأبو هريرة وخالد وخديجة وعائشة وأم عمارة رضي الله عنهم أجمعين، كل هؤلاء سيوزنون في نفس الميزان الذي سيوزن فيه بعد ذلك موسى بن نصير وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وابن كثير والنووي والبخاري وقطز وكل الصالحين وكل الطالحين، بل والناس أجمعين، وفي نفس الميزان سنوزن أنا وأنت، وكل الحضور وكل السامعين وأهل الأرض أجمعين؛ من أجل ذلك لابد أن تعرف مع من ستقارن نفسك، لذلك في أمور الإيمان انظر إلى من هو أعلى منك، فهذا أدعى إلى العمل، وفي أمور الدنيا انظر إلى من هو أسفل منك، فهذا أجدر ألا تزدري نعمة الله عز وجل عليك، فإذا كان الله عز وجل سينصب ميزاناً واحداً ويحاسب حساباً واحداً، وقد فرض شرعاً واحداً، وخلق طريقاً مستقيماً واحداً، وعلم سبحانه وتعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يموت بعد سنوات معدودات من بعثته لا تتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة، وأنه لن يخلد في الأرض، ومع كل ذلك لم يخفف عن اللاحقين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الشرع، ولن يخفف عن كل من سيأتي إلى يوم القيامة، إذا كان كل ذلك حقيقياً، فلا شك أن اللاحقين من أمثالنا ومن سبقنا ومن سيلحق بنا كل هؤلاء يستطيعون التعرف على معالم الطريق الذي سار فيه الصحابة، ويصلون إلى ما وصل إليه الصحابة، حتى في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء مفهوم وواضح بالعقل؛ لأنه ليس هناك في دين الله إبهام، وليس هناك في دين الله غموض، وليس هناك في دين الله عز وجل ظاهر وباطن، وإنما كله ظاهر وواضح وجلي، وليس عندنا أسرار خفية يطلع عليها بعض الصالحين، فيعبدون الله عز وجل بطريقة غير معلومة لنا في كتاب الله، أو في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].
السبب الثاني: الخروج بالصحابة عن دائرة البشرية، فالناس تعتقد أنهم طراز مختلف من البشر، وخلق آخر ليست لهم النوازع الإنسانية المزروعة داخل نفوسهم، وهذا كلام ليس بصحيح، ودعنا لنتأمل في حقيقة الصحابي، بل في حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو نفسه بشر كبقية البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينجب ويحب ويكره ويفرح ويحزن ويتألم، فهو بشر بنص كلام الله عز وجل في أكثر من موضع في القرآن الكريم: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف:110]، فهو مثلنا تماماً، وإنما يختلف عنا عليه الصلاة والسلام في أنه يوحى إليه، فالرسول بشر نزل عليه الوحي، يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ [الكهف:110]، ماذا يعمل؟ ما هو الطريق؟ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فلا تنشغل عن العمل بأي أعذار، ولا تقل: الرسول رسول ولن أستطيع أن أقلده، لا، فالرسول بشر مثلنا، وهذه لحكمة ظاهرة هي حتى نستطيع أن نقلده، ولو كان غير بشر لكان عندنا عذر في أننا لا نستطيع أن نقلده؛ لذلك سبحانه وتعالى لم ينزل علينا ملكاً بالرسالة، ولو قام ملك بالشرائع لقال الناس: إنما يستطيع ذلك؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيعه، وإذا امتنع الملك عن المعاصي قالوا: إنما يمتنع؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيع؛ لذلك لابد أن يكون الرسول من جنس من يرسل إليهم، قال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:95]، فالأرض ليس عليها ملائكة وإنما عليها بشر، لذلك كان الرسول بشراً؛ لكي نستطيع أن نقلده، وليس من المعقول أن نضيع الحكمة من كون الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً فلا نقلده، بزعم أنه رسول ونحن غير مرسلين، فإذا كان هذا الكلام يصح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى يصح مع الصحابة الكرام، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً وجب تقليده واتباعه، فعلم يقيناً أن الله عز وجل ما أوجب شيئاً إلا وكنا عليه قادرين.
إذاً: أليس اتباع الصحابة بعد فهم هذه الحقيقة أمراً ممكناً؟ فالصحابة بشر لهم أجساد كأجسادنا، ولهم فطرة كفطرتنا، ولهم غرائز كغرائزنا، ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ومع كل هذه الأمور البشرية والنوازع الإنسانية إلا أنهم قهروا أنفسهم على اتباع الحق وإن كان مراً، وعلى السير في طريق الله عز وجل وإن كان صعباً أو وعراً، وليس معنى ذلك أن أقول كما يقول أولئك الذي قلَّ أدبهم، وانعدم حياؤهم، فقالوا: الصحابة رجال ونحن رجال، وسوغوا لأنفسهم بذلك الطعن في الصحابة وانتقاص بعضهم، أبداً، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود عكس ذلك بالضبط، فنقول: هم أعظم البشر مطلقاً بعد الأنبياء، وكونهم أعظم البشر لا يلغي ذلك بشريتهم ولا يقلل من شأنهم، وإنما العكس، فيرفع جداً من قيمتهم؛ لأنهم انتصروا على أنفسهم في امتحان عسير ما استطاعت السماوات والأرض والجبال أن يدخلن فيه أصلاً، فحملوا الأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض والجبال، فتقليدهم ممكن، بل وضروري جداً؛ لأنهم بشر نجحوا في امتحان وضعه الله عز وجل، وهو أعلم بقدرات البشر، ومع ذلك فأنا لا أدعي أننا سنكون مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإنما أقول: إنما يجب أن نتخذهم قدوات عملية، قدوات صالحة، وإننا نستطيع بإمكانياتنا البشرية وبمنهج الإسلام الواضح أن نسير في نفس الطريق الذي ساروا فيه، ونصل بإذن الله إلى ما وصلوا إليه، وهذا إذا كنا نريد أن نمشي في هذا الطريق فعلاً.
إذاً: السبب الثاني في إحساس بعض المسلمين أن تقليد الصحابة عسير: هو نسيان هؤلاء المسلمين أن الصحابة بشر لهم كل طبائع البشر، وليسوا خلقاً خاصاً، فليسو جناً ولا ملائكة، وإنما هم بشر نجحوا في حمل الأمانة.
وقبل أن أترك هذه النقطة أحب أن أشير إشارة سريعة، ألا وهي أن بعض الدعاة يساهمون في هذه المشكلة بذكرهم مبالغات شديدة في حق الصحابة، وهذه المبالغات إما أن تكون غير صحيحة أصلاً، ومن باب أولى ألا تذكر هذه المبالغات مطلقاً، وإنما يذكر الصحيح في حق الصحابة والحمد لله يكفي، والصحابة الكرام ليسوا محتاجين إلى المبالغة لكي نعظمهم، فهم عظماء بأحوالهم الحقيقية، فمثلاً: بعض الدعاة يذكر أن سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه قُدِّم له كوب فيه سم عن طريق أحد أعدائه، وحتى يثبت لعدوه أن الله عز وجل لا يضر مع اسمه شيء، قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، وشرب السم ولم يحصل له شيء، سبحان الله! هذه الرواية غير صحيحة, بل هي مخالفة للسنة؛ لأنه يجب على سيدنا خالد بن الوليد أن يأخذ بالأسباب، ولا ينفع أن يشرب السم ويطلب النجاة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أكل من الشاة المسمومة وأخبر أنها مسمومة لفظ قطعة اللحم التي أكلها ولم يبلعها، مع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم والله عز وجل يحميه، لكن لابد أن يأخذ بالأسباب، وهذا هو الذي علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نعمله، وهذا هو الذي يفترض أن نقوله على الصحابة، فالصحابي رجل يأخذ بكامل الأسباب، ويسير في طريق واضح، حتى لا يأتي أحد في المستقبل فيشرب السم، ويقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، وأنا أقلد الصحابي خالداً رضي الله عنه، فهذا الكلام ليس صحيحاً.
وأحياناً قد تكون هذه المبالغات حقيقية، يعني: أنها فعلاً حصلت، لكنها كرامات خاصة جداً لبعض الصحابة، فهي شيء خارق للعادة يحصل للصحابي أو للصالح بدون قصد منه، وهذه مهمة جداً، يعني: لا يتعمد الصحابي أنه يعمل الشيء ويكرره مرة ومرتين وثلاثاً، لا، فهذا شيء أعطاه ربنا سبحانه وتعالى له هدية وإكراماً منه، فهم لا يستطيعون أن يكرروا هذه الكرامة إلا إذا أراد الله عز وجل ذلك.
مثال ذلك: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عندما نادى في المدينة وقال: يا سارية الجبل! فسمعه سارية رضي الله عنه وأرضاه وهو على بعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة، فهذه كرامة ثابتة لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، لكن ليس مطلوباً منك أن تعمل مثله، فأنت ممكن أن تستعمل لا سلكياً أو تلفونياً أو قمراً صناعياً، ويمكن أن تستعمل كل تقنية حديثة، وهذه المخاطبة إنما كانت خاصة جداً بـعمر بن الخطاب في هذه الحادثة فقط، ولم تتكرر مع أحد آخر، وعمر بن الخطاب عاش حياته كلها يتعامل بالبريد الذي كان عامة أهل زمانه يتعاملون به، ويأخذ بكل الأسباب، ولذلك يجب على الدعاة عندما يحكون مثل هذه الكرامات أن يفسروا للناس أن هذا حصل مرة وهو شيء خاص جداً، ثم إن حياة كل الصحابي بعد ذلك سائرة بالقوانين الإلهية الثابتة في هذا الكون.
وأحياناً قد تكون المبالغات حقيقية، لكنها مبالغة غير مقبولة من الصحابي، بمعنى أن الصحابة كلهم قد خالفوه فيها، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى الصحابي عن فعل هذه المبالغات، مثال ذلك: شدة زهد أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يعتبر أي ادخار للمال فوق يوم واحد كنز للمال، حتى ولو كنت دافعاً زكاته، ومعلوم أن كل الصحابة لم يكونوا على هذا، فقد خالفوا أبا ذر في هذا الاعتقاد.
مثال آخر: كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، ويختم القرآن في كل ليلة، ويسرد الصوم، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه عن هذا الأمر وأمره بالاقتصاد في العبادة، يعني: يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهذا أقصى شيء، بل في بداية الأمر أمره أن يصوم ثلاثة أيام في الشهر، وبعد ذلك يومان في الأسبوع، وبعد هذا يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويختم المصحف في كل شهر مرة، أو في أسبوع، أو ثلاثة وليس أقل من ذلك، فهذه قواعد وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا آتي بعد ذلك وأقول في درس عن القيام: يا أخوة هذا عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم الليل، وكل يوم يختم القرآن، وكان يصوم كل يوم، بحيث إن الشخص الذي أمامك يتعقد، ولسان حاله: من المستحيل أن أصوم كل يوم، ومن المستحيل أن أقوم كل يوم بالقرآن كله، فيعرف أنه ليس من الممكن أن يقلده؛ لذا لابد أن تعرف الصحابي الذي عمل هذا العمل، هل قد وافق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: لا تعمل هذا الفعل، عند ذلك لا يستقيم أن أتخذ هذا الفعل قدوة؟
وأحياناً قد تكون المبالغات حقيقية والصحابة فعلاً قد عملوها ولم يؤمروا بعدم فعلها، لكن أنت كداعية مفروض عليك أن تعرف أنت من تكلم؟ فربما واحد لا يزال في بداية طريق الالتزام فلا تعسر عليه جداً الأمور، وتعطيه أموراً أنت تعلم أنه لن يستطيع أن يعملها، فالداعية الحكيم هو الذي يذكر من القصص ما يناسب الشخصية التي يتحدث معها، وهذا هو الأمر الذي نحن نتكلم عليه، فالمبالغات الشديدة في وصف الصحابة، والمبالغات الشديدة في الأفعال التي كان يقوم بها الصحابة، سواء كانت هذه المبالغات حقيقية أم غير حقيقية، أدت إلى أن بعض الناس اعتقدوا أن الصحابة ليسوا بشراً، وليس عندهم نفس النوازع التي عندنا، وبالتالي لن نستطيع أن نقلدهم.