خطب ومحاضرات
سلسلة كن صحابياً الصحابة والدعوة
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فمع الدرس الحادي عشر من دروس مجموعة: كن صحابياً، والذي سيكون بعنوان: الصحابة والدعوة.
إن الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أشرف الأعمال التي يقوم بها المؤمن، فالله عز وجل يقول في كتابه الكريم: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، أي: أن كلمة الدعوة ستظل هي أحسن من كل الكلمات التي يمكن أن تنطق بها، هذه الكلمة العظيمة -كلمة الدعوة- هي وظيفة الأنبياء الأولى، يقول الله عز وجل في كتابه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]، لماذا؟ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، أي: ليوضح وليبلغ لهم، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم:4]، فالهداية بيد الله عز وجل، لكن لا بد أن تقام الحجة على العبد، ولا بد أن تصل الدعوة إلى العبد، والذي يوصل الدعوة إلى العباد هم الأنبياء، ثم بعد آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم يوصل الدعوة إلى الناس أتباعه، أي: المؤمنون بهذا الدين، والمسلمون به إسلاماً حقيقياً صادقاً، فهم الذين يتحركون بدعوة الأنبياء، لأنه ليس هناك نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يحمل المؤمنون الصادقون هذه المهمة العظيمة التي كان يحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من أنبياء الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم:4]، ويقول تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، وغيرها من الآيات الكثيرة على هذا المنوال، وعلى هذا المعنى: فالذي يبين للناس الحلال والحرام، والذي يعرف الناس المعروف ويأمرهم به، والذي يبين للناس المنكر وينهاهم عنه، هو الذي يعمل بعمل الأنبياء، لذلك جعل الله عز وجل صفة الدعوة أو صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة لازمة لكل من حمل لقب مؤمن، فما دام وصفك مؤمناً فلا بد أن تكون داعية إلى الله عز وجل، وإذا أردت أن تستثمر صفة الإيمان لا بد من الدعوة إلى الله عز وجل، يقول سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
لاحظ تقديم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مع أن من المعلوم أن الصلاة هي عمود الدين، بل هي أعظم شيء في هذا الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومع ذلك يقدم الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمر الصلاة، وكذلك الزكاة التي هي من أحكام الإسلام الأساسية، قد قدّم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها، لأن الله عز وجل يريد أن يربي المؤمنين على أن لا يعيشوا لأنفسهم فقط، فلا ينفع أن تجلس تصلي وتزكي وتعمل أعمالاً فردية بينك وبين نفسك، وليس لك اتصال بالناس، أو شأن بالآخرين، لأنك إذا شعرت بعظم هذه الرسالة لا بد أن تنقلها إلى غيرك، فهذه هي الغاية من هذه الأمة ومن هذه الرسالة، فلا يكفي أنك تستوعبها فقط، بل لا بد بعد هذا الاستيعاب أن تنتقل بهذه الرسالة إلى من حولك من الناس ومن البشر، سواء كانوا من المسلمين أو كانوا من غير المسلمين.
ثم لاحظ التعليق الرباني اللطيف والجميل جداً على هذه الآيات فيقول: أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71]، أي: أولئك الذين يتصفون بهذه الصفات، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم سيرحمهم الله عز وجل؛ لأنهم رحموا عباد الله عز وجل، والجزاء من جنس العمل، ولأنهم لما رأوا الناس تتجه إلى هاوية سحيقة، تتجه إلى النيران، تتجه إلى البعد عن الله عز وجل، تتجه إلى المعيشة الضنك، ما استراحوا إلا بعد أن أوضحوا لهم طريق الدعوة، وطريق الإسلام، وطريق الله عز وجل، لذا كان لا بد أن يرحمهم الله عز وجل ويهديهم طريقهم، ويدخلهم الجنة والجزاء من جنس العمل.
لا شك أن المسلمين جميعاً يفقهون قيمة الدعوة، وقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن نحن في هذه المجموعة نريد أن نتعرف على نظرة الصحابة لقضية الدعوة إلى الله عز وجل، لقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف تكون صحابياً في دعوتك؟ وكيف تكون صحابياً في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟ إنها قضية في غاية الأهمية، وأنا أعتبر هذا الدرس من أهم الدروس في هذه المجموعة، لأنه ليس هناك أمة يمكن أن تبنى من غير دعوة، نعم قد يوجد أفراد عظماء جداً من غير دعوة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، لكن هو في حاله ومشغول بنفسه، فلا ينشر هذا الكلام إلى من حوله، لذا كان من المستحيل أن تقوم أمة بغير نشر الدعوة بين الناس وبين عموم المسلمين وغير المسلمين، وممكن أن يقوم فرد واحد، لكن أمه مكونة من أفراد كثيرين ومجتمع هائل من البشر، لا بد أن تصل الدعوة للناس جميعاً، وتعالوا بنا لنرى كيف كان الصحابة يفكرون في قضية الدعوة؟ وكيف جعلوها قضية أساسية تماماً في حياتهم؟ إنه ليس من الممكن أن تقرأ في سيرة أي صحابي إلا وتجد الدعوة ركناً أساسياً من أركان حياته، وليس من الممكن أن تجد عنده يوماً أو يومان أو عشرة أو عشرين أو سنة أو سنتين من حياته من غير دعوة، وإنما كل حياته موجهه إلى تعليم الآخرين، وكل حياته موجهة إلى دعوة الآخرين للإيمان بالله عز وجل وطاعته وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن الشيء المهم جداً في نظرة الصحابة إلى الدعوة أنهم كانوا يعلمون أن المستفيد الأول من عملية الدعوة هو الداعية نفسه لا المدعو، فالرجل الذي يقوم الدعوة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو المستفيد الأول من الدعوة، وحتى ولو لم يستفد الشخص الذي دعاه ولم يسمع كلامه، فالداعية مستفيد أيضاً على كل الأحوال، فكما أنه يصلي ويصوم ويزكي ويجاهد في سبيل الله، ويقوم بأنواع الخير المختلفة، ويطلب من الله عز وجل ثواب هذا العمل، فهو أيضاً يطلب ثواب هذه الدعوة من الله عز وجل، وثواب الدعوة لا يمكن لعقل أن يتخيله، لأنه يمكن أن تتخيل ثواب الصلاة أو ثواب الزكاة أو ثواب الإخلاص في سبيل الله، وقد أخبرنا ربنا عز وجل كثيراً عن هذه الطاعات وثوابها في كتابه الكريم، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في السنة، لكن ثواب الدعوة لا يمكن أن تتخيله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، فإذا دعوت شخصاً إلى الخير وعلمته الصلاة، وبدأ يصلي بعد أن دعوته إلى الله عز وجل، فكل الصلوات التي يصليها هذا الرجل والتي تخفى عليك تماماً هي في ميزان حسناتك، وسواء عاش عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مائة سنة، فكل السنوات التي يعيشها ويصلي فيها فرضاً أم نفلاً في الليل أو في النهار يحصل لك من الأجر مثل أجره تماماً، وإذا علم الرجل أولاده الصلاة، فكل صلوات أولاده في ميزان حسناتك أنت أيضاً، وإذا علم جيرانه الصلاة، فكل صلوات جيرانه في ميزان حسناتك أنت أيضاً، ثم بعد ذلك لو أصبح -الذي علمته الصلاة- داعية إلى الله في بلد آخر وفي أي زمان وفي أي مكان فكل الناس الذين سيدعوهم إلى هذا الأمر في ميزان حسناتك، وممكن أن هذه الدائرة ستظل تعمل بعد أن تموت بسنوات طويلة، بل قد تظل تعمل حتى قيام الساعة.
وهذا شيء عظيم أن تصل إليك حسنات من أناس لم ترهم ولم تعرفهم ولم تعش في زمانهم، وأعظم من ذلك أن هذا الأمر يستمر إلى قيام الساعة، ونحن الآن على مدى كل هذه السنين نضيف حسنات لمن دعوا هذه الأمة إلى هذا الخير الذي نحن عليه، كـأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة والتابعين، وكذلك الناس الذين حملوا هذه الرسالة وأوصلوها إلينا، فكم من الخير يمكن أن يكون في أمر هذه الدعوة إلى الله عز وجل؟! لأجل ذلك كان يضحي الداعية بعمره كله، لكن لا يضحي بأمر الدعوة أبداً إلى الله عز وجل، ولأجل ذلك كان يبذل النفس والروح والوقت والعرق والمجهود وأي شيء آخر، لكن لا يمكن أن يضحي بقضية الدعوة؛ لأن ثوابها لا يمكن أن يتخيله أحد أبداً، ومن هنا نستطيع أن نفهم كلام ربنا سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، من أحسن من هذا؟ مستحيل مهما قلت وعددت من الأعمال الصالحة: الذاكر لله عز وجل، والقائم يصلي، والقارئ للقرآن، وغيرها من الأعمال الفاضلة جداً، لكن تبقى قيمة الدعوة أعلى وأعظم، لأن الداعية لا يعمل هذه الأشياء فقط، بل يجعل غيره يعملها، وهذا فضل عظيم وكبير.
وعلى الناحية الأخرى لو لم نقم بالدعوة، ماذا ستكون النتيجة؟ ليس مجرد أنه لا يوجد حسنات فقط بل ستكون النتيجة صعبة جداً، فسيُترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أمر في منتهى المشقة على العبد وعلى الأمة؛ ويدل على ذلك: الحديث الذي رواه الترمذي رحمه الله وقال: حسن. عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده!)، وعندما يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم فهو يقصد شيئاً مهماً جداً؛ مع أننا نصدقه، لكن هو يريد أن يعمق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينا، فيقسم على أهمية هذا الأمر فيقول: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه)، وفي رواية: (عقاباً منه)، إما هكذا وإما هكذا، إما أن تدعوا إلى الله عز وجل، وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وإما أن يبعث الله عز وجل عليكم عذاباً منه، وبعد ذلك: (ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)، عندما تجد ربنا سبحانه وتعالى يؤخر إجابة دعوتك مرة ومرتين وعشرة.. ولديك أزمات كثيرة لم تحل، وأنت رافع يديك إلى الله سبحانه وتعالى، يمكن أن تكون هذه هي المشكلة المعيقة للإجابة، يمكن أن تكون هذه هي المشكلة الكبيرة التي هي عند كثير منا أنهم يعبدون ربنا سبحانه وتعالى، لكن ليس لهم شأن بالناس، فجاره يكون بعيداً عن الله وليس له شأن به، وزميله في العمل بعيد عن ربنا وليس له شأن به، حتى أحياناً أن زوجته وأولاده وأمه وأباه وإخوانه بعيدون عن ربنا عز وجل، ومع ذلك ليس له شأن بهم! فهل أنت عايش لنفسك فقط؟! إن هذه ليست حياة وما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط، فالصحابة كانوا يعيشون لأهل الأرض أجمعين، وليس فقط لأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم وإخوانهم وقبيلتهم وعشيرتهم.
روى الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان وحسنه الألباني عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء) يعني: همه وأحزنه شيء، (فتوضأ ثم خرج فلم يكلم أحداً، فدنوت من الحجرات فسمعته يقول:) أي: بدأ يخاطب الناس في المسجد بخطبة شديدة قال فيها : (يا أيها الناس! إن الله عز وجل يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر)، وبعد ذلك يهدد تهديداً في منتهى الخطورة. فيقول: (من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم).
أليس من الممكن أن إهمال المسلمين لقضية الدعوة هو السبب في حالة الانهيار الكبير الذي وصلت إليه الأمة اليوم؟ والذي نراه أمام أعيننا من أزمات طاحنة في الأمة الإسلامية في كل مكان، وتأخير النصر عنا، ونحن ندعو ربنا سبحانه وتعالى، ويجوز أن يكون عندنا مشاكل أخرى هي التي تؤخر النصر، فقد تكون في مرحلة الإعداد، -يجوز أن يكون هناك تقصير- أو في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من الممكن أن يؤخر قيام أمة، بل ويستأصل أمة بكاملها، لأنها لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، وهذه كانت أول مشكلة وقعت في بني إسرائيل، حيث أن المؤمنين لم يقوموا بواجبهم على الوجه الأكمل، فكانت الهلكة لبني إسرائيل جمعياً، وتعالوا لنرى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر بني إسرائيل وكيف سقطوا؟
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل)، أي: أول مشكلة ظهرت في بني إسرائيل، وكان بعدها الهلكة واللعنة لهم، (كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك)، أي: يأتي الرجل المؤمن فيرى رجلاً يقوم بمعصية ما، فيقول له: يا أخي اتق الله فإن هذا لا يحل لك أن تفعله، فيجده مرة يسرق، ومرة يزني، ومرة يقتل، ومرة يعمل كذا أو كذا من الموبقات والمعاصي، وينهاه عن هذا الفعل ويقول له: لا تعمل هذا، فإنه لا يحل لك في دينك، (ثم يلقاه من الغد) أي: يأتي اليوم الثاني ويمشي المؤمن من جوار العاصي، (فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده) يعني: يأتي في اليوم الثاني ويلقاه على نفس المعصية والجرم الذي كان يقوم به، والذي نهاه عنه الرجل المؤمن قبل ذلك، ثم بعد ذلك تجد الرجل المؤمن الذي كان داعية إلى الله عز وجل لا يمتنع عن أن يأكل معه ويشرب معه ويقعد معه، وكأن شيئاً لم يكن، وليس هناك ثمة مشكلة، فهو نهاه مرة عن المنكر وأمره بالمعروف، ثم بعد ذلك نسي، وعاشت هذه الأمة -بني إسرائيل- بهذه الطريقة، فماذا حصل عندما تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)، فبدأت الأزمات في بني إسرائيل قليلاً قليلاً إلى أن هلكت هذه الأمة التي مُكِّنت في الأرض في زمن من الأزمان. (ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81])
ثم قال صلى الله عليه وسلم ملخصاً هذا الدرس بعد هذه الموعظة الرائعة لأمة الإسلام وللمسلمين ولصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين: (كلا والله! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم).
وانتبه هنا لهذا الكلام العظيم، فنحن أمة ليس لنا كرامة معينة من أجل عرق أو نسب، وإنما نحن أمة الإسلام، خير أمة أخرجت للناس لأسباب معروفة جداً ولصفات معروفة جداً، ولنهج معروف أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نمشي فيه، ولو خالفنا فإنه سيحصل لنا مثل ما حصل في بني إسرائيل وغيرهم من الأقوام السابقة، فنحن لسنا بقريبين من ربنا سبحانه وتعالى من أجل أننا عرب، أو لأننا أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اسماً لا فعلاً، لا، وإنما لابد من العمل في الله، لأنا إذا اتبعنا هذه الصفات التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في خيرية هذه الأمة فإنه سيكرمنا، ولو لم نتبعها ستكون اللعنة منه كما لعن بني إسرائيل من قبل.
إن هذه الأمة لا تُهلك بكاملها، ولا يستأصلها الله عز وجل بأجمعها؛ لأنها الأمة التي تحمل الرسالة الباقية إلى الخلق أجمعين وذلك إلى يوم القيامة، ولكن من الممكن أن تستبدل -كلمة في منتهى الخطورة- فالله عز وجل يستبدل جيلاً بجيل آخر، فيذهب جيل فاسد ويأتي جيل صالح، وكذلك يذهب فرد فاسد ويجيء فرد صالح، وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم من المسلمين أيضاً، لكن من المسلمين الذين فهموا دينهم جيداً، قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، أي: أن الأمة التي لم تستوف شروط الخيرية ستستبدل بأمة مسلمة ثانية، وذلك مثلما استبدل ربنا سبحانه وتعالى أمماً كثيرة من الأمم الإسلامية السابقة، فدول إسلامية قامت ودول إسلامية سقطت، وهذا السقوط كان متبوعاً بقيام أمة تحافظ على شروط الخيرية، وأهم شروط الخيرية لهذه الأمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، ومن أول صفات هذه الأمة الخيرية: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وتأمل هنا: مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الإيمان بالله عز وجل، لكن الله سبحانه وتعالى قدمه لكي يُعظِّم قيمته، ولكي تعرف أنه من غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -حتى لو كنت تعمل عبادات كثيرة جداً- لا خيرية لهذه الأمة أبداً.
إن من مهام هذه الأمة إصلاح الأوضاع على وجه الأرض بكاملها، وليس فقط في بلاد المسلمين فحسب، بل من واجب هذه الأمة أن تُعِّلم كل الأرض، سواء الذين يعيشون في الصين، أو الذين يعيشون في روسيا، أو الذين يعيشون في أوروبا، أو في أمريكا واستراليا، أو الذين يعيشون في الجزر النائية في أعماق المحيطات، فواجب عليك أن توصل لهم هذا الدين وتعلمهم وتصبر على أذاهم إن حاربوك أو رفضوك فهذا هو واجبك، وأنت لا تتفضل عليهم بذلك، لأنك من أمة الخيرية المأمورة بذلك، وإذا كنت لا تريد أن تكون من خير الأمم فاترك أمر الدعوة، لكن لا تقول: أنا خير أمة أخرجت للناس.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه -يصف أمة الإسلام- كما جاء في صحيح البخاري : خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. ويقصد بذلك: الفتوحات الإسلامية التي كان أول همها تعليم الناس، ودعوة الناس إلى الله عز وجل، وكان هناك أناس كثيرون جداً يكرهون الفتوحات الإسلامية، فغزت جيوش المسلمين هذه الأمم، وكانت ترفض دخول الجيوش الإسلامية إليها، لكن مع مرور الوقت دخل الناس في الإسلام، ويمكن أنها دخلت في بدية الإسلام، لأن الإسلام دين عظيم وكبير ومهيمن على الأرض في ذلك الزمن، لكن بعد ذلك اكتشفوا عظمة هذا الدين، فأسلموا وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أهل الجنة، وكان من الممكن أن يدخلوا النار لو بقوا طول عمرهم يعبدون النار أو يعبدون المسيح أو يعبدون الشجر أو الحشرات كما كان يحصل في الهند، وقد كانوا عبدوا كل شيء إلا الله عز وجل، فكان واجب المسلمين أن يعلموهم ويدلوهم على الطريق الحق.
وانظر كم من خير؟! تأتون بهم بالسلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، وهذا هو سبب خيرية هذه الأمة، ليس لأنها أمة تقيم العدل في إطار توليها فقط، وفي إطار حدودها فقط، وتترك العالم من حولها يعبد ما شاء، ويعيش كما يشاء، ويظلم كما يشاء، ويسرق كما يشاء، ويعصي ربنا سبحانه وتعالى كما يشاء، لا، فهذه ليست مهمة أمة الإسلام، وإنما مهمة أمة الإسلام أنها تعلم جميع الناس الخير.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (عجب الله من قوم يدخلون الجنة بالسلاسل)، أي: الناس الذين آمنوا بدين الله عز وجل بعد حرب طويلة، فالمسلمون قد حاربوا أناساً كثيرين، وأسروا أناساً كثيرين، وهؤلاء الأسرى بعد أن جاءوا إلى بلاد الإسلام، ورأوا الإسلام على حقيقته أحبوا هذا الدين، ودخلوا في دين الإسلام، ودخلوا الجنة بعد ذلك، ولم يكونوا يريدون ذلك، لكن أمة الإسلام كانت هي السبب في دخولهم الجنة، وهذا فضل كبير جداً، لذلك قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
الصحابة كانوا يفهمون هذه الحقائق جيداً، وكانوا يعرفون أنه إذا لم يحصل دعوة، ليس فقط سيخسر الداعية والمدعو، بل المجتمع كله سيخسر، وكذلك فهموا هذا الحديث الرائع للنبي صلى الله عليه وسلم عندما ضرب مثالاً للناس بيِّن فيه حال تلك الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أو تلك التي لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر.
فقد روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة) أي: أن هناك أناساً ركبوا سفينة ثم أقرعوا فيما بينهم، فصار بعضهم في أعلى السفينة والآخرين في أسفل السفينة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم) فالماء موجود عند الناس الذين كانوا في أعلى السفينة، والذين في أسفلها كلما أرادوا أن يشربوا لا بد أن يصعدوا إلى أعلى السفينة ويمشون من جوارهم، فقد يزعجونهم وهم نائمون، أو وهم مستيقظون، وفي كل وقت أزعجوهم، فعملوا لهم نوعاً من القلق، فأحبوا أن يحلوا هذا الموضوع بحسن نية، فقالوا: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا) يعني: يخرمون في السفينة خرماً من الأسفل حتى يشربون منه! فهم يفكرون في حدود تفكيرهم ونيتهم سليمة، لأنهم لا يريدون أن يضروا الناس الذين في الأعلى، فسيخرمون خرماً في أسفل السفينة ويشربون من ماء البحر مباشرةً، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإن يتركوهم -الناس الذين في الأعلى- وما أرادوا هلكوا جميعاً)، أي: عندما تغرق السفينة سيغرق الذين في الأعلى والأسفل وليس الأسفل فقط، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)، فكل السفينة ستنجو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما كان يريد أن يوضحه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، والصحابة قد استوعبوه تماماً، وبدءوا يتحركون في حياتهم بهذا المفهوم.
إذاً: تولد عن هذه المشاعر التي دخلت في نفوس الصحابة إحساس عميق جداً، ألا وهو: إذا كنت مؤمناً لا بد أن تدعو غيرك إلى الخير، وأن تدعو غيرك إلى الإسلام، وأن تدعو غيرك إلى الله عز وجل، وليس مجرد تكثير حسنات وتثقيل ميزان فقط، وإن كان هذا شيئاً مهماً جداً، لكن الأمر أعظم من ذلك، إنها وظيفة إجبارية، فلا ينفع أن لا تصلي وأن لا تزكي، بل لا بد أن تصلي ولا بد أن تزكي، وكذلك لا بد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لأن بدونها ستفسد الأفراد وتفسد الأمة، بل وتفسد الأرض بكاملها، ولذلك كان هناك شيء مهم جداً في الدين اسمه: (فتوح إسلامية) فتوح فارس، فتوح الروم، فتوح شمال أفريقيا، فتوح الأندلس، فتوح الهند، وكل منطقة فتحت بالإسلام كان الغرض الأساسي أنك تعلم الناس الدين، والصحابة كانوا يرون هذا الشيء واجباً عليهم، وليس مجرد فضل من فضائل الأعمال.
موقف ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس
تأمل لكلام ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه -من صحابة رسول لله صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا فارس- وهو يكلم رستم -بفتح الراء وإسكان السين، وليس بضم الراء كما هو مشهور، فهو لفظ أعجمي عند الفارسيين وأتى بعد ذلك إلى العرب- كلاماً يدل على الفهم الدقيق لمهمة المسلم في هذه الحياة، فيقول: (لقد ابتعثنا الله)، وكلمة: (ابتعثنا) تدل على أنه ابتعثنا مثل الرسل، فالله سبحانه وتعالى كلفنا بمهمة كان الرسل مكلفين بها، وبما أنه لم يعد هناك أنبياء ورسل، فنحن الذين نتحمل هذه المهمة إلى يوم القيامة.
ثم قال: (لنخرج العباد) أي: أن كل العباد في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف الأزمنة والأمكنة مسئولية في رقبة كل المسلمين.
ثم قال: (من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد)، فأهل فارس لم يكونوا يعبدون كسرى ، وأهل الروم لم يكونوا يعبدون قيصر ، لكن كان هؤلاء الزعماء كسرى وقيصر ومن كان على شاكلتهم يشرع لقومه، ويضع قوانين مخالفة لما أمر الله عز وجل به، فهذا التشريع هو عبادة لهم، فلما أتى الإسلام أمر الله عز وجل المسلمين أن ينتقلوا إلى هؤلاء ليعلموهم أن الله قال كذا وكذا وكذا، وأن الحكم لله عز وجل، وأن الأمر بيد الله عز وجل، وأن الناس أجمعين لا بد أن يسيروا على ما أمر به الله عز وجل، ويبتعدوا عن ما نهى الله عز وجل عنه، هذه هي العبادة الحقيقية، والمسلمون لهم مهمة في منتهى الوضوح، وهي: إخراج العباد من عبادة العباد، -سواء كانت عبادة حسية أو كانت طاعة مخالفة لما أمر الله عز وجل به- إلى عبادة رب العباد.
وقوله: (ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)، هذه هي مهمة المسلمين التي كان يفهمها الصحابي الجليل الذي خاطب رستم في موقعة القادسية، وكان يفهمها كل الصحابة، وهذا هو الفهم الذي نريد أن نزرعه بداخلنا.
وهناك شيء آخر مهم جداً في قضية الدعوة عند الصحابة، ألا وهو: أنهم لم يكن عندهم يأس أبداً من قضية الدعوة، فتدعو الإنسان مرة وثانية وثالثة وعشرة وعشرين ومائة ولا تيأس، لأنه ليس هناك جهد ضائع كما يقولون، ولا أحد يقول: لا تضع وقتك مع فلان، فهذا لن يهتدي أبداً ف (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وأجرك ستأخذه في كلا الحالتين، سواء استجاب هذا المدعو لله عز وجل أو لم يستجب، فأجرك واقع على الله عز وجل ما دام أن الكلام قد خرج من فمك، وما دام أنك أخذت بكل الأسباب التي تستطيع أن تصل بها الكلمة إلى قلب ذلك المدعو، وبعد ذلك: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
إذاً: كل الناس بلا استثناء سندعوهم إلى الله عز وجل، وكل المسلمين البعيدين عن طريق الله عز وجل سيُدعون إلى الله عز وجل، وكل اليهود والنصارى والمشركين والمجوس والهنود سيُدعون إلى الله عز وجل، وهذه هي مهمة المسلمين جميعاً.
المواقف الدعوية للصديق رضي الله عنه
وانظروا إلى الصحابة كيف كانوا يتعاملون مع قضية الدعوة، فانظروا مثلاً إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ونحن قد تكلمنا بالتفصيل عن أبي بكر الصديق في مجموعة الصديق ، وتكلمنا عنه في مجموعة السيرة، فلن نفصل الآن في دعوة الصديق ، فـالصديق قد قضى حياته كلها على قضية الدعوة، فهو من أول يوم آمن بالله عز وجل تحرك بهذه الدعوة، ومن أول ما شعر بحلاوة هذا الدين أراد أن ينقل هذه الحلاوة إلى كل من يعرف، حمية عظيمة جداً لنشر هذا الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يكن عمره في الإسلام كثيراً، بل كان عمره ساعات وبدأ يتحرك، ففي أول يوم يأتى بـعثمان بن عفان والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف ، وهؤلاء الخمسة أصبحوا من أعظم علماء المسلمين، ومجاهدي المسلمين، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين حملوا الدين على أكتافهم، وعلموا أهل الأرض الدين، ولم يتوقف في اليوم الثاني، بل أتى بـأبي عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون والأرقم بن أبي الأرقم وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وكل هؤلاء جميعاً في ميزان الصديق ، فعندما يقوم أحدهم بعمل الخير فإن أبا بكر يحصل على مثل أجر هذا الخير.
وانظروا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه عندما تبرع بتجهيز جيش العسرة، وعندما بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما اشترى بئر رومة، فإن أبا بكر يأخذ مثله من الحسنات، وهذا شيء لا يمكن أن تتخيله.
وأيضاً الزبير بن العوام عندما حارب وجاهد ودافع عن دين الله عز وجل في شمال مصر وفي الشام وفي العراق وهنا وهناك، وعندما يربي ابنه عبد الله بن الزبير على الخير، وعندما يقوم بأي عمل من أعمال الخير، فإن الصديق يأخذ مثلها من الحسنات.
وتأمل معي أجر هؤلاء الرجال الذين أسلموا على يد أبي بكر ، وتخيل أنه أعتق عبيداً بكميات كبيرة، وصرف كل ماله على إعتاق العبيد، وكانت أمنيته أن يجمع المسلمين، وبعض الناس اليوم عنده هواية جمع الطوابع، وجمع التحف وغيرها، بينما الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان فاهماً للدنيا جيداً، وكان فاهماً لرسالته في الأرض تماماً: (ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).
وانظر إلى بلال وهو يعبد إلهاً غير الله عز وجل، فيذهب الصديق ويدعوه إلى الله عز وجل، فيؤمن بلال ، ويعذب، وبعد ذلك يدفع قيمته الصديق رضي الله عنه، لكي يستنقذ بلالاً من العذاب، وهو مع ذلك لا يرجو منه جزاءً ولا شكوراً، وإنما يرجو وجه الله عز وجل.
و عامر بن فهيرة يعتقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويدخله في دين الله عز وجل، والزنيرة وابنتها رضي الله عنهن، وكثير من الصحابيات، وكثير من المعذبين والمعذبات في أرض مكة، وكثير من العبيد أدخلهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه في دين الإسلام ثم أعتقهم.
فأي خير وأي عظمة لهذا الرجل؟! وكل ذلك ببركة الدعوة إلى الله عز وجل، وأدخل جميع عائلته إلى الإسلام، فأدخل زوجته أم رومان رضي الله عنها، وأدخل أولاده أسماء وعبد الله ، وأما السيدة عائشة فولدت في الإسلام، وبعد ذلك أدخل أمه وابنه الأكبر عبد الرحمن ، مع أنه تأخر ولكنه دخل في الإسلام، وكذلك أبوه تأخر في الدخول في الإسلام، لكنه أسلم بعد ذلك.
فخير عظيم جداً لهذا الرجل، لذلك لو وزن إيمان الصديق بإيمان الأمة لرجح إيمان الصديق ، لأن كل الأمة عندما تعمل تضيف حسنات إلى الصديق رضي الله عنه، فأي واحد منا الآن يعمل فهو يعمل من خلال دعوة الصديق في البداية، فهو يعطي حسنات للصديق ، يعني: أنت الآن لو قمت وصليت ركعتين لله، فـالصديق يأخذ ثواباً مثل ثوابك، وكذلك لو دفعت مبلغاً في سبيل الله، أو جاهدت في فلسطين، أو في الشيشان، أو أي عالم كتب كتاباً أو سجل شريطًا أو علم معلومة، فهل أنت متخيل حجم الثواب؟! فهذه هي الدعوة إلى الله عز وجل، وهذا هو الصديق ، وهؤلاء هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الموقف الدعوي للطفيل بن عمرو مع دوس
مثال آخر: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، فإن قصة إسلامه قصة لطيفة، والمجال لا يتسع لذكر القصة بكاملها، لكن أنا سأقف على موقف في آخر هذه القصة، ألا وهو: أنه بعد إسلامه مباشرة، وبعد أن سمع من الرسول آيات قليلة جداً، وصار مؤمناً بالله عز وجل، وقال: فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن ولا أمراً أعدل منه. يعني: من كلام الله عز وجل، ثم قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، ثم قال: يا نبي الله! وانظر هنا فـالطفيل بن عمرو الدوسي ليس من أهل مكة، وإنما هو من قبيلة دوس في اليمن، فيقول: يا نبي الله! إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام. وتأمل إلى الطفيل ، فهو رضي الله عنه لم يكن يعرف في الإسلام شيئاً، وأنا على يقين من أن أي واحد في الحضور، أو أي واحد يسمع هذا الكلام عنده علم أكثر من الذي كان عند الطفيل بن عمرو الدوسي عندما قال هذا الكلام، فهو رضي الله عنه سمع كلمات في الإسلام وبعض الآيات، ونحن قد قرأنا القرآن مرات ومرات، وقرأنا أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا الصلاة والصوم والزكاة وأحكام كثيرة، فهل تحركنا مثلما تحرك الطفيل بن عمرو الدوسي ؟ فرق كبير جداً بين الطفيل بن عمرو الدوسي بعلمه المحدود في ذلك الوقت، ولكن الحمية العالية جداً لنشر هذا الدين، وبين من عنده علم عظيم وكبير، ولكن لا ينقله ولا يتحرك به إلى من حوله من الناس، فرق عظيم جداً بمجرد أن شعر الطفيل بن عمرو الدوسي بحلاوة هذا الدين، فهو رضي الله عنه يريد أن ينقلها إلى أهله وإلى أحبابه وإلى عشيرته وإلى الناس أجمعين، ولا تتحمل نفسه أن ينفرد بهذا الخير وحده، ولكن يريد أن يدعو الآخرين إلى ما علمه من هذا الدين، يريد أن يعرف الناس أمر الإسلام، وسبحان الله ما أسلم إلا منذ دقائق، لكن أصبح داعية، وفقه حقيقة الدعوة وأهميتها وقيمتها في هذا الدين.
يقول الطفيل رضي الله عنه: فلما نزلت -أي: وصلت بلادي- أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً فقلت: إليك عني يا أبت، فلست مني ولست منك، فاستغرب أبوه وقال: ولم أي بني؟ قال: قلت: أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: أن ديني غير دينكم الآن.
والطفيل رضي الله عنه كان سيداً ومطاعاً في قومه، وكان له رأي وحكمة، وأبوه كان يعظم من قدره، ولذلك لما وجد ابنه يقول له: إليك عني، لا أنا منك ولا أنت مني، قال أبوه مباشرة: ديني دينك، ودخل معه في دين الإسلام، فاغتسل ولبس ثيابه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ومعلوم أن هذه الطريقة ليست الطريقة المثلى للدعوة؛ لأن فيها نوعاً من الحدة الكبيرة والقسوة الشديدة، لكن الحمد لله جاءت بنتيجة، فلما رأى النتيجة مع والده جرب نفس الأسلوب مع زوجته، فجاءت إليه امرأته فقال لها: إليك عني، فلست منك ولست مني، قالت: ولم بأبي أنت وأمي؟! قال: قلت: فرَّق بيني وبينك الإسلام، فأسلمت.
ثم خرج إلى قومه وقال لهم: إليكم عني، لست منكم ولستم مني، لكن قومه لم يستجيبوا له ورفضوا الدخول في الإسلام، وذلك لأن في طريقته معهم حدة فلم تنفع أن تكون هذه طريقة دعوة، لأنه كان ما يزال علمه في الدعوة قليل، وما زال تعليم الإسلام عنده ضعيفاً، لذلك رفضت الناس الدعوة، وجلس يدعو بهذه الحدة والناس ترفض ذلك، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وقال: (يا رسول الله! إن دوساً عصت وأبت، فادع الله عليها).
كلمة قالها من قلبه رضي الله عنه، وهو الذي كان يحب العشيرة ويحب قبيلة دوس، لكن بمجرد أن عرف حلاوة هذا الدين أراد أن ينقلها لقومه، ولما رفض قومه هذه الدعوة انقطعت الرابطة القلبية بينه وبين هؤلاء، وأصبحت الرابطة القلبية التي تربط بين الطفيل وبين الناس هي رابطة الإيمان بالله عز وجل، وهو الذي منذ أيام يتمنى أن يدعوهم إلى الخير الذي هو عليه لحبه لهم، فلما أبوا الإيمان وأصروا على الكفر أصبح يكرههم في الله، إلى درجة أنه يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وظن الناس أنه سيدعو عليهم وقالوا: هلكت دوس؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، والحريص على كل نفس، والحريص على كل البشر، سواء كان يعرفه أو لم يعرفه، رآه أو لم يره مطلقاً في حياته، يحرص على قوم الطفيل أكثر من حرص الطفيل نفسه على قومه، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه وقال: (اللهم! اهد دوساً وأت بهم، ثم قال للطيفل: ارجع إلى قومك فادعهم)، وبعد ذلك قال له كلمة في منتهى الرحمة : (وارفق بهم)، والظاهر أن الطفيل قد حكى له ماذا عمل مع والده ومع زوجته، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الطريقة لا تنفع مع بقية القوم، فقال: (وارفق بهم)، والرفق بالناس أي: الرحمة بهم، حتى تصل الدعوة إلى الناس بألطف طريقة يمكن أن تتقبلها.
يقول الطفيل رضي الله عنه وأرضاه: (فرجعت فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة)، وهذا الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في مكة، فمرت الأيام والشهور ومرت السنين في مكة، والطفيل يدعو قومه في اليمن، ويعلم الناس الخير، ويعلم الناس الإسلام بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذهب الطفيل من دوس إلى المدينة المنورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يظل هناك يدعو إلى الله عز وجل.
يقول الطفيل : (وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحد والخندق)، وكل هذه المعارك العظيمة جداً والطفيل عنده مهمة من أعظم المهمات، إنها مهمة الدعوة إلى الله عز وجل، وتعليم قبيلة دوس الإيمان والخير والإسلام.
ثم يقول الطفيل بن عمرو الدوسي : (ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر)، أي: أنه جلس في دوس عشر سنوات يعلم الناس الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة على بعد مئات الأميال منه، لكنه يقوم بدور في منتهى الأهمية حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة للهجرة وذلك عام خيبر.
يقول: (حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس)، وتأمل هنا في كلامه: ليس سبعين رجلاً بل سبعين بيتاً، وتخيلوا عندما كل واحد من هؤلاء السبعين أو الثمانين يعمل لله عز وجل فإن الطفيل بن عمرو الدوسي يأخذ حسنات مثلهم، فيصلي أحدهم والطفيل يأخذ حسنات، ويصوم أحدهم والطفيل يأخذ حسنات، ويجاهد أحدهم في سبيل الله والطفيل يأخذ حسنات، وينفق أحدهم في سبيل الله والطفيل يأخذ حسنات، ويستشهد أحدهم في سبيل الله والطفيل يأخذ مثل أجر الشهادة.
ثم احسب معي الخير الذي حققه الطفيل بن عمرو الدوسي بعلم قليل وفي عشر سنوات، ونحن كم من العلم نعلمه، فهل أدينا زكاة العلم؟! هل أدينا زكاة الإسلام؟! هل أدينا زكاة الهداية إلى دين الله عز وجل؟! هل أدينا زكاة الإيمان بالله عز وجل، كم أوصلنا هذا الدين إلى أشخاص؟ وكم عرفنا الإسلام لأشخاص؟ وكم شخصاً من الذين نعرفهم حببناه في الدين؟!
إن من ضمن الناس الذين دعاهم الطفيل بن عمرو الدوسي أمير المؤمنين في الحديث: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وتخيل كل الخير الذي جاء من أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعة آلاف حديث، وفي بعض الأقوال: أكثر من عشرة آلاف حديث، فانظر إلى هذا العلم العظيم والكثير الذي جاء لنا منه رضي الله عنه، وكل هذا العلم في ميزان الطفيل بن عمرو الدوسي ، وأريدك أن تتخيل معي حياة أبي هريرة لو لم يوجه إليه الطفيل هذه الدعوة، فقد كان رضي الله عنه يعيش كرجل فقير معدم في قبيلة دوس في اليمن بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا كان سيفعل أبو هريرة لو لم تصله هذه الدعوة؟ كان سيعيش حياة لا معنى لها ولا هدف لها ولا قيمة لها، ولن ينتفع به أحد، ثم يموت ولن يسمع به أحد، ولن يحفر اسمه في صفحة واحدة من صفحات التاريخ.
لكن بعد أن كلَّمه الطفيل في أمر الإيمان وآمن، فافتح الآن صفحات التاريخ، فافتح صحيح البخاري ومسلم ، وافتح سنن الترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه ، وافتح مسند أحمد بن حنبل وموطأ مالك ومعجم الطبراني ، وافتح أي كتاب من كتب السيرة، أو أي كتاب من كتب السنة، أو أي كتاب تسمع عنه، وانظر كلمة: ( أبو هريرة ) تتكرر أمام عينيك، وقلما تجد صفحة ليس فيها كلمة أبي هريرة ، وكل هذا في ميزان الطفيل بن عمرو الدوسي ، وكل هذا لم يكن ليحصل لولا الدعوة إلى الله عز وجل، ولولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه هي قيمة الدعوة: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، وعندما نرى كل هذه الأشياء نستطيع أن نفهم هذه الآية.
موقف علي رضي الله عنه يوم خيبر
لذلك لم يترك الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أمر الدعوة إلى الله تعالى حتى في أحلك الظروف، كالحروب مع أعدائهم، فهم يحاربون وأمامهم العدو، والعدو حريص على قتلهم، والصحابي حريص على أن يدخله في دين الله سبحانه وتعالى، وهذا النهج الأخلاقي الرفيع تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي يوم خيبر يقول النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم)، وهذا في ميدان المعركة مع اليهود، وبعد إجلاء بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة من المدينة، وبعد خيانات كثيرة جداً منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يدعوهم إلى الإسلام ثم يقول له صلى الله عليه وسلم: (فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وحمر النعم هي: إبل عظيمة جداً كانت تتفاخر بها العرب، فهم كانوا يعظمون جداً من هداية إنسان واحد، يعني: لو ذهبت إلى حصن خيبر وفيه آلاف اليهود فآمن منهم واحد فقط خير عظيم جداً، وفي رواية: (خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت) يعني: شيء في منتهى العظمة، بل أعظم من الدنيا بأسرها أن يهدي الله بك رجلاً واحداً، فما بالك لو عشرة أو عشرين أو مائة أو ألف أو آلاف الملايين، فلذلك كان الصحابة لا يفوتون فرصة من غير دعوة إلى الله عز وجل.
موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك
وسأذكر مثالاً أخيراً في هذه المحاضرة لـخالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه في موقف من أعجب المواقف في التاريخ الإسلامي، هذا الموقف في موقعة اليرموك وقد كانت بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين.
تقول الرواية: خرج قائد روماني اسمه جرجة -بفتح الجيم والراء وفتح الجيم الثانية- مكتوب اسمه هكذا في الكتب الإسلامية القديمة، وقد تكون تحريفاً لكلمة جورج، فوقف القائد بين الصفين، وفي ذلك الوقت كان الجيش الإسلامي يقف في ناحية، والجيش الروماني يقف في الناحية الأخرى وبينهم فراغ، وكان في أول اللقاء يحصل مبارزة أو نوع من النزال الفردي، وهو نوع من إظهار القوة، فخرج هذا القائد الروماني ونادى وقال: ليخرج إلي خالد بن الوليد ، وكان من الممكن أن يقول خالد بن الوليد : إن هذه مكيدة ومؤامرة، لكنه رضي الله عنه ما كان يتردد أبداً عن طلب للقتال أو النزال، فخرج رضي الله عنه وهو قائد الجيش، (فوافقه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما) يعني: أنهم وقفوا أمام بعض حتى التصقت الدواب ببعضها البعض، (وقد أمن أحدهما صاحبه)، يعني: أن كل واحد منهم قال للآخر: أنا لا أريد قتالاً، وإنما نريد أن نتكلم ونتفاهم ونتحاور ونتناقش في وسط أرض القتال، وكل واحد منهم رافعاً ترسه أمام صدره لكي يحمي نفسه من خيانة الطرف الآخر، فقال جرجة : يا خالد اصدقني ولا تكذبني؛ فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني؛ فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله.
يعني: أنا أستحلفك بالله أن لا تخون الأمانة ولا تكذب، وإنما قل الصدق.
ثم قال: (هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟) سؤال في منتهى الغرابة، أي: يا ترى هل أنزل الله على نبيك سيفاً وأنت أخذت هذا السيف، فلا تقاتل به أحداً إلا انتصرت؟ ومعلوم أن انتصارات خالد بن الوليد كانت انتصارات مذهلة، والرومان كانوا لا يتخيلون أن رجلاً ينتصر بهذه الصورة، سواء في بلاد فارس أو في بلاد الروم، وانتصارات وراء انتصارات، وبأعداد وعدة قليلة جداً على جيوش هائلة جداً، فـجرجة الروماني مستغرب جداً فيستحلفه بالله، هل هو يقاتل بسيف غير سيوف أهل الأرض، بسيف رباني وليس سيفاً طبيعياً ولذلك ينتصر؟ فقال خالد بن الوليد : لا. قال: فبم سميت سيف الله؟
وانتبه لرد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فهو رد في منتهى البراعة والحكمة والفقه لقضية الدعوة، ولأنه شعر أن جرجة هذا يتكلم بلسان غريب عن قومه، وفي قلبه نوع من الميل إلى الإسلام، وفي قلبه نوع من الشك فيما عليه الرومان من دين، وعنده نوع من التفاؤل، ونوع من الطموح، فسيدنا خالد بن الوليد يكلمه كلاماً في منتهى الروعة، وفي أرض اليرموك، والجيوش مصطفة عن ناحيتين، هذا جيش الرومان أمامه وهذا جيش المسلمين خلفه.
قال سيدنا خالد : (إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا، فنفرنا عنه ونأينا منه جميعاً، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذبه، فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله)، فيقول له هذا الكلام، لأن تاريخه مثل تاريخه، ومثلما هو الآن يحارب الإسلام، فهو قد حارب الإسلام من قبل، ولكن الله سبحانه وتعالى غيَّره وممكن أن يغيِّر جرجة ، ونقله هذه النقلة العظيمة حتى أصبح رجلاً منصوراً متبعاً لكلام الله عز وجل، وممكن أن يغيِّر جرجة أيضاً حتى وإن كان يحارب المسلمين سنين وسنين.
يقول: ( ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا، فهدانا به فتابعناه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين، ودعا لي بالنصر)، فهذا هو سبب النصر، وليس مهارة مني ولا شطارة ولا حرفة.
ثم قال: (فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين. قال جرجة : صدقتني)، أي: أن الكلام فيه صدق، ودخل الكلام قلب جرجة ، لأنه كان عنده النية والطموح لأن يُسلم، فدخل الكلام في قلبه وقال: صدقتني.
ثم أعاد عليه جرجة وقال: يا خالد ! أخبرني إلام تدعو؟ قال خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله.
قال جرجة : (فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم. قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بحرب ثم نقاتله. قال جرجة : فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟) وهنا أصبح ظن سيدنا خالد في محله، فالرجل فعلاً كان يفكر في الإسلام والكلام قد دخل في قلبه.
قال خالد : (منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا)، أي: كلنا مثل بعض.
(ثم أعاد عليه جرجة السؤال وقال: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثلما لكم من الأجر والذخر؟) أي: هل من المعقول أن أدخل في الإسلام الآن وأصبح مثلكم وأنتم الذين دخلتم قبلي بعشر سنين وبعشرين سنة.
فقال خالد كلمة في منتهى الروعة: (نعم، وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ قال خالد : إنا دخلنا في هذا الأمر، وبايعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية، كان أفضل منا. قال جرجة : بالله لقد صدقتني، ولم تخادعني، ولم تألفني). يعني: أنت تقول لي هذا الكلام لكي تقرب قلبي من الإسلام، أم أن هذه هي الحقيقة؟ (قال: بالله! لقد صدقتك وما بي إليك ولا إلى أحد منكم وحشة). يعني: أنا لست بحاجة إليك ولا إلى هذه الناس كلها، وإنما أنا أريد مصلحتك، (وإن الله لولي ما سألت عنه)، يعني: ربنا شاهد على كلامي إذا كنت أنا أقول صدقاً أو كذباً، فقال جرجة وقد أيقن أن الصدق في كلام خالد : (صدقتني، ثم قلب الترس)، وهو طوال مدة الحوار ممسك ترسه بيده وحامي صدره من خالد بن الوليد ، يخاف من أي خيانة، والآن ينزل الترس ومال مع خالد ، ودخل مع خالد في جيش الإسلام وقال: (يا خالد ! علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه)، أي: راح به إلى خيمته.
(فشن عليه قربة من الماء لكي يغتسل، ثم صلى جرجة ركعتين دخول الإسلام، وحملت الروم مع انقلابه مع خالد )، أي: عندما رأى الرومان جرجة قد دخل في الجيش الإسلامي، وعرفوا أنه قد غير دينه ودخل في دين الإسلام، هجمت الروم على جيش المسلمين، ودخل خالد بن الوليد مع جرجة الروماني يقاتلان في سبيل الله، ودارت الحرب الشرسة بين المسلمين وبين الرومان في موقعة اليرموك الشهيرة، فضرب فيهم خالد وجرجة من ارتفاع النهار إلى غروب الشمس، ثم أصيب جرجة فاستشهد رحمه الله تعالى، ولم يصل صلاة سجد فيها إلا ركعتين، فهذه هي الدعوة في نظر الصحابة، وليس هناك ظروف تمنع الدعوة، لذلك كان إيمان الأفراد أغلى عند الصحابة من كنوز الدنيا جميعاً، والعدو الكافر الذي يبغضونه ينقلب إلى أحب الناس إلى قلوبهم لو آمن بالله عز وجل، فيحبون الخير لأهل الأرض جميعاً، ومهمتهم تعبيد الناس جميعاً لرب العالمين، وهي مهمة واضحة جداً، ووظيفتهم استنقاذ الناس من نار الجحيم، ماذا لو قاتل جرجة في صفوف الرومان؟ ماذا لو لم يعطه خالد من وقته وجهده وفكره ودعوته؟ ماذا ستكون النتيجة؟ كان سيصبح جرجة من قتلى الرومان، وكانت ستنتهي حياته على حرب ضد الإسلام والمسلمين، وماذا لو فقدت هذه الأمة هذه الصفة النبيلة، صفة الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هذا هو مفهوم الدعوة عند الصحابة، وهذا هو الصدق في قضية الدعوة إلى الله عز وجل، وقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى قدر هذا الفقه كان عمل الصحابة، ولذلك سبق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهديين، وأن يبصرنا بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة كن صحابياً جيل فريد | 3246 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة واتباع الرسول | 3207 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والعلم | 3107 استماع |
سلسلة كن صحابياً صناعة الرجال | 2829 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والأخوة | 2709 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والجنة | 2574 استماع |
سلسلة كن صحابياً القابضون على الجمر | 2457 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والتوبة | 2455 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والدنيا | 2414 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والإخلاص | 1919 استماع |