خطب ومحاضرات
سلسلة كن صحابياً الصحابة والإخلاص
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه هي الحلقة الرابعة من مجموعة: كن صحابياً، وقد تحدثنا في الدروس الثلاثة السابقة عن جيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فتحدثنا في الدرس الأول عن صفة هذا الجيل العظيم، حيث أنه خير الناس وخير القرون، وتحدثنا أيضاً عن هذا الجيل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعاش معه وتحدث إليه وتعلم منه مباشرة، ثم نقل الرسالة بأمانة إلى من بعده بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زلنا إلى اليوم ننعم بنقل الصحابة لهذا الدين إلينا.
كما تحدثنا في الدرس الثاني عن موضوع بعنوان: (القابضون على الجمر)، فتحدثنا فيه عن إمكانية تقليد جيل الصحابة، لأن بعض الناس تُحبط من تقليد جيل الصحابة؛ لأنه جيل عال جداً! ونحن نقول: إن هذا الجيل جيل قدوة، فنستطيع أن نقلده، نعم الذي يقلده ويعمل بسيرته فكأنه قابض على الجمر، لكنه في المقابل كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ مثل أجر خمسين من صحابته صلى الله عليه وسلم.
وفي الدرس الثالث تحدثنا عن صناعة الإنسان في الإسلام، وكيف كان الصحابي يتحول من إنسان ليس له أي طموح في الدنيا غير الملذات الشخصية وغير حياته الخاصة إلى إنسان يحمل هم هذا الدين على عاتقه، ويحمل هذه الدعوة إلى ربوع الأرض، وتحدثنا أيضاً عن أمثلة للصحابة الكرام وكيف أسلموا، وكيف انتقلوا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، وذكرنا أن بدايات الصحابة كانت صعبة، بل هي أصعب من بداياتنا ولا شك، لأن الصحابة كانوا يعبدون إلهاً غير الله عز وجل، ونحن بحمد الله ولدنا مسلمين، فالأب والأم عند الصحابة كانوا من الكفار، ونحن والحمد لله الآباء والأمهات من المسلمين المؤمنين، وانتقال الصحابة من الكفر إلى الإيمان اختبار صعب جداً، ونحن والحمد لله لم نتعرض إلى هذا الاختبار الصعب، فانتقالنا من عدم الالتزام بهذا الدين إلى الالتزام به لا شك أنه أسهل من انتقال الصحابة مما كانوا عليه إلى ما وصلوا إليه.
ونحن في هذه المجموعة من المحاضرات ومنها هذه المحاضرة إن شاء الله سوف نأخذ في كل محاضرة بصفة من صفات الصحابة، أو معنى من المعاني التي مارسها الصحابة في حياتهم، وننظر كيف كانوا يفهمونه؟ وكيف تحركوا بهذا المعنى في حياتهم؟ وهو هذا الطريق الذي مشى فيه الصحابة ووصلوا فيه إلى ما وصلوا إليه من نعيم الله عز وجل في الآخرة كما قال الله عز وجل: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
إذاً لا بد أن نكون في هذه الدروس عمليين، فنريد أن نعرف كيف من الممكن أن نقلد جيل الصحابة، وكيف من الممكن أن نمشي في نفس الطريق الذي مشوا فيه؟
وفي هذه المحاضرة سنحاول أن نضع أيدينا على أول الطريق الذي سار فيه الصحابة، وسنتحدث عن أهم صفة من صفات الصحابة، وهو شيء مهم جداً كان يميز جيل الصحابة، وأنا أعتبر هذا الشيء هو أهم شيء في حياة الصحابة مطلقاً، إذ لا يمكن أن يكون هناك مؤمن بغير هذا الشيء وبغير هذه الصفة، بل ولا يمكن أن يُقبل عمل بغير هذه الصفة، إذ أن هذه الصفة صفة خطيرة، هذه الصفة هي: صفة الإخلاص لله عز وجل، وأنا أعرف أن كل واحد منا سوف يقول: أنا مخلص، أو يعتقد اعتقاداً جازماً أنه مخلص تمام الإخلاص، لكن كيف كان مفهوم الصحابة عن الإخلاص؟ وكيف استوعب الصحابة هذه الصفة؟ وكيف مارسوا هذه الصفة في حياتهم؟
وقبل أن أبدأ في وصف فهم الصحابة لصفة الإخلاص، أحب أن أذكر أن هذا الدرس من أهم الدروس وأخطرها في حياة المسلم، ولهذا نريد أن نركز ونفهم كل كلمة في الدرس؛ لأن الذي سيسقط في امتحان الإخلاص سوف يسقط في النار، والذي سينجح فيه سيدخل الجنة إن شاء تعالى.
تأمل في قول الله تبارك وتعالى وهو يتحدث عن قضية الإخلاص فيقول: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزمر:65]، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65] أي: بقية الأنبياء، لَئِنْ أَشْرَكْتَ [الزمر:65] أي: في حالة عدم وجود الإخلاص، لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] فالقضية خطيرة جداً، ولذلك وجِّه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومستحيل أن النبي صلى الله عليه وسلم سيشرك بالله عز وجل، لكن هذا لتعظيم الجرم، ولتقبيح الفعل، والشرك هو عكس الإخلاص، والذي يُشرك بالله عز وجل ما أخلص لله عز وجل، والإخلاص أن يكون العمل خالصاً من كل شائبة، والشوائب: هي الشركاء، فلو أنك أشركت مع الله عز وجل آخر بنسبة (25%) مثلاً، فهل تظن أنك ستأخذ (75%) من الأجر ويذهب عنك (25%)، أم أنه سيُحبط العمل جميعه بسبب نسبة بسيطة من الإشراك؟ هنا يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وننتقل إلى الحديث الذي يفسّر هذا الموضوع، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) أي: أنه يذهب العمل كله.
وحديث آخر يوضح هذا المعنى بصورة أكبر: فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم) أي: من أجل الغنيمة، (والرجل يُقاتل للذكر) أي: ليشتهر أمره بين الناس، (والرجل يُقاتل ليُرى مكانه)، أي: ليقال أنه شجاع، (فمن قاتل في سبيل الله؟) أي: أن الأعرابي يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن هؤلاء الثلاثة، هل هم من المقاتلين في سبيل الله أم لا؟ فأعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عن جميع هؤلاء الثلاثة، حتى أنه لم يناقش هذه القضية، ثم قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) سواء هؤلاء الثلاثة السابقين أو غيرهم، فكل هذا ليس في ميزان الله عز وجل وليس في سبيله، وكل هذا إشراك وليس من الإخلاص لله عز وجل، وشيء واحد فقط هو الذي يجعله في سبيل الله، ألا وهو: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، والمغنم ليس حراماً، بل إن الله عز وجل شرع في كتابه أن الغنيمة توزع أربعة أخماسها على الجيش، والذكر للخير ليس حراماً، وصفة الشجاعة ليست حراماً، لكن هذا للعبد وهذا للنفس، هذا حظ النفس وليس لله عز وجل، أي: أنك تُقاتل من أجل هذه الأشياء لنفسك وستأخذها في الدنيا، فلا يُحسب عند الله عز وجل، لكن الذي يُقاتل ليرفع كلمة الله عز وجل في الأرض فهو المقاتل في سبيل الله.
وهناك حديث آخر وهو أخطر من الحديث السابق، يوضح المعنى بشكل أوضح وأكبر: روى النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر) فهو خرج في سبيل الله عز وجل يريد الأجر منه، لكن إلى جانب هذا الخروج هو يلتمس الذكر أيضاً، أي: لأجل أن يذكروه ويقولوا: فلان قد قاتل وحارب وانتصر وما إلى ذلك من صفات المجاهدين، فهو يريد شيئين: يريد الأجر، ويريد الذكر، ثم قال: (ما له؟) أي: أن الرجل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عما لهذا الرجل من الأجر، أي: ما مقدار أجره عند الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم كلمة في منتهى الخطورة: (لا شيء)، أي: أنه ليس له من الأجر شيء، فأعادها الرجل مستغرباً على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: (ما له يا رسول الله؟ ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليه في كل مرة: لا شيء، لا شيء) ثم قال صلى الله عليه وسلم ليوضح له الصورة: (إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه).
كذلك حديث آخر من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه معنى عميق جداً، وأعتقد أننا قد ذكرنا هذا الحديث وتحدثنا عنه في موضوع: (كيفية حفظ القرآن الكريم)، لكن: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] فلا بأس بأن نعيده مرة أخرى.
روى مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد) أي: أول رجل يحكم الله عليه يوم القيامة: رجل استشهد (فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها) أي: أنه يقول له: أعطيتك كذا وكذا من النعم العظيمة والكثيرة التي لا تُحصى، ثم يقول الله عز وجل له: (ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهدت) أي: أن أرفع الأعمال عند الله عز وجل وذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، (قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل) فهذا الرجل كان يُقاتل للذكر، وكان يقاتل من أجل أن يشتهر بين الناس بأنه مقاتل جريء وشجاع، وقوله: (فقد قيل)، أي: أن الناس قد قالت الذي أردت، (ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار) فهذا أولهم.
الرجل الثاني الذي يُقضى عليه يوم القيامة: (ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن فيك، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليُقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل)، أي: أنك لم تكن تعمل لله سبحانه وتعالى، بل كنت تعمل للناس حتى تقول عنك أنك عالم وقارئ، وقد قالت الناس عنك هذا، (ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار).
ولذا لا بد أن نقف وقفة مع هذا الحديث الخطير، لأنه كان من الممكن أن الله سبحانه وتعالى يسعّر جهنم أول ما تُسعّر بزان أو قاتل أو مرتكب لكبيرة من الكبائر، أو لمعصية عظيمة من المعاصي! لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يسعّرها أولاً بهؤلاء، لإثبات أن عملهم الذي أشركوا فيه غير الله عز وجل قد أُحبط تماماً، وكأنهم لم يعملوا، وكل هذا من أجل تعظيم قدر الإخلاص لله عز وجل، ولذلك فإن الصحابة قد فهموا هذه النقطة جيداً؛ ولهذا عاشوا حياتهم كلها لله عز وجل، وعاشوا حياتهم بكاملها مخلصين لله عز وجل.
وعليه فعندما نعرف هذه الآيات والأحاديث، ونعرف فهم الصحابة لهذه الآيات والأحاديث نستطيع أن نفهم مواقف غريبة جداً في حياة الصحابة.
الموقف الأول
الموقف الأول: روى النسائي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه)، وهو رجل من الأعراب، (ثم قال: أُهاجر معك)، وهنا نتعلم الإخلاص من هذا الأعرابي البسيط الذي أسلم قريباً، من هذا الرجل الذي أصبح صحابياً وحقق شروط الصحابي كما ذكرناها، وقد قلنا: إن الصحابي هو الرجل الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ورآه أو اجتمع به ومات على هذا الإيمان، وهذا الصحابي رضي الله عنه عند إسلامه أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليعلموه الدين فعلّموه، ثم جاءت غزوة مباشرة بعد هذا التعليم البسيط لأمور الدين، وغنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً -هو النساء- فقسمه بين أصحابه، وجعل لهذا الصحابي قسماً، وقال لأصحابه: عندما يأتي هذا الرجل أعطوا له قسمه، ثم جاء الرجل فدفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم. والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يقسم، أي: أن هذا حلال خالص، وأيضاً هناك ميل فطري لهذا السبي، ومع ذلك لنتأمل ما كان رد هذا الصحابي الأعرابي البسيط الذي أسلم منذ أيام قليلة؟ فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما هذا؟)، قد يظن من يقرأ هذا الحديث أنه مستقل لهذا العطاء، (قال الرسول صلى الله عليه وسلم: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا)، وأشار إلى مكان في الحلق، وهو مكان مميت لو ضُرب فيه بسهم لقُتل لا محالة، (ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة)، وهنا نقف وقفة مع فعل هذا الصحابي الذي قد يستغربه البعض، بل وقد يعتقدون أن هذه مبالغة، وهي فعلاً مبالغة لكنها مبالغة في الخير، فالصحابي هذا مع أن عمره في الإسلام قليل جداً، لكن كان فهمه عميقاً جداً، ورؤيته واضحة جداً، والجنة قد كبرت في عينيه، والجهاد عنده يساوي الدنيا كلها، فهو يخاف أن يأخذ شيئاً يشغله عن الجهاد، ومن ناحية أخرى هو يخاف أن تتغير نيته، وعند ذلك سوف يبتدئ عملاً جديداً بنية خالصة لله عز وجل، وبعد أن يكثر المال أو يجد منفعته من هذا العمل تتغير نيته، كالذي ينشئ مدرسة -مثلاً- بنية أن هذا مشروع تربوي إسلامي، وسيفيد به الأمة الإسلامية جميعها، وبعد أن يبدأ المال بالكثرة يغير في نيته، ويبدأ يجعل الدنيا هي همه، ويرفع من أسعار المدرسة، ويعمل رحلات بأسعار عالية ليكسب من ورائها، ويغيّر لبس المدرسة كل سنة ليضطر أولياء الأمور لأن يشتروا الزي المدرسي كل سنة، ويكثِّر عدد الطلبة في كل فصل، أي: فبعد أن كان الفصل فيه عشرين أو خمسة وعشرين طالباً لدوافع تربوية، صار في الفصل خمسون طالباً وأكثر من أجل تكثير المال؛ لأنه يعرف أن الأبعاد التربوية التي كان يرجوها لا يستطيع أن يعملها في ظل هذا العدد الكبير من الطلاب، إذاً تغيرت النية هنا.
فالصحابي الأعرابي البسيط لم يكن يريد أن يدخل في هذه التجربة، لأنه يريد أن يعيش حياة مخلصة لله عز وجل وإن قصرت، ولهذا رفض المغنم الحلال، وقرر أن يعمل لله عز وجل بدون أجر، هذا وإن لم يكن فرضاً فهو من فضائل الأعمال، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يُنكر عليه ذلك، ولم يقل: إن هذا تشدد منك، بل قال: (إن تصدق الله يصدقك) أي: لو أنت صادق في نيتك فإن الله سيحقق لك كل الذي تريده، ولهذا يجب على كل واحد منا أن يكون له أعمالُ خيرٍ كثيرة لا يأخذ عليها أجراً من أحد، وذلك ليثبت إخلاص نيته لله عز وجل، كالمدرس يمكن أن يُدرس من غير فلوس للناس المحتاجين، وكذلك الطبيب يمكن أن يعالج من غير فلوس للناس المحتاجين، وأيضاً المحامي يمكن أن يترافع عن مظلوم محتاج من غير فلوس؛ لأنه محامي يعمل لله عز وجل، وهذا ليس فرضاً ولكنها وسيلة لإثبات الإخلاص لله عز وجل.
هنا قد يأتي سائل ويسأل فيقول: ما هي الوسيلة التي من الممكن أن تعرف أنك مخلص تماماً لله عز وجل في عملك؟ كلنا نقول: إننا مخلصون، لكن أحياناً قد يكون هناك أجر على العمل، فيا ترى إذا كل واحد منا أخذ أجراً على العمل ليس مخلصاً؟ لا، فالصحابة كانوا يأخذون أجراً على عملهم، فقد أخذوا في هذه الغزوة السبي، وهو من الأجر على عملهم، ومع ذلك فإخلاصهم عالي جداً، والمقياس الحقيقي لتعرف إخلاصك من عدمه هو: أنك تعمل العمل بغض النظر أخذت أو لم تأخذ، أما إذا ربطت عملك بالأجر فهذا يدل على ضعف الإخلاص أو غيابه أصلاً.
نرجع مرة أخرى لقصة الصحابي الأعرابي، قال الصحابي: أنا لا أريد أن آخذ من السبي شيئاً، فأنا لم أدخل في الإسلام إلا لأُقتل في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن تصدق الله يصدقك)، قال راوي الحديث شداد بن الهاد رضي الله عنه وأرضاه: (فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل) أي: أتوا به شهيداً رضي الله عنه، (قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟)، فاستغرب النبي صلى الله عليه وسلم من أن السهم أتى له في نفس المكان الذي أشار إليه، (قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه)، هذا هو الإخلاص، (ثم كفّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبّته، ثم قدّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقُتل شهيداً، وأنا شهيد على ذلك)، فيا ترى هل هناك مكافأة أفضل من هذا؟ ثم ما أدراك لعلك تعمل عملاً خالصاً لله عز وجل وتكون النهاية في هذا العمل، فتموت على هذا الإخلاص، فيكون هذا العمل هو سبب سعادتك في الدنيا والآخرة.
الموقف الثاني
الموقف الثاني: لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يعتق العبيد في بداية الدعوة، فقد كان يشتري العبيد بكثرة ويدفع أموالاً كبيرة لذلك، وكان رضي الله عنه يشتري العبيد الضعفاء والفقراء، من الرجال ومن النساء على السواء، فقال له أبوه أبو قحافة وكان لا يزال مشركاً: يا بني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك أعتقت رجالاً أشداء يمنعونك، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا أبت إنما أبتغي وجه الله عز وجل، أي: أنا لا أريد غير رضا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإخلاص، فأنزل الله عز وجل قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]، وهذه من أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه وأرضاه بأن الله عز وجل يشهد له بأنه الأتقى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:18-20] أي: لا يريد غير رضا الله سبحانه وتعالى فقط، وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21] وهذه هي نتيجة الإخلاص أن يرضى الله عنه.
الموقف الأول: روى النسائي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه)، وهو رجل من الأعراب، (ثم قال: أُهاجر معك)، وهنا نتعلم الإخلاص من هذا الأعرابي البسيط الذي أسلم قريباً، من هذا الرجل الذي أصبح صحابياً وحقق شروط الصحابي كما ذكرناها، وقد قلنا: إن الصحابي هو الرجل الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ورآه أو اجتمع به ومات على هذا الإيمان، وهذا الصحابي رضي الله عنه عند إسلامه أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليعلموه الدين فعلّموه، ثم جاءت غزوة مباشرة بعد هذا التعليم البسيط لأمور الدين، وغنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً -هو النساء- فقسمه بين أصحابه، وجعل لهذا الصحابي قسماً، وقال لأصحابه: عندما يأتي هذا الرجل أعطوا له قسمه، ثم جاء الرجل فدفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم. والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يقسم، أي: أن هذا حلال خالص، وأيضاً هناك ميل فطري لهذا السبي، ومع ذلك لنتأمل ما كان رد هذا الصحابي الأعرابي البسيط الذي أسلم منذ أيام قليلة؟ فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما هذا؟)، قد يظن من يقرأ هذا الحديث أنه مستقل لهذا العطاء، (قال الرسول صلى الله عليه وسلم: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا)، وأشار إلى مكان في الحلق، وهو مكان مميت لو ضُرب فيه بسهم لقُتل لا محالة، (ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة)، وهنا نقف وقفة مع فعل هذا الصحابي الذي قد يستغربه البعض، بل وقد يعتقدون أن هذه مبالغة، وهي فعلاً مبالغة لكنها مبالغة في الخير، فالصحابي هذا مع أن عمره في الإسلام قليل جداً، لكن كان فهمه عميقاً جداً، ورؤيته واضحة جداً، والجنة قد كبرت في عينيه، والجهاد عنده يساوي الدنيا كلها، فهو يخاف أن يأخذ شيئاً يشغله عن الجهاد، ومن ناحية أخرى هو يخاف أن تتغير نيته، وعند ذلك سوف يبتدئ عملاً جديداً بنية خالصة لله عز وجل، وبعد أن يكثر المال أو يجد منفعته من هذا العمل تتغير نيته، كالذي ينشئ مدرسة -مثلاً- بنية أن هذا مشروع تربوي إسلامي، وسيفيد به الأمة الإسلامية جميعها، وبعد أن يبدأ المال بالكثرة يغير في نيته، ويبدأ يجعل الدنيا هي همه، ويرفع من أسعار المدرسة، ويعمل رحلات بأسعار عالية ليكسب من ورائها، ويغيّر لبس المدرسة كل سنة ليضطر أولياء الأمور لأن يشتروا الزي المدرسي كل سنة، ويكثِّر عدد الطلبة في كل فصل، أي: فبعد أن كان الفصل فيه عشرين أو خمسة وعشرين طالباً لدوافع تربوية، صار في الفصل خمسون طالباً وأكثر من أجل تكثير المال؛ لأنه يعرف أن الأبعاد التربوية التي كان يرجوها لا يستطيع أن يعملها في ظل هذا العدد الكبير من الطلاب، إذاً تغيرت النية هنا.
فالصحابي الأعرابي البسيط لم يكن يريد أن يدخل في هذه التجربة، لأنه يريد أن يعيش حياة مخلصة لله عز وجل وإن قصرت، ولهذا رفض المغنم الحلال، وقرر أن يعمل لله عز وجل بدون أجر، هذا وإن لم يكن فرضاً فهو من فضائل الأعمال، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يُنكر عليه ذلك، ولم يقل: إن هذا تشدد منك، بل قال: (إن تصدق الله يصدقك) أي: لو أنت صادق في نيتك فإن الله سيحقق لك كل الذي تريده، ولهذا يجب على كل واحد منا أن يكون له أعمالُ خيرٍ كثيرة لا يأخذ عليها أجراً من أحد، وذلك ليثبت إخلاص نيته لله عز وجل، كالمدرس يمكن أن يُدرس من غير فلوس للناس المحتاجين، وكذلك الطبيب يمكن أن يعالج من غير فلوس للناس المحتاجين، وأيضاً المحامي يمكن أن يترافع عن مظلوم محتاج من غير فلوس؛ لأنه محامي يعمل لله عز وجل، وهذا ليس فرضاً ولكنها وسيلة لإثبات الإخلاص لله عز وجل.
هنا قد يأتي سائل ويسأل فيقول: ما هي الوسيلة التي من الممكن أن تعرف أنك مخلص تماماً لله عز وجل في عملك؟ كلنا نقول: إننا مخلصون، لكن أحياناً قد يكون هناك أجر على العمل، فيا ترى إذا كل واحد منا أخذ أجراً على العمل ليس مخلصاً؟ لا، فالصحابة كانوا يأخذون أجراً على عملهم، فقد أخذوا في هذه الغزوة السبي، وهو من الأجر على عملهم، ومع ذلك فإخلاصهم عالي جداً، والمقياس الحقيقي لتعرف إخلاصك من عدمه هو: أنك تعمل العمل بغض النظر أخذت أو لم تأخذ، أما إذا ربطت عملك بالأجر فهذا يدل على ضعف الإخلاص أو غيابه أصلاً.
نرجع مرة أخرى لقصة الصحابي الأعرابي، قال الصحابي: أنا لا أريد أن آخذ من السبي شيئاً، فأنا لم أدخل في الإسلام إلا لأُقتل في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن تصدق الله يصدقك)، قال راوي الحديث شداد بن الهاد رضي الله عنه وأرضاه: (فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل) أي: أتوا به شهيداً رضي الله عنه، (قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟)، فاستغرب النبي صلى الله عليه وسلم من أن السهم أتى له في نفس المكان الذي أشار إليه، (قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه)، هذا هو الإخلاص، (ثم كفّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبّته، ثم قدّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقُتل شهيداً، وأنا شهيد على ذلك)، فيا ترى هل هناك مكافأة أفضل من هذا؟ ثم ما أدراك لعلك تعمل عملاً خالصاً لله عز وجل وتكون النهاية في هذا العمل، فتموت على هذا الإخلاص، فيكون هذا العمل هو سبب سعادتك في الدنيا والآخرة.
الموقف الثاني: لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يعتق العبيد في بداية الدعوة، فقد كان يشتري العبيد بكثرة ويدفع أموالاً كبيرة لذلك، وكان رضي الله عنه يشتري العبيد الضعفاء والفقراء، من الرجال ومن النساء على السواء، فقال له أبوه أبو قحافة وكان لا يزال مشركاً: يا بني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك أعتقت رجالاً أشداء يمنعونك، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا أبت إنما أبتغي وجه الله عز وجل، أي: أنا لا أريد غير رضا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإخلاص، فأنزل الله عز وجل قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]، وهذه من أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه وأرضاه بأن الله عز وجل يشهد له بأنه الأتقى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:18-20] أي: لا يريد غير رضا الله سبحانه وتعالى فقط، وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21] وهذه هي نتيجة الإخلاص أن يرضى الله عنه.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة كن صحابياً جيل فريد | 3244 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة واتباع الرسول | 3205 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والعلم | 3106 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والدعوة | 2892 استماع |
سلسلة كن صحابياً صناعة الرجال | 2827 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والأخوة | 2706 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والجنة | 2570 استماع |
سلسلة كن صحابياً القابضون على الجمر | 2454 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والتوبة | 2453 استماع |
سلسلة كن صحابياً الصحابة والدنيا | 2411 استماع |