الغضب: أسبابه وعلاجه
مدة
قراءة المادة :
22 دقائق
.
الغضبأسبابه وعلاجه
الحمد لله الذي خضعت لعزته الرقاب وأشرقت لنور وجهه الظلمات وصَلُحَ على شَرْعه أمر الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين والمبعوث رحمه للعالمين، أما بعد:
فإن الغضب شعلة نار اُقتُبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، والإنسان ينزع فيه عند الغضب عِرْق إلى الشيطان الرجيم، فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان؛ حيث قال: ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12] فإن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاشتعال والحركة والاضطراب، من أجل ذلك، أحببت أن أُذكر نفسي وطلاب الكرام بأسباب الغضب وعلاجه، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
معنى الغضب:
لغضب: تغيِّرٌ يحصلُ عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر.
(التعريفات للجرجاني صـ209).
أنواع الغضب:
الغضب نوعان: غضب مذمومٌ، وغضب محمودٌ.
أولًا: الغضب المذموم:
وهو الغضب للنفس.
وهذا النوع من الغضب حذرنا منه نبينا صلى الله عليه وسلم.
روى البخاريُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي؛ قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا.
قَالَ: لَا تَغْضَبْ.
(البخاري حديث 6116).
قَالَ ابنُ التِّينِ (رحمه الله): جَمَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ (لَا تَغْضَبْ) خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْغَضَب يؤول إِلَى التَّقَاطُعِ وَمَنْعِ الرِّفْقِ وَرُبَّمَا آلَ إِلَى أَنْ يُؤْذِيَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ فَيُنْتَقَصُ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ.
(فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ10 صـ536).
روى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ.
(البخاري حديث 6114 / مسلم حديث 2609).
قال ابنُ حجر العسقلاني (رحمه الله): قَوْلُهُ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ كَثِيرًا بِقُوَّتِهِ وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ وَالصُّرْعَةُ بِسُكُونِ الرَّاءِ بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَنْ يَصْرَعُهُ غَيْرُهُ كَثِيرًا وَكُلُّ مَا جَاءَ بِهَذَا الْوَزْنِ بِالضَّمِّ وَبِالسُّكُونِ فَهُوَ كَذَلِكَ كَهُمْزَةٍ وَلُمْزَةٍ وَحُفْظَةٍ وَخُدْعَةٍ وَضُحْكَةٍ وَوَقَعَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بن مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَوَّلُهُ مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ.
(فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ10 صـ535).
النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه:
روى مسلمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(مسلم حديث 2328).
روى البخاريُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً.
قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ.
فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
(البخاري حديث 3149).
أقوال سلفنا الصالح في الغضب المذموم:
(1) كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا خطب قال في خطبته: أفلح منكم من حفظ من الطمع والهوى والغضب.
(2) قال عبد الله بن مسعود: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه وأمانته عند طمعه وما علمك بحلمه إذا لم يغضب وما علمك بأمانته إذا لم يطمع.
(3) كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله: ألا تعاقب عند غضبك وإذا غضبت على رجل فأحبسه فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه ولا تجاوز به خمسة عشر سوطًا.
(4) قال علي بن زيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول فأطرق عمر زمانًا طويلًا ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا.
(5) قال جعفر بن محمد: الْغَضَبُ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ.
(6) قال خيثمة: الشيطان: يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه.
(7) قيل لعبد الله بن المبارك: أجمل لنا حُسْن الخلُق في كلمة.
فقال: اترك الغضب.
(8) قال مجاهد: قال إبليس: ما أعجزني بنو آدم فلن يعجزوني في ثلاث: إذا سَكِرَ أحدهم أخذنا بخزامته فقدناه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا.
وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم ونبخله بما في يديه.
ونمنيه بما لا يقدر عليه.
(9) قَالَ الحسن البصري: مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِ قُوَّةٌ فِي دِينٍ وَحَزْمٌ فِي لِينٍ وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ وَعِلْمٌ فِي حِلْمٍ وَكَيْسٌ فِي رِفْقٍ وَإِعْطَاءٌ فِي حَقٍّ وَقَصْدٌ فِي غِنًى وَتَجَمُّلٌ فِي فَاقَةٍ وَإِحْسَانٌ فِي قُدْرَةٍ وَتَحَمُّلٌ فِي رَفَاقَةٍ وَصَبْرٌ فِي شِدَّةٍ لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ وَلَا تَجْمَحُ بِهِ الْحَمِيَّةُ وَلَا تَغْلِبُهُ شَهْوَةٌ وَلَا تَفْضَحُهُ بِطْنَةٌ وَلَا يَسْتَخِفُّهُ حِرْصُهُ وَلَا تَقْصُرُ بِهِ نِيَّتُهُ فَيَنْصُرُ الْمَظْلُومَ وَيَرْحَمُ الضَّعِيفَ وَلَا يَبْخَلُ وَلَا يُبَذِّرُ وَلَا يُسْرِفُ وَلَا يُقَتِّرُ يَغْفِرُ إِذَا ظُلِمَ وَيَعْفُو عَنِ الْجَاهِلِ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَخَاءٍ.
(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3صـ260).
ثانيًا الغضب المحمود:
المقصود بالغضب المحمود هو أن يغضب المسلمُ عندما تُنْتهكُ حرمات الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عَلِم أو رأى شيئًا فيه انتهاك لحرمات الله، اشتد غضبه واحمر وجهه لذلك.
(1) روى البخاريُّ عَنْ عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلَانٌ فِيهَا فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ.
(البخاري حديث 704).
(2) روى الشيخانِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ.
فَتَنَزَّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً.»(البخاري حديث:6101/مسلم حديث:2356)
(3) روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ وَقَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ: فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ.(البخاري حديث 5954).
(4) روى مسلمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَوْ خَمْسٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ، قَالَ: «أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ، فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ؟» - قَالَ الْحَكَمُ: كَأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ أَحْسِبُ - «وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَحِلُّ كَمَا حَلُّوا» (مسلم حديث: 1211).
(5) روى الشيخانِ عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟»، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ، وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(البخاري حديث: 4304 /مسلم حديث: 1688).
درجات الغضب:
إن قوة الغضب محلها القلب، ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلي التشفي والانتقام بعد وقوعها.
والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذاتها، ولا تسكن إلا به، ثم إن الناس في قوة الغضب على درجات ثلاث في أول الفطرة من التفريط والإفراط والاعتدال.
الدرجة الأولى: التفريط:
إن التفريط بفقد قوة الغضب أو ضعفها مذموم.
وهو الذي يُقال فيه انه لا حمية له.
ولذلك قال الشافعي (رحمه الله) من استغضب فلم يغضب فهو حمار.
فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلًا فهو ناقص جدًا، وقد وصف الله تعالى أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية.
فقال سبحانه: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73] والغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب.
(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3صـ261).
آثار التفريط:
1- عدم الغيرة على محارم الله تعالى.
2- احتمال الذُّل وصِغر النفس.
3- السكوت عن مشاهدة المنكرات.
(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3صـ263).
الدرجة الثانية: الإفراط:
المقصود بالإفراط هو تَغلبُ قوة الغضب على الإنسان حتى تخرج عن سياسة العقل والدين، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر، وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر.
وهذا الإفراط في الغضب يرجع لأسباب غريزية، وأسباب اعتيادية.
أولًا: الأسباب الغريزية:
يرجع الإفراط في قوة الغضب إلى أن الإنسان قد يكون بفطرته التي خلقه الله تعالى عليها مستعدًا لسرعة الغضب، حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان.
ثانيًا: الأسباب الاعتيادية:
قد يكون من أسباب إفراط الغضب وازدياده هو أن الإنسان قد يخالط قومًا يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب ويسمون ذلك شجاعة ورجولية، فيقول الواحد منهم: أنا الذي لا أصبر على المكر ولا أحتمل من أحدًا أمرًا.
ومعنى هذا الكلام انه لا عقل فيه ولا حِلْم – ويذكر ذلك في معرض الفخر بنفسه.
فمن سمعه، رسخ في نفسه حُسْن الغضب وجب التشبه بالقوم فيقوى به الغضب.
ومهما اشتدت نار الغضب وقوى اضطرامها أعمت صاحبها وأصمته عن كل موعظة، فإذا وُعظ لم يسمع بل زاده ذلك غضبًا، وإذا استضاء بنور عقله وراجع نفسه لم يقْدر.
إذ ينطفئ نور العقل في الحال بدخان الغضب.
(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3صـ261).
آثارُ الإفْراط في الغضب:
إن للغضب المفْرط آثارًا تمكن أن نوجزها فيما يلي:
أثر الغضب على الجسد:
من آثار الغضب في الظاهر: تغير اللون، وشدة الرعدة في الأطراف و خروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزَبّدُ على الأشداق، وتحمر الأحداق، وتنقلب المناخر، وتستحيل الخِلْقة، ولو رأى الغضبان في حاله غضبه، قبح صورته لسكن غضبه حياء من قُبْح صورته واستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره، فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولًا ثم انتشر قبحها إلي الظاهر ثانيًا، فتغير الظاهر ثمرةُ تغير الباطن.
أثر الغضب على اللسان:
وأما أثر الغضب على اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل، ويستحي منه قائله عند فتور الغضب، وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ.
أثر الغضب على الأعضاء:
وأما أثر الغضب على الأعضاء، فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجُرْح عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي، رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه، ولطم نفسه، وقد يضرب بيده على الأرض، ويعدو عَدْو الوالِه السكران، والمدهوش المتحير، وربما يسقط سريعًا لا يطيق العَدْو والنهوض بسبب شدة الغضب، ويعتريه مثل الغشْية، وربما يضرب الجمادات والحيوانات، فيضرب القصعة مثلًا على الأرض، وقد يكسر المائدة إذا غضب عليها، وقد يقوم بأفعال المجانين، فيشتم البهائم والجمادات ويخاطبها كأنه يخاطب عاقلًا.
أثر الغضب على القلب:
وأما أثر الغضب في القلب مع المغضوب عليه، فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور، والعزم على إفشاء السر وهَتْك السِّتْر، وغير ذلك من القبائح.
(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ262: صـ263).
الدرجة الثالثة: الاعتدال:
المقصود بالغضب المعتدل هو الذي ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحِلْم، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن من مال غضبه إلي الفتور حتى يشعر صاحبه بضعف الغيرة وخسة النفس واحتمال الذل، وجب على صاحبه أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه.
ومن مال غضبه إلي الإفراط حتى يجره إلي التهور واقتحام الفواحش، وجب عليه أن يعالج نفسه ليقلل من حدة غضبه هذا حتى يصل إلي الغضب المعتدل المحمود.
(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3صـ263).
الأسبابُ المُهيجةُ للغضب:
إن الأسباب المهيجة للغضب كثيرة، يمكن أن نجملها فيما يلي:
الزهو (الكِبْرُ) والعُجْب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادة والغدر، وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق رديئة، مذمومةٌ شرعًا ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب، فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها.
فيجب أن تُميت الزهو بالتواضع، وتميت العُجب بمعرفتك بحقيقة نفسك، وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر، وتفضل عنه.
وأما الهزل فتزيله بالجِّد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية التي تَبَلِّغك إلي سعادة الآخرة.
وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يُستهزأ بك.
وأما التعيير فبالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مُرِّ الجواب.
وأما شدة الحرص على مزايا العيش، فتُزالُ بالقناعة بقدر الضرورة، طلبًا لِعز الاستغناء، وتـَرَفُعًَا عن ذُل الحاجة.
(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3صـ268: صـ269).
وسائل علاج الغضب:
إذا هاج المسلم واشتد غضبه، فإنه يمكنه أن يعالج غضبه بالعِلْم والعمل.
أولًا: علاج الغضب بالعلم:
وهو ستة أمور يمكن أن نوجزها فيما يلي:
الأول: أن يتفكر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم،، فيرغب في ثوابه، فتمنعه شدة الحرص على ثواب كظم الغيظ عن التشفي والانتقام وينطفئ عنه غيظه.
قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وقال سبحانه وهو يتحدث عن صفات المتقين: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
روى أبو داودَ عَنْ مُعَاذٍ بنِ جبل أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ»؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث:3997).
الثاني: أن يخوف نفسه من عقاب الله، وذلك بأن يقول قدرة الله علىَّ أعظمُ من قدرتي على هذا الإنسان.
فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علىَّ يوم القيامة، فأنا أحوج ما أكون إلى عفو الله في ذلك اليوم.
الثالث: أن يُحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام، وأن عدوه له بالمرصاد، حيث يجتهد في الشماتة بمصائبه، فإن الإنسان لا يخلو من المصائب، فيخوف نفسه من عاقبة الغضب في الدنيا وإن لم يخف من الآخرة.
الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب وأنه يكون مجانبًا لأخلاق الأنبياء والعلماء والحكماء في عاداتهم لتميل نفسه إلى الاقتداء بهم.
خامسًا: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام ويمنعه من كَظْم الغيظ مثل أن يكون سببُ غضبه أن يقول له الشيطان إن كظم الغيظ والعفو المسيء يُحمل منك على العجز، والذلّة والمهانة، وصغر النفس وأنك تصير صغيرًا في أعين الناس، فليقل لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن ولا تأنفين من خزي يوم القيامة إذا أخذها هذا بيدك وانتقم منكِ، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين أن تصغري عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين!!
سادسًا: أن يعلم أن غضبه إنما كان من شيء جرى على وفق مُراد الله تعالى، لا على وفق مُراده، فكيف يقدم مُراد الله تعالى! (مختصر منهاج القاصدين صـ233: صـ235).
ثانيًا: علاج الغضب بالعمل:
(1) يقول المسلم عند غضبه لنفسه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
روى الشيخانِ عن سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ." فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ.
(البخاري حديث: 6115/مسلم حديث:2610).
(2) الصمت وعدم الكلام.
روى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.
(البخاري حديث: 6475/مسلم حديث:47).
روى أحمدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" عَلِّمُوا، وَيَسِّرُوا، وَلا تُعَسِّرُوا، وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ.
"(حديث حسن لغيره) (مسند أحمد جـ4صـ39حديث:2139).
(3) إن كان الإنسانُ قائمًا فليجلس، وإن كان جالسًا فليضطجع.
روى أبو داودَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ.»(حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث:4000).
(4) الإسراع إلى الوضوء، لأن المسلم إذا بدأ في الوضوء ذكر الله فَيُطردُ الشيطان بإذن الله تعالى.
(مختصر منهاج القاصدين صـ235).
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.