سلسلة كن صحابياً الصحابة والدنيا


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد.

فمع الدرس السابع من مجموعة: كن صحابياً، ولا زلنا نبحث عن معالم طريق الصحابة رضي الله عنهم، وقد تحدثنا عن الإخلاص وعن العلم وعن العمل، واليوم سنتحدث عن مفهوم جديد حير كثيراً من الناس، فقد حيّر الفلاسفة وحيّر المفكرين وحيّر العلماء، ألا وهو الدنيا.

فيا ترى ما هو مفهوم الصحابة للدنيا؟ وما هي نظرة الصحابة إلى الدنيا؟

في الحقيقة إن نظرة الصحابة إلى الدنيا كانت نظرة عجيبة جداً، فقد كانت نظرة متوازنة بشكل ملفت للنظر، فهم من جانب لا يُعطون لها قيمة تُذكر في حياتهم، فيتنازلون عنها بسهولة وببساطة شديدة، وكأنها لا تساوي درهماً، ومع ذلك هم من جانب آخر يعملون فيها بجد واجتهاد، فيزرعون ويتاجرون ويتكسّبون المال، ويعمّرون الأرض، فكان منهم الأغنياء الذين لا تُحصى أموالهم، والمُلّاك الذين تجاوزت أراضيهم مئات الأفدنة، فالدنيا في أعين الصحابة لم تكن غاية ولم تكن هدفاً، بل كانت وسيلة إلى إرضاء الله عز وجل، ومعبراً إلى الآخرة، ومن ثم كانت وسيلة إلى تنفيذ كل ما أمر الله عز وجل به، فالله عز وجل أمر بإعمار الدنيا، فليكن الإعمار، والله عز وجل أمر بكفالة الأسرة والزوجة والأولاد والآباء والأمهات، فليكن العمل في الدنيا لتحصيل المال لكفاية هؤلاء، والله عز وجل حض على الجهاد بالمال، فلا بد من وجود المال حتى يجاهد به، والله عز وجل حض على الوقوف في وجه الكافرين، فلا بد من العمل في الدنيا لإعداد العدة لمواجهة الكافرين.

إذاً: فأنا أشتغل في الدنيا لإرضاء الله عز وجل، فأكسب المال لإرضاء الله، وأتزوج لإرضاء الله، وأخلّف لإرضاء الله، وأعمل كل شيء في الدنيا لإرضاء الله، ومن الممكن أن أكون من أغنى الناس في الدنيا، وفي نفس الوقت أرضي الله عز وجل بهذا المال، وفي نفس الوقت أيضاً لا يوجد عندي مانع أن أترك الدنيا بكاملها وأصبح أفقر واحد فيها إرضاء لله سبحانه وتعالى.

إذاً: فهذه علاقة تفاعلية رائعة فقهها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ومعادلة صعبة جداً حققوها بسهولة ويسر، عندما ساروا على منهج الله عز وجل.

إن الدنيا في حقيقتها لا تساوي عند الله شيئاً، ومن ثم فهي لا تساوي عند المؤمنين بالله شيئاً، فلا يجوز التصارع من أجلها، ولا يجوز التشاحن والبغضاء من أجل جزء منها ولو كان عظيماً في أعين الناس، وفي ذات الوقت لا يجوز اعتزالها وتركها وإهمالها، ولا يجوز التأخر فيها، ولا يجوز تركها غنيمة في أيدي أعداء الدين.

إذاً: لنتأمل كيف فقه الصحابة هذا الفقه المستنير لحقيقة الدنيا؟ وكيف حققوا هذه المعادلة الصعبة، بل المستحيلة في أعين الكثيرين؟

إن هناك من الناس من يقول لك: إما دنيا وإما آخرة، ولا ينفع أن تعمل للدنيا والآخرة في نفس الوقت! وعليه فكيف تكون من طلاب الآخرة، وأنت تعمل في الدنيا وتكافح وتتزوج وتكسب وتفرح وتضحك!؟

إن الصحابة الكرام وصل إليهم هذا الفقه العميق والدقيق عن طريق معلمهم صلى الله عليه وسلم، ومعلم البشرية أجمعين صلى الله عليه وسلم، فوصل إليهم عن طريق كلماته وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وعن طريق ما نقله عن رب العزة سبحانه وتعالى من آيات ومعجزات القرآن الكريم، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم تطبيقاً حياً دقيقاً لكل كلمة قالها صلى الله عليه وسلم.

ما هو حجم الدنيا الحقيقي؟

روى مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بن سعيد إلى السبابة - في اليم، فلينظر بم ترجع)، وانظر إلى ما ترجع به الإصبع. فهذا هو حجم الدنيا بالنسبة للآخرة، فالدنيا بأموالها وأملاكها وأرضها ومتعتها وزهرتها ما هي إلا قطرات في الآخرة، والدنيا بكل ما فيها من جنيهات ودولارات وريالات، وكل ما يتعلق به القلب لا تساوي إلا قطرات قليلة بالنسبة لليم إذا قورنت بالآخرة، هذا هو حجم الدنيا، فهل نحن نفهم الدنيا بالحجم هذا، أو أنا أعطيناها حجماً أكبر من هذا الحجم الطبيعي.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة)، أي: أنه جلس في فترة القيلولة تحت ظل شجرة، ثم قال: (في يوم صائف، ثم راح وتركها)، فحياتك على الأرض كفترة القيلولة التي أخذتها تحت ظل شجرة في صحراء واسعة جداً مررت بجانبها في يوم من أيام حياتك، واليوم قد مضى وانتهى من زمان، فقارن عمرك في الأرض بالفترة التي سوف تعيشها في القبر بعد ذلك، وقارن كل هذا بالخلود في الآخرة، فهناك أناس في قبورهم منذ ألف سنة أو ألفين أو خمسة آلاف، وأنت مهما عشت فكم سوف تعيش؟ ما بين ستين سنة إلى مائة سنة، وبعد هذا العمر ما الذي سيحصل؟ تذهب وتترك هذه الدنيا، وعند البعث يوم القيامة كيف سيكون الوضع؟ لا يوجد موت آخر، وإنما خلود ولا موت، وعيشة إلى ما لا نهاية، إما جنة وإما نار، وأي شيء فيه ما لا نهاية فكم سيساوي؟ يقول علماء الرياضيات: يساوي صفراً، أي: أنه عندما تقول: حياتك على وجه الأرض كما لو كان أحد يأخذ قيلولة فقط تحت ظل شجرة في يوم من الأيام، فهذه مبالغة؛ لأن هذا كثير جداً، فأنت أقل من هذا، فهذه الفترة تساوي صفراً؛ لأنها تقاس إلى ما لا نهاية يوم القيامة.

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، والناس كنفتيه أو كنفيه)، روايتان في ذلك، يعني: أن الناس يحيطون به، من هؤلاء الناس؟ إنهم الصحابة، هذا الجيل الذين نريد أن نقلدهم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم درساً عملياً: (فمر صلى الله عليه وسلم بجدي أسك ميت)، أي: أن أذنيه صغيرتين، والجدي ذو الأذنين الصغيرتين يكون جَدياً معيباً، والناس لا تشتريه حتى وإن كان حياً فكيف إذا كان ميتاً؟ (فتناوله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأذنه)، أي: أنه مسك بالأذن ليعرّف الصحابة بأن هذا الجدي فيه عيب، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)، أي: من يشتري هذا الجدي الذي به عيب وهو ميت أيضاً بدرهم؟ اسأل نفسك نفس السؤال لتعرف ماذا كان رد الصحابة: أتريد أن تشتري جدياً ميتاً في الشارع سواء كان معيباً أو غير معيب بجنيه أو بنصف جنيه؟ (فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: أتحبون أنه لكم؟ -أي: بدون أي مقابل من المال- قالوا: والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟)، فهم ظنوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعرف بالعيب، فأرادوا أن يوضحوا له الرؤية فقالوا له: إنه لو كان حياً فلن نأخذه، فما بالك وهو ميت؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن الجدي أسك وفي نفس الوقت ميت، فقال صلى الله عليه وسلم: (والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)، أي: أن الدنيا كلها أهون على الله من هذا الجدي المعيب الميت، فلماذا نحن نتصارع من أجل هذه الدنيا؟ ولماذا نخسر بعضنا من أجلها؟ ولماذا نظلم بعضنا من أجلها؟ ولماذا نجد أناساً يكافح مدة عمره فيظلم ويغش ويعصي من أجل أن يكسب كرسياً أو شقة أو وزارة أو ملكاً في هذه الدنيا؟ مع أن الدنيا كلها أرخص من جدي أسك ميت لا يساوي درهماً ولا أقل من درهم.

أترون كيف كان المثل الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم للدنيا؟ فلماذا كل هذا الصراع على الدنيا؟ لأن الناس لم تفهم قيمة الدنيا، فهي مشغولة بالمظهر عن المخبر، ولا تعرف حقيقتها، ولم تعمل المقارنة بين الدنيا والآخرة، وذلك هو الجهل والحمق والغفلة، والمهم أن الناس ضائعة؛ لأنها لا تستطيع أن تفهم القيمة الحقيقية للدنيا، ولو فهمت فعلاً لم يكن هذا هو حالها أبداً.

روى الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، أي: أن الدنيا لا تعدل بعوضة كاملة، بل لا تعدل ولا تساوي جناح بعوضة، لكن نحن نرى الكفار يشربون ماء في الأرض، فلماذا أهل الأرض جميعاً يتقاتلون ويتصارعون من أجل جزء من جناح بعوضة؟ ولماذا كل أعمالنا للدنيا بينما أعمالنا للآخرة قليلة جداً؟ ولماذا نسهر للشغل وللفسحة وللتلفاز ولا نسهر لقيام الليل؟ ولماذا نذهب للعمل وللنادي وللزيارات الشخصية، ثم لا نجد الوقت للذهاب إلى المسجد، ونقول: لا يوجد عندنا وقت للصلاة في الجماعة؟ ولماذا نصرف في الأكل واللبس والمصيف والشاليه، ولا نصرف لفلسطين ولكشمير وللشيشان؟ لأننا لم نفهم حقيقة الدنيا، فالدنيا هذه دنيا وليست عليا، بل أقل من ذلك كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما علّمها لصحابته رضي الله عنهم أجمعين، يقول الله عز وجل في كتابه: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ [يونس:24]، وصلت لأعلى قمة من القمم، ووصلت إلى أكبر درجة من الرقي، حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24]، وكل شيء بالريموت والليزر وعن طريق الأقمار الصناعية، فهم يظنون أنهم قادرون على الأرض، وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [يونس:24]، فهي لحظة وليست يوماً أو يومين أو ثلاثة لتُهلك الأرض، وإنما هي كلمة (كن) إما في النهار أو في الليل، ثم ماذا يحصل؟ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24]وانتهت الدنيا، فهذه كل الدنيا التي نعيش فيها من أولها إلى آخرها، وفي عمق الزمان وفي عمق المكان انتهت الدنيا، فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].

لذا لا بد أن نتفكر في حقيقة هذه الدنيا، وهذه الأمثلة كلها من أجل أن نتفكر في ذلك، ولا بد أن يكون مع التفكر عمل، وإن لم يكن هناك عمل فليس هناك معنى أن تقول لي: جميع الأحاديث التي قلتها أنا أعرفها من أولها إلى آخرها، لكن أين العمل؟ الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم التحذير من أمر الدنيا، وقد رأينا في الأمثلة التي مضت حجم الدنيا، وكان من المفروض أن الناس في ذلك الوقت قد عرفوا حجم الدنيا، وإن شاء الله لن يقعوا فيها، وهل من المعقول أن شخصاً ما يصرف وقته من أجل قطرة ويترك اليم؟ وهل من المعقول أن شخصاً ما يصرف وقته من أجل شجرة فقط ويترك كل الحديقة الواسعة؟ ليس من الممكن ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه قد وضح لهم الحقيقة مرة ومرتين وثلاثاً في أحاديث كثيرة جداً، يكرر مرة أخرى ليحذرهم مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً وعشرة من أمر الدنيا.

تأملوا إلى هذه القصة اللطيفة التي رواها الإمام البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه يقول: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين)، أي: ذهب إلى البحرين ليأتي بالجزية، والبحرين شرق الجزيرة، وليس المقصود بالبحرين مملكة البحرين حالياً.

وكان يعيش هناك مجوس يدفعون الجزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو عبيدة بن الجراح إلى هناك وأتى بالجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمدينة المنورة لها ضواح كثيرة، وكل ضاحية فيها مسجد يصلي الناس فيه؛ لأن بيوتهم كانت بعيدة عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في وسط المدينة المنورة، فلم يكونوا يصلون الصبح والعشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يصلونها في مساجدهم، ويأتون فقط في الأمور الجامعة، أي: أنه من الممكن أن يأتوا في صلاة الجمعة أو في صلاة العيد أو عندما يكون هناك استنفار لأمر ما، فهم في هذه المرة سمعوا بقدوم أبي عبيدة فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده في صلاة الصبح، فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له، أي: أنهم اعترضوا له في الطريق والرسول صلى الله عليه وسلم خارج من صلاة الصبح، وهو يرى أن هؤلاء الناس ليس من عادتهم أن يصلوا الصبح معه في مسجده، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف سبب مجيئهم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوههم وقال: (أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ قالوا: أجل يا رسول الله! قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم) أي: أنه سوف يعطيهم ما يشاءون، لكن في نفس الوقت سيعطيهم درساً تربوياً في غاية الأهمية، فهو صلى الله عليه وسلم يستغل الفرصة لذلك، ففي البداية ابتسم لهم وقال لهم: أبشروا وأملوا، ومن ثم أعطاهم الدرس فقال صلى الله عليه وسلم: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا)، أي: أن الذي يخاف عليهم منه هو الدنيا، ولو بقوا فقراء فإنه لا يخاف عليهم، لكنه يخاف عليهم من المال، ويخاف عليهم من الدنيا، تجد الفقراء مستريحين، لكن الأغنياء غير مستريحين، فتراهم يتساءلون: بكم الدولار في هذا اليوم؟ لماذا الناس تطمع فيِّ؟ فلان هذا يريد أن يكون أفضل مني، فلان أمواله كثرت على أموالي، فكيف أن أنافسه؟ كيف أضربه في السوق؟ كيف أدفعه من أمامي؟ كيف أتملك وأسيطر؟ فالغني لا يستطيع النوم ولا الراحة؛ لأنه في قلق وحيرة وهم، والفقير ينام في الشارع وهو في منتهى الأمان، بينما الملك أو السلطان يحيط به الحراس الكثيرون من الجنود والكتائب ومع ذلك ينام وهو خائف، فهو يتلفت يميناً وشمالاً، يا ترى هل أحد سوف يعمل لي أي شيء؟ هل هناك من يدبر لي أي شيء؟ تجده في خوف وجزع وهم.

فهذه هي الدنيا، وانظر إلى الفقير كيف هو فيها، وانظر إلى الغني كيف هو فيها أيضاً.

إذاً: ما هي السعادة؟ وكيف يمكن أن يكون الشخص سعيداً وهو حيران كل هذه الحيرة، وقلق كل هذا القلق؟ (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم)، ما الذي سوف يحصل إن بسطت علينا الدنيا؟ تأمل هذا الكلام الحكيم، يقول: (فتنافسوها كما تنافسوها فتُهلككم كما أهلكتهم)، فنجد هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف علينا من الدنيا، ولم يكن هذا التحذير مرة أو مرتين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كان كثيراً جداً؛ فقد كان كلما جلس مع الصحابة خوفهم من أمر الدنيا.

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فلم يكن يخاف عليهم من فارس أو الروم، ولم يكن يخاف عليهم من المشركين أو اليهود؛ لأن هذه الأشياء يستطيعون أن يتصرفوا معها، وإنما الخوف عليهم هو من الدنيا.

فانظر إلى نفسك في حياتك، فمن المؤكد أنها قد مرت بك ظروف أو مرت بك أمثلة في الدنيا، فرأيت شخصاً كان مريضاً وكان طائعاً لربنا سبحانه وتعالى، وعندما أغناه سبحانه وتعالى ما الذي وقع؟ كثير منهم ابتعدوا عن طريق الله عز وجل، ونحن نرى هذا كثيراً جداً، وربما يكون قد حصل معنا شخصياً، نسأل الله السلامة.

وروى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة)، أي: أن الدنيا حلوة، وشكلها أخضر كالنبات الجميل الزاهي، لكن هل هناك نبات مهما كان جماله يبقى على الدوام؟ مستحيل، فكل نبات مصيره إلى الفناء ومصيره إلى أن ييبس؛ وهكذا الدنيا حلوة خضرة وسوف تنتهي، ثم يقول: (وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون)، وانظر إلى هذا الفهم العميق، فالله عز وجل قد استخلفنا في هذه الدنيا وهو مراقب لنا في كل خطوة، وما الدنيا إلا اختبار وابتلاء وامتحان، وهذا هو الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أبداً، فنحن في اختبار دائم، ونحن في اختبار مستمر، والدنيا عبارة عن استخلاف للابتلاء والاختبار، فكل حركة لك في الدنيا ينظر إليها الله، فهل أنت مشيت يميناً أم شمالاً، فلو قال لك: امش يميناً فمشيت فلك حسنة، ولو مشيت شمالاً عليك سيئة، وعُدَّ على هذا جميع خطوات حياتك، فالدنيا اختبار، ولهذا سيأتي في نفس الحديث القليل في كلماته والعميق جداً في معانيه، يقول: (فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) قد يُفتن الإنسان أولاً بالمال أو بالمنصب أو بالسلطة أو بالصحة أو بالقوة.. أو بأي فتنة أخرى، ثم تأتي جميع الفتن عندما يقع في فتنة من هذه الفتن، نسأل الله السلامة.

إذاً: مع أن الحديث قليل جداً في كلماته لكنه عميق جداً في المعنى الذي يوضحه، فالدنيا شكلها جميل ومبهر لكنها إلى زوال، والله سبحانه وتعالى جعلها هكذا جميلة في مظهرها الخارجي؛ لتكون اختباراً حقيقياً للناس، فاحذر يا مؤمن أن تنشغل بجمال الدنيا عن امتحانها، الغاية أنك تدخل الامتحان، وليست الغاية أن تنبهر بالجمال الموجود في الدنيا، والمثال يوضح ذلك:

فلو أن طالباً دخل قاعة الامتحان، ثم وزعت بعد ذلك ورق الامتحان، فجلس مبهوراً بحلاوة شكل الورقة وطريقة طباعتها، ونوع المادة التي صنعت منها الورقة، ولون الطباعة والتخطيط الذي في الورقة، وبقي على هذه الحال ساعة وساعتين وثلاثاً حتى انتهى الوقت، ثم قال له شخص: انتهى الوقت ولا يوجد وقت إضافي، عند ذلك لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، فما هو رأيكم في هذا الطالب؟ أنا لا أريد منكم استغرابكم من هذا الطالب؛ لأن كثيراً منا مثل هذا الطالب، وكثيراً منا من ينبهر بشكل الورقة وينسى الامتحان، وكثيراً منا من ينبهر بشكل الدنيا وينسى الامتحان، ثم يأتي في وقت ينتهي فيه الامتحان ولا يوجد هناك رجوع ولا يوجد وقت إضافي، وكذلك عندما تنتهي الدنيا تنتهي، سواء كانت هذه النهاية بنهايتك شخصياً أو بنهاية الأرض كلها، ولا يوجد أحد في هذه الأرض سيخلّف: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

وقال تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34] لا يمكن ذلك، فهذه الحقائق لا بد أن نعيها جيداً، والرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتهد مرة ومرتين وثلاثاً وعشراً وعشرين على أن يعلمها الصحابة ويعلمنا بعد هذا، فانتبه يا مسلم! أن تنسى هذه الحقائق.

وتأملوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يمشي خارج المدينة مع أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فأخذا يمشيان حتى وصلوا إلى جبل أحد خارج المدينة، روى البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: يا أبا ذر ! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: يا أبا ذر أي جبل هذا؟ قلت: أحد، فقال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيئاً أرصده لدين)، يعني: امتلاك جبل من الذهب ليس من أسباب السعادة والسرور، لكن أنا أحتاجه فقط في حالتين: الحالة الأولى: (إلا شيئاً أرصده لدين)، والحالة الثانية: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه)، أي: أنه يوزع هذا الجبل على جميع عباد الله، فيجعل على اليمين ويجعل على الشمال ويجعل من وراء ظهره ولا يجعل أمامه؛ لأن الدنيا لم يجعلها أمامه مدة عمره، فهو يرمي في كل جهة ولا يأخذ شيئاً من الدنيا، أي: أنه لو لم يكن هناك إنفاق في سبيل الله على عباد الله، فإني أكره وجود المال، فأنا أحبه فقط لينفق في سبيل الله. يقول أبو ذر: (ثم مشى فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة)، أي: الأكثرين بالمال في الدنيا وفي الملك والسلطان هم الأقلون في الحسنات يوم القيامة، لكن لا يعني أن كل الأغنياء هالكون، لا، فهناك استثناء في الحديث: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: وقليل ما هم)، أي: أنهم قليلون جداً؛ لأن هذه فتنة كبيرة حقاً، ولن ينجو منها إلا الذي يفهم حقيقة هذه الدنيا.

إذاً: فالذي عنده مال يحاول أن يتصرف فيه بسرعة، فيحاول أن يسرع بالإنفاق في سبيل الله، ويحاول أن يتخلص من الدنيا بالطريقة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، وأوجه الإنفاق في ذلك لا حصر لها ولا عدد، ولو أنك فعلاً مقدر قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة لا يمكن أن تدّخر عندك شيئاً، فهذا أبو ذر يتعلم درساً في غاية الأهمية، ولهذا نستطيع أن نفهم زهد أبي ذر بعد ذلك، فهو قد أخذ هنا درساً خصوصياً، والحمد لله على أنه نقله لنا جميعاً؛ لنتعلم جميعاً من الرسول صلى الله عليه وسلم.

لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الناس من الدنيا ثم يتنعم هو بها، أبداً، فانظروا إلى الصحابة كيف كانت تصف حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

روى مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجه واللفظ لـابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتوي من الجوع ما يجد من الدقل -والدقل: رديء التمر- ما يملأ به بطنه)، فكيف من الممكن بعد هذا أن تَكْبُر الدنيا في عيني عمر بن الخطاب وفي عيون الصحابة، لكن تعال وقل ألف كلمة وألف خطاب وألف مقال عن الزهد من غير تطبيق، ليس من الممكن أن يكون لها أي قيمة، فالذي جعل لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم قيمة كبيرة جداً أن حياته كانت مثالاً عملياً لكل كلمة يقولها صلى الله عليه وسلم.

وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)، أرأيتم ما الذي حصل بعد هذا؟ لقد تغيرت الدنيا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ذاك الذي كان مُطارداً ومُشرّداً ولم يجد أحداً ينصره، لقد أصبح رئيس دولة، وأصبح مُمَكَّنٌ في الأرض، وأصبح عنده بيت مال، وتأتي له الغنائم والجزية من أماكن كثيرة جداً، فكل الدنيا قد تغيرت من حوله، لكن عليه الصلاة والسلام لم يتغير إلى أن مات، وتأمل عند موته ما الذي حصل؟ فقد روت السيدة عائشة ذلك فتقول: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد)، يعني: أي خلق من إنسان أو حيوان، فهو يشمل جميع الخلق، (وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي)، أي: كل الذي كان عندي هو شطر شعير في رف لي، وأين ذلك؟ في بيت زعيم الأمة وقائد الدولة، ولا تستغربوا من ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرف قيمة الدنيا، والذي يستغرب منه حقاً هو الذي يؤمن بالآخرة وحجمها ولم يعمل لها، وهو الذي يعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم والليلة في الدنيا وهو يعلم أنها زائلة، وما أنفق في سبيل الله ساعة وهو يعلم أن الآخرة باقية!! هذا الذي بالفعل يستغرب منه، ولا يستغرب من واحد يعرف أن الدنيا كلها قطرات، ولهذا لم يأخذ منها شيئاً وتركها، فهو سائر عمره يركز على أمر الآخرة.

ومع كل هذا الوصف لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يعيش حياة متوازنة، فكان يعمل ويتكسب المال، وكان إذا أفاء الله عليهم بفيء كان له خمسه، والفيء: هي الغنيمة التي تأتي من غير قتال، وكان يتزوج النساء، وكان يُنجب الأطفال، وكان إذا حضر الطعام وفيه شاة أكل من كتفها، وكان إذا أُهديت له بردة من الصوف لبسها صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعتزل الناس أو يعتزل الحياة أو يعتزل الدنيا مع كل هذا الكلام عن الدنيا، وكان يجعل أصحابه على الولايات، وكان يعطيهم من الأموال، وكان يأمرهم بالعمل، وينهى صلى الله عليه وسلم عن الكسل والخمول والدعة فقد كان يعمل في الدنيا أي عمل مهما كان بسيطاً، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس)، وفي راوية: (خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) فانظر إلى هذا التوجيه النبوي، فلو عملت حمّالاً أو بيّاعاً للحطب فليس عيباً ولا حراماً، فهذا خير من أن تمد يديك إلى الناس، وتأمل إلى الجمال في التعليم النبوي: (فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق)، فليس فقط يأكل، لكنه يأكل ويتصدق، فيُصبح له فضل على غيره، فبدلاً من أن تمد يديك إلى الناس اعمل وتصدق على الناس، ولا تقعد في البيت عاطلاً؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يشجع الناس على العمل، ومع كل هذا التخويف من أمر الدنيا إلا أنه يأمرك ألا تقعد في البيت من غير شغل.

فهذا هو التوازن الذي كان يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وبهذه النظرة المتوازنة انطلق الصحابة في أرض الله عز وجل يعملون ويتكسبون، وينفقون على أنفسهم وأهليهم، ويتاجرون، ويزرعون، ويجاهدون في سبيل الله، ويُصيبون الغنائم، ويتولون المناصب والقيادات، ويخالطون الناس.. وغير ذلك، ومع ذلك لم تمثل لهم الدنيا شيئاً في أعينهم، فما أسهل بذلهم لها في سبيل الله، وما أيسر تنازلهم عنها لإخوانهم، حتى لمن لا يعرفون.

تعالوا لنعيش مع الصحابة في تعاملهم مع الدنيا، ونتعلم من الصحابة كيف كانوا يتعاملون مع الدنيا، وسنتحدث عن قصة سبق وأن تحدثنا عنها بالتفصيل في فتوح الشام، وأعطينا لها درساً كاملاً، إنها قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما عزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول توليه للخلافة، عزله وهو في قمة انتصاره الساحق على جيوش الإمبراطورية الرومانية الرهيبة، وكان ذلك بعد موقعة اليرموك التي انتصر فيها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد كان عدد الروم مائتي ألف رومي، وعدد المسلمين تسعة وثلاثين ألفاً.

ولننظر إلى عظمة جميع المشاركين في هذا الحدث، وهو حدث عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

موقف عمر بعد عزله لخالد

تعالوا لننظر إلى عظمة عمر بن الخطاب الذي عزل خالد بن الوليد ، قال عمر بن الخطاب : إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فخشيت أن يوكلوا إليه ويُفتنوا به، فتأمل إلى فهم وتفكير عمر بن الخطاب ، فقد كانت فتوح الشام وسيلة لدخول الناس الجنة، لكن إن كانت هذه الوسيلة ستبعدنا عن الجنة فليس من الضروري فتحها؛ لأن القضية في حياة المسلمين ليست معركة أو موقفاً أو جيشاً، لا، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فالناس قد فُتنت بـخالد رضي الله عنه، واعتقدت أن النصر من عنده وليس من عند الله عز وجل، فكلما كان خالد بن الوليد موجوداً ينتصرون، وإذا كان خالد بن الوليد في مكان آخر يُغلبون.

إذاً: فالنصر جاء من عند خالد! وهذا الفهم في منتهى الخطورة على عقيدة الناس، ولأن سيدنا عمر بن الخطاب حريص على حياة الناس في الجنة وليس على حياتهم في الشام عزل خالد بن الوليد وهو في أشد الاحتياج إليه، فجيوش المسلمين موزعة بين فارس والروم، ونصر خالد نصر لـعمر بن الخطاب ، وكل الأراضي التي أدخلها خالد بن الوليد في ملك المسلمين، هي في ملك عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فليست المشكلة أن الأراضي تزيد، ولا الانتصارات تتوالى، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فيا ترى هل هؤلاء الناس الذين سيكسبون المعركة من أهل الجنة أم من أهل النار؟ هذه هي القضية التي شغلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يعزل خالداً من أجل مشاكل شخصية أو خلافات قديمة، كما يقول بعض المستشرقين، أو بعض الناس التي فُتنت بمناهج المستشرقين، وليس عمر الذي يضحي بجيشه من أجل أشياء كانت بينه وبين خالد رضي الله عنه وأرضاه، ويُعلم أيضاً من سيرة عمر بن الخطاب أن الدنيا قد غيّرت في حياة كثير من الناس، لكنها لم تغير شيئاً في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: فالقضية أن حسابات الدنيا في ذهن عمر لا تساوي شيئاً إلى جوار حسابات الآخرة، فنأخذ الجيوش ونفتح البلاد، ونأخذ الغنائم والسبايا، ونعيش في الدنيا، لكن ليس على حساب الآخرة أبداً، فأوقف عمر الفتوح في فارس سنة سبع عشرة للهجرة؛ لسبب عجيب، وأنا أعتقد أنه لم يتكرر في الأرض ولا مرة إلا في تلك المرة فقط، ألا وهو كثرة الغنائم، فقد فُتن الناس بالدنيا وتغيروا، فأوقف الفتوحات والانتصارات وحافظ على المسلمين من الدنيا؛ لأنه لم ينس كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الدنيا)، فهو على حذر تام طيلة حياته من الدنيا، ولهذا عزل خالد بن الوليد لكي لا يُفتن الناس بالدنيا.

فانظروا إلى هذا الفهم العميق الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانظروا إلى هذه التضحية العظيمة، فقد ضحى بعزل أكبر قائد من قواته وفي أحرج اللحظات، فهذا هو القائد الناجح، وهذا هو القائد المسلم الذي ينفع أن يكون قائداً في المسلمين.

موقف أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من عزل خالد

ننتقل إلى موقف أبي عبيدة بن الجراح الذي عُين قائداً بدلاً من خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولنرى موقف الزعيم الجديد للشام، فقد أصبح رئيساً لقطاع كبير من الدولة الإسلامية، فهو أمير الشام وما أدراك ما الشام؟ إنها من أغنى الولايات الإسلامية في ذلك الوقت بعد أن فُتحت، فعندما جاءه خطاب التعيين، ما الذي عمله مع هذا الخطاب المهم جداً؟ هذا الخطاب الذي معظم سكان الأرض يتمنى سطراً واحداً منه، فإن الإنسان ليتمنى أن يكون أميراً على شركة صغيرة أو على قطاع أو مصلحة، لكن ماذا كان حال أمير الشام؟ لقد كانت المفاجأة من أبي عبيدة بن الجراح أنه أخفى خطاب العزل لـخالد بن الوليد، فهو لا يريد أن يكون زعيماً، ولم يُعلم خالد بن الوليد بذلك، ثم أتاه خطاباً آخر من عمر بن الخطاب. لأن عمر بن الخطاب كان يعلم أن أبا عبيدة سيأخذ الخطاب ويخبئه ويرفض الإمارة، لكنه رضي الله عنه خبأ الخطاب الثاني حتى انتهت المعركة بقيادة خالد، ووصل الخبر إلى خالد بن الوليد من طريق آخر، أي: أن هناك شخصاً آخر أخبر خالداً بعزل عمر بن الخطاب له، وهو لم يكن يعرف بعد أن أبا عبيدة تم تعيينه أميراً على الجيش، فذهب مسرعاً إلى أبي عبيدة ليلومه على ذلك، فقال أبو عبيدة لـخالد بن الوليد : وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع. أي: ما ترى يا خالد من الملك والإمارة والسلطة سوف يذهب، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله تعالى، سواء الحاكم والمحكوم، أو القائد والجندي، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه لا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة. أي: فتنة الإمارة وفتنة الدنيا. ثم قال: وأوقعهما في الخطيئة، لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم. أي: أن القليل جداً من الأمراء الذين لا يقعون في الدنيا، فلماذا أطلب الإمارة إذا كانت خطرة على ديني، وسوف تصعّب عليّ امتحان الدنيا؟ مسكين فعلاً هذا الذي لا يفهم حقيقة الدنيا.

ثم قام أبو عبيدة وخطب في جيش المسلمين يعظّم من أمر خالد فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة)، فلا يظن ظان أن خالداً عُزل لنقص في دينه أو ضعف في رأيه، أبداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه مدحه وسماه: سيف الله.

انظروا إلى عظمة أبي عبيدة بن الجراح عندما يقول هذا الكلام في هذا الموضع، يعظّم من القائد الذي عُزل وهو قد جُعل في مكانه، وليس أن يذكر سيئاته السابقة وأنه كان يعمل كذا وكذا، بل يعظم من أمر خالد وغير مسرور لتولي الإمارة، لماذا كل هذا؟ لأنه يعرف قيمة الدنيا، ولو أنه لم يعرفها لكان فرحاً جداً بأنه قد أصبح أميراً على الشام.

عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وموقفه من عزل عمر له

برزت عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، هذا الرجل الذي كان في أعظم درجات الملك، وفي أعلى درجات التفوق والانتصار، فقد كان جيش المسلمين في الشام قبل أن يأتي خالد بن الوليد في أزمة خطيرة، ولم يستطع أن يحقق إلا نصراً يسيراً جداً، وظل شهوراً لا يستطيع أن ينتصر، بينما سيدنا خالد كان في العراق له انتصاراته الأولى والثانية والثالثة، ففكر سيدنا أبو بكر بنقل خالد من العراق لينقذ جيوش الشام، وعندما أتى خالد من العراق إلى الشام، وهو في طريقه إلى جيش الشام حقق خمسة انتصارات في الشام، وهذا قبل أن يقابل جيش الشام، وبعد أن قابل جيش الشام كانت موقعة اليرموك الخالدة، أي: أن سيدنا خالداً كان يعمل عملاً لا يستطيع أحد تصوره حتى الناس الذين يعيشون معه، سواء من الصحابة أو غيرهم، وهنا سيدنا أبو بكر يقول: أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد؟

فانظروا إلى خالد وهو في قمة هذا الانتصار يعزل، فماذا كان ردة فعله؟

إن خالداً في كل هذا الطريق وفي كل هذه الانتصارات لم يقل كلمة (أنا) مرة واحدة، بل كان دائماً ينسب الأمر إلى الله عز وجل، وتأمل إلى هذا الموقف في موقعة اليرموك لأحد الجنود المسلمين، إذ يقول بعد أن نظر إلى أعداد الروم الهائلة: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فسمعه خالد بن الوليد فقال له في ثقة شديدة، ثقة الرجل الواثق من ربه سبحانه وتعالى: اصمت أيها الرجل، بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بنصر الله عز وجل، وتقل الجنود بالخذلان لا بعدد الرجال، ووالله لوددت أن الأشقر -أي: فرسه- براء من توجعه وأنهم أُضعفوا في العدد. أي: وددت أن يكون فرسي سليماً والرومان أربعمائة ألف.

فـخالد بن الوليد عندما أتاه قرار العزل سلّم الراية بدون تردد إلى أبي عبيدة بن الجراح ، وقال: ما عليّ أن أقاتل في سبيل الله قائداً أم جندياً. أي: ما دام أن ذلك كله في سبيل الله فلا فرق بين أن أكون قائداً أم جندياً؛ لأنه في النهاية كله في سبيل الله، والغاية هي إرضاء الله عز وجل، سواء أرضاه في كرسي الحاكم، أو في كرسي المحكوم، أو في كرسي القائد، أو في كرسي الجندي، ففي النهاية أنت ترضي الله عز وجل.

ثم قام يخطب في الجيش ويقول: بعث عليكم أمين هذه الأمة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) ولم يقل: بماذا فُضِّل عليّ؟ ولم يقل: ما الذي فعله أبو عبيدة قبل أن آتي من العراق؟ ولم يخبر أنه قد ظُلم بهذا القرار، مع أن كل الجيش كان يحبه حباً لا يوصف، لكن لو كان قال هذا الكلام لأحدث فتنة، لكنه لا يريد ذلك، ولماذا الفتنة؟ من أجل الدنيا، هو يعرف قيمة الدنيا، فهي لا تساوي عنده شيئاً.

فقد خاض رضي الله عنه معارك كثيرة جداً، حتى قيل: إنها قد تجاوزت المائة، وانتصر فيها جميعاً دون هزيمة واحدة، وغنم غنائم شتى، وربح أموالاً عظيمة، ولم يترك بعد موته إلا فرساً وسلاحاً وغلاماً فقط من كل هذه الدنيا، بل وأمر بإرسالها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقال: اجعلوها عُدة في سبيل الله، لكن من يستطيع أن يحمل سيفه بعد موته؟ من يستطيع أن يركب خيله؟ أين ذهبت أمواله وغنائمه؟ لقد أنفقها جميعها في سبيل الله، فقد كان جواداً عظيم الجود، كريماً واسع الكرم، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولا عجب فهو تلميذ نجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما هو أكثر ما تمتع به خالد بن الوليد رضي الله عنه في حياته؟

قال خالد بن الوليد : ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام أحب إليَّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أصبّح فيها العدو. فهذه هي متعته في الدنيا، وليست السلطة ولا الإمارة ولا الأموال ولا النساء، بل الجهاد في سبيل الله، وليس أي جهاد، بل الجهاد الصعب الخطير في البرد والليل والجيش القليل والعدو الكثير، فهذا هو خالد بن الوليد وهذه متعته.

وقال وهو على فراش الموت: لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تهلني -أي: تمطر علي- ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار.

ثم قال كلمته المشهورة وهو يبكي: لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، وها أنا أموت حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء.

فهذه حياة عظيمة خالدة، أتظنون أن ضرب السيوف أو رمي السهام لم يكن يؤلم خالد بن الوليد؟ بل كان يؤلمه، لكنه فقه حقيقة الدنيا، وعلم أنها أيام قليلة يقضيها ثم يموت، علم أن الله عز وجل إن كتب عليه ألماً فسيناله إن لم يحارب أصلاً، وإن كتب عليه موتاً واجهه وإن كان على فراشه، وإن كتب له نجاة سينجيه الله ولو من مائة معركة.

كم عاش خالد بن الوليد في الإسلام؟ أربع عشرة سنة فقط، لكنها أعظم من آلاف الأعوام من أعمار الرجال الآخرين الذين ما فقهوا حقيقة الدنيا، وما فقهوا حقيقة الآخرة، وما فقهوا حقيقة الإسلام.

وعندما مات خالد بن الوليد ارتفعت أصوات النساء تبكي بكاء شديداً في بيته وفي المدينة المنورة بكاملها، فقيل لـعمر بن الخطاب أرسل إليهن فانههن، أي: امنع النساء من هذا البكاء، فقال عمر: وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان ، أي: خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال عمر: على مثل أبي سليمان تبكي البواكي، قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق. أي: أن الإسلام قد جُرح جرحاً لا يلتئم، ثم قال عمر بن الخطاب : كان والله سداداً لنحور العدو، ميمون النقيبة.

ورثته أمه بأبيات من الشعر قالت فيها:

أنت خير من ألف ألف من الناس إذا ما كبت وجوه الرجال

أشجاع فأنت أشجع من ليث غضنفر يذود عن أشبال

أجواد فأنت أجود من سيل غامر يسيل بين الجبال

وهذا جزء من قصيدة طويلة، وعندما سمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: من هذه؟ قالوا: أم خالد ، قال عمر : صدقت، والله إن كان لكذلك، أي: أنه كان خير من ألف ألف من الناس.

فهذه هي الدنيا في منظور خالد وفي منظور عمر وفي منظور أبي عبيدة وفي منظور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فأين الدنيا في عيون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا قيمة لها، فيستوي عندهم أن يقودوا أو يُقادوا بغيرهم من المسلمين، وإذا قادوا لم يفتنوا بإمارة ولا سلطان، وإذا انقادوا لم يحسدوا قائداً ولم يرغبوا في القيادة، وإذا أتتهم الدنيا لم يفرحوا بها، وعلموا أنها ستأتيهم راغمة لو أرادها الله لهم، وإذا ولّت عنهم الدنيا لم يحزنوا عليها، وعلموا أنهم لا نصيب لهم فيها إن أرادها الله لغيرهم، وعلموا أنما الدنيا ما هي إلا معبر للآخرة، وعلموا أن الدنيا أرض مؤقتة يعيشون فيها فترة مؤقتة ثم يغادرون إلى دار لا زوال فيها ولا فناء، وعلموا أن درجاتهم في الدار الآخرة على قدر ما يحصدون في الدنيا من الأعمال الصالحة..

لذلك لم يضيعوا لحظة في سبيل الله، ولم يهتموا لحظة بزخرف الدنيا الزائل، بل نظروا رضي الله عنهم وأرضاهم إلى الدنيا بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالدنيا لا تعدل جناح بعوضة، الدنيا كجدي أسك ميت، الدنيا كشجرة في صحراء كبيرة، والفقر لا يُخشى منه، ولكن يخشى من زهرة الدنيا وزينتها، الدنيا اختبار والله ناظر ما نعمل فيها، والأكثرون هم المقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله ومن خلفه، والتنافس على الدنيا مهلك.

معان رسخت في عقول وقلوب ودماء وجوارح الصحابة، فما عادوا يتكلفون ذلك، بل أصبح ذلك لهم فطرة، وأصبح ذلك لهم طبيعة، فهذه طبيعتهم من بداية خطواتهم على الدنيا إلى أن ماتوا في الدنيا وهم على نفس النسق، فقد فهموا وهذا الفهم لم يذهب من أذهانهم، وفي ذات الوقت لم يعتزلوا الدنيا أبداً، وما تركوا الناس دون دعوة، وما تركوا الكفار دون جهاد، وما تركوا بيوتهم دون إنفاق، وما تركوا أنفسهم دون زواج، وما تركوا الأرض دون إصلاح وبناء وإعمار، لقد استخلفهم الله في الأرض واستعمرهم فيها، فقاموا بذلك حق القيام، ولم يصبهم في ذلك وهن ولا دخن.

وبهذه النظرة المتوازنة سار الصحابة في طريق الدنيا المليء بالأشواك، لكنهم لم يجرحوا في دينهم، ولم يُصابوا في عقيدتهم، ولم يُنقصوا أبداً من أخلاقهم، لذلك وصل الصحابة إلى ما أرادوا أن يصلوا إليه، وصلوا إلى الجنة وإلى النعيم المقيم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.