سلسلة الأندلس دولة الموحدين


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فهذه هي الحلقة الحادية عشرة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط.

في الحلقة السابقة تحدثنا عن سقوط دولة المرابطين السنية المجاهدة، وقيام دولة الموحدين على أكتافها، وذكرنا عوامل سقوط دولة المرابطين، ومنهج التغيير في دولة الموحدين حتى قامت في سنة (541) من الهجرة، وكان أول حكامها هو عبد المؤمن بن علي صاحب محمد بن تومرت المؤسس الحقيقي الفعلي لجماعة ولدولة الموحدين.

كان محمد بن تومرت آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لكن أسلوبه في معاملة الناس كان فظاً شديداً، وقد ربى عبد المؤمن بن علي ومن معه من قادة الموحدين ومن أتباع الموحدين على الزهد والتقشف في الدنيا، وعلى القتال الشديد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنهم تأثروا بأسلوبه في التعامل مع الناس، فكانوا يتعاملون معهم بحدة كبيرة.

جاهد عبد المؤمن بن علي جهاداً كبيراً، فقد كانت له صولات وجولات، وأقام دولة قوية جداً في بلاد المغرب والأندلس تعرف بدولة الموحدين، بدأت سنة (541هـ)، وقد وصفه الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه العبر، وابن العماد في شذرات الذهب، وذكروا عنه أنه كان ملكاً عادلاً سائساً عظيم الهيبة عالي الهمة، كثير المحاسن، متين الديانة، قليل المثل، كان يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير، فإن عموم الناس في زمانه كانوا يلبسون الحرير، فكان من صفاته الحسنة أنه كان لا يلبس الحرير، وكان يصوم الإثنين والخميس، ويهتم بالجهاد والنظر في الملك كأنما خلق لهما، وكان سفاكاً لدماء من خالفه من أتباعه أو غير أتباعه.

و محمد بن تومرت لما كان يرى أن أتباعه ينظرون إلى غنائم دولة المرابطين في حربهم لهم، كان يحرقها حتى لا تتعلق قلوب الناس بهذه الغنائم، والذي كان يفوته قيام الليل من جماعته كان يعزره بالضرب؛ لأنه لا يقوم الليل.

فنشأت جماعة من الطائعين العابدين الزاهدين الورعين، لكن بأسلوب خالف منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب على قيام الليل، ولا يحرق الغنائم، ولا يتبع هذا الأسلوب الشديد جداً والعنيف.

وأصبح عبد المؤمن بن علي مثل محمد بن تومرت في طريقته الشديدة العنيفة، لكن يذكر أيضاً لـعبد المؤمن بن علي أنه لم يكن مقتنعاً بفكرة عصمة محمد بن تومرت ؛ لأنه أبداً ما دعا إلى فكرة عصمة محمد بن تومرت ولا إلى مهديته، ولا إلى فكر الخوارج الذي ظهر في بعض كلام محمد بن تومرت ، وعلى الجانب الآخر فهو لم ينف هذه الأفكار الضالة صراحة؛ لأن معظم شيوخ وقواد الموحدين على هذا الفكر، فخاف عبد المؤمن بن علي من إعلانه أن أفكار محمد بن تومرت كانت ضالة ومخالفة للشرع أن يحدث انقلاباً في دولة الموحدين في هذه الفترة الحرجة جداً في تاريخ المسلمين.

كان في قيام دولة الموحدين وسقوط دولة المرابطين في سنة (541هـ) ومقتل حوالي ثمانين ألف مسلم تداعيات ضخمة لهذا الموقف الخطير في كل بلاد دولة المرابطين، لكن الذي يخصنا في هذا الأمر هو ما حدث في بلاد الأندلس، فكان على النحو التالي:

أولاً: في سنة (542هـ) أي: بعد سنة واحدة من قيام دولة الموحدين سقطت ألمرية في يد النصارى، وألمرية مدينة في جنوب الأندلس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان ذلك بمساعدة فرنسا، واستشهد الآلاف من المسلمين، وسبيت أربع عشرة ألف فتاة مسلمة في سنة (543)، وسقطت طرطوشة ثم لاردة في يد النصارى التي هي مملكة سرقسطة في الشمال الشرقي، التي كان قد حررها المرابطون قبل ذلك، ثم سقطت من جديد في يد النصارى.

وفي سنة (543هـ) أيضاً توسعت مملكة البرتغال في الجنوب، وكانت من أشد ممالك النصارى ضراوة على المسلمين، وفي نفس السنة احتلت تونس من قبل النصارى، فقد بدأ النصارى يحتلون بلاد المغرب العربي، كانت هذه التداعيات متوقعة نتيجة الفتنة الكبيرة التي دارت بين المسلمين في بلاد المغرب العربي.

كان عبد المؤمن بن علي شخصية قوية جداً، وكان عنده فكر سياسي عال جداً، وإدارة في منتهى القوة لبلاد المغرب العربي، فقد بدأ يؤسس دولة قوية هي دولة الموحدين بطريقة مرتبة ومنظمة وشديدة كما ذكرنا، وكانت على النحو التالي:

أولاً: أطلق عبد المؤمن بن علي حرية العلوم والمعارف، وأنشأ كثيراً من المدارس، وهذا على خلاف طريقة محمد بن تومرت ، فقد كان عنده فكر واحد فقط، أما في عهد عبد المؤمن بن علي فقد أصبح الناس يتعلمون أكثر من نهج، ولا يرتبطون بفقه واحد كما كان في عهد محمد بن تومرت .

وكان عبد المؤمن بن علي يتميز بتفرده في الإدارة، فلا يأخذ كثيراً بالشورى، وهذا أيضاً كان فكر محمد بن تومرت الذي كان يعتمد تماماً على اجتهاداته، حتى إنه كان لا يسير على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم لاجتهاده المخالف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عبد المؤمن بن علي مثل محمد بن تومرت في هذا الأمر، لكنه أطلق حرية العلوم والمعارف، وأنشأ كثيراً من المدارس والمساجد وقرن الخدمة العسكرية دائماً بالعلوم، وأنشأ مدارس كثيرة لتعليم وتخريج رجال السياسة والحكم، وكان يمتحن الطلاب بنفسه، فأخرج جيلاً كبيراً من قواد الحروب ومن السياسيين البارعين في دولة الموحدين، وكان يدربهم على كل فنون الحرب، حتى إنه أنشأ بحيرة صناعية كبيرة جداً في بلاد المغرب؛ لتعليم الناس كيف يتقاتلون في الماء، وكيف تقوم الحروب البحرية، وكان يختبر المقاتلين الموحدين بنفسه أيضاً.

وأقام مصانع كثيرة جداً للسلاح، ومخازن ضخمة جداً للسلاح، وأصبحت دولة الموحدين من أقوى الدول الموجودة في المنطقة عسكرياً.

فكل هذا الأمر كان في بلاد المغرب العربي، أما بلاد الأندلس فلم تكن في حسابات عبد المؤمن بن علي في ذلك الوقت؛ لأنه كان يحاول أن يستتب له الأمر في بلاد المغرب العربي حيث أنصار المرابطين في كل مكان، والوضع في بلاد الأندلس هو سقوط أكثر من مدينة في يد النصارى، والتدهور أصبح سريعاً هناك.

وفي سنة (543هـ) بعد هذا التدهور الكبير في بلاد الأندلس قدم منها إلى بلاد المغرب العربي القاضي ابن العربي من أكبر علماء المسلمين، صاحب كتاب (العواصم من القواصم)، وبايع عبد المؤمن بن علي وطلب النجدة لأهل الأندلس، فمبايعته لـعبد المؤمن بن علي تعطي إشارة واضحة إلى أن القاضي ابن العربي رحمه الله يعلم أن عبد المؤمن بن علي لا يدعو إلى أفكار ضالة كالمهدية والعصمة .. وما إلى ذلك، وإلا لم يكن للقاضي ابن العربي أن يأتي من بلاد الأندلس ويبايعه على الطاعة والنصرة.

فـعبد المؤمن بن علي سمع من القاضي ابن العربي ، وجهز جيوشه، وانطلق إلى بلاد الأندلس، وبدأ يحارب هناك حتى ضم معظم بلاد الأندلس الإسلامية التي كانت في أملاك المرابطين إلى دولة الموحدين، وممن قاتلهم بعض الأنصار لدولة المرابطين لكنه انتصر عليهم، واستعاد معظم هذه البلاد في سنة (545هـ).

وفي سنة (552هـ) استعاد بلدة ألمرية التي كانت على البحر الأبيض المتوسط، وفي سنة (555هـ) استعاد تونس من يد النصارى، وبعدها بقليل ضم ليبيا ولأول مرة إلى حدود الموحدين.

إذاً: بلغت في عهده دولة الموحدين كامل مساحة دولة المرابطين بالإضافة إلى ليبيا واقتربت جداً من حدود مصر، وكان عبد المؤمن بن علي يفكر في أن يوحد كل أطراف الدولة الإسلامية تحت راية واحدة تكون لدولة الموحدين.

في سنة (558هـ) توفي عبد المؤمن بن علي وخلفه على الحكم يوسف بن عبد المؤمن بن علي ، وكان عمره (22) سنة، وكان مجاهداً شهماً كريماً، لكنه لم يكن في كفاءة أبيه القتالية، واستمر يحكم من سنة (558هـ- 580هـ) يعني: حوالي (22) سنة متصلة، ونظم الأمور بشدة في كل بلاد الأندلس والمغرب العربي، وكانت له أعمال جهادية ضخمة ضد النصارى، لكن كان يعيبه شيء خطير جداً، وهو أنه كان لا يأخذ بالشورى أبداً، وكان منفرداً برأيه تماماً، وهذا شيء متوقع منه، فإنه من تربية عبد المؤمن بن علي الذي هو من تربية محمد بن تومرت ، فأدى هذا الانفراد بالرأي في فكر يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى بعض الأخطاء في موقعة من المواقع حول قلعة من قلاع البرتغال، التي كان يقاتل فيها بنفسه، وقتل ستة من النصارى ثم طعن واستشهد رحمه الله في هذه الموقعة في سنة (580هـ) من الهجرة.

تولى من بعد يوسف بن عبد المؤمن ابنه يعقوب ولقب في التاريخ بـالمنصور ، وكان معروفاً باسم أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي، وكانت ولايته من سنة (580) من الهجرة إلى سنة (595) من الهجرة، يعني: تولى (15) سنة، ويعد عصر هذا الرجل في دولة الموحدين بالعصر الذهبي، فهو أعظم شخصية في تاريخ الموحدين، ومن أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين، ونقول في نسبته الموحدي من أجل أن نفرق بينه وبين أبي يوسف يعقوب المنصور المريني الذي سيأتي إن شاء الله ذكره في الحلقة القادمة.

أعظم الأعمال التي قام بها أبو يوسف يعقوب المنصور

قام أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بالأمر أحسن قيام، فرفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، وغير كثيراً من أسلوب السابقين، وبدأ يأمر بشيء من الهدوء والسكينة الكبيرة، حتى إنه كان يقف في الطريق ليقضي حاجة المرأة والضعيف، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان زاهداً جداً يلبس الصوف الخشن من الثياب، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته، فاستقامت الأحوال في البلاد وعظمت الفتوحات.

كان حازماً جداً وحليماً جداً، حارب الخمور بشدة، وأحرق كتب الفلاسفة، واهتم بالطب والهندسة، وألغى المناظرات العقيمة التي كانت موجودة في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين، وأسقط الديون عن الأفراد، وزاد بشدة في عطايا العلماء، ومال إلى مذهب ابن حزم الظاهري ، لكن لم يفرضه على الناس، بل إنه حرق الكثير من كتب الفروع، وأمر بالاعتماد على كتاب الله وكتب السنة الصحيحة.

اهتم بالعمران بشدة، فأنشأ مدينة الرباط، وسماها رباط الفتح، وأنشأ المستشفيات، وغرس فيها كثيراً من الأشجار، وخصص الأموال الثابتة لكل مريض لشراء الأدوية، وكان رحمه الله يعود المرضى بنفسه يوم الجمعة، وكان يجمع الزكاة بنفسه، ويفرقها على الناس، وكان كريماً جداً مع الفقراء، فقد وزع في عيد أكثر من سبعين ألف شاة على الفقراء، وهو أول من أعلن صراحة فساد أقوال محمد بن تومرت في قضية العصمة والمهدية، فقال: إن هذا ضلال من الضلالات، وإنه لا عصمة لأحد إلا للأنبياء، وكان مجلسه دائماً عامراً بالعلماء وأهل الخير، ذكر الذهبي رحمه الله في العبر: أنه كان يجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وكان فصيحاً مهيباً يرتدي زي الزهاد والعلماء، وكان مع ذلك عليه جلالة الملوك، تولى الحكم وهو يبلغ من العمر (25) سنة فقط.

أما بلاد الأندلس فقد وطد الأوضاع فيها بشدة، وقوى الثغور، وكان يقاتل هناك بنفسه، وكانت أشد الممالك عليه ضراوة مملكة البرتغال، ثم من بعدها مملكة قشتاله.

وفي سنة (585هـ) حدثت ثورة في بلاد الأندلس في جزر البليار، قادها أتباع المرابطين وهم قبيلة بني غانية، كانت لهم ثورات كثيرة على عبد المؤمن بن علي ومن ثم ابنه، فقاموا بثورتين: الأولى في جزر البليار، والأخرى في تونس، فعاد يعقوب المنصور من بلاد الأندلس إلى جزر البليار فقمع الثورة الأولى ثم إلى تونس فقمع الثورة الثانية، فضعفت لذلك قوة الموحدين في الأندلس؛ لأنه انشغل عن الأندلس بوقف هذه الثورة.

استغل ملك البرتغال هذا الأمر، واستعان بجيوش ألمانيا وإنجلترا البرية والبحرية، فحاصر إحدى مدن المسلمين هناك واحتلها وأخرج المسلمين منها، وفعل بعض الموبقات في هذه المنطقة، ووصل في تقدمه إلى غرب مدينة إشبيلية في جنوب الأندلس، وأصبح الوضع في منتهى الخطورة.

أما بنو غانية فقد كان مقبولاً منهم أن يقوموا بثورات على السابقين؛ لأنه كانت لهم أفكار ضالة خرجت عن منهج الله سبحانه وتعالى، لكن أن يقوموا على هذا الرجل الذي أعاد للشرع هيبته من جديد، والذي أقام الإسلام كما ينبغي أن يقام، وأعاد القرآن والسنة إلى مكانهما الصحيح، فهذا مما لا يجوز، بل كان من المفروض على بني غانية أن يضعوا أيديهم في يد أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي رحمه الله، ويضموا قوتهم إلى قوته؛ ليحاربوا العدو الرئيسي في هذا المكان وهو العدو الصليبي المتمثل في دول الشمال الأندلسي، سواء كانت قشتالة أو البرتغال أو الممالك الأخرى التي ضعفت شوكتها نسبياً، لكن هذا لم يحدث، فالثورة الداخلية أدت إلى ضعف قوة الموحدين في بلاد الأندلس، وإلى هذا الانهيار المتدرج في هذه المنطقة.

قام أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بالأمر أحسن قيام، فرفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، وغير كثيراً من أسلوب السابقين، وبدأ يأمر بشيء من الهدوء والسكينة الكبيرة، حتى إنه كان يقف في الطريق ليقضي حاجة المرأة والضعيف، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان زاهداً جداً يلبس الصوف الخشن من الثياب، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته، فاستقامت الأحوال في البلاد وعظمت الفتوحات.

كان حازماً جداً وحليماً جداً، حارب الخمور بشدة، وأحرق كتب الفلاسفة، واهتم بالطب والهندسة، وألغى المناظرات العقيمة التي كانت موجودة في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين، وأسقط الديون عن الأفراد، وزاد بشدة في عطايا العلماء، ومال إلى مذهب ابن حزم الظاهري ، لكن لم يفرضه على الناس، بل إنه حرق الكثير من كتب الفروع، وأمر بالاعتماد على كتاب الله وكتب السنة الصحيحة.

اهتم بالعمران بشدة، فأنشأ مدينة الرباط، وسماها رباط الفتح، وأنشأ المستشفيات، وغرس فيها كثيراً من الأشجار، وخصص الأموال الثابتة لكل مريض لشراء الأدوية، وكان رحمه الله يعود المرضى بنفسه يوم الجمعة، وكان يجمع الزكاة بنفسه، ويفرقها على الناس، وكان كريماً جداً مع الفقراء، فقد وزع في عيد أكثر من سبعين ألف شاة على الفقراء، وهو أول من أعلن صراحة فساد أقوال محمد بن تومرت في قضية العصمة والمهدية، فقال: إن هذا ضلال من الضلالات، وإنه لا عصمة لأحد إلا للأنبياء، وكان مجلسه دائماً عامراً بالعلماء وأهل الخير، ذكر الذهبي رحمه الله في العبر: أنه كان يجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وكان فصيحاً مهيباً يرتدي زي الزهاد والعلماء، وكان مع ذلك عليه جلالة الملوك، تولى الحكم وهو يبلغ من العمر (25) سنة فقط.

أما بلاد الأندلس فقد وطد الأوضاع فيها بشدة، وقوى الثغور، وكان يقاتل هناك بنفسه، وكانت أشد الممالك عليه ضراوة مملكة البرتغال، ثم من بعدها مملكة قشتاله.

وفي سنة (585هـ) حدثت ثورة في بلاد الأندلس في جزر البليار، قادها أتباع المرابطين وهم قبيلة بني غانية، كانت لهم ثورات كثيرة على عبد المؤمن بن علي ومن ثم ابنه، فقاموا بثورتين: الأولى في جزر البليار، والأخرى في تونس، فعاد يعقوب المنصور من بلاد الأندلس إلى جزر البليار فقمع الثورة الأولى ثم إلى تونس فقمع الثورة الثانية، فضعفت لذلك قوة الموحدين في الأندلس؛ لأنه انشغل عن الأندلس بوقف هذه الثورة.

استغل ملك البرتغال هذا الأمر، واستعان بجيوش ألمانيا وإنجلترا البرية والبحرية، فحاصر إحدى مدن المسلمين هناك واحتلها وأخرج المسلمين منها، وفعل بعض الموبقات في هذه المنطقة، ووصل في تقدمه إلى غرب مدينة إشبيلية في جنوب الأندلس، وأصبح الوضع في منتهى الخطورة.

أما بنو غانية فقد كان مقبولاً منهم أن يقوموا بثورات على السابقين؛ لأنه كانت لهم أفكار ضالة خرجت عن منهج الله سبحانه وتعالى، لكن أن يقوموا على هذا الرجل الذي أعاد للشرع هيبته من جديد، والذي أقام الإسلام كما ينبغي أن يقام، وأعاد القرآن والسنة إلى مكانهما الصحيح، فهذا مما لا يجوز، بل كان من المفروض على بني غانية أن يضعوا أيديهم في يد أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي رحمه الله، ويضموا قوتهم إلى قوته؛ ليحاربوا العدو الرئيسي في هذا المكان وهو العدو الصليبي المتمثل في دول الشمال الأندلسي، سواء كانت قشتالة أو البرتغال أو الممالك الأخرى التي ضعفت شوكتها نسبياً، لكن هذا لم يحدث، فالثورة الداخلية أدت إلى ضعف قوة الموحدين في بلاد الأندلس، وإلى هذا الانهيار المتدرج في هذه المنطقة.

بعد أن قضى أبو يوسف يعقوب المنصور على ثورة بني غانية فكر ماذا يفعل في بلاد الأندلس حتى يعيد الأمر إلى نصابه؟ فرأى أن أكبر قوتين هما قوة قشتالة والبرتغال، لكن قوة البرتغال كانت أشد وأقوى، فعمل اتفاقية مع قشتالة عاهدهم فيها على عدم الحرب لمدة عشر سنوات، ثم اتجه إلى مملكة البرتغال، فتحارب معها حروباً شديدة وانتصر عليها أكثر من انتصار، وحررها بكاملها فعادت من جديد للمسلمين، لكن قبل أن يكتمل له تحريرها نقض ملك قشتالة العهد، وبدأ يعيث في الأرض فساداً، وينطلق على أراضي المسلمين مخالفاً الهدنة التي عقدها معه أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي ، فبعث ألفونسو الثامن -أحد أحفاد ألفونسو السادس - رسالة إلى يعقوب المنصور الموحدي يستفزه فيها بالقتال ويهدده، فمزق المنصور الموحدي خطاب ألفونسو الثامن ، وكتب على جزء منه رداً أعاده مع رسوله؛ قال فيه: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، وأعلن الجهاد والاستنفار العام في كل ربوع المغرب والصحراء، ونشر للناس ما جاء في كتاب ألفونسو الثامن ؛ ليحمسهم، وتسابق الناس للجهاد، وفي ذلك الوقت وقبله بسنوات جاءت أخبار من المشرق جعلت الناس متحمسين أكثر للجهاد، وهو انتصار صلاح الدين الأيوبي المشهور على الصليبيين في موقعة حطين الخالدة في سنة (583) من الهجرة، فحفز أبو يوسف يعقوب المنصور الناس للخروج للجهاد؛ فالناس تريد أن تكرر ما حدث في المشرق، قال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

وفي سنة (590هـ) يبدأ هذا الاستنفار، وفي سنة (591هـ) تنطلق الجيوش من المغرب العربي والصحراء وتعبر مضيق جبل طارق متجهة إلى بلاد الأندلس لتلتقي مع جيش الصليبيين في موقعة مشهورة جداً في التاريخ الإسلامي اسمها موقعة الأرك في (9) شعبان سنة (591) من الهجرة.

والأرك حصن كبير موجود في جنوب طليطلة ويعتبر الحدود بين قشتالة والمسلمين في الأندلس في ذلك الوقت، أعد ألفونسو الثامن جيشاً استعان فيه بمملكتي ليون ونافار وبجيوش ألمانيا وإنجلترا وهولندا، حتى بلغ جيش الصليبيين في هذه الموقعة (225) ألف صليبي، وكان معهم جماعات كبيرة من اليهود في الجيش، من أجل أن يشتروا من الصليبيين أسارى المسلمين، لأنهم متوقعون نصراً كبيراً جداً وسيكون فيه أسرى كثير من المسلمين، ومعلوم أن اليهود طوال التاريخ معهم أموال ضخمة، حتى في عصر دولة الأندلس كانت معهم أموال كثيرة، فأرادوا أن يشتروا بها المسلمين الأسرى من أجل يبيعوهم بعد ذلك في أوروبا.

أعد المنصور الموحدي رحمه الله جيشاً قوامه (200) ألف مسلم، وهذا يبين لنا قدر الحمية التي كانت في قلوب أهل المغرب للقتال في أرض الأندلس، لما سمعوا بأخبار الجهاد وانتصارات المسلمين في حطين.

وأول ما دخل أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي منطقة الأرك عمل اجتماعاً كبيراً جداً أو مجلساً استشارياً يأخذ فيه كل آراء الحضور، وهذا نسق جديد من القيادة، فقد كانت من قبل قيادة دولة الموحدين متميزة بالفردية في الآراء، فهذا أول أمير يغير تماماً من سياسة دولة الموحدين، ويصبح رجلاً يعمل على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فاستعان بكل الآراء المطروحة من قبل قواد الجيش، وأخذ برأي أبي عبد الله بن صناديد زعيم الأندلسيين ليس من قبائل المغرب البربرية، وكان شيئاً جديداً على دولة الموحدين التي كانت في كل حروبها في دولة الأندلس لا تعتمد إلا على جيوش المغرب فقط، لكن في موقعة الأرك بدأ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي يضم قوة الأندلسيين إلى قوة المغاربة، وقوة البربر القادمين من الصحراء، فاستعان بآرائهم، ووضع خطة شبيهة جداً بخطة موقعة الزلاقة، قسم فيها الجيش نصفين، جعل نصفه للقتال في المقدمة، وأخفى جزءاً كبيراً جداً من الجيش خلف التلال، وكان هو على رأس هذا الجيش المختفي خلف التلال، واختار أميراً عاماً للجيش هو كبير الوزراء أبو يحيى بن أبي حفص ، وولى قيادة الأندلسيين لـأبي عبد الله بن صناديد وذلك حتى لا يوغر صدور الأندلسيين فلا يتولى عليهم بربري أو مغربي.

وقسم المقدمة إلى مقدمة أولى تواجه جيش النصارى جعلها من الجيش النظامي الموحدي ومن الأندلسيين، وهذه تنقسم إلى ميمنة من الأندلسيين والقلب من الموحدين والميسرة من العرب، ثم جعل من خلفهم مجموعة المتطوعين غير النظاميين، والهدف من وضع الجيوش النظامية في المقدمة لأجل تلقي الصدمة الأولى والضربة الأولى للنصارى، فيصدونهم صداً عظيماً يوقع الرهبة في قلوب النصارى، ويرفع من معنويات الجيش الإسلامي، أما المتطوعون غير النظاميين الذين ليست لهم كفاءة عالية جداً في القتال فوضعهم خلف الجيوش، ومكث هو خلف التلال، ووزع الخطباء على أطراف الجيش يحمسون الناس على الجهاد، وعند اكتمال الحشد والاستعداد للقتال أرسل الأمير المنصور الموحدي رسالة إلى كل المسلمين يقول فيها: إن الأمير يقول لكم: اغفروا له فإن هذا موضع غفران، وتغافروا فيما بينكم، وطيبوا نفوسكم، وأخلصوا لله نياتكم؛ فبكى الناس جميعاً وعلموا أن هذا موقف وداع، فالتقى المسلمون مع بعضهم البعض وعانقوا بعضهم البعض، وودعوا الدنيا وأقبلوا على الآخرة في موقعة الأرك الكبيرة في سنة (591) للهجرة.

وكان موقع النصارى في أعلى تل والمسلمون من أسفل، لكن ذلك لم يرد المسلمين أبداً عن القتال، فنزل القشتاليون كالسيل الجارف المندفع من علٍ، وهبطوا من مراكزهم كالليل الدامس وكالبحر الزاخر أسراباً تتلوها أسراب وأفواجاً تعقبها أفواج، وكانت الصدمة كبيرة جداً على المسلمين ووقع كثير من المسلمين شهداء وثبت المسلمون ثم رجعوا ولما رأى المنصور نزل بنفسه دون جيشه في شجاعة نادرة يمر على كل الفرق والصفوف يقول بنفسه: جددوا نياتكم وأحضروا قلوبكم، ثم عاد إلى مكانه من جديد، واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يردوا النصارى في الهجوم الأول، ثم حدث هجوم آخر للصليبيين وانكسار للمسلمين ثم ثبات من جديد ورد للهجود للمرة الثانية، ثم الهجوم الثالث للنصارى وكان هجوماً شرساً وكان مركزاً على القلب من الموحدين، وسقط آلاف من المسلمين شهداء، واستشهد القائد العام للجيش أبو يحيى بن أبي حفص ، وظن الصليبيون أن الدائرة قد دارت على المسلمين، ونزل ملك قشتالة إلى الموقعة يحوطه عشرة آلاف فارس، عندئذ تحركت ميمنة المسلمين من الأندلسيين لإنقاذ القلب، وهاجمت بشدة على النصارى، واستطاعت حصار العشرة آلاف جندي بما فيهم ألفونسو الثامن ، وحدث اضطراب كبير جداً في الجيش القشتالي، واستمرت الموقعة طويلاً، وارتفعت سحب الغبار الكثيف، وأصبح لا يسمع إلا صوت الحديد وقرع الطبول وصيحات التكبير من جيش المؤمنين، وبدأت بالتدريج الدائرة تدور على النصارى، والتفوا حول ملكهم وقد تزعزت قلوبهم، ورأى ذلك يعقوب المنصور الموحدي فأمر جيشه الكامن خلف التلال بالتحرك وانطلق معهم وفي مقدمة جيشه العلم الأبيض الكبير علم الموحدين منقوشاً عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله لا غالب إلا الله، فارتفعت بشدة معنويات الجيش المؤمن، وأسلم الصليبيون رقابهم لسيوف المسلمين، وانتصر المسلمون انتصاراً باهراً في يوم الأرك، وأصبح يوم الأرك يوماً من أيام الإسلام المشهودة مثل الزلاقة؛ بل فاق الزلاقة، وهرب ألفونسو الثامن في فرقة من جنوده إلى طليطلة، وطارت أخبار النصر في كل مكان، وأعلنت أخبار الانتصار العظيم من كل منابر المساجد في أطراف دولة الموحدين الشاسعة، بل وصلت الأخبار إلى المشرق الإسلامي وكانت سعادة لا توصف؛ لأنها كانت بعد ثمان سنوات من انتصار حطين العظيم.

آثار ونتائج موقعة الأرك

كانت لموقعة الأرك آثار عظيمة ونتائج كثيرة:

أولاً: النصر المادي: أقل تقدير لقتلى الصليبيين في اليوم الأول للأرك كان ثلاثين ألف مقاتل، لكن المسلمين بعد موقعة الأرك تبعوا جيش النصارى، ذكر في نفح الطيب للمقري وفي وفيات الأعيان لـابن خلكان أن عدد قتلى الصليبيين وصل إلى (146) ألف قتيل من أصل (225) ألف مقاتل، وعدد الأسرى ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف أسير، وقد منَّ عليهم المنصور بغير فداء إظهاراً لعظمة الإسلام ورأفته بهم، وعدم اكتراثه بقوة الصليبيين.

أما الغنائم فلا تحصى؛ فقد بلغ عدد الخيول كما جاء في نفح الطيب ثمانين ألفاً من الخيول، ومائة ألف من البغال وما لا يحصى من الخيام، وقد وزع المنصور كل هذه الغنائم الضخمة وكل هذه الأموال التي حصدت من جيش الصليبيين على الجيش أربعة أخماس، واستغل الخمس الباقي في بناء مسجد كبير جداً في إشبيلية تخليداً لذكرى الأرك، وأنشأ له مئذنة طويلة يبلغ طولها (200) متر، وكانت من أعظم المآذن في الأندلس في ذلك الوقت، ولما سقطت إشبيلية بعد ذلك في يد النصارى تحول المسجد إلى كنيسة، وهو موجود إلى الآن كنيسة في يد الصليبيين ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثانياً: النصر المعنوي الكبير جداً، وعلو نجم الموحدين، وارتفعت بشدة معنويات الأندلسيين، وهانت عليهم قوة الصليبيين، وارتفعت معنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي، حتى أعتقت الرقاب الكثيرة في المشرق والمغرب فرحاً بهذا الانتصار، وارتفعت معنويات الموحدين حتى فكروا بجدية في عهد المنصور الموحدي في ضم كل بلاد المسلمين تحت راية واحدة، وبالذات أن المعاصر لـأبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي في المشرق هو صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، لكن لم يرد الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر أن يتم، فمات المنصور الموحدي قبل أن يكتمل حلمه في توحيد المسلمين جميعاً تحت راية واحدة.

ثالثاً: حدثت صراعات شتى بين ليون ونافار من ناحية، وبين قشتالة من ناحية أخرى ألقى عليهم ألفونسو الثامن مسئولية الهزيمة، وحدثت لهم هزيمة نفسية كبيرة جداً، فأتت السفارات من بلاد أوروبا تطلب العهد والاتفاق مع المنصور الموحدي رحمه الله، ومن أشهرها سفارة إنجلترا التي أتت المنصور الموحدي في أواخر أيامه، واستمرت حركة الفتوح وفتح المسلمون بعض الحصون الأخرى، وضموا الشمال الشرقي من جديد للمسلمين كما كان في عهد المرابطين، وحاصروا طليطلة سنوات عديدة، لكن كما ذكرنا من قبل كانت طليطلة من أحصن المدن الأندلسية فلم تفتح.

رابعاً: تمت معاهدة جديدة بين قشتالة وبين المسلمين على أن تكون الهدنة بينهما عشر سنوات من سنة (595هـ) إلى سنة (605هـ) فلا اقتتال فيها، فحاول المنصور أن يرتب الأمور من جديد في بلاد الموحدين.

إذاً: تأسست دولة الموحدين في سنة (541هـ)، لكن الدعوة إليها بدأت في سنة (512هـ)، واستمر عهد القوة فيها من سنة (541هـ) في ارتفاع متتال إلى أن جاء المنصور الموحدي فكان عصره العصر الذهبي لدولة الموحدين من سنة (580هـ) إلى سنة (595هـ).

كانت لموقعة الأرك آثار عظيمة ونتائج كثيرة:

أولاً: النصر المادي: أقل تقدير لقتلى الصليبيين في اليوم الأول للأرك كان ثلاثين ألف مقاتل، لكن المسلمين بعد موقعة الأرك تبعوا جيش النصارى، ذكر في نفح الطيب للمقري وفي وفيات الأعيان لـابن خلكان أن عدد قتلى الصليبيين وصل إلى (146) ألف قتيل من أصل (225) ألف مقاتل، وعدد الأسرى ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف أسير، وقد منَّ عليهم المنصور بغير فداء إظهاراً لعظمة الإسلام ورأفته بهم، وعدم اكتراثه بقوة الصليبيين.

أما الغنائم فلا تحصى؛ فقد بلغ عدد الخيول كما جاء في نفح الطيب ثمانين ألفاً من الخيول، ومائة ألف من البغال وما لا يحصى من الخيام، وقد وزع المنصور كل هذه الغنائم الضخمة وكل هذه الأموال التي حصدت من جيش الصليبيين على الجيش أربعة أخماس، واستغل الخمس الباقي في بناء مسجد كبير جداً في إشبيلية تخليداً لذكرى الأرك، وأنشأ له مئذنة طويلة يبلغ طولها (200) متر، وكانت من أعظم المآذن في الأندلس في ذلك الوقت، ولما سقطت إشبيلية بعد ذلك في يد النصارى تحول المسجد إلى كنيسة، وهو موجود إلى الآن كنيسة في يد الصليبيين ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثانياً: النصر المعنوي الكبير جداً، وعلو نجم الموحدين، وارتفعت بشدة معنويات الأندلسيين، وهانت عليهم قوة الصليبيين، وارتفعت معنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي، حتى أعتقت الرقاب الكثيرة في المشرق والمغرب فرحاً بهذا الانتصار، وارتفعت معنويات الموحدين حتى فكروا بجدية في عهد المنصور الموحدي في ضم كل بلاد المسلمين تحت راية واحدة، وبالذات أن المعاصر لـأبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي في المشرق هو صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، لكن لم يرد الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر أن يتم، فمات المنصور الموحدي قبل أن يكتمل حلمه في توحيد المسلمين جميعاً تحت راية واحدة.

ثالثاً: حدثت صراعات شتى بين ليون ونافار من ناحية، وبين قشتالة من ناحية أخرى ألقى عليهم ألفونسو الثامن مسئولية الهزيمة، وحدثت لهم هزيمة نفسية كبيرة جداً، فأتت السفارات من بلاد أوروبا تطلب العهد والاتفاق مع المنصور الموحدي رحمه الله، ومن أشهرها سفارة إنجلترا التي أتت المنصور الموحدي في أواخر أيامه، واستمرت حركة الفتوح وفتح المسلمون بعض الحصون الأخرى، وضموا الشمال الشرقي من جديد للمسلمين كما كان في عهد المرابطين، وحاصروا طليطلة سنوات عديدة، لكن كما ذكرنا من قبل كانت طليطلة من أحصن المدن الأندلسية فلم تفتح.

رابعاً: تمت معاهدة جديدة بين قشتالة وبين المسلمين على أن تكون الهدنة بينهما عشر سنوات من سنة (595هـ) إلى سنة (605هـ) فلا اقتتال فيها، فحاول المنصور أن يرتب الأمور من جديد في بلاد الموحدين.

إذاً: تأسست دولة الموحدين في سنة (541هـ)، لكن الدعوة إليها بدأت في سنة (512هـ)، واستمر عهد القوة فيها من سنة (541هـ) في ارتفاع متتال إلى أن جاء المنصور الموحدي فكان عصره العصر الذهبي لدولة الموحدين من سنة (580هـ) إلى سنة (595هـ).

في سنة (595هـ) يموت المنصور الموحدي فجأة وله من العمر (40) سنة فقط، فقد حكم البلاد (15) سنة من سنة (580هـ - 595هـ)، واستلم زمام الحكم وعمره (25) سنة، فتولى من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو محمد عبد الله وكان عمره (18) سنة فقط، وهذا العمر ليس بالسهل فقد يقود البلاد والجيوش .. وما إلى ذلك من الأمور، وقد وجد قبل هذا قواد للمسلمين كانوا يبلغون من العمر (18) سنة أو أصغر من ذلك، لكن المشكلة أن الناصر لدين الله لم يكن على شاكلة أبيه في القيادة؛ وذلك لأن الناصر لدين الله لم يكن قد اكتسب من الخبرات التي تؤهله أن يكون قائداً فذاً كأبيه في القتال، لكن الموت المفاجئ للمنصور الموحدي وضع على رئاسة البلاد هذا الشاب.

وكان المفروض على دولة الموحدين أن ينتخبوا من بينهم من يصلح للقيادة بدلاً من الناصر لدين الله ، فقد كان شاباً طموحاً قوياً مجاهداً لكن لم يكن في كفاءة أبيه، والبلد محاطة بالأعداء من كل مكان، والصليبيون هزموا في موقعة الأرك منذ سنوات قليلة، وهم يريدون أن يعيدوا الكرة من جديد على بلاد المسلمين.

بعد وفاة المنصور قامت من جديد ثورات بني غانية المؤيدة لدولة المرابطين السابقة، فحدثت خلخلة في داخل الدولة الإسلامية، فوجه الناصر لدين الله جل طاقته لمحاربتهم في صولات وجولات كثيرة حتى أخمدها تماماً في سنة (604هـ)، أي: أنها استمرت تسع سنوات كاملة من حكمه، وفي هذه الأثناء تجدد الأمل من جديد عند الفونسو الثامن ، وحرص على تجهيز العدة لرد الاعتبار، وأقسم ألا يقرب النساء ولا يركب فرساً ولا بغلاً وأن ينكس الصليب حتى يأخذ بثأره من المسلمين، وأخذ يعد العدة ويجهز الجيوش ويعقد الأحلاف، ويعد الحصون تمهيداً لحرب جديدة مع المسلمين ثم خالف العهد والهدنة وهجم على بلاد المسلمين، قبل انتهاء الهدنة والمعاهدة التي عقدها معه المنصور قبل موته، وحرق الزروع ونهب القرى وقتل العزل من المسلمين.

وكان هذا بداية حرب جديدة من الصليبيين ضد المسلمين، بينما المسلمون كانوا قد أنهكوا في رد الثورات المتتالية لبني غانية في داخل دولة الموحدين، أضف إلى ذلك أن القيادة ليست بكفاءة السابقين من قادة الموحدين، وكان عند الناصر لدين الله العيب الذي كان في أجداده وكان في أشياخ الموحدين وهو مخالفة الشورى، بخلاف أبيه، فهو الوحيد من قادة الموحدين الذي اهتم بالشورى وجمع من حوله كل الآراء، ولذلك أفلح وساد وتمكن ونصره الله سبحانه وتعالى.

أما الناصر لدين الله فكان على عكس أبيه تماماً، فقد كان معتداً برأيه، وأمر آخر خطير جداً عند الناصر لدين الله أنه استعان بوزير ذميم الخلق جداً اسمه أبو سعيد بن جامع ، فقد شك كثير من المؤرخين في نواياه، وشك كثير من الأندلسيين والمغاربة المعاصرين له في اقتراحاته، فهو من أصل إسباني، ويقال: إنه كانت له اتصالات مع الصليبيين أدت إلى أمور خطيرة جداً في دولة الموحدين، فهذا هو الرجل الوحيد الذي كان يأمن له الناصر لدين الله ولم يستعن بكل آراء أشياخ الموحدين وقادة الأندلسيين الموجودين في تلك الفترة.

ومن الناحية الأخرى فإن جيش النصارى حصل فيه تعبئة روحية كبيرة جداً، قادها البابا بنفسه في روما، وقالوا: إنها حرب صليبية مقدسة، ورفعوا صور المسيح، وقال البابا: إن من يشارك هذه الموقعة سيمنح له الغفران التام، وهذا كما حدث في موقعة الزلاقة، فحصل استنفار عام في كل بلاد أوروبا اشتركت فيه معظم الدول الأوروبية، حتى وصل الاستنفار إلى القسطنطينية في شرق أوروبا التي تبعد كثيراً عن بلاد الأندلس، وتولت فرنسا الإنفاق على الجيوش بالإضافة إلى إمداد الرجال للجيش القشتالي؛ فإن فرنسا يهمها جداً هزيمة المسلمين؛ لأنها البلد التالية لبلاد الأندلس إن قامت لدولة الموحدين دولة قوية كانت الدائرة على بلاد فرنسا في المرحلة التالية.

ثم إن مملكة نافار كانت معاهدة للمنصور الموحدي قبل أن يموت، ومع ذلك فقد أرسل إليها البابا رسالة يحضها فيها على نبذ معاهدة الموحدين، وعلى إرجاع العلاقة مع القشتاليين، ومن المعروف أن القشتاليين كما ذكرنا من قبل قد اختلفوا مع مملكة ليون ونافار بعد هزيمة الأرك، فالبابا يريد منهم التوحد في مواجهه الصف المسلم، فسمع له ملك نافار وأطاع، وتوحدت جيوش أوروبا حتى بلغ الجيش الأوروبي في الموقعة التي ستحدث الآن بين الصليبيين وبين المسلمين مائتي ألف صليبي يتقدمهم الملوك والرهبان.

وفي المقابل فإن الناصر لدين الله أعلن الجهاد وجمع المجاهدين من بلاد المغرب العربي والأندلس، حتى وصل إلى (500) ألف مقاتل؛ يعني: كان ضعف جيش النصارى أو أكثر، وأقل رواية ذكرت عدد المسلمين أنهم كانوا (260) ألف مقاتل، والنصارى لم يزيدوا على (160) ألف نصراني، يعني: كان جيش المسلمين في كل الروايات ضعف جيش النصارى أو أكثر، وانطلق الناصر لدين الله بجيشه من بلاد المغرب وعبر مضيق جبل طارق وتوجه إلى منطقة عرفت في التاريخ بمنطقة العقاب؛ لوجود قصر قديم فيها اسمه: العقاب دارت حوله الموقعة، لكن سبحان الله فإن اسم الموقعة كان اسماً على مسمى، فقد كانت عقاباً للمسلمين على مخالفتهم، وعقاباً للناصر على اعتداده برأيه، وعقاباً للمجاهدين على انغماسهم في الغنائم والأموال التي فتحت عليهم بعد عهد المنصور الموحدي رحمه الله، وكانت عقاباً للثورات المتكررة التي دارت على دولة الموحدين بعد صلاح حالها، والتي أدت إلى إنهاك قوى الموحدين ضد النصارى، وما جاز لهم أبداً أن يفعلوا هذا الأمر بعد أن صلح حال الموحدين.

المهم أن الناصر لدين الله دخل أرض الأندلس بهذا العدد الكثيف من المسلمين، وأول ما دخل حاصر قلعة كبيرة جداً للنصارى اسمها قلعة سلبطرة؛ وكانت هذه القلعة حصينة جداً في جنوب طليطلة، وكان الصليبيون في داخل هذا الحصن قليلين جداً، لكن من حصانة القلعة لم يستطع المسلمون أن يفتحوها، فاجتمع قادة الموحدين وقادة الأندلسيين على الناصر لدين الله وأشاروا عليه أن يترك هذه القلعة ويتجه إلى جيش النصارى في الشمال حتى يحاربه؛ لأنه سوف تنهك قوة الجيش في حصار هذه القلعة الحصينة جداً، بل يترك عليها حامية ثم يتجه إلى الشمال، لكن الناصر لدين الله رفض هذا الأمر واستمع لرأي وزيره الذي أشار عليه بعدم مغادرة هذه القلعة بدون فتحها، فظل يحاصر قلعة سلبطرة حوالي ثمانية شهور كاملة، فكان من جراء هذا الأمر ما يلي:

أولاً: أضاع مدة ثمانية أشهر كان من الممكن أن ينتصر فيها على النصارى قبل أن يعدوا عدتهم.

ثانياً: أكمل النصارى عدتهم في هذه الفترة الطويلة واستجلبوا أعداداً أخرى من أوروبا.

ثالثاً: هلك الآلاف من المسلمين في صقيع جبال الأندلس في ذلك الوقت، فإن الناصر لدين الله كان قد دخل بلاد الأندلس في شهر مايو، وشهر مايو شهر مناسب جداً للقتال، لكنه بقي يحاصر قلعة سلبطرة حتى قدم الشتاء القارس، وبدأ المسلمون يهلكون من شدة البرد وشدة الانهاك في هذا الحصار الطويل.

أما الجيش النصراني فقد قدم من الشمال، وقسم نفسه إلى ثلاثة جيوش كبيرة:

الجيش الأول: هو الجيش الأوروبي، والجيش الثاني: هو جيش إمارة أراجون، والجيش الثالث: هو أضخم الجيوش جميعاً، وهو جيش قشتالة والبرتغال وليون ونافار، وقامت هذه الجيوش بحصار قلعة رباح التي امتلكها المسلمون بعد موقعة الأرك، وكان على رأس هذه القلعة القائد الأندلسي البارع الشهير: أبو الحجاج يوسف بن قادس رحمه الله من أشهر قواد الأندلس في تاريخ الأندلس، لكن حوصرت هذه القلعة حصاراً طويلاً من النصارى، وطال الحصار أياماً كثيرة حتى أدرك أبو الحجاج يوسف بن قادس أنه لن يستطيع أن يفلت من هذا الحصار، وبدأت بعض الحوائط في هذا الحصن تتهاوى أمام جيش مملكة أراجون، فأراد أبو الحجاج يوسف بن قادس أن يحقق الأمن والأمان لجيشه، وأن يتحيز إلى فئة وينضم إلى جيش المسلمين، فعقد معاهدة مع النصارى على أن يترك لهم القلعة بكامل المؤن والسلاح ويتجه هو والمسلمون معه جنوباً للقاء الجيش الإسلامي دون مؤن ولا سلاح، فوافق على ذلك ألفونسو الثامن وبالفعل انسحب أبو الحجاج يوسف بن قادس ومعه المسلمون، واتجه إلى جيش الناصر لدين الله .

فاعترض جيش النصارى الأوروبي المتحد مع جيش قشتالة على هذا الانسحاب دون أن يقتلوا جميعاً، لكن ألفونسو الثامن كان له رأي مخالف لهم، كان يريد أن يترك المسلمين حتى إذا حاصر مدينة أخرى من مدن المسلمين فتحوا له المدينة؛ لأنه لو قتل هؤلاء بعد العهد لم يفتح له المسلمون بعد ذلك مدنهم، فاختلف الأوروبيون مع ألفونسو الثامن وكان من جراء هذا الاختلاف أن انسحب 50 ألفاً من الصليبيين الأوروبيين قبل موقعة العقاب، وهذا كان نصراً كبيراً جداً للمسلمين، وهزة كبيرة جداً في جيش النصارى، وأصبح جيش المسلمين أضعاف الجيش النصراني بعد هذا الانسحاب، لكن حصل بعد هذا الأمر أن عاد أبو الحجاج يوسف بن قادس إلى الناصر لدين الله وقد ترك قلعة رباح وسلمها بالمؤن والسلاح إلى الصليبيين، فيشير عليه الوزير السيئ أبو سعيد بن جامع بقتل القائد المسلم البارع ابن قادس بتهمة التقاعس عن حماية القلعة، فقتله الناصر لدين الله ، وهذا ولا شك خطأ كبير جداً من الناصر لدين الله ، وذلك لما يلي:

أولاً: أن الناصر لدين الله أخطأ قبل هذا بحصار قلعة سلبطرة حوالي ثمانية شهور كاملة.

ثانياً: قتل القائد المجاهد المسلم ابن قادس الأندلسي رحمه الله؛ فإنه لم يخطئ بهذا القرار الذي اتخذه، بل كان متحرفاً لقتال، ولو مكث لهلك ولو لم يهلك لحيدت قوته عن الاشتراك في الموقعة لحصارهم.

وحتى لو أخطأ القائد فلا يكون أبداً عقابه القتل، وقد علم أنه لم يتعمد الخطأ، بل كان هذا اجتهاده، ففي حروب الردة أخطأ عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه في أحد المواقع، وكان خليفة المسلمين أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعنفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأوضح له خطأه، ثم أعاده من جديد هو وجيشه إلى القتال لمساعدة جيش آخر من جيوش المسلمين، بل قال لرئيس الجيش الآخر استعن بـعكرمة بن أبي جهل فإن له رأياً، وهذا الصنيع من أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لئلا تتحطم قوة عكرمة بن أبي جهل وتتحطم معنوية الجيش المسلم.

كان هذا القتل بجانب أنه فقد قوة كبيرة جداً بفقد هذا القائد البارع فقد أيضاً قوة الأندلسيين، الذين شعروا أن هناك فارقاً بين المغاربة وبين الأندلسيين، وهذا بالطبع كان له أثر سلبي كبير على قلوب الأندلسيين.

التقت الجيوش، الجيش الصليبي القليل العدد بالنسبة لجيش المسلمين، فقسم الناصر لدين الله جيشه كما قسمه ورتبه السابقون، لكن الواضح أنه لا يقرأ التاريخ الذي قرأه من قبل المنصور الموحدي ويوسف بن تاشفين رحمهما الله، فقسم جيشه إلى فرقة أمامية وفرقة خلفية، وجعل الفرقة الأمامية من المتطوعة والبالغ عددهم (160) ألف متطوع، فكانوا في مقدمة الجيش وجعل من خلفه الجيش النظامي الموحدي.

فهؤلاء الذين في المقدمة متحمسون للقتال، لكن ليست لهم الخبرة والدراية بالقتال كالفرقة المنتخبة من أجود مقاتلي الصليبيين التي وضعت في مقدمة الجيش الصليبي، وكان المفروض أن يضع في المقدمة الجيش النظامي القادر على رد شوكة النصارى حتى يتملك الخطوات الأولى في الموقعة، ويرفع من معنويات المسلمين، ويحط من معنويات النصارى، لكن الذي حدث أنه وضع المتطوعة في المقدمة، ووضع في ميمنة المسلمين الأندلسيين، وجيش الأندلسيين في قلوبهم أسى كبير جداً لقتل القائد الأندلسي المغوار الكبير أبي الحجاج يوسف بن قادس ، ولم يكن المفروض أن يضعهم في المقدمة حتى يلاقوا الصدمة الأولى لجيش النصارى.

فتلخيص الأخطاء ما يلي: أولاً: حصار قلعة سلبطرة لمدة ثمانية شهور.

ثانياً: قتل القائد الأندلسي المشهور ابن قادس.

ثالثاً: ترتيبه الجيش وتنظيم الجيش داخل أرض الموقعة لم يكن مناسباً.

رابعاً: الاستعانة ببطانة السوء التي هي ممثلة في الوزير السيئ الخلق أبي سعيد بن جامع.

خامساً وهو أمر في منتهى الخطورة وله آثاره المترتبة على جيش المسلمين: الاعتقاد في قوة العدد والقوة.

دخل الناصر لدين الله الموقعة وهو يعتقد أنه لا محالة منتصر؛ فجيشه أضعاف الجيش الذي أمامه، ولسان حاله: إذا كان أجداده انتصروا بالجيوش القليلة، فمن باب أولى أن ينتصر بجيشه الكثير، وصدق الله القائل: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، وهكذا تكررت من جديد حنين في أرض الأندلس، كما تكررت في بلاط الشهداء، وفي موقعة الخندق مع عبد الرحمن الناصر ومعه أعظم قوة، فتكررت مع الناصر لدين الله في موقعة العقاب، وهو في أعظم قوة وأكبر جيش للموحدين على الإطلاق، بل أكبر جيوش المسلمين في بلاد الأندلس منذ فتحت في سنة (92) من الهجرة.

وبعد هذه الأخطاء المتتالية تحدث الهزيمة، فقد هجم المتطوعون من المسلمين على مقدمة النصارى؛ لكن ارتطمت المقدمة ارتطاماً شديداً بقلب قشتالة المدرب على القتال، فصدهم صداً كبيراً ومزق مقدمة المسلمين وقتل الآلاف من المسلمين في الضربة الأولى للنصارى، واخترق النصارى فرقة المتطوعة كلها والبالغ عددهم (160) ألف مقاتل، ووصل إلى قلب الجيش الموحدي النظامي، لكن الجيش الموحدي النظامي استطاع أن يصد الهجمة بعد أن هبطت بشدة معنويات الجيش الإسلامي نتيجة قتل الآلاف؛ وارتفعت معنويات الجيش الصليبي نتيجة هذا السفك الكبير في دماء المسلمين.

رأى ألفونسو الثامن ذلك فأطلق قوات المدد المدربة لإنقاذ مقدمة الصليبيين، وبالفعل كان لها أثر كبير، وعادت من جديد الكرة للصليبيين على المسلمين، وفي هذه الأثناء حدث حادث خطير في جيش المسلمين لما رأى الأندلسيون ما حدث في متطوعة المسلمين من آلاف الشهداء وتسخط الأندلسيين من دولة الموحدين لما قتل قائدهم، واستناد الجيش الإسلامي إلى العدد وليس إلى الله سبحانه وتعالى.

كل هذه الأمور عملت في قلوب الأندلسيين ففروا من أرض القتال، فرت ميمنة المسلمين من أرض موقعة العقاب، فالتف النصارى حول جيش المسلمين، وبدأت الهلكة تدور في جيوش المسلمين، فقتل من المسلمين سبعون ألفاً من الموحدين والأندلسيين، وفر الناصر لدين الله من أرض الموقعة ومعه فلول الجيش المنهزم المنكسر المصاب في كل جسد من أجساد هذا الجيش الكبير، وقال الناصر لدين الله وهو يفر: صدق الرحمن وكذب الشيطان، قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، ولى الناصر لدين الله مدبراً، وارتكب خطأ آخر ضخماً جداً، وهو أنه لم يمكث في مدينة بياسة وهي المدينة التي تتلو مباشرة موقعة العقاب، بل فر من مدينة بياسة وأبدة وانطلق إلى مدينة إشبيلية، وترك بياسة وترك أبدة بلا حامية، وقوة الصليبيين لا زالت في عظمها، وما زالت في بأسها الشديد، فانطلقت قوة الصليبيين وحاصرت بياسة -وكانت مكاناً للمرضى والنساء والأطفال- فقتلوا جميعاً بالسيف بعد أن جمعوا في المسجد الكبير الجامع في مدينة بياسة، وانطلقوا إلى أبدة وحاصروها (13) يوماً كاملة وأعطوا أهلها الأمان على أن يخرجوا، ولما خرج أهلها منها أمر القساوسة الملوك والقادة بقتلهم فقتل من المسلمين في أبدة (60) ألف مسلم في يوم واحد في مدينة أبدة، في أعقاب موقعة العقاب تماماً.

وتدهور حال المسلمين في كل بلاد المغرب والأندلس، يقول المؤرخون: إنه بعد موقعة العقاب ما كنت تجد شاباً صالحاً للقتال ولا في بلاد الأندلس، فهذه الموقعة تسقط دولة كاملة في اتساع دولة الموحدين.

عاد الناصر لدين الله من إشبيلية منسحباً أكثر وأكثر إلى بلاد المغرب العربي واعتكف في قصره، واستخلف ابنه وهو يبلغ من العمر عشر سنوات؛ استخلفه على الحكم ليكون ولياً للعهد من بعده، والله سبحانه وتعالى لا يرضى عن هذه الأفعال، يموت الناصر لدين الله بعد هذا الاستخلاف بعام واحد سنة (610هـ) وهو يبلغ من العمر (34) سنة فقط، فيتولى حكم البلاد ابنه المستنصر بالله ويبلغ من العمر (11) سنة، ومن جديد يوسد الأمر لغير أهله، وتضيع الأمانة من جديد كما ضاعت في عهد هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، وكيف قامت الدولة العامرية وكيف حدث ما يسمى بعهد ملوك الطوائف بعد تولية الأمر لغير أهله؟

هكذا يتولى المستنصر بالله وتتوالى الهزائم على المسلمين، كانت موقعة العقاب في سنة (609) من الهجرة، بعد سنوات طويلة جداً من السيادة والتمكين لدولة الموحدين، وسنة الله سبحانه وتعالى في أرضه وفي خلقه أنه كلما ارتفع المسلمون وكثرت الأموال وفتحت عليهم الدنيا وأهمل المسلمون الشرع واعتدوا بآرائهم ونبذوا الشورى وتركوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ظهرت الهزائم والمكائد والانحدارات والانكسارات والانهيارات إلى أجل بعيد.

وبعد موقعة العقاب ظهرت بعض الأمراض في الجيوش القشتالية فاضطروا للعودة، وهذا مد في عمر الأندلس بضع سنوات أخرى في سنة (614) أي: بعد موقعة العقاب بخمس سنوات، ونظراً لتردي الأوضاع في بلاد المغرب، وتولي المستنصر السلطة وهو طفل ظهرت حركة جديدة للاستقلال عن الموحدين، وأنشأت دولة سنية جديدة من قبيلة زناته في بلاد المغرب، هذه الدولة سيكون لها شأن كبير في الأندلس بعد ذلك، وهي: دولة بني مرين في سنة (614هـ).

وفي سنة (620هـ) سقطت جزر البليار على يد ملك أراجون بمساعدة إيطاليا، وقتل في جزر البليار عشرون ألفاً من المسلمين، واستقل بنو حفص بتونس، وانفصلوا بها عن دولة الموحدين، وفي نفس السنة مات أمير الموحدين المستنصر وهو يبلغ من العمر (21) سنة فقط، ودار صراع شديد على السلطة فهو لم يستخلف ثم كانت ولاية عبد الواحد عم أبيه من بعده ولكنه خلع وقتل وتولى عبد الله العادل .

أصبح يتولى الرجل الحكم في دولة الموحدين مدة أربع أو خمس سنوات فقط ثم يقتل ويأتي غيره، وسارت الدولة نحو هاوية سحيقة.