خطب ومحاضرات
سلسلة الأندلس عهد ملوك الطوائف
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الحلقة الثامنة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط.
قبل: الدخول في الحلقة المعتادة هناك بعض التعليقات والأسئلة بخصوص الحلقات السابقة.
شكوى متكررة من كثرة الأسماء والتواريخ والأرقام .. وما إلى ذلك، والحقيقة أن هذه المجموعة لتاريخ الأندلس هي مجموعة للتاريخ، فمن الضروري أن يذكر فيها كل الأسماء المؤثرة في تاريخ الأندلس، لكن ليس بالضرورة أن تحفظ كل الأسماء والتواريخ، وعلى سبيل المثال:
ما حدث في الحلقة السابقة من صراع دامي وطويل بين مجموعة الملوك الأقزام من سنة (399) إلى سنة (422هـ)، أي: (13) خليفة، غير مهم أن تحفظ أسماء هؤلاء الخلفاء الذين ما حكموا إلا شهوراً معدودات، وما حكموا إلا لجمع الدنيا والمال وما إلى ذلك.
وهذه الفترات كانت دامية في العصر الإسلامي في بلاد الأندلس، لكن المهم هو العبرة في هذه الفترة من الفرقة، وأثرها على المجتمع، والولاء للنصارى والتعاون معهم ضد المسلمين، وأثر ذلك على المجتمع الأندلسي، والترف وأثره على المجتمع والقواد والشعوب.
وهناك على الجانب الآخر أسماء لابد أن تحفظ وأن تدرس بعناية وأن تتخذ نبراساً للأمة، أمثال: موسى بن نصير وطارق بن زياد وعبد الرحمن الغافقي وعبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر والحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمهم الله، ومما لا شك أن لهؤلاء أخطاء وعيوباً، لكنها قليلة جداً بالنسبة للحسنات الكثيرة التي فعلوها، فتدرس حياة هؤلاء بعناية، وتدرس العبر والدروس لهذا التاريخ الطويل.
فنحن نلخص تاريخ (800) سنة، فعليكم أن تعذرونا في كثرة الأسماء والأحداث وتلاحقها؛ لأننا نريد أن نكمل هذه المجموعة في حوالي (11) أو (12) درساً، أي: أن تاريخ 100 سنة تقريباً أو أقل منها بقليل يكون في كل حلقة واحدة، وهذا الشيء يجعلنا نتغاضى عن كثير من الأحداث، ليس لقلة أهميتها، ولكن لضيق الوقت، والأمر محتاج لدراسة طويلة.
أنا أنصح كل الإخوة الذين يسمعون هذه الحلقات أن يسمعوا الأشرطة أكثر من مرة، وأن يدونوا ذلك، ويجمعوا الأحداث والأفكار؛ لأن هذه دراسة لتاريخ الأندلس، ليس مجرد أخذ بعض المعلومات من هذا التاريخ، وهذه الدراسة متأنية، وأنا واثق أنه في كل سماع جديد للشريط ستوجد نتائج ودروس جديدة، فهذه دعوة مفتوحة للجميع.
هذا سؤال يقول: لماذا كلما قام المسلمون على أقدامهم سقطوا، وكأنه ليس هناك أمل، أليس من قيام لا سقوط بعده، ولا تحصل فيه هذه الهزات المتتالية للمسلمين؟
الجواب: نحن رأينا في تاريخ الأندلس قياماً أثناء الفتح وعهد الولاة الأول، ثم تلاه سقوط في آخر عهد الولاة، وحللنا ذلك، ثم رأينا قياماً في أول الإمارة الأموية في عهد عبد الرحمن الداخل ومن تبعه من الأمراء والخلفاء، ثم تلاه سقوط في النصف الثاني من الإمارة الأموية في عهد الضعف، والذي استمر من سنة (238 - 300هـ) أي: قرابة 62 سنة، ثم صار قيام من جديد في عهد عبد الرحمن الناصر ووصول إلى الذروة والعلو، ثم سقوط بعد نهاية عهد الحاجب المنصور أو الدولة العامرية والدخول فيما يسمى بعهد ملوك الطوائف، والذي قد تحدثنا عنه في الحلقة السابقة، واعذروني في هذه الحلقة لأنه سيكون فيها أشياء قد تدمي القلب أكثر، لكن هذا واقع لا بد من دراسته.
وللجواب عن السؤال الذي يقول: لماذا كلما نقوم نقع؟ ولماذا كلما ارتفعت الأمة سقطت؟
فهذه ملحوظة في منتهى الجمال، نقول: من سنن الله سبحانه وتعالى الارتفاع والهبوط، وهما بصفة مستمرة منذ نزول الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا، بل وحتى يوم القيامة، فالمسلمون لا يقومون ولا ينهضون بأمتهم إلا إذا أخذوا بأسباب القيام، وأسباب القيام كثيرة جداً تحدثنا عنها في كل فترة من فترات القيام، ومن أهمها:
الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والاعتقاد الجازم بنصرته وقدرته سبحانه وتعالى، والأخوة بين المسلمين والوحدة بين الصفوف والتجمع، ونبذ الفرقة، والعدل في التعامل بين الحكام والمحكومين، وانتشار العلم والدين بين الناس، والأخذ بالأسباب بصورة كاملة، من عدة وعتاد وعدد وخطط وعلم ومال، وكل ما هو مستطاع في اليد، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
إذاً: الإعداد المادي يكون على حسب الاستطاعة، فإن كان في استطاعتك أن تعد عشرة سيوف وأعددت خمسة فأنت مقصر، ولن تنتصر على عدوك إلا إذا أعددت عشرة، وإن كان العدو يملك مائة سيف أو (1000) سيف .. أو غير ذلك.
إذاً: يقوم المسلمون من بعد السقوط بهذه الأسباب، فيكون القيام في بداية الأمر متدرجاً وبطيئاً ويحتاج إلى صبر وثبات من الناس، ثم بعد ذلك يكون القيام باهراً، ثم يحدث انتشار للدين بصورة ملموسة، حتى إذا فتحت الدنيا كثيراً على المسلمين فهنا تحدث طامة كبرى على المسلمين، فيصبر القليل ويقع في الفتنة الكثير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال).
ويحدث من جديد سقوط آخر نتيجة انفتاح الدنيا ووقوع الناس في هذه الفتنة، وكلما ارتفعت الحضارة المادية وكثرت الأموال والغنائم والمعمار والقصور كان السقوط شديداً، فالسقوط الذي كان بعد عبد الرحمن الداخل كان وراءه ثورات وانقلابات، وبالرغم من وقوع نوع من التدني، لكن لم يصل إلى الذي رأيناه في عهد ملوك الطوائف من الصراع الدامي، واجتياح المدن، وهتك عورات النساء، والاستعانة بالنصارى بهذه الصورة الملفتة للأنظار؛ لأن الانفتاح في الدنيا بعد عبد الرحمن الناصر كان أعلى من الانفتاح في الدنيا بعد عبد الرحمن الداخل ، والفترة الأولى في عهد الإمارة الأموية كانت الدنيا فيها أقل من الفترة التي فتحت على المسلمين في أواخر عهد عبد الرحمن الناصر والحكم والحاجب المنصور.
لذلك كان السقوط شديداً، وكان الانهيار مروعاً، وهذه سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله سبحانه وتعالى الثبات عندما تعرض علينا فتنة من فتن الدنيا.
و عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقف الفتوح في فارس في سنة (17) من الهجرة؛ لكثرة الغنائم، فإن الأموال كثرت على المسلمين، والدنيا فتحت عليهم، وجاءت الجواهر والثياب الموشاة بالذهب والحرير.. وكذا وكذا من الأمور التي لم يكن يحلم المسلمون بها في جزيرة العرب أبداً.
والعربي قبل الفتوحات الإسلامية ما كان يحلم بمبلغ أكثر من 1000 دينار؛ لأن هذا بالنسبة له ضخم جداً، فوجد الملايين تأتي عليه من تلك البلاد، فحدثت فتنة للناس، وبدأت وجوه الناس تتغير، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الرجل الحكيم المتدبر في أمور شعبه، العالم بسنن ربه سبحانه وتعالى، ينظر في الأمور فيجد أن هؤلاء الناس الذين سيفتنون في الدنيا، قد يملكون الدنيا ولكن سيخسرون الآخرة؛ لذا أوقف الفتوح رضي الله عنه وأرضاه، وقال: وددت لو أن بيني وبين فارس جبلاً من نار، لا أقربهم ولا يقربوني، فهو لا يريد هذا النعيم الذي فتح عليه من هذه البلاد، ولم يعد الفتوح إلا بعد أن هجم الفرس على المسلمين، وخاف على المسلمين من الضياع نتيجة هجوم الفرس المتكرر وإعداد الفرس، فأجاز الفتح من جديد في سنة (18) من الهجرة.
فـعمر رضي الله عنه أدرك أن المسلمين لما سكنوا المدائن الضخمة ذات القصور العظيمة جداً والترف الشديد تغيرت ألوانهم، فقد كانت فيهم سمرة نتيجة العيش في الصحراء، وإذا بهم يعيشون في حدائق المدائن وغابات المدائن وظلال الأشجار الباسقة، ولم يعد المسلم يتكلم بالصلابة التي كان عليها في سنة (16هـ) وما قبلها قبل فتح المدائن.
فهذا هو الفكر الراقي جداً من عمر بن الخطاب ومن كان على شاكلته من أمراء المسلمين.
إذاً: هذه سنة أصيلة من سنن الله سبحانه وتعالى، ويدل على هذه السنة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود ، وأيضاً رواه الحاكم في صحيحه وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، ولماذا التجديد إن كان الأمر في علو دائم؟ لا بد أنه سيحدث سقوط ومن بعد السقوط ارتفاع، وهذا الارتفاع سيكون على يد مجدد أو مجددين، فقد يكون المجدد فرداً كما قيل: إن المجدد في القرن الثاني الهجري هو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وفي القرن الثالث الهجري هو الإمام الشافعي رحمه الله.
وقد يكون المجدد جماعة من المسلمين المصلحين، فرداً في هذا القطر وفرداً في قطر آخر، فلا بد من تجديد لهذا الدين، وسيظل هذا الأمر دائماً إلى يوم القيامة، والتاريخ الإسلامي مليء بفترات الارتفاع والهبوط، وهذا ليس حدثاً خاصاً بتاريخ الأندلس، بل إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدوا ذلك بأعينهم.
فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة حصل سقوط ذريع وانهيار مروع، وردة في كل أطراف جزيرة العرب، ولم يبق من البلاد إلا مكة والمدينة والطائف وقرية صغيرة في شرق الجزيرة العربية اسمها: هجر في البحرين، وهي الآن بجوار الرياض، فهذه المنطقة الواسعة من جزيرة العرب ارتدت عن دين الإسلام، وآلاف مؤلفة من الناس ارتدوا عن الإسلام، ولم يبق إلا قليل جداً، ثم حدث قيام في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حروب الردة المجيدة الطويلة.
ثم يحدث قيام عظيم جداً وفتوح وانتصارات وتفتح الدنيا في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه، ويدخل في الإسلام أفواج كثيرة من الناس، فتحدث فتنة وانكسارات في الأمة الإسلامية على اتساعها وهزات قوية جداً أدت إلى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه الخليفة الثالث الراشد، وتقوم فتنة كبيرة جداً تستمر طيلة خلافة سيدنا علي بن أبي طالب وسقوط كبير للأمة الإسلامية ثم من جديد قيام في عهد الدولة الأموية واسترداد للأمر واستكمال للفتوح، ويستمر الأمر هكذا فترة من الزمان، ثم يحدث سقوط آخر عندما فسد بنو أمية في الأرض في آخر أيامهم، فقام بنو العباس من جديد ويحدث من جديد عزة للإسلام وانتشار للإسلام وعهد قوة مجيدة جداً للدولة العباسية في أولها، ثم بعد ذلك ضعف وسقوط.. وهكذا الأيام، والدولة الأيوبية قامت في منتهى القوة، ثم سقطت بعد ذلك، والمماليك كذلك قاموا وهم في منتهى القوة، ثم سقطوا بعد ذلك.
والخلافة العثمانية الراشدة التي فتحت شرق أوروبا كله قامت في منتهى القوة، ثم سقطت بعد ذلك؛ لكثرة الدنيا وانفتاحها وفتنة الناس بها.
إذاً: هذه سنة من سنن الله سبحانه وتعالى لا يجب أبداً أن تفت في عضد المسلمين، فلا بد للمسلمين من قيام بعد السقوط، ولا بد للمسلمين من سقوط إذا فتنوا بالدنيا؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس بينه وبين أحد من البشر نسب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعملي يا
إن ضل المسلمون وخالفوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهجه الكريم ستكون الهزيمة لا محالة، وسيكون الانتصار المروع لأعداء الإسلام، والذي شاهدناه في عهد الأندلس، ونشاهده في كل عهود المسلمين المنحطة، وقد يسأل سائل: أين نحن الآن في هذا العصر الذي نعيش فيه من مراحل السقوط ومراحل القيام؟
فالأمة الإسلامية في هذا الزمان في مرحلة من مراحل السقوط، فقد حصل سقوط كبير جداً للخلافة العثمانية، التي كانت في أعلى درجات المجد في وقت من الأوقات، ثم بدأت تضعف وتضعف وتضعف حتى سقطت وتفرق المسلمون وضعفت الشوكة، وهذا شيء طبيعي جداً وليس بمستغرب؛ لأن هذه دورة من دورات التاريخ الطبيعية وسنة من سنن الله، لكن الحق يقال: إن سقوط الخلافة العثمانية فيه ظاهرة غير متكررة في السابق، وفيه شيئان جديدان على الأمة الإسلامية:
الشيء الأول الخطير: غياب الخلافة، ففي طول الفترات السابقة من السقوط لم تكن تغيب الخلافة حتى في صورتها الضعيفة، فقد يكون الخليفة ضعيفاً، لكن الناس ممكن أن تلتف حوله، ولما يأتي عهد قيام من جديد فإن الناس تلتف حول الخليفة الضعيف الموجود فتقويه بقوتها.
أما الآن فلا يوجد خليفة ولا توجد خلافة، فقد ضاع رمز الخلافة وانتهت فكرتها من أذهان الناس، وهذا أمر خطير لا بد أن يعود لأذهان الناس.
الشيء الخطير الثاني: غياب الشرع الإسلامي أيضاً في كل عصور السقوط السابقة، ومع كل هذا التدني الشديد والانهيار الكبير في الأمة الإسلامية على فترات التاريخ المختلفة ما كان يلغى الشرع، فقد كان الشرع يقام في كل أطراف الأمة الإسلامية، نعم، كان الحكام والأمراء يظلمون أحياناً في تطبيق الشرع، ويتجاوزون أحياناً، لكن ما ظهرت دعوة تقول: جنبوا الشرع من الحكم، وائتوا بغيره من قوانين البشر يحكم الناس، وهذا حدث في هذه الآونة، ويجعل مهمة الإصلاح صعبة، لكن لن تكون مستحيلة؛ لأن المستحيل فعلاً هو التعارض مع سنن الله سبحانه وتعالى.
والأصل أن سنة الله للمسلمين تكون دائماً قياماً بعد السقوط، لكن أن يحدث سقوط لا يتبعه قيام فهذا ليس من سنن الله سبحانه وتعالى مع المسلمين، وأي أمة من أمم الأرض لا بد لها من سقوط بعد القيام، لكن الاختلاف بين أمم الأرض جميعاً وبين أمة الإسلام أن أمم الأرض قد تسقط ولا تقوم، فعلى سبيل المثال: أين حضارة الفراعنة؟ فقد اندثروا في الأرض، وماتوا جميعاً، ولم يكن لهم قيام بعد ذلك، وأين حضارة اليونان والرومان؟ وأين حضارة إنجلترا التي كانوا يسمونها الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟
لكن أمة الإسلام أمة لا تموت، وهذا وعد الله سبحانه وتعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، فأبشروا وأملوا فقد استمر السقوط للأمة الإسلامية منذ أوائل القرن العشرين لما سقطت الخلافة العثمانية في سنة (1924م) حتى أواخر الستينات أو السبعينات، ثم حدث قيام للأمة الإسلامية في منتصف السبعينات إلى ما نحن فيه، الآن انظر إلى المساجد فكم فيها من الشباب المصلين، وانظر إلى المحجبات في الشوارع في كل أطراف العالم الإسلامي! وانظر إلى المراكز الإسلامية في كل بلاد أوروبا وفي أمريكا! وانظر إلى جمهوريات روسيا السابقة الجمهوريات الإسلامية هناك أوزبكستان وكازخستان والشيشان، وهي الدولة التي لم تتحرر بعد، والتي ما زالت تقاتل أعداء الإسلام، نسأل الله سبحانه وتعالى لها التوفيق والانتصار على عدوها.
وانظر إلى الإسلام في هذه البلاد بعد احتلال دام أكثر من (300) عام من روسيا النصرانية، ثم روسيا الشيوعية، لكن الإسلام فيه صحوة وفيه قيام، لكن القيام تدريجي وبطيء، وهذه سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، لا تستعجل النصر أبداً، انظر إلى ما فعله عبد الرحمن الداخل وإلى ما فعله عبد الرحمن الناصر وإلى ما فعله اللاحقون لهما، فـعبد الرحمن الناصر على سبيل المثال كانت له خطوات بطيئة في التغيير، خطوة تتلوها خطوة من تعليم وتربية ونشر للإسلام، ثم الفرج للمسلمين يحدث بعده فتح من الله ونصر مبين.
كان الفرج في عهد عبد الرحمن الناصر حين دخول سرقسطة معه دون قتال، وموت عمر بن حفصون ، فهذه هدايا ربانية للمسلمين تتكرر على ممر العصور، فهي سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مطروداً ومشرداً بعد موت السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها وعمه أبي طالب ، وخرج من مكة ذاهباً إلى الطائف، ورمي بالحجارة، ثم عاد يعرض الإسلام على القبائل المختلفة التي تأتي في الحج فلا يقبل منه أحد، ثم أسلم له ستة من الخزرج فدخلوا بالإسلام إلى المدينة المنورة، ثم بعد ذلك بيعة العقبة الثانية، وهي فتح من الله ونصر كبير، ويهاجر المسلمون إلى المدينة المنورة، ثم بعدها بسنتين غزوة بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم فتح مكة بعد ذلك.
وهكذا تتوالى الانتصارات حتى يعم الإسلام الجزيرة العربية بكاملها في عشر سنوات إلا قليلاً.
وهذا أمر على الإنسان أن يفكر فيه ويتدبر فيه، وهذه سنة متكررة، قال تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43].
إذاً: نحن في مرحلة قيام متدرج، ونريد من الشباب أن يستمروا على هذا القيام ولا يستعجلوا، فإنه لا محالة سيحدث الفرج الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، لكن المهم أين الصابرون والثابتون؟
وبعد هذه المقدمة وهذه الأسئلة نعود إلى ما كنا عليه، وهو عهد ملوك الطوائف.
ذكرنا في الدرس السابق أنه بعد موت عبد الرحمن المنصور الذي كان يتولى الحجابة في عهد هشام بن الحكم حدث انهيار مروع في أرض الأندلس، وقسمت البلاد إلى (22) دويلة، وهذا أمر في منتهى الغرابة، أن بلاداً صغيرة ليست بالمساحات الشاسعة قسمت إلى (22) دويلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين في الأندلس المجزأة إلى (22) دولة نجد أنها دول مفرقة ومفتتة، وكلها تنتمي إلى الإسلام، وكل واحد من هؤلاء الذين حكموا هذه الدويلات الصغيرة قد أعلن أنه أمير المؤمنين، ليس فقط أمير مدينة من المدن، إنما أمير كل المؤمنين وكأنه يستحق أن يكون أميراً للمؤمنين في جميع أنحاء الأرض.
حتى إن الرجل في ذلك الوقت كان يمر على ثلاثة من أمراء المسلمين في يوم وليلة لصغر حجم الإمارات، فهي بلاد صغيرة جداً، وكل مدينة وما حولها من القرى تعتبر نفسها دولة ومملكة، ولها سياج من حولها ورئيس وإعلام وجيش وسفراء خاص بها، وهي لا تملك أي مقومات للدولة، ويا ليت كل واحد منهم ظل متحكماً في أرضه ولا ينظر إلى أرض أخيه المجاورة، بل إن كل واحد منهم يعتدي على حدود الآخر فينشأ الصراع بينهما.
تخيل أن المدن الإسلامية وحواضر الإسلام في الأندلس كقرطبة تصارع إشبيلية، وبلنسية تصارع سرقسطة .. وهكذا كان العهد في تلك الفترة صراع بين الممالك الإسلامية أو الدويلات الإسلامية أو المحافظات الإسلامية داخل أرض الأندلس، وكل جيش يضرب الجيش الثاني.
عندما نحلل الموقف نتعجب جداً عن حال الناس في ذلك الوقت، فقد يفهم الإنسان أن الخليفة شرير وخارج عن تعاليم الشرع، ويقاتل من أجل المال، لكن أين الشعوب؟ فالشعب يقاتل الشعب المجاور، وكيف زين للشعوب أن تقاتل إخوانها؟
والإعلام الموجود في تلك الفترة هو الشعر، فإن كثيراً من الشعراء يتحدثون شعراً عما يحدث في هذه البلاد، بل إن معظم أبيات الشعر في تلك الفترة هي تمجيد لهؤلاء القواد الذين يقودون الشعوب، حتى جعلوهم كأنهم إله له الحق أن يشرع، وكانت له أموال ضخمة وبناءات ضخمة، وإنجازات ضخمة، فيفتن الناس بهذا المال وهذا العلو في الأرض فيتبعونه فيما يقول.
وكان هناك ضغط قوي من الجيوش التي تتبع هؤلاء الحكام، فقد كانت تحكم الناس بالحديد والنار، والناس لا تستطيع أن ترفع أصواتها في وجوه هؤلاء الطواغيت، وظهرت فتاوى خاصة تصرح لهؤلاء بالغزو على بعضهم البعض، فهذه صفات المجتمع الأندلسي في ذلك الوقت.
وهناك كارثة أخرى حلت على المسلمين في ذلك الزمان وهي التعاون مع النصارى ضد بعضهم البعض، فمنهم من استعان بأمير قشتالة، ومنهم من ذهب إلى أمير أراغون، ومنهم من ذهب إلى أمير ليون، وكل واحد أخذ له نصير من الدول النصرانية الموجودة في شمال الأندلس، التي كانت في أول هذا العهد تسيطر على (25%) فقط من أرض الأندلس، والتي كانت تدفع الجزية لـعبد الرحمن الناصر وللحكم بن عبد الرحمن الناصر وللحاجب المنصور .
وأكثر من ذلك أن أمراء الطوائف دفعوا الجزية للنصارى، وقام ألفونسو السادس حاكم إمارة قشتالة أكبر الحكام النصارى في ذلك الوقت بالتوسع في بداية عهد الطوائف، وضم إليه مع مرور الوقت مملكة ليون، فأصبحت قشتالة وليون مملكة واحدة تحت زعامة ألفونسو السادس .
وكان أمراء ملوك الطوائف يدفعون الجزية للأمير ألفونسو السادس من أجل أن يحافظ لهم على الحكم في بلادهم، وكان يسبهم في وجوههم، فما يزيدون على قول: ما نحن إلا جباة أموال لك في بلادنا، على أن تجعلنا حاكمين لهذا الشعب المسكين.
انظر إلى قوله سبحانه وتعالى الذي يصور هذا الواقع، وكأن هذه الآية نزلت في أهل الأندلس في هذه الفترة من الزمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:51-52]، أي: نحن لا نستطيع أن نحارب الدول التي حولنا، لابد أن نأخذ معاونة ومساعدة من هؤلاء النصارى المحيطين بنا، فيرد عليهم رب العالمين بقوله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].
انظر إلى تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى في آخر عهد ملوك الطوائف عندما يأتي النصر، فإن هؤلاء يسرون في أنفسهم ويندمون ويرجعون إلى دينهم بعد ذلك.
وهذه الآية تصف وصفاً دقيقاً لواقع المسلمين في عهد الأندلس، ولابد أن ندرس القرآن بعناية، والقرآن ليس كتاباً يحفظ في السيارة أو البيت أو يحفظ للبركة، بل القرآن منهج ودستور يربي الأمة والمجتمع، وليس هناك نجاح ولا فلاح إلا باتباع آياته وباتباع نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57].
موقف المتوكل بن الأفطس من ملك قشتالة
يقول المتوكل بن الأفطس في رسالته: وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتواترة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون، بالتقوى يعرفون، وبالتوبة يتضرعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين.
أي: إن كان ظهر الروم في هذه الفترة وعلا شأنهم، فهذا الظهور المفاجئ للنصارى بإذن الله سبحانه وتعالى، ليعلم المؤمنين، وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين.
ثم يقول: أما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم فبذنوب مركوبة، ثم يضيف قائلاً: ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، أي: تذكر يا ألفونسو السادس أيام عبد الرحمن الناصر وأيام الحكم وأيام الحاجب المنصور ، الذي أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى جدك إحدى بناته إليه، وهي أم عبد الرحمن المنصور الذي ذكرناه في آخر الدروس السابقة.
يقول: فجدك أعطى ابنته هدية للحاجب المنصور حتى يأمن جانبه، أما نحن إن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استنجادنا، فما بينا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف؛ تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في ليلك ونهارك، وبالله تعالى وملائكته المسومين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلى إحدى الحسنيين: نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت، ويقطع بما أعددت.
وختم رسالته وأرسلها إلى ألفونسو السادس ، وما استطاع ألفونسو السادس أن يرسل له جيشاً، لأن هؤلاء الرجال لا يستطيع أن يقاومهم أهل الأرض جميعاً، وإن كانوا قليلين، لكن عزة الإسلام ترفع من شأن صاحبها.
هذه صورة من الصور المشرقة في داخل أرض الأندلس، لكن عموم الأمراء في أرض الأندلس لم يكونوا على شاكلة المتوكل بن الأفطس ، هذا الذي حصل في بطليوس، فأين إحدى وعشرون مملكة؟
أنا لا أستطيع الخوض في تفاصيل هذه الممالك، فالتفاصيل موجودة في الكتب، والدراسة لذلك واجبة، لكن سنعرض بعض الصور، حتى نعطي فكرة كيف كان الوضع في تلك البلاد من التدني للمسلمين؟
اختلاف حكام بني هود في سرقسطة ومأساة بربشتر
والولد الصغير أنجب من الكبير، فأراد هذا الملك ألا يظلم أحد الولدين، فعمل شيئاً غريباً جداً، فقسم البلد والأرض إلى نصفين بما في ذلك الشعب والجيش من أجل ألا يظلم أحد أبنائه، لكنه ظلم الشعب كله.
ولما مات اختلف الأخوان على الحدود فبدأ أحدهما يهجم على أخيه ليحرر أرضه، لكن لم يكن له طاقة بالهجوم؛ لأن الجيش والبلد مقسومان بينهما على النصف لكل واحد منهما، والكيان ضعيف جداً، فاستعان هذا الأخ الحاكم بملك نصراني ليحرر له أرضه من أخيه المسلم، ولسان حاله: ليست مشلكة أن أحضر النصراني لكي يساعدني في تحرير الأرض الإسلامية التي أخذها مني أخي، وليست مشكلة أن يأخذ الحاكم النصراني الأرض ويضمها لأملاكه، وهذه دولة صديقة مجاورة، وهي دولة أراجون ستساعدني في أن آخذ حقي من أخي، وأتى النصارى بالفعل ودخلوا البلاد وفي طريقهم عملوا مآسي لا تحصى في المسلمين في مملكة سرقسطة، أذكر منها على سبيل المثال:
ما حدث في بربشتر عرفت في التاريخ بمآساة بربشتر، اسمع وافهم وانظر إلى ما يحدث في هذا العصر الآن في بلاد البوسنة والهرسك وفي كشمير وفي كوسوفا وفلسطين .. وفي غيرها من البلاد، وقارن بينه وبين ما كان يحدث في التاريخ، فقد حاصر النصارى بربشتر أربعين يوماً، والمسلمون في داخل بربشتر يستغيثون بكل أمراء المؤمنين في كل أرض الأندلس ولا يتحرك أحد؛ لما في القلوب من رهبة شديدة من النصارى، وليست لهم بهم طاقة، وأخيراً تفاوض النصارى مع المسلمين وفتحت بربشتر، وكانت النتيجة أن قتل في يوم واحد من المسلمين (40) ألفاً كما في رواية ياقوت الحموي ، وفي رواية أخرى (100) ألف، وسبيت سبعة آلاف فتاة بكر منتخبة، أي: أجمل سبعة آلاف فتاة بكر في المدينة، وأعطيت هدية لملك القسطنطينية، وكانوا ينتهكون حرمات البكر أمام أبيها، وحرمات الزوجة أمام زوجها، هكذا فعل في بربشتر، فهذه مأساة ضخمة جداً، واستغاثة من كل بلاد المسلمين ولم يتحرك أحد.
مأساة بلنسية
فنحن رأينا ما يحدث في البوسنة والهرسك، من تحرك للبوسنة والهرسك؟ من تحرك لخمسين ألف فتاة مغتصبة؟ من تحرك لمائتين وخمسين ألف قتيل في البوسنة، وهذا غير كوسوفا وكشمير وفلسطين؟ من تحرك وأسقط رصاصة على البلاد الصربية أو الهندية أو الروسية .. أو غيرها؟ فنحن لا نستطيع؛ لأن تلك البلاد قوية جداً، وليست لنا بهم طاقة.
إذاً: ما نستطيع أن نقوله هو: لا حول ولا قوة إلا بالله، الله معهم، الله ينصرهم، فليست لنا طاقة في نصرهم، فهذا موقف من المواقف الموجودة في أرض الأندلس، والمواقف على ذلك كثيرة ومتعددة، فالمسلمون ليسوا فقراء، بل إنهم في منتهى الغنى.
يوم الطين
ومرت الأيام -سبحان الله- وضاع ملكه، وفي يوم من الأيام بعدما ضاع هذا الملك الكبير قعد معها فأغضبها فقالت له كعادة النساء لما تغضب من الأزواج: ما رأيت منك خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين، فسكتت واستحت.
انظر إلى السفه في المسلمين، ومع ذلك فقد وصف أحد الشعراء المعتمد على الله بن عباد بكل ما أوتي من صفات العزة والكرامة والمجد والبأس، والإعلام في ذلك الوقت كان يصوره بهذه الصورة، وهذا مخالف ولا شك للواقع.
لكن مع كل هذا التفخيم والتعظيم لهؤلاء الأمراء فقد كانت هناك محاولات من المصلحين تحاول أنها تغير، ودعوات إصلاحية لكن كانت مكبوتة، وأحد الشعراء يصف هذا العهد بقوله:
مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتضد فيها ومعتمد
يعني: الشيء الذي يكرهني ويجعلني أزهد في أرض الأندلس وأتركها هو أن فيها ألقاباً ضخمة جداً، نحو: معتضد بالله، ومعتمد على الله، فـالمعتضد بالله هو أبو المعتمد على الله وهما من حكام إشبيلية .
فقال:
مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
أي: أن القطة تنتفخ انتفاخاً فتحكي صولة الأسد، وأين الهر من الأسد؟ هكذا كانوا يتسمون بأسماء ضخمة في بلاد الأندلس، كان هناك قادر بالله ومعتصم بالله ومستكفي بالله ومؤيد بالله، والمعتمد على الله كان يدفع جزية لـألفونسو السادس مع أن إشبيلية في الجنوب الغربي من بلاد الأندلس، يعني: أنها بعيدة عن مملكة قشتالة ومع ذلك كان يدفع الجزية لملك قشتالة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان يسمي نفسه معتمداً على الله ولكنه كان في الواقع معتمداً على ألفونسو السادس .
سبب رفض أمراء الطوائف للوحدة الإسلامية
انظر إلى نعمة الله سبحانه وتعالى كيف فرط فيها المسلمون، كانوا على شفا حفرة من النار، وكادوا يقعون فيها لولا فضل الله.
وقال سبحانه وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] فأنتم يا أمراء المؤمنين! سمعتم عن عبد الرحمن الناصر ودولته الموحدة المجمعة، كيف كانت عزة الإسلام في عصره؟ فلماذا تفرطون في عزة الإسلام في الدنيا وفي ثواب الآخرة؟ أمن أجل أيام معدودات على مدينة من مدن المسلمين تحكمونها؟ أتأبى أن تكون تابعاً لأمير من المؤمنين وترضى أن تكون تابعاً لملك من ملوك النصارى، كـألفونسو السادس أو غيره؟ هذا كان واقع المسلمين.
سقوط طليطلة في عهد المقتدر بالله
وسقوط طليطلة هز العالم الإسلامي في الشرق والغرب، وسقوط طليطلة سبقه استقبال لملك من ملوك النصارى لمدة تسعة أشهر كاملة داخل أرض طليطلة؛ لأنه كان هارباً بسبب خلاف حصل في أرض النصارى فذهب إلى صديقه المقتدر بالله الذي كان حاكم طليطلة في ذلك الوقت، ومكث عنده تلك المدة داخل طليطلة، والقائد المسلم غير المحنك المفرط في حق المسلمين، كان يتجول به في كل الحصون، ومداخل البلد وعلى أبواب الأنهار الداخلة لمدينة طليطلة، حتى عرف الرجل كل شيء في مدينة طليطلة، ثم عاد الملك النصراني إلى بلاده حاكماً.
وأول خطوة أخذها بعدما رجع إلى بلاده أنه دخل طليطلة ففتحها وضمها إلى بلاده، قال الله سبحانه وتعالى وكأنه يصف سقوط طليطلة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1]، نعم ضل المقتدر بالله سواء السبيل، فسقطت طليطلة بعد أن أسروا لملك النصارى بأسرارها.
لما سقطت طليطلة حدث إحباط شديد في كل بلاد الأندلس، يقول ابن العسال أحد المعاصرين لسقوط طليطلة:
شدوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام فيها إلا من الغلط
أي: اتركوا البلد وامشوا منها، واحذروا أن تدافعوا عنها فقد انتهت القضية، اتركوا البلد وهاجروا منها إلى المغرب أو الشام أو أي بلد في العالم.
شدوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام فيها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
أي: البلاد تحتل من الأطراف، لكن الأندلس احتلت من الوسط، فإن طليطلة في وسط بلاد الأندلس كما هو موضح في الخريطة، والحصون الشمالية في طليطلة قد سلمت قبل ذلك في معاهدة للنصارى كما ذكرنا ذلك سابقاً.
من جاور الشر لا يأمن بوائقه كيف الحياة مع الحيات في سخط
أي: لا نستطيع أن نعيش مع الثعابين والحيات، فنبعد عن أرض الأندلس ونتركها؛ لأن الأندلس ضاعت، وسقوط طليطلة هز المشرق والمغرب.
سبب حصار إشبيلية وموقف المعتمد بن عباد من الفونسو السادس
فجن جنون ألفونسو السادس وأتى بحده وحديده وأتى بجيش كبير وأحرق كل القرى حول حصن إشبيلية الكبير وحاصر البلاد، وقال: إن لم تفتح فسأستأصل خضراءكم، لكن المعتمد على الله بن عباد كان خائفاً من أن يفتح فتطاول الحصار فترة من الزمان تقدر بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك، وأراد ألفونسو السادس أن يفت في عضد المسلمين ويلقي بالهزيمة النفسية عندهم فأرسل رسالة قبيحة أخرى إلى المعتمد على الله بن عباد يقول له فيها: إن الذباب قد آذاني حول مدينتك فلو ترسل لي مروحة أروح بها عن نفسي فافعل.
ومغزى الرسالة إن أكثر شيء مضايقني في الحصار هو الذباب، وأنت وجيشك وأمتك وحصونك كلها أهون عندي من الذباب، فلو سمحت ابعث لي مروحة من أجل أروح بها عن نفسي، فأخذ المعتمد على الله بن عباد الرسالة وقلبها وكتب على ظهرها رداً وأرسله إلى ألفونسو السادس ، هذا الرد هو سطر واحد فقط، قرأه ألفونسو السادس فأخذ جيشه وانصرف ولم يدخل في القتال، ونسي كل الكلام وعاد إلى قشتالة، ترى ما هو هذا الرد الذي كتبه المعتمد على الله بن عباد ؟ وكيف القيام بعد هذا الانهيار المروع في بلاد الأندلس؟ وكيف حال الدولة التي ستنشأ من جديد في هذه البلاد الإسلامية بلاد الأندلس؟
هذا ما نتداوله وغيره إن شاء الله في الحلقة القادمة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وجزاكم الله خيراً كثيراً.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة الأندلس عبد الرحمن الداخل صقر قريش | 2783 استماع |
سلسلة الأندلس الإمارة الأموية | 2718 استماع |
سلسلة الأندلس عهد الفتح الإسلامي | 2707 استماع |
سلسلة الأندلس دولة المرابطين | 2701 استماع |
سلسلة الأندلس سقوط الأندلس | 2662 استماع |
سلسلة الأندلس عهد الولاة | 2642 استماع |
سلسلة الأندلس دولة الموحدين | 2592 استماع |
سلسلة الأندلس بين المرابطين والموحدين | 2123 استماع |
سلسلة الأندلس الطريق إلى الأندلس | 2072 استماع |
سلسلة الأندلس الخلافة الأموية | 2056 استماع |