سلسلة الأندلس بين المرابطين والموحدين


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فسنفتح اليوم بإذن الله صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي، مع الصفحة العاشرة من صفحات الأندلس: من الفتح إلى السقوط.

وقد وقفنا في الحلقة السابقة على موقعة الزلاقة وخاتمتها، وكيف انتصر فيها القائد الرباني المجاهد الورع التقي يوسف بن تاشفين اللمتوني رحمه الله، وكيف قضى في الحكم قرابة (47 عاماً) ثم توفي رحمه الله في سنة (500) من الهجرة، واستخلف على الحكم من بعده علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله.

وقبل الخوض في نتائج موقعة الزلاقة وما حدث بعدها من أحداث نجيب على سؤالين بخصوص الحلقة السابقة وهما: السؤال الأول: ما معنى كلمة البربر؟ وما صلة البربر بالتصرفات البربرية عند بعض الناس؟

والحق أن كلمة البربر منفصلة كلية عن كلمة البرابرة أو التصرفات البربرية الهمجية، فالبربر جنس من الناس، مثل: العرب أو الفرس أو الروم، وهم من أولاد حام يعني: هم حاميون، والعرب ساميون، فالبربر حاميون كالأوروبيين في أغلب الظن، وكونهم ليسوا بعرب هذه مسألة لا يجب أن نقف عندها كثيراً، فقد تحدثنا عنها في دروس سابقة، إنما نريد أن نوسع مداركنا ونظرتنا للأمور.

فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، والعرب وغير العرب نصروا الإسلام كثيراً، وفي هذه السلسلة من الأحداث في تاريخ الأندلس تكلمنا عن طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وأبي بكر بن عمر اللمتوني وصلاح الدين الأيوبي .. وغيرهم، وهم من غير العرب؛ لكنهم نصروا الإسلام، وهناك أيضاً البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي .. وغيرهم من علماء المسلمين ليسوا بعرب.

والحق أن العرب وغير العرب جميعاً يجمعهم لواء واحد وعقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام، وكلمة القومية العربية أو الاعتزاز بالعروبة وإلغاء غير المسلمين من العرب تلغي من قوام المسلمين أكثر من مليار مسلم، فعدد المسلمين في العالم مليار وثلاثمائة مليون مسلم، فالعرب يبلغون حوالي (200) مليون مسلم فقط، والباقي من باكستان والهند وإندونيسيا ومن إفريقيا وغيرها من البلاد الواسعة التي تحدثنا عنها في دولة المرابطين، فالكثير من المسلمين غير عرب، فهم جند للإسلام، ولابد أن يندرجوا تحت لواء الإسلام الذي يجمع هؤلاء جميعاً.

السؤال الثاني: كان من الممكن للمسلمين أن ينتصروا سابقاً عندما كانت الأسلحة سيوفاً وغيرها لكن انتصارهم في هذا الوقت الذي نعيش فيه من الصعب بمكان، وليس كما سبق في تاريخ المسلمين؟

أقول: إن الذي سأل هذا السؤال لم يفهم أمرين هامين من الأمور التي تحدثنا عنها في هذه السلسلة:

الأمر الأول: أن من سنة الله سبحانه وتعالى أن أمة الإسلام لن تموت، وأنه لا بد من قيام بعد السقوط مهما بلغت قوة الباطل وتعاظمت قوة الكافرين، ومهما ضعفت قوة المسلمين، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196].

الأمر الثاني وهو في الحقيقة أمر هام جداً: أنه لم يفهم طبيعة المعركة بين الحق والباطل، فهي ببساطة معركة بين أولياء الله سبحانه وتعالى وأولياء الشيطان، وأولياء الله سبحانه وتعالى هم الذين ينتصرون على أولياء الشيطان مهما تعاظمت قوة أولياء الشيطان، فهل من الطبيعي بالقياسات القديمة والحديثة أن يحقق المسلمون النصر في معاركهم السابقة، فينتصر اثنان وثلاثون ألف مسلم في القادسية على مائتين وأربعين ألف فارسي في بلدهم وفي عقر دارهم، وينتصر تسعة وثلاثون ألف مسلم في اليرموك على مائتي ألف رومي، وثلاثون ألف مسلم في تستر على مائة وخمسين ألف فارسي، فانتصر المسلمون فيما يقرب من ثمانين موقعة متتالية خلال سنة ونصف؟ وهل من الطبيعي كما درسنا في فتوحات الأندلس أن اثني عشر ألف مسلم ينتصرون على مائة ألف في موقعة وادي برباط؟ فهذه أمور ليست من الطبيعي أن تحدث حتى بقياسات الماضي، وهذا لغز صعب جداً لا تفهمه إلا بطريقة واحدة وهي أنك تفهم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحارب الكافرين، قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

ويقول سبحانه وتعالى في سورة محمد عليه الصلاة والسلام: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].

هكذا فإن الله سبحانه وتعالى يختبر المؤمنين بحربهم مع الكافرين؛ ونحن يجب ألا نظن أن ربنا سبحانه وتعالى محتاج لنصرة المؤمنين، لكي ينتصر على اليهود أو الأمريكان أو الروس .. أو غيرهم من أمم الأرض الذين اجتاحوا دول المسلمين، فمن فضل الله سبحانه وتعالى ومنِّه وجوده وكرمه أن منّ علينا أن نكون جنوداً من جنوده سبحانه وتعالى،

أنتم تسترون قدرة الله سبحانه وتعالى في هزيمته للكافرين وتأخذون الأجر على ثباتكم في هذا الموقف أمام الكفار، فالذي يقول: إن الموقف في الماضي مخالف عن الموقف في الحاضر؛ لأن حروب الماضي مختلفة بالكلية عن حروب الحاضر، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي نصر الصحابة ونصر من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، كأنه يقول -وحاشا لله من هذا-: إن الله كان قادراً على عاد وثمود وفارس والروم، لكنه -ونعوذ بالله من ذلك- ليس بقادر على أمريكا وروسيا وإنجلترا واليهود ومن حالفهم وشايعهم من الأمم الحاضرين المقاتلين لأمة الإسلام.

يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15].

ويصف الله حال الكافرين، فيقول سبحانه وتعالى: اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:43-44].

لكن المهم في الموضوع الذي يشغل الإنسان المسلم الحريص على دينه هو: أين دوره في قيام أمة المسلمين اليوم؟ وأين دوره في الانتصار الذي يشبه انتصار الزلاقة أو غيرها من مواقع المسلمين الخالدة؟ إن كان قيام أمة المسلمين بك، فأنت مأجور حتى لو لم تر نصراً، وإن كان القيام بدونك، فقد ضاع عليك الأجر حتى لو كنت معاصراً للتمكين، فالشيء الذي لا بد أن يشغل كل مسلم هو كيف يكون له دور في إعادة بنيان الأمة المسلمة، بعد السقوط الذي تحدثنا عنه في درس سابق.

أما موقعة الزلاقة فقد كانت في سنة (479) من الهجرة، وكان قائد النصارى في موقعة الزلاقة هو ألفونسو السادس ، الذي مات في بيته بعد الموقعة بشهرين أو ثلاثة كمداً وهماً وحزناً بعد الهزيمة الساحقة لجيشه في هذه الموقعة، وقد بترت فيها ساقه، وضاع معظم أو كل الجيش الصليبي في هذه الموقعة، واستخلف على الحكم ابن ألفونسو السادس ، ومع أن الاستخلاف كان سريعاً إلا أن النصارى لم يستطيعوا أن يقيموا لهم قوة لمدة (20) سنة أو أكثر، وما وقع بين المسلمين والنصارى من المعارك كان بعد سنة (500) هجرية.

ظل يوسف بن تاشفين رحمه الله في الحكم إلى سنة 500 من الهجرة، مات في نفس السنة وهو يبلغ من العمر (100) عام، واستخلف على الحكم علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله على دولة المرابطين، وحاول المرابطون تحرير معظم الأراضي الأندلسية التي أخذت من المسلمين على مدار السنوات السابقة، فحاربوا في أكثر من جبهة، فحرروا سرقسطة وضموها إلى أملاك المسلمين، وهي في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، واقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا، وحاول المسلمون كثيراً تحرير طليطلة، لكنهم فشلوا في هذا الأمر؛ لأن طليطلة من أشد مدن الأندلس حصانة على الإطلاق، وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدن حول طليطلة.

وفي سنة (501) من الهجرة، بعد موت يوسف بن تاشفين رحمه الله بعام واحد دارت موقعة ضخمة جداً بين المسلمين والنصارى وهي موقعة أقليش، تولى فيها القيادة على المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ، وتولى فيها قيادة النصارى ابن ألفونسو السادس ، وانتصر المسلمون فيها انتصاراً ساحقاً، وقتل من الصلبيين في هذه الموقعة ثلاثة وعشرون ألف صليبي، واستمرت الانتصارات للمسلمين.

وفي سنة (509) من الهجرة فتح المسلمون من جديد جزر البليار التي كانت قد سقطت في عهد ملوك الطوائف، وأصبح المسلمون يسيطرون على جزء كبير جداً من أراضي الأندلس.

في سنة (512هـ) تحدث ثورة في داخل بلاد المغرب في عقر دار المرابطين، كان لها أثر سلبي على دولة المرابطين أدت بعد ذلك إلى هزيمتين متتاليتين للمسلمين من الصليبيين في بلاد الأندلس؛ الهزيمة الأولى: قتندة، والهزيمة الأخرى هي هزيمة القليعة.

قامت دولة المرابطين سنة (440هـ) بقدوم الشيخ عبد الله بن ياسين ، وتدرج الأمر ببطء حتى انضم أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مع الشيخ عبد الله بن ياسين .

وحدثت فرجة للمسلمين كانت غير متوقعة في ذلك الوقت، وحصل بعدها انتشار بسيط ثم انتشار سريع ثم فتح عظيم وتمكين، ثم دنيا وسلطان وعز كبير جداً للمسلمين، استمر من سنة (440هـ) إلى سنة (509هـ) يعني: حوالي (70) سنة.

والشيء الطبيعي جداً والمتوقع والعادي أن يحدث انكسار جديد للمسلمين، بسبب فتنة الدنيا التي فتحت على المسلمين، وفتنة الأموال التي كثرت في أيدي المسلمين، والناس تتوقع أنه لا يمكن لهذه الدولة أن تتقهقر وتهزم، وتستغرب أن يحدث ذلك بعد وفاة يوسف بن تاشفين ولا تستغربه أن يحدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بلا شك أعظم تربية وأقوى أثراً من يوسف بن تاشفين ومن أمثال يوسف بن تاشفين ، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم البشر وأحسنهم، وأحب الخلق إلى الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فإنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حدثت الردة، وحدث انكسار كبير جداً للمسلمين، فهذه دورة طبيعية من دورات التاريخ، فالذي حدث في بلاد الأندلس أمر من الأمور الطبيعية جداً أنه بعد هذا العلو بدأ يحدث الانكسار.

فهذه هي الأشياء التي حدثت بعد انتهاء عصر يوسف بن تاشفين وبداية عصر علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله الذي كان أيضاً مجاهداً على نسق أبيه في أول الأمر.

اشغال المرابطين بالجهاد وإهمال تعليم الناس وتفقيههم في الدين

استمر الجهاد في عهد علي بن يوسف بن تاشفين ولم يتوقف، فقد كانت له صولات وجولات مع النصارى في أكثر من موقعة، ومع ذلك فتن المرابطون بالدنيا مع استمرار الجهاد وكثرة الذنوب في البلاد، وإن وجد العلماء، وهذه في منتهى الغرابة ألغاز عجيبة في الظاهر، لكن عندما نحلل الموقف نجد الأمر شيئاً طبيعياً وهو افتتان الناس بالدنيا والجهاد مستمر، وكثرة الذنوب في وجود العلماء، وهذا يرجع إلى أمرين:

الأمر الأول: الخطأ الكبير الذي ارتكبه المسلمون في دولة المرابطين -وعلى المسلمين أن يحذروا منه دائماً- هو التركيز على جانب من جوانب الإسلام وترك الجوانب الأخرى، فقد انشغل المرابطون في أرض الأندلس وفي بلاد المغرب وما حولها بالجهاد في سبيل الله عن تعليم الناس وتفقيههم في الدين، ومهمة التعليم مهمة شاقة جداً وبالذات في هذا الزمن، والناس بطبيعتها لا تحب من يعطي لها قوانين وبرامج، فهي متفلتة من التعلم ومن الالتزام بالدين، فتريد أن تبذل معها مجهوداً ضخماً حتى تعلمها أمر دينها.

فالمرابطون انشغلوا بالجهاد في سبيل الله، وجيوشهم الكثيرة جداً تخرج في كل مكان، والناس ما تعلمت الدين كما ينبغي أن تتعلم، كما كان في عهد عبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين رحمهما الله.

والإسلام دين متوازن لا يغلب جانباً على جانب، فقد انشغل المرابطون عن إدارة الحكم والسياسية في داخل البلد بالأمور الخارجية.

ومن عوامل نجاح عبد الرحمن الناصر رحمه الله كما ذكرنا سابقاً أنه أقام الدولة المتوازنة في العلم والجهاد والاقتصاد والقانون والعمران والعبادة وكل شيء، وكون الدولة التي تسد حاجات الروح والجسد فسادت الدولة وتمكنت.

وكذلك كان من عوامل نجاح الشيخ عبد الله بن ياسين في نشأة دولة المرابطين: أنه أقام الجماعة المتوازنة التي تهتم بكل جوانب الحياة وتعطي قدراً مناسباً من الجهد والطاقة والوقت والعمل، كما علمهم أن يكونوا مجاهدين علمهم أن يكونوا عابدين لله سبحانه وتعالى، وكما علمهم أن يكونوا سياسيين بارعين علمهم أن يكونوا متعاملين تعاملاً على نهج الإسلام وأصول الإسلام، حتى أنشأ ما يسمى بالجماعة المتوازنة، لكن أن يوجه المسلمون طاقتهم في دولة المرابطين في سنة (500) وما بعدها إلى الجهاد في سبيل الله وإلى أمور العبادة، ويتركوا أمور السياسة الداخلية وتثقيف الناس وتعليمهم أمر الدين، والسيطرة على المعاصي التي بدأت تنتشر في بلاد المغرب والأندلس، فهذا شيء فيه خلل حدثت من جرائه هزة في دولة المرابطين.

كثرة الذنوب والمعاصي في بلاد المرابطين وانشغال العلماء بالمناظرات

الأمر الثاني: أن الذنوب كثرت في أرض المرابطين سواء في أرض المغرب أو أرض الأندلس مع وجود العلماء الكثر، فكثرة الذنوب أمر طبيعي في بلاد المرابطين بعد أن كثرت فيها الأموال وانفتحت الدنيا؛ لأن معظم الذنوب تحتاج إلى أموال كثيرة لإيجاد الخمر والمخدرات ودخول الملاهي الليلية.. وما إلى ذلك من أنواع المعاصي.

والنفوس الضعيفة التي كانت في دولة المرابطين، والتي كانت تفكر في الذنوب وكانت لا تقدر عليها، بدأت بعد أن كثرت الأموال عندها ترتكب من المعاصي الكبيرة ألواناً وأشكالاً، والناس جميعاً إلا ما رحم الله يفتنون بالمال ويقعون في الذنوب؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على لسان قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27]، والأراذل هم: ضعاف الناس وبسطاؤهم وفقراؤهم، وهم الذين اتبعوا نوحاً عليه السلام واتبعوا الرسل من بعده، واتبعوا كل الدعاة من بعدهم إلى يوم القيامة.

وسبب ذلك كله هو أن العلماء انشغلوا بفرعيات الأمور وأغفلوا أساسياتها، فانشغلوا بالفروع عن الأصول، فأخذوا يؤلفون المؤلفات ويعقدون المناظرات، ويقسمون التقسيمات في أمور لا ينبني عليها كثير عمل، بينما أغفلوا أموراً لا يصح لهم أبداً أن يتركوها، وتناظروا كثيراً عن كيفية وضع اليد أثناء الصلاة، هل توضع على البطن أو على الصدر، وفي أي مكان في الصدر؟ وعن كيفية وضع السبابة أثناء التشهد، هل ترفع من أول التشهد أو في منتصف التشهد فقط؟ وهل ترفع ساكنة أم متحركة؟ وهل حركتها رأسية أفقية أم دائرية؟ وهذا في منتهى الغرابة أن تجد الناس يتجادلون كثيراً في هذا الأمر، وتناظروا طويلاً في مذهب المرجئة والمعطلة والمشبهة والمجسمة .. وأمور ما كان الناس يرونها ولا يسمعون عنها أبداً، وفتحوا على الناس أبواباً ما فتحها عليهم رسولهم صلى الله عليه وسلم.

ونتج عن هذا التعمق في الفروع أشياء خطيرة منها:

أولاً: وجود جدار عظيم جداً بين العلماء والعامة، فلا العامة يفهمون العلماء ولا العلماء يفهمون العامة، ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أعلم البشر وأحكم الخلق كان يتكلم بالكلمة فيفهمه كبير الصحابة والأعرابي البسيط والرجل والمرأة والكبير والصغير صلى الله عليه وسلم، لكن في عهد المرابطين الأخير لما اشتغل الناس بالفروع والتهوا بها عن الأصول، حدث أمر آخر نتيجة هذه المناظرات الطويلة وهو عزلة خطيرة للعلماء عن المجتمع، وأخذوا يتحدثون في كل هذه الأمور، وتركوا مصائب عظاماً حلت على المجتمع، فقد كانت الخمور تباع وتشترى، بل وتصنع في البلاد ولا يتكلم أحد.

وضرائب باهظة تفرض على الناس غير الزكاة بغير وجه حق، ولا يتكلم أحد من العلماء.

وظلم الولاة لأفراد الشعب ولا يتكلم أحد من العلماء.

وملاه للرقص تعلن الفساد والسفور ولا يتكلم أحد من العلماء.

وخروج النساء حاسرات بلا حجاب ولا يتكلم العلماء عن هذا الأمر.

ففي زمن دولة المرابطين في سنة (500هـ) وما بعدها كانت النساء يخرجن من بيوتهن سافرات بلا حجاب، والعلماء لا يتكلمون عن هذه الأمور، بل هم منشغلون بالحديث عن المرجئة والمعطلة.. وغير ذلك، ويعتقدون أن هذه الأمور التي يجب أن يشغل بها المسلمون عن هذه الأمور الأقل قيمة في نظرهم.

فحدث في أواخر عهد المرابطين غياب الشمولية في دولة المرابطين، وفتنة الدنيا والمال، وكثرة الذنوب، وجمود الفكر عند العلماء، وانعزالهم عن المجتمع، وفوق كل هذه الأمور تحدث أزمة اقتصادية حادة جداً في دولة المرابطين، وهي أن ينقطع المطر سنوات، وهذه الأزمة ليست صدفة، بل هي في قرآن الله الكريم: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].

وقال تعالى حاكياً عن قول سيدنا نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:10-13].

إذاً: الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمنين دائماً بالقحط وبالأزمات الاقتصادية الحادة عندما يبتعدون عن طريقه، فلو لاحظت في مجتمعك أن الحالة الاقتصادية بدأت تسوء والأموال تقل في أيدي الناس، والناس تشتغل وتعمل ولا تحصل ما يكفي لسد رمقهم أو ما يكفي لعيشهم عيشة كريمة، فاعلم أن هناك خللاً في العلاقة بين العباد وبين الله سبحانه وتعالى، وابتعاداً عن منهج الله سبحانه وتعالى، ولو كانوا يطيعونه سبحانه وتعالى لبارك لهم في أقواتهم.

ثم تلا هذا الوضع الذي حدث في بلاد المرابطين هزائم متعددة من قبل النصارى؛ كموقعة قتندة سنة (514هـ)، وموقعة القليعة سنة (523هـ) والتي هزم فيها المسلمون من قبل النصارى.

استمر الجهاد في عهد علي بن يوسف بن تاشفين ولم يتوقف، فقد كانت له صولات وجولات مع النصارى في أكثر من موقعة، ومع ذلك فتن المرابطون بالدنيا مع استمرار الجهاد وكثرة الذنوب في البلاد، وإن وجد العلماء، وهذه في منتهى الغرابة ألغاز عجيبة في الظاهر، لكن عندما نحلل الموقف نجد الأمر شيئاً طبيعياً وهو افتتان الناس بالدنيا والجهاد مستمر، وكثرة الذنوب في وجود العلماء، وهذا يرجع إلى أمرين:

الأمر الأول: الخطأ الكبير الذي ارتكبه المسلمون في دولة المرابطين -وعلى المسلمين أن يحذروا منه دائماً- هو التركيز على جانب من جوانب الإسلام وترك الجوانب الأخرى، فقد انشغل المرابطون في أرض الأندلس وفي بلاد المغرب وما حولها بالجهاد في سبيل الله عن تعليم الناس وتفقيههم في الدين، ومهمة التعليم مهمة شاقة جداً وبالذات في هذا الزمن، والناس بطبيعتها لا تحب من يعطي لها قوانين وبرامج، فهي متفلتة من التعلم ومن الالتزام بالدين، فتريد أن تبذل معها مجهوداً ضخماً حتى تعلمها أمر دينها.

فالمرابطون انشغلوا بالجهاد في سبيل الله، وجيوشهم الكثيرة جداً تخرج في كل مكان، والناس ما تعلمت الدين كما ينبغي أن تتعلم، كما كان في عهد عبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين رحمهما الله.

والإسلام دين متوازن لا يغلب جانباً على جانب، فقد انشغل المرابطون عن إدارة الحكم والسياسية في داخل البلد بالأمور الخارجية.

ومن عوامل نجاح عبد الرحمن الناصر رحمه الله كما ذكرنا سابقاً أنه أقام الدولة المتوازنة في العلم والجهاد والاقتصاد والقانون والعمران والعبادة وكل شيء، وكون الدولة التي تسد حاجات الروح والجسد فسادت الدولة وتمكنت.

وكذلك كان من عوامل نجاح الشيخ عبد الله بن ياسين في نشأة دولة المرابطين: أنه أقام الجماعة المتوازنة التي تهتم بكل جوانب الحياة وتعطي قدراً مناسباً من الجهد والطاقة والوقت والعمل، كما علمهم أن يكونوا مجاهدين علمهم أن يكونوا عابدين لله سبحانه وتعالى، وكما علمهم أن يكونوا سياسيين بارعين علمهم أن يكونوا متعاملين تعاملاً على نهج الإسلام وأصول الإسلام، حتى أنشأ ما يسمى بالجماعة المتوازنة، لكن أن يوجه المسلمون طاقتهم في دولة المرابطين في سنة (500) وما بعدها إلى الجهاد في سبيل الله وإلى أمور العبادة، ويتركوا أمور السياسة الداخلية وتثقيف الناس وتعليمهم أمر الدين، والسيطرة على المعاصي التي بدأت تنتشر في بلاد المغرب والأندلس، فهذا شيء فيه خلل حدثت من جرائه هزة في دولة المرابطين.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة الأندلس عبد الرحمن الداخل صقر قريش 2782 استماع
سلسلة الأندلس الإمارة الأموية 2718 استماع
سلسلة الأندلس عهد الفتح الإسلامي 2706 استماع
سلسلة الأندلس دولة المرابطين 2700 استماع
سلسلة الأندلس سقوط الأندلس 2662 استماع
سلسلة الأندلس عهد الولاة 2642 استماع
سلسلة الأندلس دولة الموحدين 2592 استماع
سلسلة الأندلس عهد ملوك الطوائف 2261 استماع
سلسلة الأندلس الطريق إلى الأندلس 2072 استماع
سلسلة الأندلس الخلافة الأموية 2055 استماع