خطب ومحاضرات
سلسلة الأندلس عهد الفتح الإسلامي
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
مع الحلقة الثانية من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط.
تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض المقدمات الخاصة بفتح الأندلس والآن ندخل في تفصيلات هذا الفتح، واليوم نتحدث عن أول فترات الأندلس ما يسمى: بعهد الفتح الإسلامي الأندلسي الذي بدأ في سنة 92 من الهجرة، ولكي نفهم الفتح الإسلامي للأندلس في سنة 92 من الهجرة لا بد أن نفهم الوضع في الشمال الأفريقي الملاصق للأندلس في ذلك الزمن، فبلاد الشمال الأفريقي دخلها الإسلام عبر سنوات عديدة تصل إلى 70 سنة، ابتداء من سنة 23 من الهجرة، وهناك فتوحات في الشمال الأفريقي، لكن كانت دائمة الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى.
يسكن في هذه المناطق قبائل ضخمة جداً اسمها: قبائل البربر وسنفصل إن شاء الله عنها خلال الحلقات اللاحقة، كانت قبائل البربر كثيرة الارتداد عن الإسلام، حتى دارت بينها وبين المسلمين جولات كثيرة حتى استقر الإسلام فيها في أواخر سنة 85 أو 86 من الهجرة على يد موسى بن نصير رحمه الله، وموسى بن نصير رحمه الله ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبت أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الأفريقي.
كان من التابعين، روى عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه نصير كان غلاماً نصرانياً، أسر في موقعة عين التمر، وكان قائد المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكان نصير يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في كنيسة من الكنائس، ثم عرض عليه الإسلام، فأعجب بالإسلام ودخل فيه، ونصير هو أبو موسى بن نصير وكان معه أيضاً في نفس الفترة وفي نفس المكان سيرين والد محمد بن سيرين التابعي المشهور.
فانظر كيف فعل الإسلام بهؤلاء؟ فلو كان نصير نصرانياً لظل على ما هو عليه في زمانه، ولأصبح راهباً من الرهبان موجوداً في منطقة في العراق أو في فارس، لكن انظر كيف من الله عليه وعلى ابنه بعد ذلك وأصبح في حسنات خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فبعد وفاته بسنوات فتحت بلاد الأندلس والشمال الأفريقي على يد موسى بن نصير رحمه الله، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وهذه ثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي في فارس أن فتحت بلاد الأندلس بعد ذلك بعشرات الأعوام، وخالد بن الوليد إن شاء الله مشارك في الأجر لمن فتح بلاد الأندلس، ونصير لما أسلم أخذ يتدرج في الإسلام حتى أصبح عالماً ومجاهداً من المجاهدين، وكان فارساً مغواراً حتى أنه ترقى في المناصب حتى أصبح في زمن الدولة الأموية هو قائد جيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، فتولى القيادة لمدة سنوات كثيرة حتى أن ابنه موسى بن نصير أصبح يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فتربى موسى بن نصير على حياة الجهاد والدين ونشر الإسلام وما إلى ذلك، ثم كبر بعد ذلك وأخذ يتولى المناصب حتى أصبح قائد جيوش الأمويين في منطقة مصر، وكان الوالي على مصر عبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك بن مروان ، ثم بعد ذلك أصبح والياً على أفريقيا في سنة 85هـ، وهو الذي ثبت أقدام الإسلام في أفريقيا بعد ارتداد الناس عن الإسلام، وقد كانوا دخلوا في الإسلام من قبل على يد عقبة بن نافع رحمه الله.
ارتد الناس عن الإسلام فترة من الزمان بعد أن اغتيل عقبة بن نافع في القيروان على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى، فنظر موسى بن نصير في سبب ارتداد الناس عن الإسلام بصورة متكررة، فوجد خطأين للسابقين وتجنبهما رحمه الله موسى بن نصير ولذلك ثبت الإسلام في عهده في تلك البلاد بعد ذلك.
الأمر الأول: أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحاً سريعاً، ولا يحمون ظهورهم في أماكن كثيرة إذا توغلوا فيها، فانقلب عليه الناس وأحاطوا به وقتلوه، فبدأ موسى بن نصير يفتح البلاد في هدوء وفي حذر، وبدأ يتقدم خطوة خطوة ويؤمن ظهره ثم يدخل خطوة أخرى ويؤمن ظهره فتم فتح البلاد في 7 سنوات أو في 6 سنوات، بينما عقبة بن نافع فقد تم له الأمر في شهور معدودة.
الأمر الثاني: أن هؤلاء القوم لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فبدأ يعلمهم الإسلام، فأتى بالتابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلموا الناس الإسلام، فأحب الناس الإسلام ودخلوا في دين الله سبحانه وتعالى أفواجاً، وبدأ يأخذ في صبر شديد يعلم الناس هذا الدين حتى أصبح البربر في المنطقة هم جند الإسلام وأهله.
موسى بن نصير رحمه الله بعد أن استتب له الأمر في شمال أفريقيا فكر في قوله سبحانه وتعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، فقال: البلاد المجاورة لشمال أفريقيا هي بلاد الأندلس، إذاً: لابد أن أفتح بلاد الأندلس، كان موسى بن نصير رحمه الله قد أتم فتح الشمال الأفريقي كله إلا مدينة سبتة، وهي مدينة من المدن المغربية، تقع على مضيق جبل طارق مباشرة، وبلاد الأندلس يفصل بينها وبين المغرب مضيق جبل طارق، ومضيق جبل طارق ليس مضيقاً هيناً بسيطاً، فإن عرضه في بعض المناطق 13 كيلو ويصل عرضه في بعض المناطق الأخرى 37 كيلو، وعلى ساحله ميناءان شهيران كبيران هما: ميناء طنجة وميناء سبتة.
فتح كل الشمال الأفريقي ما عدا ميناء سبتة، وميناء طنجة فتح في الإسلام، ولخطورة هذا المكان ولى على ميناء طنجة رجل من القواد المهرة المشهورين جداً في التاريخ الإسلامي وهو طارق بن زياد رحمه الله، وطارق بن زياد من قبائل البربر الأصلية التي تعيش في مناطق الشمال الأفريقي أي: أنه ليس بعربي رحمه الله، ونحن لما تأتي في رءوسنا كلمة البربر نظن أن وجوههم سوداء وأنهم من الزنوج أو ما إلى ذلك.
فالبربر شعوب شعورهم شقراء وأعينهم زرقاء وألوانهم أبيض حتى أن بعض المحللين يقول: أنهم من أصول أوروبية لأنهم شديدي الشبه بالأوروبيين، كان طارق بن زياد رحمه الله ضخم الجثة، شعره أشقر، عيناه زرقاوان، ومع ذلك فإن كل هذه الأمور لم تقف في طريق جهاده إلى الله سبحانه وتعالى، فتولى طارق بن زياد رحمه الله ولاية مدينة طنجة القريبة جداً من سبتة التي لم تفتح والقريبة من بلاد الأندلس، وموسى بن نصير رحمه الله لما فكر في فتح الأندلس لم تكن هذه الفكرة فكرة جديدة بل هي فكرة قديمة جداً من أيام سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
فالقسطنطينية كانت قد استعصت على الحملات الإسلامية في أيام سيدنا عثمان بن عفان عندما وصل الفتح إلى كل آسيا الصغرى، واستمرت القسطنطينية فترات طويلة لم تفتح إلا بعد قدوم الخلافة العثمانية الراشدة، فقد تم فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح رحمه الله، يقول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر، يعني: يريد أن يفتح المسلمون الأندلس ومن ثم يتجه الفاتحون إلى أقصى غرب أوروبا حتى يفتحوا القسطنطينية من الغرب وليس من الشرق من قبل البحر الأسود في ذلك الوقت.
إذاً: فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة راودت المسلمين منذ عهد سيدنا عثمان بن عفان ، لكن المسلمون لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المنطقة في المغرب العربي إلا في زمن الدولة الأموية في فترة حكم موسى بن نصير على الشمال الأفريقي.
كانت المشكلة الأولى عند موسى بن نصير أن المسافة بين المغرب والأندلس 13 كيلو متر على الأقل، وليس عند المسلمين سفن كافية لعبور هذه العقبة المائية الكبيرة، ومعظم فتوحاتهم كانت برية باستثناء بعض المواقع مثل ذات الصواري وفتح قبرص وما إلى ذلك، وليست لهم سفن ضخمة تحمي الجيوش وتعبر بها مضيق جبل طارق في ذاك الوقت.
أما المشكلة الثانية: أن جزر البليار في شرق الأندلس كانت مملوكة للنصارى، ولو أن موسى بن نصير فتح الأندلس ستكون هذه الجزر من وراء ظهره، وهو يريد أن يحمي ظهره حتى لا يقع في أخطاء السابقين، فجزر البليار مشكلة بالنسبة له، لازم أن يحلها قبل أن يدخل على بلاد الأندلس.
المشكلة الثالثة: أن ميناء سبتة الذي يطل على مضيق جبل طارق لم يفتح، ويحكمه رجل اسمه: يوليان أو جوليان ، وهو رجل نصراني، وكانت له علاقات طيبة بملك الأندلس الأسبق غيطشة ، والذي حدث عليه انقلاب وتولى الحكم في الأندلس من بعده رجل اسمه: لذريق أو ردريكو ، لكن العرب كانوا يسمونه لذريق .
ولم يستطع موسى بن نصير أن يعبر إلى منطقة الأندلس ومن خلفه يوليان الذي كان على خلاف مع لذريق لكن الذي يخشاه هو أنه ينقلب عليه ويساعد لذريق في حربه مقابل أجر مادي أو ما إلى ذلك.
المشكلة الرابعة: أن قوات الفاتحين المسلمين التي جاءت من جزيرة العرب والشام واليمن قوات محدودة قليلة منتشرة في كل بلاد الشمال الأفريقي، فكيف يأخذ من هذه القوات وينتقل إلى منطقة الأندلس؟ قد تنتقض عليه بلاد الشمال الأفريقي وقد لا يستطيع أن يفتح بلاد الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين.
المشكلة الخامسة: أن قوات النصارى في الأندلس ضخمة جداً، فقد كانت النصارى تحكم بلاد الأندلس تحت قيادة لذريق ، وكانت كميات الجيوش فيها كبيرة، والرجل كان قوياً ومتكبراً، والقوات ضخمة ومعهم عدة كبيرة وقلاع وحصون.
والمشكلة السادسة: أن أرض الأندلس بالنسبة لـموسى بن نصير ومن معه مجهولة تماماً، فهي أرض لم تعبرها سفن المسلمين من قبل، فلا يعرفون أي شيء عن أرض الأندلس أو جغرافية الأندلس وما إلى ذلك، وإن كانت الأنباء تترامى أن هذه البلاد صعبة جداً في الفتح؛ لأن الأندلس أرض كلها جبال، والجبال شاقة جداً على الجيوش وبالذات في تلك الآونة لأنهم كانوا يعتمدون على نقل عتادهم بالخيول والبغال والحمير وما إلى ذلك، فكان من الصعب جداً حركة هذه الدواب في الجبال، إضافة إلى أن فيها أنهار وبحيرات كثيرة وهذه تعتبر عوائق ضخمة في عبور الجيوش.
فهذه مشاكل ضخمة جداً أمام موسى بن نصير رحمه الله، ومع ذلك فهو يصر على فتح بلاد الأندلس، فقد واجه كل هذه المشاكل الضخمة التي أمامه، ولم يكسل أبداً عن فتح بلاد الأندلس مع كل هذه العوائق، فبدأ في أناة يرتب الأمور، فأول شيء بدأ ينشئ سفناً ويبني مواني، وهذا أمر قد يطول لكن سبحان الله! كان عنده همة عالية جداً، فقد بنى أكثر من ميناء في منطقة الشمال الأفريقي أشهرها ميناء القيروان التابع لمدينة القيروان والتي أسسها قبل ذلك عقبة بن نافع رحمه الله، ثم بدأ يعلم البربر الإسلام في مجالس خاصة، ويعطيهم دورات مكثفة لتعليم الإسلام، وبدأ يكون فرقاً من البربر حتى تكون جيش الإسلام.
وسبحان الله! فإن أي دولة من الدول حاربت غير دول الإسلام مستحيل أن تغير من طبائع الناس وولائهم وحبهم حتى يقاتلوا معها بعد سنتين أو ثلاث سنوات فقط من فتح الإسلام حتى أصبح كل هم معتنقيه أن ينصر هذا الدين، فإن فرنسا استمرت 130 سنة في الجزائر وخرجت منها والناس ما زالوا مسلمين وما زالوا متحمسين للإسلام والصحوة الإسلامية، ونسأل الله سبحانه وتعالى لهم العافية في هذه المشاكل التي تقابلهم في هذه الآونة الأخيرة.
أما الإسلام فقد انتشر في البربر وبدأ موسى بن نصير يعلم الناس الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس لله سبحانه وتعالى، فكثر المسلمون، وصار معظم الجيش الإسلامي الموجود في الشمال الأفريقي من البربر في مدة تتراوح من خمس إلى ست سنوات، فأصبحوا محاربين لهذا الدين، وأصبحوا عماده وجنده.
الأمر الثالث: ولى طارق بن زياد على قيادة الجيش الإسلامي المتجه إلى فتح بلاد الأندلس، لأنه جمع بين التقوى والورع والكفاءة الحربية والجهاد في سبيل الله والرغبة في أن يموت في سبيل الله، وهو بربري ليس بعربي، فليس لعربي على أعجمي وليس لأعجمي على عربي فضل إلا بالتقوى.
وقد قدمه موسى بن نصير على العرب لما له من الكفاءة والفضل، إذ ليست دعوة الإسلام دعوة عنصرية أو قبلية، إنما هي دعوة للعالمين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] صلى الله عليه وسلم.
ثم إن طارق بن زياد لكونه كان من البربر يستطيع أن يقود البربر، فليس هناك أي موانع نفسية لديه تجاه الإسلام، ثم إنه يفهم لغة البربر ويتقن الحديث باللغة العربية.
الأمر الرابع: الذي عمله موسى بن نصير والذي يدل على حنكة وحكمة هذا القائد الذي أغفل دوره في التاريخ الإسلامي، هو أنه فتح جزر البليار لأجل أن يأمن ظهره قبل أن يدخل بلاد الأندلس، ففتح جزر البليار وضمها لأملاك المسلمين وأصبح ظهره محمياً من ناحية الشرق إذ أن جزر البليار تقع في شرق بلاد الأندلس في البحر الأبيض المتوسط.
لكن بقيت عنده مشكلة سبتة، وكان يحكمها يوليان ، وسبتة ميناء حصين جداً، ومشكلة أخرى هي مشكلة الجيش البربري، ومشكلة السفن فهو يحتاج إلى سفن كثيرة، فبدأ في بناء السفن في سنة 87 أو 88هـ، وهو لا يعرف أرض الأندلس فإنها مجهولة لديه فيريد يحل كل هذه المشاكل، ولما استنفذ موسى بن نصير الوسع والطاقة وفعل كل ما عليه تدخلت عناية رب العالمين سبحانه وتعالى وتدبيره، قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، ففي قلب يوليان حقد كبير على لذريق حاكم الأندلس في ذلك الوقت؛ لأن لذريق قتل غيطشة الذي كان قبله وكانت هناك علاقات طيبة بين غيطشة ويوليان ، وأولاد غيطشة استنجدوا بـيوليان لكي يساعدهم في حرب لذريق ، إذ ليست لهم طاقة بـلذريق وكذلك يوليان ليست له طاقة بـلذريق .
وأيضاً أن أولاد غيطشة كانت لهم ضياع ضخمة في أرض أسبانيا وقد صودرت وأخذها لذريق ، الذي أذاق الشعب سوء العذاب، فقد فرض عليهم كثيراً من الضرائب حتى أن شعب أسبانيا كان يكرهه، لأن لذريق كان متنعماً وشعبه في بؤس شديد.
كل تلك الأفكار خالجت ذهن يوليان ، فأرسل رسلاً إلى والي طنجة طارق بن زياد رحمه الله من أجل تتفاوض معه، وهذا من تدبير رب العباد سبحانه وتعالى، فعرض عليه ثلاثة أمور وهي: الأمر الأول: أن يسلمه ميناء سبتة، والأمر الثاني: أن يمده ببعض السفن لتساعد الجيش في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس، فـموسى بن نصير ما كانت عنده سفن كافية، الأمر الثالث: أن يعطيه معلومات كافية عن أرض الأندلس، فانحلت كل المشاكل التي كانت تعيق طارق بن زياد والي طنجة وكذا موسى بن نصير الذي كان ساعتها مقيماً في القيروان في تونس عاصمة الشمال الأفريقي في ذلك الوقت.
أما مقابل هذا العرض المغري جداً للمسلمين فإن يوليان يريد ضيعات وأملاك غيطشة ، فقد كانت له 3000 ضيعة أو جنة أو حديقة كلها موجودة في بلاد الأندلس، وقد كان يمكلها غيطشة ملكاً شخصياً له ولأولاده، وهذه الأملاك قد صادرها يوليان .
ولما سمع طارق بن زياد هذا الأمر سعد سعادة كبيرة لهوان الثمن عندهم، فالمسلمون ما فكروا في مغنم في فتحهم لتلك البلاد، وما فكروا في الدنيا أو مال أو في ثروة، فكل ما يريدون هو أن يدخلوا الإسلام إلى هذه البلاد ويعلموا الناس الإسلام، فقد كانت هذه الأموال عندهم أشياء لا ينظر إليها مطلقاً، بل إن الناس إذا دخلوا في الإسلام كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، بل لو لم يسلموا ودفعوا الجزية للمسلمين فإنه يترك لهم كل ما يملكون في أيديهم ولا يدفعون إلا الجزية فقط، فالمسلمون أصلاً غير راغبين في هذه الدنيا التي يملكها غيطشة ولذريق ويوليان وما إلى ذلك، ولم يأتوا من أقصى بلاد العالم إلى هذه المنطقة ليجمعوا مالاً أو ثروة، فما أهون طلب يوليان في مقابل هذا الفتح العظيم لبلاد الأندلس، فهذا من تدبيره سبحانه وتعالى.
أخذ طارق بن زياد رحمه الله هذه المعلومات وذهب بها إلى موسى بن نصير رحمه الله في القيروان وأخبره بذلك الأمر فسر بذلك سروراً عظيماً، فبعث موسى بن نصير رسالة للوليد بن عبد الملك رحمه الله يخبره بذلك، فسمح له الوليد بن عبد الملك بعبور الأندلس على ألا يدخل بلاد الأندلس إلا بعد أن يختبرها بسرية من سرايا المسلمين، فلا يعتمد على شرح يوليان فإنه قد يخون عهده، وقد يتفق مع لذريق أو مع غيره من النصارى على حرب المسلمين، فلا بد من تأكد المعلومات الصحيحة.
فجهز موسى بن نصير رحمه الله سرية من 500 رجل على رأسهم طريف بن مالك أو طريف بن ملوك حسب الروايات المختلفة، وهو من البربر أيضاً فإن قادة هذه المنطقة جميعاً من البربر حديثي الإسلام، فإن الإسلام غيرهم كثيراً، فلو كان طارق بن زياد وثنياً قبل أن يدخل في الإسلام، كم سيكون ذكره في التاريخ؟ وهل كان سيخلد اسمه في التاريخ أم أنه كان سيختفي مع الذين اختفوا من البربر الذين كانوا يعبدون غير الله قبل أن يدخل عليهم الإسلام؟
طريف بن مالك رحمه الله أخذ 500 من المسلمين وعبر بهم من المغرب إلى الأندلس في رمضان سنة 91 من الهجرة، ثم بدأ يدرس منطقة الأندلس الجنوبية التي سينزل فيها الجيش الإسلامي بعد هذه الفترة، ثم عاد بنجاح إلى موسى بن نصير وشرح له جغرافية هذه المنطقة، ومكث موسى بن نصير بعد عودة طريف بن مالك رحمه الله عاماً كاملاً يجهز جيشه في عناية شديدة ويعد العدة حتى أعد في خلال هذه السنة سبعة آلاف مقاتل، بينما جيش النصارى الموجود في بلاد الأندلس أعداد ضخمة جداً من البشر كما سيأتي.
معركة وادي برباط الشهيرة
ثم بدأ هذا الجيش يعبر مضيق جبل طارق في شعبان سنة 92 من الهجرة، ونزلوا على جبل عرف في التاريخ بعد ذلك بجبل طارق والمضيق جبل طارق، ويعرف بهذا الاسم إلى زماننا الحاضر حتى في اللغة الأسبانية بمضيق جبل طارق، ثم انتقل منه إلى الجزيرة الخضراء وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس وجيش النصارى الضخم، وقد كانت هناك حامية في منطقة الجنوب فقابلها طارق بن زياد رحمه الله وعرض عليهم أموراً وهي: إما أن تدخلوا في الإسلام ولكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترك كل أملاككم في أيديكم على أن تدينوا بدين الله سبحانه وتعالى، أو تدفعوا الجزية للمسلمين ونترك لكم أيضاً كل ما في أيديكم، أو أن تدخلوا معنا في قتال ولا نؤخركم إلا ثلاثة أيام، هكذا كانت دعوة المسلمين.
فالنصارى القوط الموجودين في ذاك المكان أخذتهم العزة فتجهزوا لقتال المسلمين، فقاتلهم طارق بن زياد رحمه الله فانتصر عليهم، وقد كانت الحرب إلى حد ما سجالاً بين الفريقين، وقوة النصارى أو قوة القوط في ذاك الزمن لم تكن بالقوة الكبيرة، ولم يكن هو جل الجيش القوطي في هذه المنطقة فانتصر عليهم طارق بن زياد ، فأرسل زعيم القوط في تلك المنطقة رسالة سريعة إلى لذريق في طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، وكانت تقع في منتصف بلاد الأندلس كالقاهرة بالنسبة لجمهورية مصر العربية فإنها تقع في منتصف البلد، فقال في رسالته: أدركنا يا لذريق فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟!
والشيء الغريب عند أهل الأندلس أنهم يدخلون في دين الإسلام وأن يترك لهم كل شيء، وما كانوا متعودين على ذلك، فهذه السياسة ليست معروفة عندهم، والمعروف عندهم هو أن الفاتح أو المحتل لبلد ما يأخذ من خيراته وأمواله ثم يترك هذا البلد بعد أن يقتل ويذبح أبناء هذا البلد، أما أن يدخلوا ويترك لهم في دينهم كل شيء أو يدفعوا الجزية لهم ويترك لهم كل شيء فهذا لم يعهدوه من قبل، ثم إن المسلمين في ليلهم من القوام لله سبحانه وتعالى، يعني: أنه وجد طائفة عجيبة جداً من البشر فإنهم في الصلاة وكأنهم من الرهبان، وفي القتال وكأنهم من المحاربين الأشداء الذين تمرسوا على القتال طيلة حياتهم، فلا يدري أهل الأندلس أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟
وصلت الرسالة إلى لذريق فجن جنونه وأخذه الغرور وجمع من الناس مائة ألف مقاتل، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب، أما طارق بن زياد فإن عدد جيشه سبعة آلاف رجل ليست معهم إلا خيول قليلة، فأرسل رسالة إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد، فأرسل له موسى بن نصير خمسة آلاف رجل آخرين رجالة على رأسهم طريف بن مالك رحمه الله الذي اكتشف أرض الأندلس منذ عام قبل ذلك.
فأصبح جيش المسلمين قوامه 12000 مقاتل، فأخذ طارق بن زياد رحمه الله يتجول في المنطقة ويبحث عن أرض تصلح للقتال حتى وصل إلى منطقة عرفت في التاريخ: بوادي برباط، وتسمى في بعض الكتب: وادي لبتة أو وادي لكة أو وادي لكة، فوجد أن هذا المكان مناسب؛ لأن في خلفه وعن يمينه -أي: في الجنوب والشرق- جبلاً ضخماً يحمي خلفه ويحمي الميمنة فلا يستطيع أحد أن يلتف من حوله، وفي ميسرة الوادي بحيرة عظيمة جداً فلا يستطيع أحد أيضاً أن يلتف من جهة اليسار ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي فرقة لحمايته بقيادة طريف بن مالك حتى لا يدخل أحد عليهم من هذا المدخل الجنوبي فيباغت ظهر المسلمين، وأصبح أمامه الشمال مفتوحاً للنصارى حتى يستدرج قوات النصارى للحرب في هذه المنطقة فلا يلتف أحد من حوله في هذه الأرض التي تعتبر إلى حد كبير مجهولة بالنسبة للمسلمين مهما درسوها أو عرفوها.
جاء لذريق ومعه مائة ألف فارس، جاء ومعه البغال محملة بالحبال، لتقييد المسلمين وأخذهم عبيداً بعد موقعة وادي برباط، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يحمل على بغلين، وهو يلبس التاج الذهبي والثياب المغشاة بالذهب، فهو لم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى في لحظات القتال والحروب.
وقد تم اللقاء بينهما في 28 رمضان سنة 92 من الهجرة، والحقيقة أن شهر رمضان شهر معارك أو فتوحات وانتصارات وشهر قيام وصيام وقرآن، ولا يدري الإنسان لماذا تحول شهر رمضان إلى شهر مسلسلات وأفلام جديدة، وفوازير وسهر للفجر، ونوم إلى حد منتصف النهار، وهروب من العمل ومضاربات ومشاكل؟
وأصبحت نفسية الصائم ضيقة، بخلاف المسلمين في ذلك الزمان، فإن رمضان لديهم شهر جهاد، فقد دارت معركة من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين وهي موقعة وادي برباط في 28 رمضان لسنة 92هجرية.
وقد يشفق الناظر إلى الجيشين على جيش المسلمين البالغ عددهم 12000 مقاتل في مقابل 100000 مقاتل من النصارى القوط، لكن الناظر المحلل يجد أن الشفقة كل الشفقة على جيش النصارى في تلك الموقعة، قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19]، فشتان بين فريق خرج طائعاً مختاراً راغباً في الجهاد وبين فريق خرج مكرهاً مضطراً مجبوراً على القتال، وشتان بين فريق أغلى أمانيه أن يموت في سبيل الله وبين فريق أغلى أمانيه أن يعود إلى أهله وإلى ماله، وشتان بين فريق يقف فيه الجميع في صف واحد كالصفوف في الصلاة الغني بجوار الفقير، والوزير بجوار الغفير، والحاكم بجوار المحكوم، بينما الفريق الآخر يملك فيه بعض الناس، ويستعبد بعضهم بعضاً، وشتان بين فريق له قائد رباني وهو طارق بن زياد رحمه الله الذي جمع بين التقوى والحكمة، والرحمة والقوة، والعزة والتواضع، وبين فريق له قائد متسلط مغرور ألهب ظهر شعبه بالسياط وعاش منعماً وشعبه في بؤس شديد.
فريق المسلمين إذا انتصر وزعت عليه أربعة أخماس الغنائم، ما يأخذ الجندي 10 جنيه أو 20 جنيه في الشهر بحيث أن الناس يباركون له على أنه قد أعفي من الجيش، وهذا ما يحصل في زماننا بينما في الزمان الأول كان المسلمون يتشوقون إلى الجهاد في سبيل الله، وإن كان الحافز للجهاد هو الدنيا لكن الله سبحانه وتعالى مطلع على القلوب، كانت توزع الغنائم على الجيوش الإسلامية، ففي عهد سيدنا عمر بن الخطاب في موقعة من مواقع المسلمين غنم المسلمون جواهر عديدة جداً لكسرى ملك فارس، فأخذ سيدنا عمر بن الخطاب هذه الجواهر الثمينة جداً وباعها ووزع ثمنها أربعة أخماس على الجيش، وخمس أدخله بيت المال.
ففرق بين جيش يأخذ أربعة أخماس الغنائم، وجيش لا يأخذ شيئاً بل يذهب كل شيء إلى الحاكم المتسلط المغرور، وفرق بين فريق يؤيده خالق الكون ومالك الملك سبحانه وتعالى، وبين فريق يحارب ربه ويتطاول على شرعه وعلى قانونه، وشتان بين فريق الآخرة وفريق الدنيا، فعلى من تكون الشفقة؟
وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقد قال سبحانه وتعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]؟
دارت الموقعة بين الجيشين ابتداءً من 28 رمضان واستمرت ثمانية أيام متواصلة، وتخللها عيد الفطر المبارك، وكانت أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين والمسلمون صابرون صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى انتهت المعركة في اليوم الثامن، وقد منَّ الله على المسلمين بالنصر بعد أن علم صدق إيمانهم وصبرهم على هذا القتال الطويل، وقتل لذريق في هذه الموقعة، وفي رواية: أنه هرب إلى الشمال واختفى ذكره من الوجود.
وبدأت الأندلس تفتح صفحة جديدة من الفتح الإسلامي الراقي المتحضر، وغنم المسلمون غنائم عظيمة جداً في موقعة وادي برباط، وكان أهم هذه الغنائم الخيول حتى أصبح معظم الجيش الإسلامي فرساناً بعد أن كان جله رجالاً قبل هذه الموقعة، وكان قد استشهد من المسلمين في هذه الموقعة 3000 مقاتل، رووا بدمائهم الغالية أرض الأندلس، وأوصلوا هذا الدين إلينا وإلى غيرنا من الناس، ولم يصل إلينا هذا الدين بتضحيات بسيطة أو قليلة وإنما وصل بدماء غالية.
مناقشة قضية حرق طارق بن زياد للسفن الحربية
وقبل الانتقال من موقعة وادي برباط إلى ما بعدها من المواقع في الأندلس نناقش قضية اشتهرت كثيراً في التاريخ الإسلامي والتاريخ الأوروبي وهي قضية حرق طارق بن زياد رحمه الله للسفن التي عبر عليها من المغرب إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي برباط.
يقولون: إن طارق بن زياد حرق السفن كلها حتى يحمس الجيش على القتال وقال لهم: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في السيف، هكذا تصور الرواية.
وبعض المؤرخين يصدقون الرواية والبعض الآخر يبطلونها، والحق أن هذه الرواية لا يجب أبداً أن تستقيم، فهذه رواية من الروايات الباطلة التي أدخلت على تاريخ المسلمين، والرد عليها كما يلي: أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح بالنظر إلى الروايات الإسلامية الأخرى، فهناك علم اسمه: علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، ولابد أن تكون الروايات عن أناس موثوقين، فهذه الرواية لم ترد أبداً في كتابات المسلمين الموثوق في تاريخهم، إنما جاءت فقط في الروايات الأوروبية التي كتبت عن موقعة وادي برباط، فهذه الرواية ليس لها سند صحيح.
ثانياً: أنه لو حدث حرق لهذه السفن كان سيكون هناك رد فعل من موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك ؛ لأن هذا أمر غريب جداً أن قائداً يحرق سفنه، وقد يكون هنالك حوار بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو يكون هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك أو من علماء المسلمين، هل يجوز هذا الفعل أم لا؟ فلذلك خفي تماماً رد الفعل لهذه الحادثة في كتب العلماء مما يعطي شكاً كبيراً في حدوثها.
ثالثاً: أن المصادر الأوروبية أشاعت هذا الخبر لأمر واضح جداً، وهو أن المحللين الأوبيين ما استطاعوا أبداً أن يفسروا كيف ينتصر 12000 من الرجال الذين ليس معهم خيول على 100000 فارس وهم في بلادهم وفي عقر دارهم وفي أرض عرفوها وألفوها، وكيف ينتصر هؤلاء القلة على هذه الكثرة العظيمة جداً من البشر؟ فقالوا: إن طارق بن زياد حرق سفنه وأصبح أمام المسلمين حل واحد فقط للهروب من الموت، ولذلك استماتوا في القتال فانتصروا، أما لو لم يحرق السفن فإنهم قد ينسحبون من البلاد ويرجعون إلى بلادهم، وهذا لأن الأوروبيين لا يستطيعون أبداً أن يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمعروفة والمسجلة في كتابه سبحانه وتعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
والناظر إلى صفحات التاريخ الإسلامي يجد أنه من الطبيعي جداً أن ينتصر المسلمون بأعداد قليلة على غيرهم من الجيوش، بل إن الأصل المتكرر في معظم المعارك الإسلامية أن يكون المسلمون أقلة والكافرون كثرة، ويهزم أعداء المسلمين بهذا العدد القليل من المسلمين، بل إنه من العجب العجاب أنه لو زاد المسلمون في العدد كتبت عليهم الهزيمة كما حدث في حنين، قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، وهذا الأمر سوف نتعرض له إن شاء الله في حوادث الأندلس اللاحقة.
إذاً: الأوروبيون يحاولون أن يشيعوا هذه الشائعة حتى يدخلوا في روع الناس أن المسلمين ما انتصروا إلا لظروف خاصة جداً، وليس من الطبيعي أن ينتصروا.
رابعاً: أن المسلمين ما هم محتاجون للتحميس بحرق السفن، فقد جاءوا إلى هذه الأماكن راغبين في الجهاد في سبيل الله، وطالبين للموت في سبيل الله، فما يحتاج القائد أن يحرق السفن لكي يشجعهم في سبيل الله!
وبعض الناس يقولون: هذا الحدث مسبوق بما حدث قبل هذا في فتح الفرس لليمن، فإن القائد الفارسي الذي فتح اليمن حرق السفن لكي يحمس الجنود الفرس، والجواب: هذا ممكن يحصل من القائد الفارسي أن يحمس الناس بحرق السفن، وقد كان الفرس يجبرون جنودهم على الحرب ضد المسلمين بربطهم في سلاسل كما حصل في موقعة ذات السلاسل المشهورة، وقد كان قائد جيش المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا ممكن أن يحصل بالنسبة لأهل الدنيا، أما جيش المسلمين فما هو محتاج لهذا التحميس عن طريق هذا الحرق.
خامساً لا يعقل أن قائداً محنكاً مثل طارق بن زياد رحمه الله يحرق سفنه، ويحرق خط الرجعة عليه، وماذا يصنع لو هزم في هذه الموقعة؟ وهذا أمر وارد جداً، فالأيام دول، فقد تحدث الكرة على المسلمين لفترة من الفترات، وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:15-16]، وننتبه هنا للاستثناء: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]، أي: أنه هناك احتمال أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة إما تحيزاً إلى فئة المسلمين التي كانت في الشمال الأفريقي، فكيف يحرق طارق بن زياد سفنه فيقطع على نفسه الانحياز إلى فئة المسلمين، أو التحرف إلى قتال جديد والاستعداد إلى قتال جديد؟ وإن كان حدث هذا الإحراق فما هو إلا تجاوز شرعي خطير لا يقدم عليه رجل فيه ورع وتقوى وعلم وجهاد طارق بن زياد رحمه الله، وما كان المسلمون حكامهم وعلماؤهم ليسكتوا على مثل هذا الحدث من طارق بن زياد .
سادساً: أن طارق بن زياد لا يملك كل السفن التي حرقها، فإن بعضها مؤجرة من يوليان ليعبر عليها الجيش الإسلامي ثم تعاد بعد ذلك إلى يوليان القائد الذي كان موجوداً في ميناء سبتة، فليس من حق طارق بن زياد أن يحرق هذه السفن.
فالخلاصة: أن هذه الرواية مختلقة، وما أشيعت إلا لتهون من فتح الأندلس وتجعله أمراً محتماً على المسلمين؛ لأنهم ليس لهم ظهر وليس لهم رجاء.
أما الموقف بعد موقعة وادي برباط الشهيرة فإن طارق بن زياد القائد الفذ المحنك بعد هذه الموقعة يعلم أنه إن أكمل الفتوح في تلك اللحظة فهي أفضل الفرص لفتح الأندلس مع أنه فقد 3000 شهيد في موقعة وادي برباط، ووجد أن الروح المعنوية عند جيشه عالية جداً؛ لأن جيشه 12000 انتصر على 100000 واحد، ووجد أن الروح المعنوية عند القوطيين في الحضيض نتيجة الهزيمة، وأن الجيش القوطي هزم وقتل منهم الكثير، وتفرق منه بالفرار الكثير فأصبحت القوة أمام طارق بن زياد ضعيفة، وأنه قد يكون قد قتل لذريق في الموقعة أو حتى إن لم يقتل فعموم الناس تكره هذا الرجل، ففرصة أن يعلم الناس دين الله سبحانه وتعالى فقد يدخل معه الناس في هذه الظروف في دين الله، وأن يوليان على عهد معه ولا يدري أحد إن كان سيخالف عهده مستقبلاً أم لا فعليه أن ينتهز هذه الفرصة وينطلق لفتح بلاد الأندلس بعد موقعة وادي برباط.
لذلك أخذ طارق بن زياد جيشه مباشرة بعد انتهاء الموقعة وتوجه اتجاه الشمال لفتح بقية بلاد الأندلس منها إشبيلية وهي أعظم مدن الجنوب على الإطلاق، ولما اقترب جيش المسلمين من إشبيلية تحقق فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء في صحيح البخاري : (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، ففتحت المدينة أبوابها للمسلمين دون قتال وصالحت على الجزية بالرغم من حصانة هذه المدينة وارتفاع الأسوار وقوة الحامية، وأكمل طارق بن زياد رحمه الله الفتوح بعد إشبيلية.
ثم بدأ هذا الجيش يعبر مضيق جبل طارق في شعبان سنة 92 من الهجرة، ونزلوا على جبل عرف في التاريخ بعد ذلك بجبل طارق والمضيق جبل طارق، ويعرف بهذا الاسم إلى زماننا الحاضر حتى في اللغة الأسبانية بمضيق جبل طارق، ثم انتقل منه إلى الجزيرة الخضراء وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس وجيش النصارى الضخم، وقد كانت هناك حامية في منطقة الجنوب فقابلها طارق بن زياد رحمه الله وعرض عليهم أموراً وهي: إما أن تدخلوا في الإسلام ولكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترك كل أملاككم في أيديكم على أن تدينوا بدين الله سبحانه وتعالى، أو تدفعوا الجزية للمسلمين ونترك لكم أيضاً كل ما في أيديكم، أو أن تدخلوا معنا في قتال ولا نؤخركم إلا ثلاثة أيام، هكذا كانت دعوة المسلمين.
فالنصارى القوط الموجودين في ذاك المكان أخذتهم العزة فتجهزوا لقتال المسلمين، فقاتلهم طارق بن زياد رحمه الله فانتصر عليهم، وقد كانت الحرب إلى حد ما سجالاً بين الفريقين، وقوة النصارى أو قوة القوط في ذاك الزمن لم تكن بالقوة الكبيرة، ولم يكن هو جل الجيش القوطي في هذه المنطقة فانتصر عليهم طارق بن زياد ، فأرسل زعيم القوط في تلك المنطقة رسالة سريعة إلى لذريق في طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، وكانت تقع في منتصف بلاد الأندلس كالقاهرة بالنسبة لجمهورية مصر العربية فإنها تقع في منتصف البلد، فقال في رسالته: أدركنا يا لذريق فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟!
والشيء الغريب عند أهل الأندلس أنهم يدخلون في دين الإسلام وأن يترك لهم كل شيء، وما كانوا متعودين على ذلك، فهذه السياسة ليست معروفة عندهم، والمعروف عندهم هو أن الفاتح أو المحتل لبلد ما يأخذ من خيراته وأمواله ثم يترك هذا البلد بعد أن يقتل ويذبح أبناء هذا البلد، أما أن يدخلوا ويترك لهم في دينهم كل شيء أو يدفعوا الجزية لهم ويترك لهم كل شيء فهذا لم يعهدوه من قبل، ثم إن المسلمين في ليلهم من القوام لله سبحانه وتعالى، يعني: أنه وجد طائفة عجيبة جداً من البشر فإنهم في الصلاة وكأنهم من الرهبان، وفي القتال وكأنهم من المحاربين الأشداء الذين تمرسوا على القتال طيلة حياتهم، فلا يدري أهل الأندلس أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟
وصلت الرسالة إلى لذريق فجن جنونه وأخذه الغرور وجمع من الناس مائة ألف مقاتل، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب، أما طارق بن زياد فإن عدد جيشه سبعة آلاف رجل ليست معهم إلا خيول قليلة، فأرسل رسالة إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد، فأرسل له موسى بن نصير خمسة آلاف رجل آخرين رجالة على رأسهم طريف بن مالك رحمه الله الذي اكتشف أرض الأندلس منذ عام قبل ذلك.
فأصبح جيش المسلمين قوامه 12000 مقاتل، فأخذ طارق بن زياد رحمه الله يتجول في المنطقة ويبحث عن أرض تصلح للقتال حتى وصل إلى منطقة عرفت في التاريخ: بوادي برباط، وتسمى في بعض الكتب: وادي لبتة أو وادي لكة أو وادي لكة، فوجد أن هذا المكان مناسب؛ لأن في خلفه وعن يمينه -أي: في الجنوب والشرق- جبلاً ضخماً يحمي خلفه ويحمي الميمنة فلا يستطيع أحد أن يلتف من حوله، وفي ميسرة الوادي بحيرة عظيمة جداً فلا يستطيع أحد أيضاً أن يلتف من جهة اليسار ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي فرقة لحمايته بقيادة طريف بن مالك حتى لا يدخل أحد عليهم من هذا المدخل الجنوبي فيباغت ظهر المسلمين، وأصبح أمامه الشمال مفتوحاً للنصارى حتى يستدرج قوات النصارى للحرب في هذه المنطقة فلا يلتف أحد من حوله في هذه الأرض التي تعتبر إلى حد كبير مجهولة بالنسبة للمسلمين مهما درسوها أو عرفوها.
جاء لذريق ومعه مائة ألف فارس، جاء ومعه البغال محملة بالحبال، لتقييد المسلمين وأخذهم عبيداً بعد موقعة وادي برباط، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يحمل على بغلين، وهو يلبس التاج الذهبي والثياب المغشاة بالذهب، فهو لم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى في لحظات القتال والحروب.
وقد تم اللقاء بينهما في 28 رمضان سنة 92 من الهجرة، والحقيقة أن شهر رمضان شهر معارك أو فتوحات وانتصارات وشهر قيام وصيام وقرآن، ولا يدري الإنسان لماذا تحول شهر رمضان إلى شهر مسلسلات وأفلام جديدة، وفوازير وسهر للفجر، ونوم إلى حد منتصف النهار، وهروب من العمل ومضاربات ومشاكل؟
وأصبحت نفسية الصائم ضيقة، بخلاف المسلمين في ذلك الزمان، فإن رمضان لديهم شهر جهاد، فقد دارت معركة من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين وهي موقعة وادي برباط في 28 رمضان لسنة 92هجرية.
وقد يشفق الناظر إلى الجيشين على جيش المسلمين البالغ عددهم 12000 مقاتل في مقابل 100000 مقاتل من النصارى القوط، لكن الناظر المحلل يجد أن الشفقة كل الشفقة على جيش النصارى في تلك الموقعة، قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19]، فشتان بين فريق خرج طائعاً مختاراً راغباً في الجهاد وبين فريق خرج مكرهاً مضطراً مجبوراً على القتال، وشتان بين فريق أغلى أمانيه أن يموت في سبيل الله وبين فريق أغلى أمانيه أن يعود إلى أهله وإلى ماله، وشتان بين فريق يقف فيه الجميع في صف واحد كالصفوف في الصلاة الغني بجوار الفقير، والوزير بجوار الغفير، والحاكم بجوار المحكوم، بينما الفريق الآخر يملك فيه بعض الناس، ويستعبد بعضهم بعضاً، وشتان بين فريق له قائد رباني وهو طارق بن زياد رحمه الله الذي جمع بين التقوى والحكمة، والرحمة والقوة، والعزة والتواضع، وبين فريق له قائد متسلط مغرور ألهب ظهر شعبه بالسياط وعاش منعماً وشعبه في بؤس شديد.
فريق المسلمين إذا انتصر وزعت عليه أربعة أخماس الغنائم، ما يأخذ الجندي 10 جنيه أو 20 جنيه في الشهر بحيث أن الناس يباركون له على أنه قد أعفي من الجيش، وهذا ما يحصل في زماننا بينما في الزمان الأول كان المسلمون يتشوقون إلى الجهاد في سبيل الله، وإن كان الحافز للجهاد هو الدنيا لكن الله سبحانه وتعالى مطلع على القلوب، كانت توزع الغنائم على الجيوش الإسلامية، ففي عهد سيدنا عمر بن الخطاب في موقعة من مواقع المسلمين غنم المسلمون جواهر عديدة جداً لكسرى ملك فارس، فأخذ سيدنا عمر بن الخطاب هذه الجواهر الثمينة جداً وباعها ووزع ثمنها أربعة أخماس على الجيش، وخمس أدخله بيت المال.
ففرق بين جيش يأخذ أربعة أخماس الغنائم، وجيش لا يأخذ شيئاً بل يذهب كل شيء إلى الحاكم المتسلط المغرور، وفرق بين فريق يؤيده خالق الكون ومالك الملك سبحانه وتعالى، وبين فريق يحارب ربه ويتطاول على شرعه وعلى قانونه، وشتان بين فريق الآخرة وفريق الدنيا، فعلى من تكون الشفقة؟
وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقد قال سبحانه وتعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]؟
دارت الموقعة بين الجيشين ابتداءً من 28 رمضان واستمرت ثمانية أيام متواصلة، وتخللها عيد الفطر المبارك، وكانت أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين والمسلمون صابرون صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى انتهت المعركة في اليوم الثامن، وقد منَّ الله على المسلمين بالنصر بعد أن علم صدق إيمانهم وصبرهم على هذا القتال الطويل، وقتل لذريق في هذه الموقعة، وفي رواية: أنه هرب إلى الشمال واختفى ذكره من الوجود.
وبدأت الأندلس تفتح صفحة جديدة من الفتح الإسلامي الراقي المتحضر، وغنم المسلمون غنائم عظيمة جداً في موقعة وادي برباط، وكان أهم هذه الغنائم الخيول حتى أصبح معظم الجيش الإسلامي فرساناً بعد أن كان جله رجالاً قبل هذه الموقعة، وكان قد استشهد من المسلمين في هذه الموقعة 3000 مقاتل، رووا بدمائهم الغالية أرض الأندلس، وأوصلوا هذا الدين إلينا وإلى غيرنا من الناس، ولم يصل إلينا هذا الدين بتضحيات بسيطة أو قليلة وإنما وصل بدماء غالية.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة الأندلس عبد الرحمن الداخل صقر قريش | 2782 استماع |
سلسلة الأندلس الإمارة الأموية | 2718 استماع |
سلسلة الأندلس دولة المرابطين | 2700 استماع |
سلسلة الأندلس سقوط الأندلس | 2662 استماع |
سلسلة الأندلس عهد الولاة | 2642 استماع |
سلسلة الأندلس دولة الموحدين | 2592 استماع |
سلسلة الأندلس عهد ملوك الطوائف | 2261 استماع |
سلسلة الأندلس بين المرابطين والموحدين | 2122 استماع |
سلسلة الأندلس الطريق إلى الأندلس | 2072 استماع |
سلسلة الأندلس الخلافة الأموية | 2056 استماع |