سلسلة الأندلس الإمارة الأموية


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وبعد:

فمع صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي والحلقة الخامسة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط.

ذكرنا فيما سبق كيف دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس، وكيف سيطر على الموقف هناك، وضم إليه جميع القبائل، كذلك سيطر على جميع الثورات، وأقام ملكاً لبني أمية في أرض الأندلس، بعد قصة فرار طويلة من العباسيين، ومن الخوارج في المغرب.

ما زالت هناك بعض التعليقات على موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله من الثائرين، هل يجوز له أن يحارب الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟ فالجواب: أن موقفه سليم جداً في حرب الثائرين داخل أرض الأندلس؛ لأن جميع أهل الأندلس قد أجمعوا على أن يكون أميراً للبلاد، ودليل ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عرفجة رضي الله عنه في صحيح مسلم يقول: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، فأراد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان)، فلذلك كان موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله صارماً مع من أراد الثورة؛ ليقمع هذه الانقلابات المتكررة في أرض الأندلس في ذلك الزمن، لكن من الإنصاف أن نذكر أنه كان رحمه الله يبدأ دائماً بالصلح، وبالاستمالة إلى السلم، ويكره الحرب إلا إذا كان مضطراً رحمه الله، والثورات التي حدثت في بدء ولاية عبد الرحمن الداخل رحمه الله كان ثمنها غالياً في بداية دخوله، وفي أول أربع سنوات من دخوله من سنة (138) إلى سنة (142) من الهجرة سقطت كل مدن المسلمين في فرنسا، بعد أن حكمت بالإسلام مدة (47) سنة متصلة، منذ أيام موسى بن نصير وحتى هذه اللحظات، فإن من سنن الله الثوابت أنه إذا انشغل المسلمون بأنفسهم كانت الهزيمة أمراً حتمياً.

لما دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس وقمع هذه الثورات بدأ يفكر فيما هو بعد ذلك.

أولاً: اهتم بالأمور الداخلية في أرض الأندلس اهتماماً كبيراً جداً، فبدأ بإنشاء جيش قوي، واعتمد فيه على ما يلي:

أولاً: اعتمد على أهل البلاد الملقبين بالمولدين؛ فإن عموم أهل الأندلس كانوا من أهل الأندلس الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام وأحبوا عقيدته، فـعبد الرحمن الداخل لما رأى أن غالب الشعب من أهل الأندلس أنفسهم اعتمد في جيشه عليهم.

ثانياً: اعتمد في جيشه على كل الفصائل والقبائل الموجودة في أرض الأندلس، وضم إليه كل الفصائل المضرية سواء من بني أمية أو من غير بني أمية، كما ضم إليه كل فصائل البربر، وهم قبائل كثيرة جداً، وكان يضم رءوس القوم حتى يؤثروا في أقوامهم، بل إنه ضم إليه اليمانية، مع علمه أن أبا الصباح اليحصبي يدبر له مكيدة، وصبر عليهم صبراً طويلاً حتى تمكن من الأمور تماماً، ثم تخلص منه بعد (11) سنة كاملة من توليه الحكم في البلاد.

وكان في جيش عبد الرحمن الداخل رحمه الله الصقالبة، وهم أطفال نصارى اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوروبا ورباهم تربية إسلامية عسكرية صحيحة منذ أن اشتراهم، وليس في أفكارهم أي فكر أو اتجاه معين أو دين معين، فرباهم على الإسلام التربية الكاملة الشاملة، من حيث صحة العقيدة وصحة العبادات وصحة الفهم، والجهاد في سبيل الله، لذلك كان هؤلاء عماد الجيش عند عبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده من خلفاء وأمراء بني أمية.

وصل تعداد الجيش الإسلامي في أواخر عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله إلى مائة ألف فارس غير الرجالة، فهذا جيش ضخم جداً، على الرغم من أنه دخل البلاد وحيداً.

ثالثاً: اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله اهتماماً كبيراً بالجانب الديني ونشر العلم وتوقير العلماء، واهتم بالقضاء وبالحسبة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم أعماله أنه بنى مسجد قرطبة الكبير، وأنفق على بنائه ثمانين ألفاً من الدنانير الذهبية، وتنافس الخلفاء من بعده في زيادة حجمه حتى اكتمل بناؤه على مدى عهد ثمانية من خلفاء بني أمية.

رابعاً: اهتم كثيراً بالإنشاء والتعمير وبناء الحصون والقلاع والقناطر، وربط أول الأندلس بآخرها؛ وأنشأ أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس، وأنشأ الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وأنشأها على غرار الرصافة التي كانت موجودة في الشام، والتي أنشأها جده هشام بن عبد الملك رحمه الله، وأتى لها بالثمار العجيبة من كل بلاد العالم، فإن نجحت زراعتها فإنها ما تلبث أن تنتشر في بلاد الأندلس جميعاً.

خامساً: كان عبد الرحمن الداخل رحمه الله يعلم أن الخطر الحقيقي من قبل دولة ليون في الشمال الغربي من بلاد الأندلس، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فبدأ هذا الرجل العجيب في تنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشاً ثابتة في هذه الثغور الملاقية لهذه البلاد النصرانية، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأعلى، وهو ثغر سرقسطة في الشمال الشرقي مواجهاً لفرنسا، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأوسط، ويشمل مدينة سالم ويمتد حتى طليطلة، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأدنى، وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.

وكانت له عادة عظيمة جداً تعلمها من أجداده وآبائه في بلاد الشام، وهي عادة الجهاد المستمر بصورة منتظمة ودائمة في كل عام، حيث كانوا يجاهدون في الصيف حين يذوب الجليد، وكانت الجيوش تسمى الصوائف، كانت تخرج إلى الشمال كل عام لهدف الإرباك الدائم للعدو، وهذا ما يسمونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.

وقد جعل الصوائف أمراً ثابتاً يتناوب عليه كبار قواد الجيش كل عام.

سادساً: كان رحمه الله كبير الاهتمام بالجيش، فقد كان يقسم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يعطيه بكامله للجيش، والقسم الثاني: لأمور الدولة العامة، من مؤن ومعمار ومرتبات ومشاريع .. وغير ذلك، والقسم الثالث: يدخره لنوائب الزمان غير المتوقعة.

اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله أيضاً بإنشاء دور الأسلحة؛ فأنشأ مصانع للسيوف، وللمنجنيق، وأشهرها مصانع طليطلة وبرديل.

سابعاً: اهتم أيضاً رحمه الله بإنشاء أسطول بحري قوي، وإنشاء أكثر من ميناء، وفي عهده تم إنشاء ميناء طرطوشة وألمارية وإشبيلية وبرشلونة .. وغيرها من الموانئ.

يقول المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية.

ذكر ابن حيان الأندلسي في وصف عبد الرحمن الداخل قال: كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغاً مفوهاً، شاعراً محسناً، سمحاً سخياً، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمعة والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، فهو مثال رائع للقائد المسلم، فإنه مع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه رحمه الله.

وهذه حياة المؤمنين الصادقين؛ فأعمال الخير دائماً أكثر من الأوقات، وقد يتعجب المرء أحياناً لما يجد شباباً في سن عبد الرحمن الداخل أو رجالاً أكبر من عبد الرحمن الداخل يقضون الساعات الطويلة أمام شاشات التلفاز وفي المقاهي والنوادي في غير مصلحة لا له ولا للمسلمين، وأتعجب أين وقت التعلم والتفكر في الدين والدنيا؟ أين وقت الصلاة والقيام والذكر والقرآن؟ أين وقت عيادة المرضى وشهود الجنائز وصلة الأرحام وبر الوالدين؟ أين وقت خدمة الناس والقيام على مصالحهم؟ أين وقت تتبع أخبار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟

فـعبد الرحمن الداخل كانت همومه عظيمة، ومع ذلك كان يقوم بكل هذا، ولو وكل أحداً ما لامه أحد، وكان مع شدته وحزمه وجهاده وقوته شاعراً محسناً رقيقاً مرهف المشاعر، ومع كونه ذا هيبة عظيمة عند أوليائه وأعدائه، فإنه يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم، ومع كونه قليل الطمأنينة، وشديد الحذر لا يمنعه ذلك من الاختلاط بالناس، ومن السير في وسطهم دون حراس يعزلونه عن الشعوب، وكيف يمتنع من شعبه وهو المحبوب بينهم المقرب إلى قلوبهم؟ حتى خاطبه مقربوه في ذلك، وأشاروا عليه ألا يخرج وسط الناس كثيراً حتى لا يتبسطوا معه، لكنه تذكر عمر بن الخطاب حينما قال فيه القائل: حكمت فعدلت، فأمنت فنمت يا عمر ..

انظر إلى همته وقد أتى مطارداً مشرداً مطلوب الرأس تجري وراءه قوى الأرض جميعاً من عباسيين في المشرق وخوارج في المغرب، ونصارى في الشمال وثورات في الداخل، فإذا به يؤسس هذا البنيات القوي المتين، وهذه الدولة العظيمة ذات المجد التليد.

وكان رحمه الله يحافظ على شعور الناس جميعاً، يحكى أنه طلب منه أحد الناس أمراً أمام الناس، فقضاه له، ثم قال له: وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك؛ كيما نستر عليك؛ وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية.

فكان يربي الناس على أن يرفعوا حاجتهم في البداية لرب العالمين سبحانه وتعالى، ويربيهم أن الله سبحانه وتعالى يملكهم جميعاً.

وكان يأمرهم بأن ترفع الحاجة إليه في رقعة، حتى يستر عليه حاجته، ولا يشمت فيه أعداؤه.

دخل عليه أحد الجنود في يوم انتصارهم على النصارى، فتحدث معه الجندي بأسلوب فيه إساءة أدب وفيه رفع صوت، فأخذ عبد الرحمن الداخل يعلمه، فقال له: يا هذا! إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه، عليك بالسكينة والوقار، فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر، فأغضب عليك، فإذا بالجندي يرد عليه رداً في منتهى الذكاء؛ فيقول له: أيها الأمير! عسى الله أن يجعل عند كل زلة مني نصراً لك فتغفر لي زلاتي، فقال الأمير عبد الرحمن الداخل رحمه الله: هذا ليس اعتذار جاهل، وقربه إليه ورفع من شأنه.

فقد ألغى الضغينة تماماً من قلبه، واستفاد منه لما رأى من ذكائه وقدرته على التصرف في مثل هذه الأمور.

وظل فترة طويلة يختبر أبناءه، أيهم يصلح للإمارة الابن الأكبر سليمان أم الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل ، وبعد اختبارات كثيرة واستشارات واستخارات استقر رأيه على الابن الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل فولاه العهد مع كونه أصغر من أخيه، حيث كان هشام يشبه بـعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في علمه وعمله وتقواه.

وظل عبد الرحمن الداخل يحكم البلاد من سنة (138) هجرية إلى سنة (172) هجرية، أي: أنه حكم قرابة (34) عاماً.

كانت بداية تأسيس ما يسمى بعهد الإمارة الأموية في بلاد الأندلس، والتي استمرت من سنة (138) هجرية إلى سنة (316) هجرية، وهذه الفترة تقسم إلى ثلاث فترات رئيسية:

الفترة الأولى: فترة قوة ومجد وحضارة وعز وهيمنة على ما حولها من المناطق، واستمرت مائة عام أي: من سنة 138 إلى (238) هجرية.

الفترة الثانية: فترة ضعف، واستمرت (62) سنة، أي: من سنة (238) إلى سنة (300).

الفترة الأخيرة: وهي من سنة (300) إلى ما بعدها، وسنتحدث عنها بعد ذلك إن شاء الله.

بدأ عهد القوة من سنة (138) إلى سنة (238) للهجرة، بدأ هذا العهد بإمارة عبد الرحمن الداخل رحمه الله، ثم خلفه من بعده ثلاثة أمراء، الأمير الأول: هشام بن عبد الرحمن الداخل ؛ والذي حكم من سنة (172) إلى (180) هجرية، وكان رحمه الله عالماً محباً للعلم، أحاط نفسه رحمه الله بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس؛ لأنه نشر اللغة العربية بمجهود وافر وعظيم، حتى أصبحت اللغة العربية تدرس في معاهد اليهود والنصارى في داخل أرض الأندلس؛ ونشر المذهب المالكي بدلاً من مذهب الأوزاعي، وكانت له صولات وجولات كثيرة جداً مع ممالك النصارى الشمالية.

الأمير الثاني: الحكم بن هشام فإنه تولى الإمارة من بعد والده هشام بن عبد الرحمن الداخل من سنة (180) إلى سنة (206)، لكنه لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جده، كان قاسياً جداً؛ فقد فرض الكثير من الضرائب، واهتم بالشعر، وبالصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية؛ وكان يحرق بيوت الثائرين، ويطردهم إلى خارج البلاد، ومن أشهر الثورات التي قمعها: ثورة قوم يسمون بالربض، والربض منطقة في جوار قرطبة، ثار أهلها ثورة كبيرة على الحكم بن هشام فأحرق ديارهم وطردهم خارج البلاد، ومن تدبير الله سبحانه وتعالى؛ أنه لما طردهم إلى خارج البلاد، انتقلوا بسفنهم إلى جزيرة كريت في البحر الأبيض المتوسط، فأسسوا فيها مملكة إسلامية ظلت قائمة مائة سنة متصلة، لكنه مع كل هذه الأمور لم يوقف حركة الجهاد في الشمال؛ لأن الجهاد كان عادة عند الإمارة الأموية، سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس، فقد كانت له انتصارات وعليه هزائم، وكنتيجة طبيعية تماماً لهذا الظلم الذي كان من قبل الحكم بن هشام ، فإن العلاقة ساءت بين الحاكم والمحكوم، سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى؛ كبرشلونة، وأصبحت إمارة نصرانية صغيرة جداً في الشمال الشرقي، وعرفت في التاريخ باسم إمارة أراجون، وكانت متاخمة لحدود فرنسا، بجوار جبال البرينيه في الشمال الشرقي للبلاد، لكن من فضل الله ومنّه وجوده وكرمه على الحكم بن هشام أنه في آخر عهده تاب وأناب واستغفر، واعتذر للناس عن ذنوبه، واختار من أبنائه أصلحهم وإن لم يكن الأكبر ليكون ولياً لعهده، ومن حسن خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهو في كامل قوته وبأسه، وظل عامين على هذه التوبة قبل أن يموت.

ولاية عبد الرحمن الأوسط

تولى من بعد الحكم بن هشام ابنه عبد الرحمن الثاني المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط ، فإن عندنا الأول هو عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وهذا هو الثاني، والثالث هو المعروف في التاريخ بـعبد الرحمن الناصر ، حكم عبد الرحمن الأوسط بن الحكم من سنة (206) إلى سنة (238) من الهجرة، أي: استمر حكمه إلى آخر عهد القوة في عهد الإمارة الأموية، وكانت فترة حكم عبد الرحمن الأوسط فترة جيدة جداً في تاريخ الأندلس؛ فقد استأنف الجهاد من جديد ضد النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدة، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، ومحباً للناس رحمه الله.

فقد تحققت في حياته ثلاثة أمور:

الأمر الأول: ازدهار الحضارة العلمية في بلاد الأندلس؛ فقد انتشر العلماء في كل مجال، وكان أشهر هؤلاء العلماء عباس بن فرناس رحمه الله الذي يعتبر أول من حاول الطيران في العالم، وسبحان الله! فإنه صار ضحية هذه المحاولة، وقد كانت له اختراعات كثيرة؛ فقد اخترع آلة لتحديد الوقت، واخترع آلة تشبه قلم الحبر، ونحن قد نستصغر مثل هذا الاختراع، لكن كانت له أهمية كبيرة جداً في ذلك الزمن؛ أما هذا الزمن الذي انتشر فيه العلم والتعليم، فإن الجميع يحتاجون إلى مثل هذا الذي ينسخ لهم بسرعة مثل القلم الحبر، وهو أول من اخترع الزجاج من الحجارة.

واستقدم عبد الرحمن الأوسط العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي، حتى استقدمهم من بغداد، وجاءوا إلى بلاد الأندلس وعظمهم وكبرهم، ورفع من قيمتهم، وأسس في سنوات مكتبة قرطبة العظمية، وشاع التعليم في كل بلاد الأندلس.

الأمر الثاني: اهتمامه الشديد بالحضارة العمرانية والاقتصادية، فقد ازدهرت التجارة في عهده جداً وكثرت الأموال، حتى إن جميع المؤرخين يذكرون أنه لم يكن هناك في الأندلس عادة التسول، فقد كانت عادة التسول منتشرة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى، أما في الأندلس فلم تعرف أصلاً هذه العادة لكثرة الأموال.

وتقدمت وسائل الري في عهد عبد الرحمن الأوسط بشكل رائع، وتم رصف الشوارع، في هذا العمق القديم في التاريخ، وكانت أوروبا في جهل وظلام عميق، فأقام عبد الرحمن الأوسط القصور المختلفة والحدائق الغناء، ووسع في المعمار حتى أصبحت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهد عبد الرحمن الثاني رحمه الله.

الأمر الثالث: هو ما يسمى بغزوات الفايكنج أو غزوات النورمن، وهم أهل إسكندنافيا في ذلك الوقت، وهذه بلاد تضم الدنمارك والنرويج وفنلندا والسويد، فقد كانت تعيش في همجية مطلقة، وكانوا يعيشون على حرب العصابات؛ وفعلت ما يسمى بغزوات الفايكنج، وهي غزوات إغارة على بلاد العالم في أماكن مختلفة متفرقة، ليس لها هم إلا جمع المال وهدم الديار.. وما إلى ذلك، فهجمت على أشبيلية في سنة (230) من الهجرة؛ في عهد عبد الرحمن الثاني وكان قوام الجيش الإسكندنافي في هذه الموقعة (54) سفينة؛ فدخلوا إشبيلية، فأفسدوا فيها فساداً كبيراً، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامة، كل الجيوش المادية تدخل أي بلاد فتفسد فيها إفساداً عظيماً، وشتان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم؛ فقد دخل هؤلاء فدمروا إشبيلية تماماً، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراض نسائها، وهكذا في غيرها من البلاد؛ كشذونة وألمارية ومرسية، حتى أشاعوا الرعب فيها.

فجهز عبد الرحمن الثاني رحمه الله جيوشه، ودارت بينه وبينهم معارك ضارية استمرت أكثر من مائة يوم كاملة، ومنّ الله على المسلمين بالنصر، وغرقت (23) سفينة كاملة للفايكنج، وعادوا إلى بلادهم خائبين.

فقد استفاد من الأخطاء التي كانت سبباً في دخول الفايكنج إلى هذه البلاد، فكان رد فعله لهذا الحدث الكبير ما يلي:

أولاً: أنشأ سوراً ضخماً جداً حول أشبيلية، وأشبيلية تقع على نهر الوادي الكبير، ونهر الوادي الكبير يصب في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جداً أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من السفن من المحيط الأطلنطي إلى أشبيلية، لذلك حصنها تحصيناً ظلت بعده من أحفظ حصون الأندلس بصفة عامة.

ثانياً: أنشأ أسطولين قويين جداً، فجعل أحدهما في الأطلسي، والآخر في البحر الأبيض المتوسط، حتى يدافع عن سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار؛ حتى تصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا، وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية، والذي فتحها للمرة الأولى هو موسى بن نصير رحمه الله؛ وكان ذلك قبل فتح بلاد الأندلس في سنة (91) من الهجرة، ثم سقطت جزر البليار في يد النصارى في عهد الوالي الثاني الحكم بن هشام لما انحدر حال المسلمين هناك، ثم أعاد من جديد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله فتح جزر البليار في سنة (234) من الهجرة، وكانت هناك نتيجة أخرى عظيمة جداً لهزيمة الفايكنج في هذه الموقعة، وهي السفارة التي جاءت من الدنمارك تطلب ود المسلمين، وتطلب المعاهدة معهم، وترسل الهدايا، وهكذا فالبعض من البشر لا تردعه إلا القوة.

كان هذا هو عصر القوة في الإمارة الأموية، والذي بدأ من سنة (138) إلى سنة (238) من الهجرة، وتعاقب فيه على الحكم أربعة من أمراء بني أمية: عبد الرحمن الداخل ثم ابنه من بعده ثم حفيده ثم ابن حفيده.

تولى من بعد الحكم بن هشام ابنه عبد الرحمن الثاني المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط ، فإن عندنا الأول هو عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وهذا هو الثاني، والثالث هو المعروف في التاريخ بـعبد الرحمن الناصر ، حكم عبد الرحمن الأوسط بن الحكم من سنة (206) إلى سنة (238) من الهجرة، أي: استمر حكمه إلى آخر عهد القوة في عهد الإمارة الأموية، وكانت فترة حكم عبد الرحمن الأوسط فترة جيدة جداً في تاريخ الأندلس؛ فقد استأنف الجهاد من جديد ضد النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدة، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، ومحباً للناس رحمه الله.

فقد تحققت في حياته ثلاثة أمور:

الأمر الأول: ازدهار الحضارة العلمية في بلاد الأندلس؛ فقد انتشر العلماء في كل مجال، وكان أشهر هؤلاء العلماء عباس بن فرناس رحمه الله الذي يعتبر أول من حاول الطيران في العالم، وسبحان الله! فإنه صار ضحية هذه المحاولة، وقد كانت له اختراعات كثيرة؛ فقد اخترع آلة لتحديد الوقت، واخترع آلة تشبه قلم الحبر، ونحن قد نستصغر مثل هذا الاختراع، لكن كانت له أهمية كبيرة جداً في ذلك الزمن؛ أما هذا الزمن الذي انتشر فيه العلم والتعليم، فإن الجميع يحتاجون إلى مثل هذا الذي ينسخ لهم بسرعة مثل القلم الحبر، وهو أول من اخترع الزجاج من الحجارة.

واستقدم عبد الرحمن الأوسط العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي، حتى استقدمهم من بغداد، وجاءوا إلى بلاد الأندلس وعظمهم وكبرهم، ورفع من قيمتهم، وأسس في سنوات مكتبة قرطبة العظمية، وشاع التعليم في كل بلاد الأندلس.

الأمر الثاني: اهتمامه الشديد بالحضارة العمرانية والاقتصادية، فقد ازدهرت التجارة في عهده جداً وكثرت الأموال، حتى إن جميع المؤرخين يذكرون أنه لم يكن هناك في الأندلس عادة التسول، فقد كانت عادة التسول منتشرة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى، أما في الأندلس فلم تعرف أصلاً هذه العادة لكثرة الأموال.

وتقدمت وسائل الري في عهد عبد الرحمن الأوسط بشكل رائع، وتم رصف الشوارع، في هذا العمق القديم في التاريخ، وكانت أوروبا في جهل وظلام عميق، فأقام عبد الرحمن الأوسط القصور المختلفة والحدائق الغناء، ووسع في المعمار حتى أصبحت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهد عبد الرحمن الثاني رحمه الله.

الأمر الثالث: هو ما يسمى بغزوات الفايكنج أو غزوات النورمن، وهم أهل إسكندنافيا في ذلك الوقت، وهذه بلاد تضم الدنمارك والنرويج وفنلندا والسويد، فقد كانت تعيش في همجية مطلقة، وكانوا يعيشون على حرب العصابات؛ وفعلت ما يسمى بغزوات الفايكنج، وهي غزوات إغارة على بلاد العالم في أماكن مختلفة متفرقة، ليس لها هم إلا جمع المال وهدم الديار.. وما إلى ذلك، فهجمت على أشبيلية في سنة (230) من الهجرة؛ في عهد عبد الرحمن الثاني وكان قوام الجيش الإسكندنافي في هذه الموقعة (54) سفينة؛ فدخلوا إشبيلية، فأفسدوا فيها فساداً كبيراً، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامة، كل الجيوش المادية تدخل أي بلاد فتفسد فيها إفساداً عظيماً، وشتان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم؛ فقد دخل هؤلاء فدمروا إشبيلية تماماً، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراض نسائها، وهكذا في غيرها من البلاد؛ كشذونة وألمارية ومرسية، حتى أشاعوا الرعب فيها.

فجهز عبد الرحمن الثاني رحمه الله جيوشه، ودارت بينه وبينهم معارك ضارية استمرت أكثر من مائة يوم كاملة، ومنّ الله على المسلمين بالنصر، وغرقت (23) سفينة كاملة للفايكنج، وعادوا إلى بلادهم خائبين.

فقد استفاد من الأخطاء التي كانت سبباً في دخول الفايكنج إلى هذه البلاد، فكان رد فعله لهذا الحدث الكبير ما يلي:

أولاً: أنشأ سوراً ضخماً جداً حول أشبيلية، وأشبيلية تقع على نهر الوادي الكبير، ونهر الوادي الكبير يصب في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جداً أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من السفن من المحيط الأطلنطي إلى أشبيلية، لذلك حصنها تحصيناً ظلت بعده من أحفظ حصون الأندلس بصفة عامة.

ثانياً: أنشأ أسطولين قويين جداً، فجعل أحدهما في الأطلسي، والآخر في البحر الأبيض المتوسط، حتى يدافع عن سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار؛ حتى تصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا، وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية، والذي فتحها للمرة الأولى هو موسى بن نصير رحمه الله؛ وكان ذلك قبل فتح بلاد الأندلس في سنة (91) من الهجرة، ثم سقطت جزر البليار في يد النصارى في عهد الوالي الثاني الحكم بن هشام لما انحدر حال المسلمين هناك، ثم أعاد من جديد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله فتح جزر البليار في سنة (234) من الهجرة، وكانت هناك نتيجة أخرى عظيمة جداً لهزيمة الفايكنج في هذه الموقعة، وهي السفارة التي جاءت من الدنمارك تطلب ود المسلمين، وتطلب المعاهدة معهم، وترسل الهدايا، وهكذا فالبعض من البشر لا تردعه إلا القوة.

كان هذا هو عصر القوة في الإمارة الأموية، والذي بدأ من سنة (138) إلى سنة (238) من الهجرة، وتعاقب فيه على الحكم أربعة من أمراء بني أمية: عبد الرحمن الداخل ثم ابنه من بعده ثم حفيده ثم ابن حفيده.

انفتاح الدنيا على المسلمين في الأندلس

أولاً: انفتاح الدنيا على المسلمين وكثرة الأموال في آخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد زادت الأموال بشدة وازدهرت التجارة، ولم يوجد هناك في البلاد فقير، وفتن الناس بالمال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المؤمنين من هذه الفتنة؛ كان يقول صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)، وكان يقلل صلى الله عليه وسلم كثيراً من قيمة الدنيا؛ كان يقول: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع).

ظهور نجم زرياب وما صاحبه من ترف وحب للملاهي في المجتمع الأندلسي

ثانياً: السبب الثاني لضعف الإمارة الأموية في الفترة الثانية: هو زرياب ، مطرب من مطربي بغداد، تربى في بيت الخلفاء في بغداد، وكان يغني لهم، وكان معلمه هو إبراهيم الموصلي ، وهو كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت، ومع مرور الوقت لمع نجم زرياب هناك في بغداد، فغار منه إبراهيم الموصلي فدبر له مكيدة، فطرد من البلاد، فخرج من بغداد متجهاً صوب المغرب، حتى وجد ضالته في الأندلس؛ أرض غنية جداً، فيها أموال كثيرة، وقصور، وحدائق، هذه البلاد هي التي تستقبل المطربين في ذلك الزمن، مع أن الأندلس إلى هذه الفترة لم يكن فيها غناء.

فلما وصل زرياب أرض الأندلس استقبلوه وعظموه وأكرموه، وأدخلوه على الخلفاء، وفي بيوت عامة، ونواديهم؛ فأخذ يغني للناس، ويعلمهم ما قد تعلمه هناك في بغداد، ولم يكتف زرياب بتعليمهم الغناء، وتكوين ما يسمى بالموشحات الأندلسية المشهورة، لكنه بدأ يعلمهم فنون الموضة؛ فقال للناس: هناك لبس خاص بالصيف، ولبس خاص بالشتاء، ولبس خاص بالربيع، ولبس خاص بالخريف، ولبس خاص بالمناسبات العامة، كما هو الحال في أرض بغداد، ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، فأخذوا يتعلمون من زرياب ، وأخذ يعلمهم فنون الطعام، كل يوم أكلة جديدة، وصنف جديد.. وهكذا تعلم الناس ألواناً كثيرة من الطعام، ثم أخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء، وحكايات الأساطير والروايات.. وما إلى ذلك، حتى تعلق الناس به بشدة، وتعلق الناس بالغناء، وكثر المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الرجال، ثم انتقل إلى غيرهم.. وهكذا.

في هذا الوقت الذي دخل فيه زرياب إلى أرض الأندلس، كان في عهد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، الذي اهتم بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد.. وما إلى ذلك، لكنه للأسف ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور؛ مع أن النهضة العلمية كانت موجودة وكان العلماء كثيرين، إلا أن كلام زرياب صرف الناس عن سماع العلماء إلى سماع زرياب ، وصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصص السلف الصالح إلى سماع حكايات زرياب العجيبة وأساطيره الغريبة، بل صرف الناس عن سماع القرآن إلى سماع أغانيه، وهذا ليس عجيباً وليس جديداً، فإنه لما ظهرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هناك رجل اسمه النضر بن الحارث ، وكان من رءوس الكفر في مكة، ولما رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس بالقرآن فيتأثرون ويبكون ويؤمنون بهذا الدين، ذهب إلى بلاد فارس؛ وقطع أميالاً كثيرة، وقضى هناك فترة طويلة؛ ليتعلم هناك حكايات رستم وإسفنديار ، ويتعلم الأساطير التاريخية، واشترى مغنيتين وعاد إلى بلاد مكة، فإذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له المغنيتين تغنيان له مما عرفه في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار حتى تلهياه عن هذا الدين، وهكذا ظل يفعل كحرب مضادة للدعوة الإسلامية في بلاد مكة، فأنزل الله فيه قرآناً: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6]، ويقسم عبد الله بن مسعود رحمه الله أنها ما نزلت إلا في الغناء.

فالشيطان لا ينام ولا يهدأ، حتى في وجود هذه النهضة العلمية، قال تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]، وكلما زاد الاهتمام بالدين كلما نشط الشيطان؛ عن طريق زرياب ومن سار على نهج زرياب إلى يومنا هذا، ونحن ننظر في رمضان كلما ارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وكلما تعلقت قلوبهم بالمساجد زاد الشيطان في أثره وفي مفعوله، فيضع الناس على طريق غير التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهم.

فلو أخذنا عينة عشوائية من الناس وسألناهم إن كانوا يحفظون من الأغاني أكثر أم القرآن، أو يحفظون قصص الأفلام والمسلسلات أكثر أم قصص الأنبياء والصحابة والفتوح الإسلامية وما إلى ذلك؟ فالأمر خطير جد خطير.

كنت أعطي هذه المحاضرة في مكان يحضر فيه كثير من المغاربة التونسيين والجزائريين، وفي أثناء إلقاء المحاضرة ذكرت قصة زرياب هذه، لكن الحقيقة أنني لم أكن أعرف اسمه معرفة جيدة، فذكرته زرياد بالدال وليس بالباء، وبعد المحاضرة جاء إلي أخ من تونس، فقال لي: إن الرجل اسمه زرياب ليس زرياد، فقلت: جزاك الله خيراً، ولكنني تعجبت أنه يعرف رجلاً مغنياً ميتاً من أكثر من (1200) سنة في بلاد الأندلس، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل واسع الاطلاع، وبعد ذلك بقليل جاء إلي جزائري وقال لي: زرياب وليس زرياد، وعدل لي الكلمة ثانياً، فقلت: سبحان الله! نفس الملحوظة لاحظها شخص آخر، فأمررتها، وبعدها بقليل جاء آخر من تونس مرة ثالثة فقال: الرجل المطرب اسمه زرياب ليس زرياد، فقلت: أكيد أن هذا الرجل فاقت شهرته الآفاق، فتحدثت معهم فوجدت أنه إلى الآن ما زالت له شهرة كبيرة جداً في كل بلاد المغرب العربي؛ في تونس والجزائر والمغرب، وسبحان الله! فإن كثيراً من هؤلاء الناس لم يسمع عن السمح بن مالك الخولاني ، أو عنبسة بن سحيم رحمهما الله، أو عقبة بن الحجاج ، ولم يسمعوا عن تفاصيل عبد الرحمن الداخل ، أو عبد الرحمن الأوسط ، ولم يسمعوا عن كثير من قواد المسلمين في حرب فارس والروم .. وغيرهما من بلاد العالم الكثيرة، لكن سمعوا عن زرياب ويعلمون تفاصيل حياته، وما زال إلى الآن تغنى موشحات زرياب الأندلسية في تونس والمغرب والجزائر، وتدرس سيرته على أنه كان رجلاً من قواد التنوير والنهضة، ويمجد في حربه وكفاحه من أجل الفن! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أذكر أيضاً أني سمعت رجلاً في إذاعة من الإذاعات يتحدث عن أن الله سبحانه منّ علينا بأنه هرب من الأندلس بعد سقوطها رجال إلى بلاد المغرب والجزائر وتونس، ومعهم الآلات الموسيقية؛ فحفظوا للناس الكمان، وبعض الآلات الموسيقية لا أذكر أسماءها، وحفظوا للناس الموشحات الأندلسية.. وما إلى ذلك، ولا يعلم أن هذا كان سبباً رئيسياً كبيراً في سقوط بلاد الأندلس.

ظهور شخصيات تحارب الإسلام

السبب الثالث: سبب متكرر في التاريخ وهو عمر بن حفصون الأندلسي شبيه جون قرنق ، ولا أظن أنكم لا تعرفون جون قرنق !

عمر بن حفصون هذا هو رجل من المولدين، أي: من أهل الأندلس الأصليين، ونحن عندما نلاحظ في الأسماء، ونجد في آخر الاسم واو ونون، نعرف أن هذا الرجل أندلسي من أهل الأندلس الأصليين؛ كانوا يضيفون واو ونون في آخر الكلمة؛ نحو: حفصون، سعدون، زيدون.. وما إلى ذلك، أو يضيفون واو وسين بدل واو ونون، نحو: عمروس.. أو ما إلى ذلك.

فـعمر بن حفصون كان رجلاً قاطع طريق من أهل الأندلس الأصليين، وكانت له عصابة كبيرة نسبياً، فقد كان معه أربعون من الرجال، واشتد خطره لما بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله، وزاد حجمه جداً وبدأ يثور في منطقة الجنوب، والناس في هذه المنطقة كانت ترهبه بشدة، فأخذ يجمع حوله الأنصار، فزاد في الحجم جداً حتى سيطر على كل جنوب الأندلس، فقد كان مسلماً من أرض الأندلس، ولكي يؤيد قوته في آخر عهده عمل شيئاً لن يتكرر في تاريخ الأندلس إلا قليلاً؛ فقد تحول من الإسلام إلى النصرانية سنة (286) من الهجرة، أي: بعد حوالي (22) سنة من ثورته مسلماً انقلب إلى نصراني، وسمى نفسه صمويل، وبدأ يستعين ببلاد النصارى في الشمال، وسبب هذا الانقلاب كأنه يريد أن يأخذ التأييد من مملكة ليون الشمالية، فانقلب على عقبيه وأصبح نصرانياً، فتركه بعض المسلمين، لكن نال من تأييد مملكة ليون، وتزامن مع هذا الموقف توقف الجهاد في ممالك النصارى، فبدأت مملكة ليون تتجرأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال، وعمر بن حفصون أو صمويل من الجنوب، وهذا ما تفعله أمريكا واليهود الآن مع جون قرنق المتمرد في جنوب السودان، فإن هدفهم واضح جداً، وهو أنهم يمدون جون قرنق بالسلاح والخطط والخرائط والأغذية والأموال والمؤن.. وما إلى ذلك، وكل هذا يهدف إلى ضرب السودان من الداخل، من أجل أن تنشغل بنفسها فتضعف القوة التي في داخلها، ثم يوقفون المد الإسلامي من بلاد السودان إلى بلاد وسط إفريقيا.

هذه خطة قديمة كما ذكرنا، فقد حدثت في بلاد الأندلس مع عمر بن حفصون ورغبوه في الانقلاب إلى النصرانية، فتحول إلى صمويل ليضرب الأندلس من الداخل، وحدثت من قبل ذلك بكثير في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما راسلت قريش عبد الله بن أبي ابن سلول في المدينة المنورة، وشجعته كثيراً على أن يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطرده من بلاده .. وما إلى ذلك.