سلسلة الأندلس عهد الولاة


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وبعد:

فمع الحلقة الثالثة من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط.

تحدثنا في الحلقة السابقة عن حلقة مجيدة جداً من حلقات التاريخ الإسلامي، ورأينا صفحة من صفحات التاريخ المشرق للمسلمين، وكيف أنهم انتصروا انتصارات باهرة على قوات النصارى الموجودة في الأندلس؟ فقد استطاع طارق بن زياد رحمه الله باثني عشر ألفاً من الرجال عديمي الخيول أن ينتصروا على مائة ألف فارس من النصارى في موقعة وادي برباط الشهيرة؛ واستشهد من المسلمين (3000) رجل، وهذا يمثل ربع الجيش المسلم، ومع ذلك لم يفت ذلك في عضد طارق بن زياد رحمه الله، بل انطلق من وادي برباط إلى الشمال ليفتح المدينة تلو المدينة، وكانت المدينة العظيمة التالية لمنطقة وادي برباط هي مدينة إشبيلية، وهذه المدينة مع حصانتها وقوتها ومجدها وحاميتها دفعت الجزية وفتحت أسوارها لـطارق بن زياد رحمه الله؛ وذلك مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).

وبعد فتح إشبيلية توجه طارق بن زياد رحمه الله إلى مدينة إستجة، وهي أيضاً من مدن الجنوب، أي: وادي برباط وإشبيلية وإستجة.. وغيرها من المدن في منطقة الجنوب، ونحن نعلم أن منطقة الجنوب الأندلسي هي المنطقة الملاصقة لمنطقة المغرب العربي، وفي منطقة إستجة قاتل المسلمون قتالاً عنيفاً، ولكنه بلا شك أقل من قتال وادي برباط؛ لأن معظم قوة النصارى كانت قد هلكت في وادي برباط، ثم قبل أن ينتصر المسلمون في أواخر الموقعة فتح النصارى أبوابهم وصالحوا على الجزية، وهناك فرق بين أن يصالح النصارى على الجزية وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحاً؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة لأخذوا كل ما فيها وملكوا البلد، أما إن صالح النصارى على الجزية، فإنهم يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلا الجزية، والتي تقدر بدينار واحد في كل عام على الرجل القادر المستطيع للقتال الغني، فلا تفرض الجزية على المرأة، والوليد الصغير، والمعتكف للعبادة، والضعيف غير القادر على القتال، والأعمى، والكسيح، وهكذا فإنها لا تفرض إلا على المستطيعين للقتال فقط.

وكان عدد جيش طارق بن زياد 9000 مقاتل فقط، فأرسل السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى، وانطلق بقوة الجيش الرئيسية في اتجاه الشمال، حتى وصل إلى طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمان، فبث سرية إلى قرطبة، وسرية إلى غرناطة، وسرية إلى ملقة، وسرية إلى مرسية، فهذه مدن الجنوب المنتشر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والموجودة بالقرب من مضيق جبل طارق، مع العلم أن كل سرية لا يزيد عدد الرجال فيها عن (700) رجل، ومع ذلك فقد فتحت قرطبة -على الرغم من عظمتها وكبرها- بسبعمائة رجل فقط من المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وقال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

ثم توجه طارق بن زياد رحمه الله اتجاه الشمال حتى فتح مدينة أخرى تسمى مدينة جيان، وهي من المدن الحصينة جداً للنصارى في ذلك الزمن.

ويبدو أن موسى بن نصير رحمه الله كان قد أوصى طارق بن زياد ألا يتجاوز مدينة جيان وقرطبة، وأمره ألا يسرع في الفتح حتى يصل إلى طليطلة؛ وذلك حتى لا يحاصره جيش النصارى بعد أن يتقدم بجيشه القليل البسيط في العدة والعتاد والذي يبلغ (9000) رجل فقط، لكن طارق بن زياد وجد الطريق أمامه مفتوحاً إلى طليطلة العاصمة، وهي أحصن مدن النصارى على الإطلاق، وفيها من الضعف الشديد للنصارى، فلو هاجمها فقد تفتح، وإن امتنع عن فتحها كما هو رأي موسى بن نصير فقد لا يستطيع أن يفتحها مرة أخرى، فاجتهد طارق بن زياد رحمه الله فخالف رأي الأمير الأعلى موسى بن نصير ، والأفضل في هذا الموقف أن يستشير طارق بن زياد مرة أخرى موسى بن نصير ، ويرسل له رسالة يبين له فيها أنه يرى أن الطريق مفتوح، وأنه سوف يفتح طليطلة، فما رأيه وما رده على ذلك، لكن طارق بن زياد أسرع في اتجاه طليطلة دون استئذان من موسى بن نصير رحمه الله، فعلم موسى بن نصير بتقدم طارق بن زياد إلى طليطلة، ولكن لطول المسافات لم يستطع أن يلحق بـطارق بن زياد إلا بعد أن وصل إلى طليطلة، فوجد طارق بن زياد طليطلة المدينة الحصينة جداً من أحسن وأحصن مدن الأندلس على الإطلاق، محاطة بجبال طبيعية ضخمة جداً من اتجاه الشمال والغرب والشرق، وليس فيها إلا خط مفتوح من اتجاه الجنوب عليه حصن ضخم كبير جداً، ومع ذلك لما وصل طارق بن زياد إلى طليطلة فتحت المدينة أبوابها وصالحت على الجزية، فهذا نصر من الله سبحانه وتعالى وفتح مبين، لكن موسى بن نصير لم يعجبه هذا الأمر؛ لأن فيه تهوراً، فقد كان موسى بن نصير رحمه الله يتميز بالأناة والحكمة والحنكة في فتوحاته في شمال أفريقية حتى وصل إلى المغرب، فأرسل رسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد رحمه الله يأمره فيها بالكف عن الفتح وبالانتظار حتى يصل إليه، خشية أن تلتف حوله الجيوش النصرانية، وبدأ موسى بن نصير رحمه الله يجهز العدة لكي يمد طارق بن زياد بالمدد بعد أن انطلق إلى تلك الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، وجهز موسى بن نصير رحمه الله من المسلمين ثمانية عشر ألفاً، فقد انهمر الناس من مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها على أرض الأندلس لما علموا أن فيها جهاداً، وكان جل الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من البربر، أما هؤلاء الثمانية عشر ألفاً فهم من العرب، فقد جاءوا من اليمن والحجاز والشام والعراق .. وغيرها، انطلقوا كل تلك المسافات وقطعوها حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، وعبروا مع موسى بن نصير رحمه الله إلى بلاد الأندلس نصرة ومساعدة لـطارق بن زياد رحمه الله، ولما عبر القائد المحنك موسى بن نصير هذه البلاد وجد ما توقع؛ وهو أن إشبيلية التي صالحت على أن تدفع الجزية وتدخل في عهد المسلمين قد نقضت العهد بعد أن انطلق طارق بن زياد إلى منطقة طليطلة، وجهزت العدة كي تلتف من خلف طارق بن زياد ، فإذا بها تفاجأ بجيش موسى بن نصير رحمه الله يحاصر إشبيلية، فهو قائد محنك له نظرة واعية وبعد نظر ثاقب، وليس كما يدعي الناس أنه عطل طارق بن زياد عن الفتح حسداً، إذ إنه فتح بلاد الأندلس وحده، وأراد منه أنه ينتظره حتى يشركه في الأمر معه، وطارق بن زياد من عمال موسى بن نصير ، وحسنات طارق بن زياد جميعاً في ميزان موسى بن نصير رحمه الله، فقد دخل طارق بن زياد في الإسلام على يد موسى بن نصير ، وقد هداه للإسلام بفضل الله سبحانه وتعالى، فـموسى بن نصير كان يريد النصر للمسلمين وعدم الهلكة لهذا الجيش في تلك الأراضي الغريبة عن المسلمين، فحاصر موسى بن نصير منطقة إشبيلية شهوراً، وصبرت على هذا الحصار ثم فتحت أبوابها بعد شهور من حصار موسى بن نصير ، كانت من أشد المدن حصانة في الأندلس، ثم إن موسى بن نصير لم يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد ، بل اتجه إلى منطقة الغرب التي لم يدخلها طارق بن زياد .

إذاً: هو دخل هذه البلاد لتكملة الفتح ولمساعدة طارق بن زياد رحمه الله وليس لأخذ النصر والعزة والشرف منه، ما كان لـموسى بن نصير أن يتصرف بهذا المنطلق، وهو الذي علمناه تقياً ورعاً مجاهداً صابراً محتسباً عند الله سبحانه وتعالى.

فقد فتح مناطق عظيمة جداً حتى وصل إلى منطقة نردة، وهي منطقة من المناطق التي تجمع فيها كثير من القوط، وحاصرها شهوراً، كل هذا وطارق بن زياد ينتظر في طليطلة حتى يأتي إليه موسى بن نصير رحمه الله، وآخر شهور هذا الحصار كان في شهر رمضان وفي عيد الفطر فتحت المدينة أبوابها.

انظر كيف كانت الأعياد عند المسلمين، فإن العيد السابق كان في يوم من أيام وادي برباط، وهذا العيد فتحت فيه مدينة مردا العظيمة وصالح أهلها المسلمين على الجزية بعد صبر طويل.

ثم إن القائد العجيب موسى بن نصير أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير رحمهما الله ليفتح مناطق أكثر في ناحية الغرب، فتوغل في الغرب، فهو كأبيه قد ربي على الجهاد، وفي فترات قليلة ومعدودة فتح كل غرب الأندلس، والتي هي الآن دولة البرتغال، وفتح لشبونة وسائر البلاد التي في شمال لشبونة، فـعبد العزيز بن موسى بن نصير رحمهما الله يعتبر فاتح البرتغال.

إذاً: سرية موسى بن نصير وسرية عبد العزيز بن موسى بن نصير كانتا لمساعدة طارق بن زياد رحمه الله، وذكرت بعض الكتب أن موسى بن نصير وبخ طارق بن زياد وعنفه، وقيده، وضربه بالسوط! فمثل هذا الكلام لم يحدث أبداً، فهو لم يأت إلا في الروايات الأوربية فقط، لكن الذي حدث بالفعل هو أن موسى بن نصير عنف طارق بن زياد على معصيته في عدم البقاء في قرطبة أو في جيان واستمراره في السير حتى طليطلة، وكان هذا تعنيفاً سريعاً بسيطاً، وكان لقاء حاراً بين الزعيمين البطلين اللذين افترقا منذ سنتين كاملتين؛ أي: منذ رمضان سنة (92) من الهجرة، ولم يلتقيا إلا في ذي القعدة سنة (94) من الهجرة، فالحملة التي قادها طارق بن زياد رحمه الله أخذت عاماً كاملاً حتى وصل إلى طليطلة، والحملة التي قادها موسى بن نصير أخذت عاماً آخر حتى وصل إلى طليطلة من الجهة الأخرى حتى تقابل مع طارق بن زياد رحمهما الله، فلما وصلا إلى ذلك المكان اجتمعا سوياً، ثم اتجها إلى فتح منطقة الشمال الشرقي، ثم الشمال الغربي، حتى فتحا مناطق الشمال كلها، وفتحا سوياً مدينة برشلونة، التي لا نعرف عنها إلا عندما نسمع عن فريق الكرة الذي يلعب في مدينة برشلونة، ولا يخطر في بالنا أن موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله قد حكما هذه البلاد بشرع الله سبحانه وتعالى، فقد كانت لديهما الهمم العالية، ثم فتحا مدينة سرقسطة وهي أعظم مدن الشمال الشرقي، واتجها سوياً إلى منطقة شمال الوسط، ثم إلى الشمال الغربي، ثم أرسل موسى بن نصير سرية إلى خلف جبال الفرنيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وأسبانيا، أو بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع هذه الجبال في الشمال الشرقي لمنطقة الأندلس، ففتحت هذه السرية مدينة أرجونة، التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وأسس نواة لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان كما سيأتي، وأخذ يستكمل الفتح حتى وصل إلى آخر مناطق الشمال الغربي، وانتهى من فتح كل بلاد الأندلس في خلال ثلاث سنوات ونصف، أي: من سنة (92) من الهجرة إلى أواخر سنة (95) من الهجرة، ولم تبق إلا أقصى منطقة الشمال الغربي، والتي تسمى: منطقة الصخرة، أو صخرة بليه، وهي منطقة على خليج بسكاي الذي يتصل مع المحيط الأطلنطي، فهذه المنطقة الصغيرة لم يستطع المسلمون أن يفتحوها، فقد حاصروها حصاراً طويلاً.

كان موسى بن نصير رحمه الله يريد أن يفتح منطقة الصخرة، لكن وصلته رسالة من دمشق من الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك الوقت، يطلب منه ومن طارق بن زياد أن يعودا إلى دمشق ولا يستكملا الفتح، فحزن موسى بن نصير حزناً شديداً لهذا الطلب؛ لأنه لم يكمل الفتح، وكان رأي الوليد بن عبد الملك أن المسلمين قد توغلوا كثيراً في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي رحمه الله أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في تلك البلاد فهي قليلة، فلا يريد أن يتوغل المسلمون أكثر من ذلك.

وهناك أمر آخر وهو صحيح: وهو أن سبب إصرار الوليد بن عبد الملك على استجلاب موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، هو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير رحمه الله يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا، حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب، فإن مدينة القسطنطينية كانت قد استعصت على المسلمين من الشرق، فإن جيوش الدولة الأموية لم تستطع أن تفتحها.

وفعلاً فإن موسى بن نصير هذا الرجل العجيب كان يفكر في أن يخوض كل بلاد أوروبا؛ فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم تركيا حتى يصل إلى القسطنطينية، فيفتحها من الغرب، ويتوغل بكل هذا الجيش الإسلامي في هذا العمق العجيب في قارة أوروبا، منقطعاً عن كل مدد، وهذا أمر أرعب الوليد بن عبد الملك ، فإن هذا الجيش لو احتاج إلى مدد، فإنه سيحتاج إلى شهور، بل وسنوات حتى يصله هذا المدد، لما يفصل بينها وبين المسلمين من مسافات ضخمة من بحار وجبال وأراض واسعة، وخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة.

وقد كان موسى بن نصير يبلغ من العمر (75) سنة، فهو شيخ كبير، ومع ذلك كان يركب الخيول ويجاهد في سبيل الله، ويفتح المدينة تلو المدنية ويحاصر إشبيلية شهوراً، ثم يحاصر مردا شهوراً، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي، ثم يتجه إلى الشمال الغربي ويحاصر الصخرة، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا .. وغيرها، حتى يصل إلى القسطنطينية، فأي همة عند هذا الشيخ الكبير موسى بن نصير ؟ أما في زماننا فإن من بلغ هذا السن فإنه يصبح مقعداً غير عامل في المجتمع، ويعتبر أن رسالته قد انتهت، فمن لتعليم الأجيال، ولتوريث الخبرات، ولتصحيح المفاهيم؟

إذاً: حزن موسى بن نصير حزناً شديداً على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه لأرض الجهاد، فقد كان متشوقاً جداً إلى الجهاد؛ ولأن الصخرة التي في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد؛ ولأنه لم يستكمل فتح القسطنطينية من قبل الغرب، ثم لم يجد إلا أن يسمع ويطيع للوليد بن عبد الملك رحمه الله، فقطع المسافات الطويلة في شهور حتى وصل إلى دمشق، وهناك وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، وما هي إلا ثلاثة أيام ومات الوليد بن عبد الملك رحمه الله، وتولى الخلافة من بعده سليمان بن عبد الملك والذي كان على فكر أخيه؛ فقد رفض أن يعيد موسى بن نصير خشية أن يستكمل الفتوح داخل بلاد أوروبا ويصل إلى القسطنطينية في حركة عسكرية قد تؤدي إلى هلاك الجيش الإسلامي، فأبقاه عنده في دمشق، وأبقى طارق بن زياد كذلك.

وبعدها بعام ذهب سليمان بن عبد الملك إلى مكة للحج، فـموسى بن نصير اشتاق للحج، لأنه منذ سنوات طويلة وهو في أرض الجهاد، يفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام أكثر من عشر سنين، فتشوق للحج فرافق سليمان بن عبد الملك إلى الحج في عام (97) من الهجرة، وفي طريقه إلى هناك قال: اللهم إن كنت تريد لي الحياة، فأعدني إلى أرض الجهاد وأمتني على الشهادة، وإن كنت تريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحج ثم سافر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات فيها.

فهذا حال القلوب الموصولة برب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا من حسن الخواتيم، فقد وصل إلى هذه المرتبة العظيمة بحيث يدعو ربه سبحانه وتعالى فيستجيب لدعائه، فيموت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدفن هناك مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه همة عظيمة جداً، فهو نبراس لكل المسلمين.

الأمر اللافت للنظر في التاريخ أن طارق بن زياد رحمه الله انقطعت أخباره بالكلية عند هذه المرحلة، فقد عاد إلى دمشق مع موسى بن نصير ، لكن لا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى بلاد الأندلس، أم أنه بقي في بلاد دمشق؟ وإن كان هناك بعض الروايات التي لا يثق المؤرخون من صحتها أنه قد مات في عام 102 من الهجرة، يعني بعد هذا الرجوع بحوالي بخمس أو ست سنوات، لكن لا يدري أحد إن كان مات في دمشق أو في بلاد الأندلس.

وأمر عجيب يحدث في بلاد الأندلس أن المسلمين لم يفتحوا منطقة الصخرة، وظل فيها طائفة من النصارى وتهاون المسلمون في فتحها، وأغلب الظن أنه لو كان طارق بن زياد وموسى بن نصير في بلاد الأندلس ما تركوها، ومن هذه المنطقة الصغيرة في أقصى الشمال الغربي لبلاد الأندلس، كانت نواة ممالك نصرانية سوف تنشأ بعد ذلك، ويكون لها اليد في سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون، فالأمر في بدايته يسير جداً، لكن أدى إلى أمور عظيمة على مرور الزمان، فالمسلمون لابد أن يأخذوا أمورهم بالعزم والحزم وعدم الطمأنينة لهذه البلاد.

وبرجوع موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق تنهي فترة من فترات الأندلس، تسمى في التاريخ بعهد الفتح، الذي بدأ من سنة (92) من الهجرة حتى سنة (96) من الهجرة، أو أواخر 95 من الهجرة، والأندلس تقسم إلى عهود بحسب طريقة الحكم، وبحسب نظام الملك في تلك الفترات، الفترة الأولى سميت بعهد الفتح، وهي ثلاث سنوات ونصف فقط، وبحساب كل العسكريين يعتبر معجزة عسكرية بكل المقاييس أن بلاد الأندلس بكل الصعوبات الجغرافية التي فيها من جبال وأنهار وبحيرات وأرض مجهولة للمسلمين تفتح لهم في ثلاث سنوات ونصف فقط، ويتمكن المسلمون من كل الأمور ما خلا المنطقة الصغيرة في الشمال الغربي التي تسمى: منطقة الصخرة أو صخرة بليه، فهذه معجزة عسكرية غير مسبوقة إلا في تاريخ المسلمين فقط.

بعد فترة عهد الفتح بدأ عهد جديد يسمى: عهد الولاة، بدأ بعد رجوع موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، أي: من سنة (96) من الهجرة ويستمر حتى سنة (138) من الهجرة، أي: حوالي (42) سنة، وعهد الولاة هو أن يتولى حكم الأندلس في هذه الفترة وال يتبع الحاكم العام للمسلمين وهو الخليفة الأموي الموجود في بلاد الشام في دمشق، ويعتبر سليمان بن عبد الملك في أول عهد الولاة، ثم توالى من بعده الحكام من بني أمية؛ عمر بن عبد العزيز ، ثم يزيد بن عبد الملك ، ثم هشام بن عبد الملك .. وهكذا إلى آخر الدولة الأموية.

وكان أول الولاة على منطقة الأندلس هو عبد العزيز بن موسى بن نصير بأمر من سليمان بن عبد الملك رحمه الله، وهذا الرجل كان كأبيه في جهاده وتقواه وورعه كما يقول عنه أبوه موسى بن نصير: لقد عرفته صواماً قواماً، وكان مجاهداً في سبيل الله، ووطد الأركان بشدة في منطقة الأندلس، وتوالى من بعده الولاة.

تولى من الولاة على منطقة الأندلس خلال (42) سنة حوالي (22) أو (20) والياً، يعني: أن كل وال لا يحكم إلا سنتين أو ثلاثاً، فلماذا هذا التغيير المفاجئ للولاة والتغيير الكثير في الولاة؟

مما لا شك فيه أن هذا التغيير الكثير بسبب استشهاد كثير من الولاة في معاركهم في بلاد فرنسا، وأما في الفترة الثانية من عهد الولاة، فكان الولاة يغيرون بالمكائد والانقلابات والمؤامرات .. وما إلى ذلك، فالفترة الأولى تختلف بالكلية عن الفترة الثانية.

تقسيم عهد الولاة

نستطيع أن نقسم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة والحكم إلى فترتين رئيسيتين:

الفترة الأولى: هي فترة جهاد وفتوح وفترة عظمة للإسلام والمسلمين، وهذه تمتد من سنة (96) هجرية إلى سنة (123) من الهجرة، أي: أنها استمرت (27) سنة.

الفترة الثانية: هي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد.. وما إلى ذلك، فتستمر من سنة (123) من الهجرة إلى سنة (138) من الهجرة، يعني: (15) سنة.

مميزات الفترة الأولى وأبرز سماتها

تميزت الفترة الأولى من فترة الولاة ببعض الصفات:

أولاً: نشر الإسلام في بلاد الأندلس، بعد أن تمكن المسلمون من توطيد أركان الدولة في بلاد الأندلس، بدأ المسلمون يعلمون الناس الإسلام، والفطرة السوية تختار هذا الدين بلا تردد، فقد وجد الأستان في هذا الدين ديناً متكاملاً شاملاً ينظم كل أمور الحياة؛ وعقيدة واضحة، وعبادات منتظمة، وتشريعات في السياسة وفي الحكم وفي التجارة وفي الزراعة وفي المعاملات، وتواضعاً للقادة، وتفاصيل عن كيفية التعامل مع الوالدين والأقارب والأولاد والجيران والأصدقاء، ومن عرفت ومن لا تعرف، وكذا مع الأعداء والأسرى، فهذه تفاصيل عجيبة جداً ما تعودوا عليها من قبل، هم تعودوا فصلاً كاملاً بين الدين والدولة؛ فالدين عندهم عبارة عن بعض المفاهيم اللاهوتية غير المفهومة، فيأخذونها ولا يستطيعون أبداً تطبيقها، أما التشريعات والحكم فيشرعها لهم من يحكمهم من الناس، أما الإسلام فقد وجدوا فيه أمراً عجيباً لم يستطيعوا أبداً أن يتخلفوا عن الارتباط بهذا الدين، فدخلوا في الإسلام أفواجاً، وفي فترات قليلة جداً من فتح الأندلس أصبح عموم أهل الأندلس من المسلمين، حتى إن غالبية المسلمين في بلاد الأندلس من أهل الأندلس الأصليين، وأصبح العرب والبربر قلة في هذه البلاد، لكن هذا أبداً ما غير الحكم في بلاد الأندلس، بل أصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتجهوا إلى فتوحات بلاد فرنسا بعد ذلك، وبدأ المسلمون يتزوجون من الأندلسيات، فتكون جيل جديد؛ الأب من العرب أو البربر والأم من الأندلسيات، ونشأ جيل عرف في التاريخ باسم جيل المولدين، الأب عربي أو بربري والأم أندلسية.

ثانياً: بدأ المسلمون في الأندلس يلغون الطبقية، فقد جاء الإسلام وساوى بين الناس، حتى إن الحاكم والمحكوم كانا سواء بسواء أمام القضاة للتحاكم في المظالم، وقد أتاح المسلمون في هذه الفترة الحرية العقائدية للنصارى وتركوا كنائسهم، وإذا وافق النصارى على بيع كنيسة من الكنائس اشتراها المسلمون ولو بأثمان باهظة ثم يحولونها إلى مسجد، أما إن رفضوا أن يبيعوا كنائسهم تركوها لهم وما هدموها أبداً، فانظر إلى هذا الأمر من أجل أن تقارن بين ما سيفعله النصارى في آخر عهد المسلمين في بلاد الأندلس، فيما عرف بمحاكم التفتيش بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس.

ثالثاً: اهتم المسلمون أيضاً في هذه الفترة الأولى بتأسيس الحضارة المادية، وبتأسيس الإدارة والعمران، وبنشر الكباري والقناطر، وأنشئوا قنطرة عجيبة جداً تسمى قنطرة قرطبة، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن، وأنشئوا مصانع كبيرة للأسلحة، ومصانع لصناعة السفن، وبدأت القوى الإسلامية تقوى في هذه المنطقة.

رابعاً: من السمات المهمة جداً في عهد الولاة: أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية، وكذا الأسبان النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون في هذه الفترة بدءوا يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم، وهذا لأن الأمم المهزومة تقلد الأمم المنتصرة، أما الآن فنحن نتلقى في بعض المدارس تعلم اللغة الإنجليزية، بل إن بعض المدارس الإسلامية بدأت تقيم مدارس لتعليم الأولاد اللغات في داخل البلاد الإسلامية، وتعلم الناس كل المناهج باللغة الإنجليزية؛ وهذه فتنة الحضارة الغربية والتقدم الغربي الآن، فيتركون اللغة التي شرفها الله سبحانه وتعالى بأن جعلها لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة.

أما الأسبان فهم معذورون في تعلم اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، ووجدوا أمة غالبة ومتحضرة تتكلم بهذه اللغة، أما نحن فلا عذر لنا وقد تعلمنا اللغة التي شرفها الله سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم.

خامساً: من سمات هذه الفترة: أنهم اتخذوا قرطبة عاصمة لهم، بدلاً من طليطلة عاصمة بلاد الأندلس سابقاً؛ لأن منطقة طليطلة كانت في الشمال وهي قريبة من بلاد فرنسا ومن منطقة الصخرة، فكانت غير آمنة أن تكون هي العاصمة، فاختار المسلمون مدينة قرطبة؛ لأنها في الجنوب؛ ولأنها قريبة من المدد في بلاد المغرب.

ومن الأشياء الهامة جداً في هذه الفترة والمميزة لهذه الفترة الأولى في عهد الولاة هو الجهاد في فرنسا، فقد كان له خطوات كبيرة في تاريخ المسلمين في الفترة الأولى من عهد الولاة.

ذكر ولاة الفترة الأولى وجهادهم

نذكر في هذه الفترة بعض الولاة الذين كان لهم السبق في موضوع الجهاد في بلاد فرنسا، وعلى سبيل المثال: السمح بن مالك الخولاني رحمه الله، كان والياً في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، الذي حكم المسلمين من سنة (99هـ - 101هـ) أي: سنتين وستة أشهر على الأكثر، وفي هذه الفترة القليلة عم الرخاء والأمن والعدل في بلاد المسلمين، وكانت اختيارات عمر بن عبد العزيز موفقة رحمه الله؛ فاختار السمح بن مالك الخولاني القائد الرباني المشهور في التاريخ الإسلامي، وهو الذي انطلق إلى بلاد فرنسا، والتي كان فيها مدينة واحدة إسلامية وهي مدينة أرجونة التي فتحها موسى بن نصير بسرية من السرايا، ففتح السمح بن مالك الخولاني كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، وأسس مقاطعة: ضخمة جداً اسمها مقاطعة سبتمانيا، وتعرف هذه المقاطعة الآن بساحل الريفيرا الموجود في فرنسا، وكثير من المسلمين الآن يذهبون إلى منطقة الريفيرا للتنزه وللجلوس على شواطئ هذه المناطق، التي تعتبر من أشهر المنتجعات السياحية في العالم، لكن انظر ماذا فعل المسلمون في السابق؟ فقد دخلوا هذه البلاد فاتحين، وحكموا منطقة الريفيرا بشرع الله سبحانه وتعالى، ودامت لهم السيطرة عليها سنوات عديدة.

واستكمل السمح الفتوح، وأرسل من يعلم الناس الإسلام سواء في فرنسا أو في منطقة الأندلس، ثم لقي ربه شهيداً رحمه الله، وكان استشهاده في يوم عرفة سنة (102) هجرية.

وتولى من بعده بعض الولاة، ومنهم عنبسة بن سحيم رحمه الله، وكثير من الناس لا يسمعون عن هذا الرجل القائد التقي الورع الإداري العسكري المسلم المشهور في التاريخ الإسلامي، كان مجاهداً حق الجهاد، حكم المسلمين في بلاد الأندلس من سنة (103) إلى سنة (107) هجرية، ووصل في جهاده إلى مدينة سانس، والتي تبعد (30) كيلو متر من باريس في أقصى شمال فرنسا، ومعنى ذلك أن عنبسة بن سحيم رحمه الله قد فتح (70%) من أراضي فرنسا، ومن قبله السمح بن مالك الخولاني رحمه الله، ثم استشهد عنبسة بن سحيم وهو في طريق عودته.

ثم بدأت الأمور تتغير في بلاد الأندلس، فقد تولى من بعد عنبسة بن سحيم مجموعة من الولاة، كان آخرهم الهيثم الكلابي، كان متعصباً لقومه ولقبيلته، فبدأت تحدث خلافات بين المسلمين العرب والمسلمين البربر بحسب العرق والعنصر، وهذا أمر لم يحدث في تلك المناطق من قبل، فدارت مشاحنات، ومعارك بين العرب والبربر في هذه المنطقة.

ثم من الله على المسلمين بـعبد الرحمن الغافقي رحمه الله، الذي ألغى العصبيات، وأعاد الدين من جديد، ووحد الصفوف، وبدأ يبث في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر والعرب، والتي لم تفرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.

نستطيع أن نقسم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة والحكم إلى فترتين رئيسيتين:

الفترة الأولى: هي فترة جهاد وفتوح وفترة عظمة للإسلام والمسلمين، وهذه تمتد من سنة (96) هجرية إلى سنة (123) من الهجرة، أي: أنها استمرت (27) سنة.

الفترة الثانية: هي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد.. وما إلى ذلك، فتستمر من سنة (123) من الهجرة إلى سنة (138) من الهجرة، يعني: (15) سنة.