أرشيف المقالات

قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
قولي صواب يحتمل الخطأ
وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب


أكثر المسائل الاجتهادية لا يقطع المجتهد بالصواب فيها، بل يرجح قولاً على قول بحسب ما يغلب على ظنه أنه الصواب، فإنه إذا تعذر الوصول إلى اليقين يكفي غلبة الظن، وهذا من يسر الشريعة وسماحتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحوٍ مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار"[1].
 
وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب ".
 
فالعالم الواسع الاطلاع يتسع صدره للمخالفين له؛ لمعرفته بأقوال العلماء، وأدلتهم، ولتمييزه بين الأدلة القطعية والظنية والدلالات القطعية والظنية، ومعرفته بخلاف العلماء في بعض القواعد الأصولية والفقهية والحديثية، ومعرفته بخلاف أئمة الحديث في الجرح والتعديل وتصحيح بعض الأحاديث وتضعيفها، فالحديث المختلف في تصحيحه أو تضعيفه قد يرجح المجتهد صحته وهو ضعيف في نفس الأمر، وقد يرجح ضعفه وهو صحيح في نفس الأمر، وهذا أمر معلوم عند أهل العلم بالحديث، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: " تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن"[2] ا.هـ.
 
فالعلماء المنصفون يعرفون متى يجزمون بما ترجح لديهم ومتى لا يجزمون، ويفرقون بين مقام الجزم ومقام الاحتمال، ويعيبون على من يجزم في مقام الاحتمال.
 
ومن اصطلاح بعض العلماء أنهم يقولون: هذا القول أصح إذا كان القول الآخر صحيحاً غير ضعيف، وله قوة وحظ من النظر، ويقولون: هذا القول هو الصحيح إذا كان القول الآخر ضعيفاً.
 
والعالم المنصف يفقه أحكام المصالح والمفاسد، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا معاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً، فهي تحصل المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.
 
وقد يقع الاشتباه والتردد في باب المصالح والمفاسد، والعالم المنصف لا يستهين بغيره من العلماء وأهل الخبرة، بل يحرص على معرفة أقوالهم، ويطلب مشاورتهم، فإن خالفوه في تقدير المصالح والمفاسد عذرهم، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وهذا الباب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون ينظرون للأمرين وقد لا يتبين لهم - أو لأكثرهم - مقدار المنفعة والمضرّة أو يتبين لهم ولا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء، فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل"[3] ا.ه.
 
روى ابن عبد البر[4] عن بعض السلف قال: "من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالماً".
 
وعن الأعمش قال: " أدركت أشياخنا زراً وأبا وائل فمنهم من عثمان أحب إليه من علي، ومنهم من علي أحب إليه من عثمان، وكانوا أشد شيءٍ تحاباً وتواداً "[5].
 
وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: " يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة!"، قال الذهبي معلقاً على هذه القصة: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون"[6].
 
وعن يحيى بن سعيد قال: " ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرّم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرّم هلك لتحريمه"[7].
 
وقال سفيان الثوري: " إذا رأيت الرجل يعمل بعمل قد اختُلِف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه"[8].



[1] متفق عليه.


[2] من فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/ 585).


[3] من مجموع الفتاوى (20/ 257).


[4] في جامع بيان العلم وفضله (2/ 102).


[5] سير أعلام النبلاء (4/ 169).


[6] سير أعلام النبلاء (10/ 16).


[7] جامع بيان العلم وفضله (2/ 161).


[8] فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (4/ 548).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣