المرابطون في بيوت الله [12] - التفريط في جنب الله في باب المنهيات


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونؤمن به ونتوكل عليه, ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً, وهدانا صراطاً مستقيماً, وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله, ولك الملك كله, وبيدك الخير كله, وإليك يرجع الأمر كله, أنت رب الطيبين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ولي الصالحين, وخالق الخلق أجمعين ورازقهم, وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله, أرسله الله رحمة للعالمين, فشرح به الصدور وأنار به العقول, وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته, ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة المؤمنين! لا زلنا نتدارس صفات عباد الله الأخيار الذين يعمرون بيوت العزيز الغفار, فقد وصفهم الله بأنهم رجال, ونعتهم بأربع خصال: لا تلهيهم البيوع والتجارات عن الغاية التي من أجلها خلقوا, يسبحون الله ويعظمونه ويصلون له, ويشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم, يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم، فقال جل وعلا: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

فالصفة الرابعة من صفاتهم: هي خوفهم من لقاء ربهم، واستعدادهم للقائه عز وجل.

وهذه الصفة -أعني صفة الخوف- قد مر الكلام على تعريفها وعلى منزلتها في شريعة الله جل وعلا، وعلى الثمرات التي يحصلها من يتصف بها في العاجل والآجل، وشرعنا إخوتي الكرام في مدارسة الأمر الرابع من الأمور المتعلقة بهذه الصفة الرابعة, ألا وهو أسباب خوف المكلفين من رب العالمين, وقلت: إن أسباب الخوف كثيرة وفيرة يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب:

السبب الأول: إجلال الله وتعظيمه, وقد مر الكلام على هذا السبب.

والسبب الثاني: وهو ما سنتدارسه إن شاء الله: خشية التفريط والتقصير في حق الله الجليل.

والسبب الثالث: خوف سوء الخاتمة.

إخوتي الكرام! إن من أسباب خوف المكلفين من ذي الجلال والإكرام خشية التفريط والتقصير في حق الله؛ سواء فيما يتعلق بجانب الاكتساب أو بجانب الاجتناب.

فأما الاكتساب فهو الطاعات, فقد أمرنا الله جل وعلا بطاعته، وهذه الطاعات لا تكون مقبولة عند رب الأرض والسماوات إلا إذا وجدت شروط في فعلها وفاعلها, أما في فعلها فينبغي أن تكون على حسب شرع النبي صلى الله عليه وسلم, وأن يراد بها وجه الله عز وجل.

وأما الفاعل فينبغي أن يكون تقياً, فلا يتقبل الله العمل إلا من المتقين, وينبغي على العامل أن يحافظ على عمله, فلا ينبغي أن يأتي بعده بما يبطله, وقد عرف أن المحافظة على الأعمال أصعب على العمال من سائر الأعمال, وكم من إنسان يبني ويأتي بأعمال صالحة ثم يهدم ما بناه وينقض ما فعله من الصالحات.

وهذه الأمور الأربعة في الفعل والفاعل لا يتحقق الإنسان من ثبوتها فيه على وجه التمام والكمال, ولذلك يخاف من ذي العزة والجلال.

قال العبد الصالح حذيفة بن قتادة المرعشي -وهو من عباد الله الصالحين، روى عن سفيان الثوري وشغلته الرعاية عن الرواية كما قال ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليهم جميعاً رحمة ذي الجلال والإكرام- يقول حذيفة بن قتادة المرعشي : إن لم تخش أن يعاقبك الله على خير أعمالك فاعلم أنك شقي مغرور هالك. فإذا كانت خير أعمالك التي تصدر عنك لم تخش العقوبة عليها فاعلم أنك مغرور أحمق من الهلكى.

إخوتي الكرام! في هذه الموعظة سأتكلم على تفريطنا في جانب الاجتناب, ووقوعنا في معصية الكريم الوهاب، أما فيما يتعلق بالطاعات فسأرجئ الكلام على تفريطنا نحو طاعة ربنا في جانب الامتثال بفعل المأمورات إلى الموعظة الآتية إن شاء الله, وأما هذه الموعظة فهي فيما يتعلق في الوقوع في المحظورات والمنهيات والمخالفات.

عباد الله! نهانا الله جل وعلا عن معصيته, ولا يمكن أن يتحقق في الإنسان وصف التقوى إلا إذا اجتنب ما حرم الله عليه ونهاه عنه.

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

وهذا العبد الصالح بلال بن سعد حديثه رواه البخاري في الأدب المفرد وأخرج له أبو داود في كتاب القدر, وهو من رجال الإمام النسائي في السنن, وهو عبد صالح من العلماء الربانيين, توفي سنة 120هـ. يقول هذا الرجل: لا تنظر إلى صغر الخطيئة, ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.

ومن كلام هذا العبد الصالح، وكأنه يتكلم عن حالنا فيقول: لا تكن ولياً لله في العلانية وعدواً له في السر.

إخوتي الكرام! إن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر, وأشنع الكبائر الإشراك بالله عز وجل, وأصغر الصغائر لا يعلم, وقد أخفاه الله عنا؛ ليكون العباد على وجل شديد من كل ذنب؛ خشية أن يكون ذلك الذنب مهلكاً والإنسان لا يدري؛ ولئلا يقول قائل: هذا أصغر الذنوب فلا حرج علي في فعله.

إذاً: فالذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر, فأكبر الكبائر معلوم, وأصغر الصغائر استأثر بعلمه الحي القيوم.

وأنت أيها المؤمن! لن تتحقق فيك صفة التقوى إلا إذا اجتنبت جميع المخالفات من صغائر الذنوب وكبائرها, فإذا كان الأمر كذلك فكل واحد يعيد النظر إلى نفسه ويتأمل حاله؛ لأن الإنسان على نفسه بصيرة, فهل نجونا من مخالفات الله؟ وهل ابتعدنا عما حرمه الله؟

إننا نخوض في المخالفات, ولا يسعنا إلا عفو رب الأرض والسماوات, ثبت في المسند وصحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه في حديثه الطويل عن نبينا عليه الصلاة والسلام عن الله الكبير في الحديث القدسي الذي يقول في أوله: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ). ثم يقول الله جل وعلا في هذا الحديث القدسي: ( يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ). اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا, وما أعلنا وما أسررنا, وما أنت أعلم به منا.

فنحن نسبح في الخطايا والذنوب, ونموج بالبلايا والعيوب وعلى ذلك فصفة التقوى لا نتصف بها, والله لا يتقبل العمل إلا من المتقين, فكيف سنقابل أحكم الحاكمين؟ هذا أمر صعب لا يعلمه إلا الله, ونسأله أن يعاملنا بفضله ورحمته؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! لو حوسبنا على تفريطنا وتقصيرنا في حق ربنا لألقينا على وجوهنا في نار جهنم, فحقيق بنا إذا كنا من الأكياس أن نخاف رب الناس؛ لأن الله يقول: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

إن كل من يحاسبه الله يوم القيامة يهلك ويلقى في نار جهنم؛ لكثرة التفريط في حق الله جل وعلا, وقد ثبت في المسند والصحيحين من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حوسب عذب ). وفي رواية: ( من نوقش الحساب هلك. فقالت أمنا عائشة -الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وعن الصحابة أجمعين-: يا رسول الله! ألم يقل الله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:7-9] )؟ فالمراد أنه يأخذ كتابه بيمينه ويحاسب, وأنت يا خير خلق الله تقول: من حوسب عذب, ومن نوقش الحساب هلك؟ فقال: ( ليس ذلك, إنما ذلك العرض, لكن من حوسب عذب, ومن نوقش الحساب هلك ). فالحساب يسير وهو أن تعرض الصحف من قبل الله على عباده المؤمنين, فيقول الله لهم: سترتكم في الدنيا, وأستركم في الآخرة, ولكن من ناقشه الله وحاسبه عذبه وأهلكه.

نعم، إننا نفرط في حق ربنا في ليلنا ونهارنا, وقد جلى لنا نبينا صلى الله عليه وسلم هذا بحديثه الذي يخبر فيه عن نفسه وعن روح الله وكلمته نبي الله عيسى، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه وأبو نعيم في الحلية ورواه البزار في مسنده والإمام الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان - الإبهام والتي تليها السبابة- لعذبنا ثم لم يظلمنا ). سبحانك ربي! سبحانك ربي! إذا كان هذا حالك مع خير خلقك نبينا عليه الصلاة والسلام ومع كلمتك وروحك بحيث لو حاسبتهما على ما يصدر من إصبعين من أعضائهما في حقك لعذبا دون ظلم منك, فكيف يكون حال من عداهما؟! إن عباد الله الأخيار تتقطع قلوبهم عندما يسمعون مثل هذا فهم يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

أخي المؤمن! أنت على يقين من ذنبك وتفريطك, وأنت بعد ذلك لست على يقين من مغفرة الله لك ورحمته بك, فأمرك موكول إليه, أما يجب عليك أن تتصف بهذه الصفة التي نعت الله بها الرجال فقال: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]؟

إخوتي الكرام! كل من نجا من النار فما نجا إلا بمغفرة العزيز الغفار, وكل من دخل الجنة فما دخلها إلا برحمة الله القهار. فذلك نجا منها بمغفرة الله, وهذه دخلها برحمة الله.

ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع

فإن يثبنا فبمحض الفضل أو يعذبنا فبمحض العدل, والله جل وعلا عنده في الآخرة داران لا ثالث لهما: دار العدل وهي النار, ودار الفضل وهي الجنة, فمن دخل النار فبعدل الله, ومن دخل الجنة فبفضل الله, وقد ثبت في المسند والصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة, قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ). وهو الذي يقول عليه الصلاة والسلام: ( لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان لعذبنا ثم لم يظلمنا ). حتى أنت لا تدخل الجنة بعملك وأنت أتقى الخلق للحق وأعبد الخلق لله جل وعلا؟! قال: ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ).

ولا يشكلن عليك أخي الكريم هذا الحديث وأمثاله مما ورد فيه أن الجنة دار فضل, وأن من دخلها فبرحمة الله وفضله وجوده وكرمه مع الآيات التي صرحت أن المؤمنين يدخلون الجنة بأعمالهم كقول الله جل وعلا: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]. لا يشكلن عليك هذا. فالباء هنا غير الباء هناك, وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72] الباء هنا للسببية العادية, وأما ( لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة ) فالباء للمعاوضة.

فالمقصود أنه ما عنده عمل يبذله ثمناً يعاوض به عن دخول الجنة, فلا يوجد إلا فضل الله ورحمته، وأما هناك للسببية العادية, وسيأتينا إيضاح هذا في الحديث عن تفريطنا في حق الطاعات, في الجواب الذي ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله وغفر له وللمسلمين أجمعين في أول كتابه مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة في صفحة ثمانية من الجزء الأول, والحافظ ابن حجر أضاف إلى هذا الجواب أربعة أجوبة أخرى, سأفصل الكلام عليها عند الكلام عن تفريطنا في حق ربنا في جانب الطاعات بإذن رب الأرض والسماوات.

إذاً: قوله في الحديث: ( لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان لعذبنا ثم لم يظلمنا ). هذا هو حال الخليقة بأسرها من الملأ الأعلى والملأ الأسفل, لو حاسبهم الله لعذبهم كما أخبر عن ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم, ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه وسنن أبي داود والحديث رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة، وإسناده صحيح من رواية زيد بن ثابت , والحديث رواه الطبراني عن ثلاثة من الصحابة: عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم, ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم ).

قوله: (لعذبهم وهو غير ظالم لهم). لأنهم هم الخطاءون في جنب الحي القيوم, يخطئون بالليل والنهار, ( ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم ). ألم يقل الله جل وعلا مقرراً هذا في كتابه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]؟ و(دابة) نكرة, دخلت قبلها (من) وهي في سياق النفي فتفيد العموم, فوالله ما يترك مخلوق من إنسي وغيره لو أن الله حاسبهم على ما يصدر منهم؛ لأنه تعالى هو أعلم بعباده, فيمن على المؤمنين بجنة النعيم, ويعاقب الكافرين بنار الجحيم, قال الله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45].

ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح أقره عليه الذهبي عن أبي الأحوص قال: قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذه الآية ثم قال: كاد الجعل أن يموت في جحره بذنب ابن آدم.

والجعل دويبة صغيرة بحجم الصرصور تعيش في الأقذار والأوساخ، كاد هذا المخلوق أن يموت بذنبنا وبمعصيتنا لربنا, فالبلاء عندما ينزل يعم الإنس وغيرهم, وهذا المعنى في قول الله: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]. ولذلك إذا غفر لابن آدم ما يصدر منه من تقصير نحو الحيوان البهيم فقد غفر الله له شيئا كثيراً كما قرر هذا نبينا صلى الله عليه وسلم, ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه وإسناد الحديث صحيح, والحديث رواه عبد الله ولد الإمام أحمد موقوفاً على أبي الدرداء من كلامه, وزيادة الثقة مقبولة, فالحديث روي من كلام أبي الدرداء موقوفاً عليه, وروي مرفوعاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لو غفر لكم ما تأتون إلى البهائم لغفر لكم كثيراً ).

أي: مما يصدر منكم من ذنوب، وتتضرر البهائم بسببكم، ومما يقع من معاملة سيئة منكم لتلك البهائم، فالمعنى: لو غفر لكم الذنوب المتعلقة بينكم وبين البهائم التي فيها تفريط في حق البهائم لغفر الله لكم كثيراً من الذنوب.

إخوتي الكرام! هذا حالنا في جانب المنهيات والمعاصي والمخالفات, ولذلك إذا استحضر المؤمن هذا وعلم أنه يخوض في معصية الله ليلاً ونهاراً سيتقطع قلبه ويخاف من الله ولا بد, فمن أسباب خوف المكلفين من رب العالمين استحضارهم لتقصيرهم, فمن علم أنه مقصر في الطاعة وأنه مرتكب للمعصية سيخاف من الله عز وجل ولا بد.

أثر عبد الله بن مسعود في المؤمن والمنافق عند ارتكاب الذنوب

وقد صور لنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن ومن خرج عن هذا الوصف فهو كافر منافق, وهذا التصوير عن هذا العبد الصالح رضوان الله عليه ثابت في صحيح البخاري وسنن الترمذي , والأثر رواه أبو نعيم في الحلية, ورواه شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق, وهو من أصح الآثار, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه تحت جبل ويخاف أن يقع عليه, وإن المنافق -وفي رواية: وإن الفاجر- يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال بيده هكذا.

انظر لهاتين الصورتين لتعلم ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في هذه الحياة, يرى ذنوبه كأن الذنوب جبل فوقه, ويخاف أن يقع هذا الجبل عليه, وإنما صور الذنوب بالجبل لشدة خوف المؤمن من الله عز وجل, فالجبل إذا وقع على من تحته لا يمكن نجاتهم, ولذلك هو يقطع قلبه خوفاً وخشية من ربه عز وجل, وأما ذاك المنافق الفاجر عندما يقع في الذنوب والعيوب يكن كذباب وقع على أنفه, وإنما خص عبد الله بن مسعود الأنف بالذكر من باب تهوين المعصية عند المعاصي؛ لأنه قل أن يقع الذباب على الأنف, وإنما أكثر وقوعه على العينين وعلى الجبين، وأما وقوعه على الأنف فقليل قليل, وعليه خص الأنف هنا كأنه إذا استحضر العاصي والفاجر والمنافق ذنبه يكون الأمر يسيراً عنده, فيعمل هكذا بيده فيطير ذلك الذباب, وعليه كأنه لا يستحضر ذنبه, وإذا استحضره أحياناً يقول: رحمة الله واسعة, ومنى نفسه بالمغفرة, والغالب أن الذنب لا يخطر على باله, وأما ذاك المؤمن الموحد حاله كحال من هو تحت جبل, ويخشى أن يقع ذلك الجبل عليه. فهذا هو وصف عباد الرحمن, يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

أثر أنس وغيره في استعظام الذنوب

كلما عظم الإيمان في قلب الإنسان وصفا قلبه كلما اشتد من خشية الله جل وعلا وكثر خوفه, وقد ثبت هذا عن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, وبينوا لنا اختلاف المتأخرين عن السابقين الصادقين, وقد نقل هذا عن أنس وعن أبي سعيد الخدري وعن عبادة بن قرط وقيل: قرص .

أما أثر أنس فثبت في صحيح البخاري عن أنس .

وأما أثر أبي سعيد الخدري ففي مسند الإمام أحمد ومسند البزار بسند رجاله رجال الصحيح كما قال شيخا الإسلام الإمام الهيثمي والإمام العراقي عليهم جميعاً رحمة الله.

وأما أثر عبادة بن قرط رضي الله عنهم أجمعين فرواه الإمام أحمد أيضاً في المسند والحاكم في المستدرك وأبو داود الطيالسي , ورواه الإمام الدارمي في سننه, ولفظ الآثار الثلاثة بمعنى واحد, يقول فيه أنس وأبو سعيد وعبادة بن قرط رضي الله عنهم أجمعين: إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر, كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.

وهذا يقوله أنس رضي الله عنه للطبقة الثانية في هذه الأمة بعد الصحابة. وهكذا أبو سعيد وعبادة بن قرط.

قال حميد بن هلال لـأبي قتادة راوي الأثر: فكيف لو أدركوا زماننا؟ أي: فكيف لو أدرك عبادة بن قرط زماننا ماذا كان سيقول؟ قال: كان لذلك أقول, أي: يقول أكثر وأكثر, ولربما سيقول: إنكم تعملون أعمالاً لا ترونها شيئاً, وليست أدق من الشعر فقط, كنا نعدها من المهلكات؛ من قاصمات الظهور.

وقيل -كما في المسند وسنن الدارمي - لشيخ الإسلام محمد بن سيرين : ألا تسمع إلى أثر عبادة بن قرط: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر, كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات؟ قال: نعم, أرى جر الإزار منها.

فالسلف رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يحذرون هذا غاية الحذر ويخشونه غاية الخشية, فجاء المتأخرون يسترسلون, يجر أحدهم ثيابه, وإذا جر ثوبه ونصحته يقول: وماذا في هذا الفعل؟ فالقلب نظيف, ولا أقصد كبراً ولا علواً, ولا فخراً ولا رياءً.

وأما السلف فانظر لـمحمد بن سيرين وهو من أئمة التابعين يقول: أرى جر الإزار منها, أي: يجر أحدهم الإزار, ويرون أن هذا أدق من الشعر, ولكن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعدونه من الموبقات, كيف لا؟ وقد ثبت في المسند وسنن أبي داود وابن ماجه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه ورواه البيهقي في السنن الكبرى ورواه الحميدي في المسند، وإسناده صحيح من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ). ومعنى إزرة، أي: الحالة التي يأتزر بها ويلبسها المؤمن تكون إلى أنصاف ساقيه, ( ولا حرج أو ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ). يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم أن يمد إزاره وثوبه إلى الكعبين, ثم يقول مهدداً: ( فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار, ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه يوم القيامة ). إذاً: هناك عقوبتان: إذا نزل الإزار عن الكعبين عقوبته الدخول في النار سواء قصد الخيلاء أم لم يقصد, وإذا جررت إزارك بطراً ورياء فإنك تعاقب بالعقوبة التي هي أعظم وأفظع، وهي أن الله لا ينظر إليك يوم القيامة.

وعبادة بن قرط وقيل: قرص , هو أحد الصحابة الثلاثة الذين أثر عنهم هذا الأثر كما ذكرت, قتل رضي الله عنه وأرضاه مظلوماً شهيداً على يد من يدعون التوحيد في العصر الأول سنة 41هـ بعد مقتل علي على يد من يدعون التوحيد أيضاً، فـعلي رضي الله عنه قتل على يد الموحدين والتعبير الصحيح عنهم أن نقول: على يد الملحدين, لأنهم ليسوا بأهل توحيد, إنما أهل شقاق وتلحيد, قتل على يد الخوارج, وهكذا هذا العبد الصالح عبادة بن قرط كما ثبت في كتاب التاريخ الكبير للإمام البخاري عليه رحمة الله, والأثر روي في كتب تراجم الصحابة كالإصابة وأسد الغابة وغيرهما, أنه كان في سفر في بلاد الأهواز, وكان في غزوة, فلما عاد سمع أذاناً فاتجه جهة الآذان, فرأى أناساً يريدون الصلاة, فلما رأوه عرفوا أنه من الصحابة, قالوا: من أنت؟ فقال: أنا أخوكم أنا من عباد الله المؤمنين, قالوا: أنت أخ للشيطان الرجيم, قال: ويحكم! ألا تقبلون مني ما قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم مني؟ جئته وأنا مشرك بالله فقلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام, فقبل ذلك مني وتركني, وأنتم إذا كنتم تحكمون علي بالكفر فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, فقاموا وبقروا بطنه وقتلوه. فهؤلاء يدعون أنهم يجددون الدين, وأنهم أهل توحيد, وهم في الحقيقة أهل تلحيد, وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من أمثال هذا الصنف الخبيث، ولكن ما أكثرهم في هذه الأيام, يصولون على أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام بالتكفير والتبديع, وما يمنعهم من استحلال دمائهم إلا أنهم لا سلطان لهم, ولو مكن لهم لتقربوا إلى الله بشرب دمائنا وقطع رقابنا كل ذلك باسم التلحيد الذي يطنطنون به ويدورون حوله, فقد خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الصنف الضال المضل الذي زين له سوء عمله فصده الشيطان عن السبيل, وهو يظن أنه من المهتدين.

ثبت في مسند البزار ومسند أبي يعلى والحديث قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع: إسناده حسن, وقال عنه الإمام ابن كثير في تفسيره: إسناده جيد من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن مما أتخوف عليكم رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رؤي عليه بهجته ونظارته وكان ردئاً للإسلام أعزه إلى ما شاء الله, ثم انقلب على جاره فرماه بالشرك وقاتله بالسيف, قالوا: يا رسول الله! من أحق بالشرك الرامي أو المرمي؟ قال: الرامي ).

فهذا قرأ القرآن وتعبد, ثم خرج بعد ذلك على أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام ينبذهم بالضلال والكفر والبدعة, ولا توجد هذه الأوصاف إلا فيه, هو الذي يضلل أمة النبي صلى الله عليه وسلم ويصول عليها ويجول, وما يمنعه -كما قلت- من إراقة دمائها إلا أن الله حال بينه وبين الحكم. ونسأل الله أن يكفينا شرور أنفسنا وشر كل ذي شر؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

أثر حذيفة بن اليمان في اختلاف الحال بين المتقدمين والمتأخرين عند ارتكاب الذنوب

يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما مبيناً اختلاف الأحوال كيف تغير الناس عما كانوا عليه في العصر الأول, وأثر حذيفة في مسند الإمام أحمد, وفي إسناده أبو الرقاد الكوفي , وهو الراوي عن حذيفة رضوان الله عليهم أجمعين. وأبو الرقاد قال عنه الإمام الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول, وقد أخرج له النسائي في كتاب فضائل علي رضي الله عنهم أجمعين, والأثر أورده الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء, فقال: في إسناده جهالة؛ لوجود هذا الرجل أبي الرقاد , وقد حكم صاحب كتاب بلوغ الأماني في شرح الفتح الرباني بأن إسناده جيد، وكما قلت: لا وجود في إسناده إلا هذا العبد الصالح أبو الرقاد الكوفي الراوي عن حذيفة فقد حكموا عليه بأنه مقبول, والحديث كما تقدم له شواهد.

يقول حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: ( كان الرجل منا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلمة فيصير بها منافقاً, وإني أسمعها في المقعد الواحد من أحدكم أربع مرات ). أي كان الرجل إذا تكلم بكلمة مما يتكلم به المتأخرون اليوم في مجالسهم كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام يصبح بها منافقاً إلى يوم لقاء الله, ثم يقول: وإنني أسمعها في المقعد الواحد من أحدكم أربع مرات. وما أكثر الألفاظ التي نلوك ألسنتنا بها ولا نبالي! من استهزاء بشعائر الدين ومن احتقار لحملته, ومن تهوين لأمر رب العالمين, فالكثير اليوم عندما تأمره بطاعة يقول: هذا هين, وتنهاه عن معصية يقول: هذا سهل, ومثل هذه العبارات, يخشى على مرتكبها أن يخرج من دين الله عز وجل.

ثم قال حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: والله لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله بعذاب من عنده, أو ليأمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم.

إخوتي الكرام! هذا هو حال الأكياس الذين يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]. وكلما قوي إيمان الإنسان وصفا قلبه اشتد خوفه من ربه عز وجل.

وقد صور لنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن ومن خرج عن هذا الوصف فهو كافر منافق, وهذا التصوير عن هذا العبد الصالح رضوان الله عليه ثابت في صحيح البخاري وسنن الترمذي , والأثر رواه أبو نعيم في الحلية, ورواه شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق, وهو من أصح الآثار, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه تحت جبل ويخاف أن يقع عليه, وإن المنافق -وفي رواية: وإن الفاجر- يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال بيده هكذا.

انظر لهاتين الصورتين لتعلم ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في هذه الحياة, يرى ذنوبه كأن الذنوب جبل فوقه, ويخاف أن يقع هذا الجبل عليه, وإنما صور الذنوب بالجبل لشدة خوف المؤمن من الله عز وجل, فالجبل إذا وقع على من تحته لا يمكن نجاتهم, ولذلك هو يقطع قلبه خوفاً وخشية من ربه عز وجل, وأما ذاك المنافق الفاجر عندما يقع في الذنوب والعيوب يكن كذباب وقع على أنفه, وإنما خص عبد الله بن مسعود الأنف بالذكر من باب تهوين المعصية عند المعاصي؛ لأنه قل أن يقع الذباب على الأنف, وإنما أكثر وقوعه على العينين وعلى الجبين، وأما وقوعه على الأنف فقليل قليل, وعليه خص الأنف هنا كأنه إذا استحضر العاصي والفاجر والمنافق ذنبه يكون الأمر يسيراً عنده, فيعمل هكذا بيده فيطير ذلك الذباب, وعليه كأنه لا يستحضر ذنبه, وإذا استحضره أحياناً يقول: رحمة الله واسعة, ومنى نفسه بالمغفرة, والغالب أن الذنب لا يخطر على باله, وأما ذاك المؤمن الموحد حاله كحال من هو تحت جبل, ويخشى أن يقع ذلك الجبل عليه. فهذا هو وصف عباد الرحمن, يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

كلما عظم الإيمان في قلب الإنسان وصفا قلبه كلما اشتد من خشية الله جل وعلا وكثر خوفه, وقد ثبت هذا عن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, وبينوا لنا اختلاف المتأخرين عن السابقين الصادقين, وقد نقل هذا عن أنس وعن أبي سعيد الخدري وعن عبادة بن قرط وقيل: قرص .

أما أثر أنس فثبت في صحيح البخاري عن أنس .

وأما أثر أبي سعيد الخدري ففي مسند الإمام أحمد ومسند البزار بسند رجاله رجال الصحيح كما قال شيخا الإسلام الإمام الهيثمي والإمام العراقي عليهم جميعاً رحمة الله.

وأما أثر عبادة بن قرط رضي الله عنهم أجمعين فرواه الإمام أحمد أيضاً في المسند والحاكم في المستدرك وأبو داود الطيالسي , ورواه الإمام الدارمي في سننه, ولفظ الآثار الثلاثة بمعنى واحد, يقول فيه أنس وأبو سعيد وعبادة بن قرط رضي الله عنهم أجمعين: إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر, كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.

وهذا يقوله أنس رضي الله عنه للطبقة الثانية في هذه الأمة بعد الصحابة. وهكذا أبو سعيد وعبادة بن قرط.

قال حميد بن هلال لـأبي قتادة راوي الأثر: فكيف لو أدركوا زماننا؟ أي: فكيف لو أدرك عبادة بن قرط زماننا ماذا كان سيقول؟ قال: كان لذلك أقول, أي: يقول أكثر وأكثر, ولربما سيقول: إنكم تعملون أعمالاً لا ترونها شيئاً, وليست أدق من الشعر فقط, كنا نعدها من المهلكات؛ من قاصمات الظهور.

وقيل -كما في المسند وسنن الدارمي - لشيخ الإسلام محمد بن سيرين : ألا تسمع إلى أثر عبادة بن قرط: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر, كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات؟ قال: نعم, أرى جر الإزار منها.

فالسلف رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يحذرون هذا غاية الحذر ويخشونه غاية الخشية, فجاء المتأخرون يسترسلون, يجر أحدهم ثيابه, وإذا جر ثوبه ونصحته يقول: وماذا في هذا الفعل؟ فالقلب نظيف, ولا أقصد كبراً ولا علواً, ولا فخراً ولا رياءً.

وأما السلف فانظر لـمحمد بن سيرين وهو من أئمة التابعين يقول: أرى جر الإزار منها, أي: يجر أحدهم الإزار, ويرون أن هذا أدق من الشعر, ولكن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعدونه من الموبقات, كيف لا؟ وقد ثبت في المسند وسنن أبي داود وابن ماجه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه ورواه البيهقي في السنن الكبرى ورواه الحميدي في المسند، وإسناده صحيح من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ). ومعنى إزرة، أي: الحالة التي يأتزر بها ويلبسها المؤمن تكون إلى أنصاف ساقيه, ( ولا حرج أو ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ). يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم أن يمد إزاره وثوبه إلى الكعبين, ثم يقول مهدداً: ( فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار, ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه يوم القيامة ). إذاً: هناك عقوبتان: إذا نزل الإزار عن الكعبين عقوبته الدخول في النار سواء قصد الخيلاء أم لم يقصد, وإذا جررت إزارك بطراً ورياء فإنك تعاقب بالعقوبة التي هي أعظم وأفظع، وهي أن الله لا ينظر إليك يوم القيامة.

وعبادة بن قرط وقيل: قرص , هو أحد الصحابة الثلاثة الذين أثر عنهم هذا الأثر كما ذكرت, قتل رضي الله عنه وأرضاه مظلوماً شهيداً على يد من يدعون التوحيد في العصر الأول سنة 41هـ بعد مقتل علي على يد من يدعون التوحيد أيضاً، فـعلي رضي الله عنه قتل على يد الموحدين والتعبير الصحيح عنهم أن نقول: على يد الملحدين, لأنهم ليسوا بأهل توحيد, إنما أهل شقاق وتلحيد, قتل على يد الخوارج, وهكذا هذا العبد الصالح عبادة بن قرط كما ثبت في كتاب التاريخ الكبير للإمام البخاري عليه رحمة الله, والأثر روي في كتب تراجم الصحابة كالإصابة وأسد الغابة وغيرهما, أنه كان في سفر في بلاد الأهواز, وكان في غزوة, فلما عاد سمع أذاناً فاتجه جهة الآذان, فرأى أناساً يريدون الصلاة, فلما رأوه عرفوا أنه من الصحابة, قالوا: من أنت؟ فقال: أنا أخوكم أنا من عباد الله المؤمنين, قالوا: أنت أخ للشيطان الرجيم, قال: ويحكم! ألا تقبلون مني ما قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم مني؟ جئته وأنا مشرك بالله فقلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام, فقبل ذلك مني وتركني, وأنتم إذا كنتم تحكمون علي بالكفر فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, فقاموا وبقروا بطنه وقتلوه. فهؤلاء يدعون أنهم يجددون الدين, وأنهم أهل توحيد, وهم في الحقيقة أهل تلحيد, وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من أمثال هذا الصنف الخبيث، ولكن ما أكثرهم في هذه الأيام, يصولون على أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام بالتكفير والتبديع, وما يمنعهم من استحلال دمائهم إلا أنهم لا سلطان لهم, ولو مكن لهم لتقربوا إلى الله بشرب دمائنا وقطع رقابنا كل ذلك باسم التلحيد الذي يطنطنون به ويدورون حوله, فقد خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الصنف الضال المضل الذي زين له سوء عمله فصده الشيطان عن السبيل, وهو يظن أنه من المهتدين.

ثبت في مسند البزار ومسند أبي يعلى والحديث قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع: إسناده حسن, وقال عنه الإمام ابن كثير في تفسيره: إسناده جيد من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن مما أتخوف عليكم رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رؤي عليه بهجته ونظارته وكان ردئاً للإسلام أعزه إلى ما شاء الله, ثم انقلب على جاره فرماه بالشرك وقاتله بالسيف, قالوا: يا رسول الله! من أحق بالشرك الرامي أو المرمي؟ قال: الرامي ).

فهذا قرأ القرآن وتعبد, ثم خرج بعد ذلك على أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام ينبذهم بالضلال والكفر والبدعة, ولا توجد هذه الأوصاف إلا فيه, هو الذي يضلل أمة النبي صلى الله عليه وسلم ويصول عليها ويجول, وما يمنعه -كما قلت- من إراقة دمائها إلا أن الله حال بينه وبين الحكم. ونسأل الله أن يكفينا شرور أنفسنا وشر كل ذي شر؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما مبيناً اختلاف الأحوال كيف تغير الناس عما كانوا عليه في العصر الأول, وأثر حذيفة في مسند الإمام أحمد, وفي إسناده أبو الرقاد الكوفي , وهو الراوي عن حذيفة رضوان الله عليهم أجمعين. وأبو الرقاد قال عنه الإمام الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول, وقد أخرج له النسائي في كتاب فضائل علي رضي الله عنهم أجمعين, والأثر أورده الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء, فقال: في إسناده جهالة؛ لوجود هذا الرجل أبي الرقاد , وقد حكم صاحب كتاب بلوغ الأماني في شرح الفتح الرباني بأن إسناده جيد، وكما قلت: لا وجود في إسناده إلا هذا العبد الصالح أبو الرقاد الكوفي الراوي عن حذيفة فقد حكموا عليه بأنه مقبول, والحديث كما تقدم له شواهد.

يقول حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: ( كان الرجل منا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلمة فيصير بها منافقاً, وإني أسمعها في المقعد الواحد من أحدكم أربع مرات ). أي كان الرجل إذا تكلم بكلمة مما يتكلم به المتأخرون اليوم في مجالسهم كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام يصبح بها منافقاً إلى يوم لقاء الله, ثم يقول: وإنني أسمعها في المقعد الواحد من أحدكم أربع مرات. وما أكثر الألفاظ التي نلوك ألسنتنا بها ولا نبالي! من استهزاء بشعائر الدين ومن احتقار لحملته, ومن تهوين لأمر رب العالمين, فالكثير اليوم عندما تأمره بطاعة يقول: هذا هين, وتنهاه عن معصية يقول: هذا سهل, ومثل هذه العبارات, يخشى على مرتكبها أن يخرج من دين الله عز وجل.

ثم قال حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: والله لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله بعذاب من عنده, أو ليأمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم.

إخوتي الكرام! هذا هو حال الأكياس الذين يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]. وكلما قوي إيمان الإنسان وصفا قلبه اشتد خوفه من ربه عز وجل.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
المرابطون في بيوت الله [1] - صفات الرجال 3502 استماع
المرابطون في بيوت الله [7] - الخشوع في الصلاة 3058 استماع
المرابطون في بيوت الله [5] - الزهد في الدنيا وطلب الآخرة 2900 استماع
المرابطون في بيوت الله [14] - التفريط في جنب الله في باب المأمورات 2775 استماع
المرابطون في بيوت الله [9] - تعريف الخوف ومنزلته 2758 استماع
المرابطون في بيوت الله [13] - الخوف والرجاء في حياة المؤمنين 2717 استماع
المرابطون في بيوت الله [2] - صفة خروج المرأة إلى بيت الله 2643 استماع
المرابطون في بيوت الله [3] - شروط خروج المرأة إلى بيت الله 2642 استماع
المرابطون في بيوت الله [11] - إجلال الله وتعظيمه 2587 استماع
المرابطون في بيوت الله [6] - فضل الصلاة وذكر الله 2445 استماع