فقه المواريث - العصبات [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك.

سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

انتهينا من دراسة أصحاب الفروض المقدرة في كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وبعد أن انتهينا من مدارسة أصحاب الفروض ندخل في هذه المحاضرة في مبحث التعصيب، وفيه بيان العصبات، وهم من يرثون بلا تقدير.

التعصيب أبين معناه إن شاء الله في اللغة، ثم نتعرض للمعنى الاصطلاحي وهو المقصود، ثم أتكلم على أحكام العصبات بإذن رب الأرض والسماوات.

تعريف العصبة لغة

التعصيب: مصدر عصب يعصب تعصيباً، مأخوذ من العصب وهو الشد والتقوية والإحاطة والطي، ومنه العصائب، وهي ما يلف ويدار كالعمامة، يقال لها عصابة وعصائب، فإذاً: فيها معنى التقوية، وفيها معنى الشد، وفيها معنى الإحاطة، وفيها معنى الطي، هذا هو المعنى اللغوي.

والعصبة تطلق على جمع عاصب، كما يطلق لفظ العصبة أيضاً على العاصب الفرد، فيقال: الابن عصبة، ويقال: هؤلاء عصبة، فيطلق على الفرد وعلى الجمع عصبة.

وتعريف العصبة في الاصطلاح: هم قرابة الرجل أبوه وبنوه ومن اتصل بهما ذكورة أبوه وبنوه ويقرب من هذا قول بعض اللغويين: العصبة هم قرابة الرجل من أبيه.

هذه التعبيرات الثلاثة كلها مآلها شيء واحد: أنهم ذكور، ويدلون إلى الميت بواسطة الأب، فقرابتهم بواسطة الأب، وسموا عصبة؛ لأنهم عصبوا بالميت، يقال: عصبوا عصِبوا، من باب سمح وضرب، أي: أحاطوا به من جميع جوانبه، وفي ذلك تقوية له، فحصلت إحاطة وحصلت تقوية.

فالأب والابن طرفان، الأب طرف أعلى، والابن طرف أدنى، والإخوة وأبناؤهم والأعمام وأبناؤهم جانبان، وعليه هؤلاء القرابة كلهم أحاطوا بك من جهة أبيك.

وعندما أحاطوا بك حصل لك قوة، فما عاد يستطيع أن يأتيه أحد من جهة الأب يمنعه، ولا من جهة الابن يدفعه، ولا من جهة الإخوة يردونه، ولا من جهة الأعمام يصدونه، وكلما كثرت قرابات الإنسان ذكورة وقومه كلما اشتد ظهره وقوي.

ولذلك قال بعضهم:

ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر

يعني: إذا إنسان عشيرته وقراباته وعصباته كثيرون يقوى ظهره، وإذا كان مسكيناً لا ناصر له إلا الله جل وعلا يستطيل عليه كل سفيه لا يخاف من الله جل وعلا.

خلاصة الكلام: عصب يُعصِّبُ تَعْصِيباً من العصب بمعنى الشد والتقوية والإحاطة والطي، والعصبات هم قوم الرجل أبوه وبنوه ومن اتصل به ذكورة؛ والقرابة من جهة الأب سموا بذلك لأنهم أحاطوا بالميت من جوانبه الأربع، والعلم عند الله جل وعلا، فحصل له بذلك تقوية.

تعريف العصبة اصطلاحاً

أما العصبة من حيث الاصطلاح فقد كثرت أقوال العلماء، والذي اختاره شيخنا الشيخ محمد نجيب خياط عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، في كتابه الفوائد البهية في شرح الرحبية صفحة: (30) قال:

العصبة: كل من ليس له سهم صريح مقدر من الورثة، انتبه لهذه القيود!

إذاً: هو وارث ضمن من تقدم معنا ذكرهم من الوارثين، فلا يمكن أن يكون العصبة من غير من تقدم معنا ذكرهم من أصناف الورثة الذين تعدادهم كما قلنا تفصيلاً من الصنفين خمسة وعشرون صنفاً، فهو وارث لكن ليس له نصيب مقدر، لا نصف ولا ربع ولا ثمن ولا ثلثان ولا ثلث ولا سدس، فهذا يقال له عصبة.

هذا تعريف شيخنا عليه رحمة الله، وهذا فيما يظهر لي أقوى التعاريف وأسداها وأقواها والعلم عند الله جل وعلا، مع ذلك أذكر ثلاثة تعاريف أخرى.

من جملة التعاريف ما ذكره الإمام الباجوري في حاشيته على شرح الرحبية فقال: العصبة هو من يرث بلا تقدير، يعني: قريب من التعريف الأول، لكن ذاك فيه زيادة بسط وإيضاح أكثر، فذاك يقول: ليس له سهم مقدر صريح وهو وارث، أما هنا فيقول: من يرث بلا تقدير، يعني: بلا تقدير شيء معين، وينبغي أن يكون وارثاً حتماً.

تعريف الرحبي للعصبة والاعتراضات عليه

التعريف الثالث وهو الثاني من التعاريف التي قلت سأذكرها بعد تعريف شيخنا، ذهب إليه الإمام الرحبي في الرحبية كما سنتدارسه بإذن الله جل وعلا وهو قوله:

وحق أن نشرع في التعصيب بكل قول موجز مصيبِ

انتبه لتعريف العصبة عرفها ببيتين من الشعر فقال:

فكل من أحرز كل المالِ من القرابات أو الموالي

أو كان ما يفضل بعد الفرض له فهو أخو العصوبة المفضلة

يقول: من يأخذ المال بكامله إذا انفرد، سواء كان قريباً أو معتقاً من القرابات أو الموالي؛ لأن العصبة سيأتينا تنقسم إلى قسمين: سببية ونسبية.

(ما يفضل) ما يزيد بعد الفرض له يأخذه، فإذا وجد بنت وعم، فالبنت لها النصف، وما بقي للعم.

وأخو بمعنى صاحب، يعني: هو صاحب العصوبة.

إذاً: عرف هنا العصبة بأنه إذا انفرد أخذ كل المال، سواء كان قريباً أو مولى معتقة أوليس كذلك، وإذا وجد مع أصحاب الفروض أخذ ما أبقته الفرائض، هذا تعريف العصبة عند الإمام الرحبي عليه رحمة الله:

هذا التعريف أورد عليه اعتراضان:

الاعتراض الأول: قالوا: إنه ذكر حكم العصبة دون تعريفها، فهذا حكم العصبة، يعني: العصبة إذا انفرد أخذ المال، وإذا وجد مع صاحب الفرض أخذ الباقي، والحكم متوقف على التعريف، وهذا يؤدي إلى الدور؛ لأنك إن أردت أن تعرفها فببيان حكمها، وحكمها لا يعلم إلا بعد تعريفها.

وتقدم معنا في موانع الإرث الدور الحكمي، هل هو من موانع الإرث أم لا، وقلنا: ما أدى إثباته إلى نفيه، أي: يؤدي إثبات الإرث إلى نفي الإرث، وقد تقدم معنا في حالة الإقرار أنه إذا أقر الوارث بنسب لإنسان ادعى النسب من ميت، هل هذا يعتبر من موانع الإرث أم لا؟

وقلت: المعتمد عند الإمام الشافعي أنه من الموانع؛ لأنه ثبوت الإرث يؤديه إلى نفيه، فلا يصح إقرار الوصي والوارث بالنسب إلا إذا كان وارثاً، وإذا أقر انتفى إرثه؛ لأنه سيكون المقر له هو الوارث، فهذا لا يصح إقراره إلا بعد كونه وارثاً، وإذا أقر انتفى الإرث عنه.

تقدم معنا الدور تعريف الدور وأنه: توقف الشيء على ما توقف عليه، وقلنا: هذا باطل، وذكرت بعده بيتين لطيفين من الشعر:

قضية الدور قامت بيني وبين من أحب فلولا شيبي ما هَجرْ

ولولا هجره لم أشب

وهنا معرفة حكم العصبة متوقف على بيان العصبة، فأنت كيف أعطيت حكمها ولم تعرفها؟ وعليه هذا دور، فقيل: تعريف الإمام الرحبي للعصبة يؤدي إلى الدور؛ لأنه بين حكمها ولم يبين ما هي العصبة.

والحكم عن الشيء فرع عن تصوره، أما أن تحكم عليه، فأنت الآن أدخلت التصور في الحكم وليس عندك تصور للعصبة من هو، ولذلك الإمام الرحبي ذكر حكم العصبة لا تعريف العصبة.

الاعتراض الثاني الذي وجه على الإمام الرحبي عليه رحمة الله قالوا: إنه عرف العصبة هنا بالنفس دون أن يعرف العصبة بالغير أو مع الغير، فتعريفه قاصر على نوع معين من العصبات، وهي العصبة بالنفس سواء سببية أو نسبية، عند الانفراد يأخذ كل المال، وإذا وجد مع أصحاب الفروض أخذ ما أبقته الفروض.

فأورد اعتراضان على تعريف الإمام الرحبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

القول الرابع وهو الثالث من الأقوال التي بعد قول شيخنا عليهم جميعاً رحمة الله في تعريف العصبة ذهب إليه بعض الفرضيين، كما ذكر ذلك الإمام الباجوري في حاشيته على الرحبية، بأنه الأولى أن نقتصر في بيان العصبة على عد أفراد العصبات دون أن نذكر لذلك ضابطاً؛ لأن كل ضابط سيقع عليه اعتراض.

فقالوا: وليس يخلو حده من نقد فينبغي تعريفه بالعدِّ

(وليس يخلو حده) حده يعني ضابطه، والمراد حد التعصيب.

(من نقدِ) أي: من اعتراض

(فينبغي تعريفه بالعدِّ)، يعني: نقول: العصبات هم كذا من الوارثين نعددهم كما سيأتينا بيان أعدادهم إن شاء الله.

كما قلت: هذا عدة تعاريف أرجحها فيما يظهر: كل من ليس له سهم صريح مقدر من الورثة هذا يقال له عصبة، والعلم عند الله جل وعلا، هذا فيما يتعلق بالمبحث الأول في تعريف العصبة لغة واصطلاحاً.

التعصيب: مصدر عصب يعصب تعصيباً، مأخوذ من العصب وهو الشد والتقوية والإحاطة والطي، ومنه العصائب، وهي ما يلف ويدار كالعمامة، يقال لها عصابة وعصائب، فإذاً: فيها معنى التقوية، وفيها معنى الشد، وفيها معنى الإحاطة، وفيها معنى الطي، هذا هو المعنى اللغوي.

والعصبة تطلق على جمع عاصب، كما يطلق لفظ العصبة أيضاً على العاصب الفرد، فيقال: الابن عصبة، ويقال: هؤلاء عصبة، فيطلق على الفرد وعلى الجمع عصبة.

وتعريف العصبة في الاصطلاح: هم قرابة الرجل أبوه وبنوه ومن اتصل بهما ذكورة أبوه وبنوه ويقرب من هذا قول بعض اللغويين: العصبة هم قرابة الرجل من أبيه.

هذه التعبيرات الثلاثة كلها مآلها شيء واحد: أنهم ذكور، ويدلون إلى الميت بواسطة الأب، فقرابتهم بواسطة الأب، وسموا عصبة؛ لأنهم عصبوا بالميت، يقال: عصبوا عصِبوا، من باب سمح وضرب، أي: أحاطوا به من جميع جوانبه، وفي ذلك تقوية له، فحصلت إحاطة وحصلت تقوية.

فالأب والابن طرفان، الأب طرف أعلى، والابن طرف أدنى، والإخوة وأبناؤهم والأعمام وأبناؤهم جانبان، وعليه هؤلاء القرابة كلهم أحاطوا بك من جهة أبيك.

وعندما أحاطوا بك حصل لك قوة، فما عاد يستطيع أن يأتيه أحد من جهة الأب يمنعه، ولا من جهة الابن يدفعه، ولا من جهة الإخوة يردونه، ولا من جهة الأعمام يصدونه، وكلما كثرت قرابات الإنسان ذكورة وقومه كلما اشتد ظهره وقوي.

ولذلك قال بعضهم:

ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر

يعني: إذا إنسان عشيرته وقراباته وعصباته كثيرون يقوى ظهره، وإذا كان مسكيناً لا ناصر له إلا الله جل وعلا يستطيل عليه كل سفيه لا يخاف من الله جل وعلا.

خلاصة الكلام: عصب يُعصِّبُ تَعْصِيباً من العصب بمعنى الشد والتقوية والإحاطة والطي، والعصبات هم قوم الرجل أبوه وبنوه ومن اتصل به ذكورة؛ والقرابة من جهة الأب سموا بذلك لأنهم أحاطوا بالميت من جوانبه الأربع، والعلم عند الله جل وعلا، فحصل له بذلك تقوية.