مقدمة في علم التوحيد - الأقوال المرجوحة في مصير غير أولاد المسلمين [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا رب العالمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك, سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فالقول الثالث: أن هؤلاء في النار، ودللوا على هذا بدليلين معتبرين:‏

الدليل الأول على القول بأن النار هي مصير غير أولاد المسلمين

الدليل الأول: قالوا: لم يصدر من هؤلاء إيمان، وإذا لم يصدر منهم إيمان فلا يدخلون غرف الجنان؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وإذا لم يوحد هؤلاء ربهم إذاً سيدخلون النار، ولا يُعترض على هذا بأولاد المسلمين، فأولئك تفضل الله عليهم فلهم حكم خاص في شأنهم، وهؤلاء ليسوا مثلهم فهم في النار، هذا الدليل الأول.

الدليل الثاني على القول بأن النار هي مصير غير أولاد المسلمين

والدليل الثاني: قالوا: ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام الوقف وأنهم في الجنة وأنهم في النار، فصرح نبينا عليه الصلاة والسلام بأن ذراري المشركين وأولادهم في نار الجحيم، فلنقل بما أجاب نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه.

ثبت في المسند وسنن أبي داود بسند صحيح كالشمس من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها، (أنها سألت نبينا صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين؟ فقال: هم من آبائهم، فقالت: بلا عمل عملوه؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، قالت: فذراري المشركين؟ قال: هم من آبائهم، قالت: بلا عمل عملوه؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين).

والحديث كما قلت في المسند وسنن أبي داود ، فذراري المشركين من آبائهم، فقالت أمنا عائشة : كيف هذا لم يجر منهم عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، فهم من آبائهم ولهم حكمهم، لكن في أي مكان هذا الذي ينبغي أن نعيه وأن نفقهه وأن نتدبره، وأن نجمع بينه وبين الأقوال الأخرى.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- رُوي معناه في عدة أحاديث، ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن ابن مسعود رضي الله عنه وإسناد الحديث صحيح، وقال الإمام ابن حزم في كتابه الفصل: إسناده لا بأس به، والحديث كما قلت من رواية ابن مسعود عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الوائدة والموءودة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم فيعفو الله عنها) وتقدم معنا أن من في الجنة: النبي والشهيد والمولود والموءودة.

والأحاديث عندما تتعارض لابد من أن نجمع بينها، والحديث كما قلت في سنن أبي داود والمسند، هناك (من آبائهم) في الرواية المتقدمة، وهنا رواية ابن مسعود رضي الله عنه يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الوائدة والموءودة في النار، إلا أن تدرك الوائدة -يعني التي وأدت ابنتها- الإسلام فتسلم فيعفو الله عنها)، الإسلام يجب ما قبله: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، لكن إذا لم تدرك الإسلام وماتت في فترة هي ومن وأدتهم كلهم في النار، الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم فيعفو الله عنها، والحديث كما قلت صحيح.

وروى الإمام أحمد والطبراني في معجمه الكبير عن سلمة بن يزيد الجعفي حديثاً آخر بمعناه، وفيه: أن سلمة بن يزيد الجعفي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وذكر له حال أمه مُليكة، وأنها كانت وصولة للرحم وتكرم الضيوف وتحسن ضيافتهم، وماتت في فترة قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها في النار)، مع صلتها للرحم وقراها للضيف، فقال سلمة بن يزيد الجعفي : (يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنها كانت وأدت أختاً لنا، فما حالها؟ قال: هي في النار)، الموءودة وأمها التي ماتت في الفترة كلهم في النار، والحديث إسناده لا بأس به.

وفي مسند الإمام الطيالسي ومسند أحمد عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها سألت نبينا عليه الصلاة والسلام عن أولاد المشركين؟ فقال: (إن شئت أُسمعك تضاغيهم في نار جهنم) أي: صراخهم وعويلهم وعذابهم، وهذا الحديث في المسند، ورواه أبو داود الطيالسي وفيه أبو عقيل مولى بُهية وهو يحيى بن المتوكل قال الإمام الهيثمي في المجمع: ضعفه جمهور الأئمة، الإمام أحمد وغيره، وقد نُقل عن الإمام ابن معين توثيقه في قول من أقواله الثلاثة، ضعفه في قولين ووثقه في قول آخر، وقد قال الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين: أبو عقيل يحيى بن المتوكل ضعيف لا يحتج به بالاتفاق، وقال الإمام ابن حجر في الفتح: إسناد الحديث ضعيف جداً وأبو عقيل متروك، وحكم عليه في التقريب بأنه ضعيف فقط، لكن هذا الحديث الضعيف لا يخرج معناه عما تقدم: (إن شئت أن أُسمعك تضاغيهم في نار جهنم)، و(الوائدة والموءودة في النار)، معنى الحديث واحد.

وورد في معجم الطبراني الكبير ومسند أبي يعلى حديث ضعيف آخر عن أمنا خديجة رضي الله عنها، أنها سألت نبينا عليه الصلاة والسلام فقالت: (يا رسول الله! أين أطفالي منك؟ الذين ماتوا قبل بلوغهم وتكليفهم، فقال عليه الصلاة والسلام: هم في الجنة، قالت: بلا عمل عملوه، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، قالت: أين أولادي من قبلك ولدتهم في الجاهلية ممن تزوجني قبل أن يكرمني الله بك وبالإسلام؟ فقال: هم في النار، قالت: بلا عمل عملوه؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين).

والحديث -إخوتي الكرام- منقطع، فهو ضعيف، ابن بريدة وعبد الله بن الحارث بن نوفل لم يدركا أمنا خديجة رضي الله عنها ولم يرويا عنها، لكن يشهد لمعناه ما تقدم من ناحية إثبات الحكم، وهو: من مات وهو صغير أو في الفترة، أي: من لم يوحد ربنا من غير أولاد المسلمين هو في نار الجحيم.

فإن قيل لنا: ما تفعلون بهذه النصوص التي صرحت بأنهم في النار؟

وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- مثل هذه النصوص عند المبحث في أولاد المسلمين وأنهم في الجنة، ذكرت هناك حديثاً يدل على أن أولاد المسلمين في الجنة رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على المسند عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلمين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار)، ثم تلا قول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21].

تقدم معنا الحديث -إخوتي الكرام- وقلنا: جرى حوله كلام من كثير من الأئمة وغاية الكلام يرد إلى أمرين:

الأمر الأول: محمد بن عثمان جهله الإمام الذهبي والإمام ابن القيم وغيرهما، وقلت: إن الجهالة منتفية عنه، هو محمد بن عثمان الواسطي كما قال الإمام ابن حجر كما تقدم معنا هذا، وقال: وثقه ابن حبان وهو معروف معلوم.

والأمر الثاني: انفرد به الإمام ابن القيم ، قال: إن الحديث منقطع زاذان لم يدرك علياً ، فروايته عنه منقطعة، وقلت: أدركه، وروى عنه وروايته عنه متصلة، والحديث نص أئمتنا على تصحيحه وتحسينه، فالإمام ابن حجر حسنه والشيخ أحمد شاكر كما تقدم معنا عليهم جميعاً رحمة الله صححه، وقال: إسناده صحيح في تعليقه على المسند.

وعند ذلك المبحث قلت: نستدل بالقسم الأول منه على بحثنا: إن المسلمين وأولادهم في الجنة، وأما القسم الثاني فسيأتينا الكلام عليه فيما سيأتي، هذا محله إذا لم تكونوا نسيتم.

إن المسلمين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، هذا الحديث تقدم معنا -إخوتي الكرام- وهو صحيح، فماذا نفعل بين هذه الأدلة، وبين ما قررناه من أنهم يمتحنون؟

نقول: لا إشكال، هذه الأحاديث تنقسم على قسمين:

الحديث الأول: (هم من آبائهم) أي: في أحكام الدنيا، فالأبوان المشركان لهما حق الرعاية والحضانة والتعليم والتربية على أولادهم، وإذا كنا نقاتل الكفار وقتلنا أولادهم من غير قصد قتلهم، عندما ضربناهم فقُتل الأولاد فلا يُضمنون بدية ولا كفارة.

(هم منهم) أي: حكمهم حكم آبائهم في الوزر، ولا يلزم أنهم في الآخرة كذلك، أحكام الدنيا تختلف عن أحكام الآخرة.

عندنا من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، وعندنا من ظاهره الكفر ولا يُظهر الإيمان خشية أن يفتن في دينه كما كان يفعل المستضعفون في مكة: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الفتح:25].

إذاً: يوجد مؤمن لكن ظاهره الكفر، ما يستطيع أن يظهر إيمانه ولو أظهر لقُتل، فهو في الدنيا له أحكام الكفر وفي الآخرة له أحكام الإيمان؛ لأنه ما أظهر الإيمان لعذر ضعيف ومستضعف، مكره على ذلك، وهذا له حكم الإيمان في الدنيا وعند الله ما له من خلاق.

وأما الروايات الأخرى: (الوائدة والموءودة في النار)، والروايات الأخرى، نقول: هذا كله مقيد بالأحاديث الأخرى إذا امتُحنوا وعصوا هم في النار، وإذا أطاعوا فالأمر ليس كذلك، فمنهم من يطيع ويدخل الجنة، ومنهم من يعصي ويدخل النار، كما دل على هذا مجموع الأحاديث، فلنجمع بينها لنرفع التعارض منها.

هذا القول -إخوتي الكرام- الذي ذُكرت عليه هذه الأدلة قال به بعض أئمتنا، منهم الإمام أبو يعلى من أئمة الحنابلة، وقال به جماعة من المتكلمين والمفسرين، كما قال الإمام ابن القيم وشيخه ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله، ونسبه الإمام ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهوال والنحل إلى الأزارقة، وهم طائفة ضالون من خوارج ضالين، فرع ضال من أصل ضال.

وهذا القول حكاه بعض الناس تساهلاً عن إمام أهل السنة والجماعة الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله، وهو واهم في نسبة هذا القول إلى الإمام أحمد ، وقد غلَّط الإمام ابن تيمية من نسب هذا القول إلى هذا الإمام المبارك عليهم جميعاً رحمة الله.

ومن العجيب: الذي لا يمكن أن ينقضي عجبي من قول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في المكان المتقدم (16/208) يقول: هذا القول قال به الأكثرون! أي أكثرين يقصد حقيقة؟ إن أراد أكثر المتكلمين فنعم ولا عبرة بهم، وإن أراد أكثر أهل السنة وأكثر المسلمين، فالأمر ليس كذلك، إنما في شرحه لصحيح مسلم يقول: هذا قال به الأكثرون، مع أنه نقل كما تقدم معنا أن الصحيح المعتمد أنهم في الجنة عند القول الثاني، أوليس كذلك؟ فهذا القول حقيقة في حكايته تساهل من هذا الشيخ المبارك، عليه وعلى أئمتنا رحمة الله تعالى، هذه الأقوال الثلاثة دلت عليها أدلة معتبرة، ما موقفنا نحوها؟

نقول: هي والقول الذي تقدم معنا وهو الأول نجمع بينها، فنقول: يمتحنون، ونرد الحكم فيهم إلى علم الله، والفصل فيهم إلى معلوم الله، ويظهر يوم القيامة، فمنهم من يطيع يدخل الجنة ومنهم من يعصي فيدخل النار، فعملنا بهذه الأقوال الأربعة وجمعنا بينها وبين الأدلة التي دلت عليها، وحفظنا كل واحد منها من الإهمال والترك والضياع، وهذا هو مسلك أهل الهدى، أن نجمع بين ما ثبت عن نبينا الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه.

الدليل الأول: قالوا: لم يصدر من هؤلاء إيمان، وإذا لم يصدر منهم إيمان فلا يدخلون غرف الجنان؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وإذا لم يوحد هؤلاء ربهم إذاً سيدخلون النار، ولا يُعترض على هذا بأولاد المسلمين، فأولئك تفضل الله عليهم فلهم حكم خاص في شأنهم، وهؤلاء ليسوا مثلهم فهم في النار، هذا الدليل الأول.