مقدمة في علم التوحيد - السعادة الأبدية في توحيد رب البرية [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه من المحدَّثين الملهمين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قد كان في الأمم قبلكم مُحدَّثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد منهم فـعمر)، ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، في كتاب الاعتقاد على مذهب السلف للإمام البيهقي ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما نظر عمر إلى شيء وقال: أُراه كذا، -أي أظنه- إلا كان كما يقول، وكنا نتحدث أن عمر بن الخطاب ينظر إلى الغيب من سِتر رقيق.

(قد كان في الأمم قبلكم مُحدَّثون) أي: ملهمون، يُكاشفون ويُطالعون بأمور يكرمهم الله بها عن طريق الكرامة، أَمَا قال عمر : يا سارية الجبل الجبل، والقصة ثابتة صحيحة، وألَّف الحافظ الحلبي جزءاً في طرقها، ولا تنقص أسانيدها عن درجة الاستفاضة إن لم تصل إلى التواتر.

قال: يا سارية الجبل الجبل، وعمر على المنبر وسارية في بلاد الفرس نهاوند، كيف هذا؟ (قد كان في الأمم قبلكم مُحدَّثون من غير أن يكونوا أنبياء)، يُكاشفون بأمور، ويُطلعهم الله عن طريق خرق العادة، وهو على كل شيء قدير، (فإن يكن في أمتي أحد منهم فـعمر ).

وقوله: (إن يكن) الصيغة صيغة ترديد، والمراد التحقيق، كأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إذا كان الأمر كذلك في الأمم السابقة وهي مفضولة، وهذه الأمة فاضلة وأكرم على الله من الأمم السابقة، إذا كان الأمر كذلك وينبغي أن يُوجد في هذه الأمة أحد، وهو موجود قطعاً وجزماً، فـعمر منهم وهو أولهم، وهذا كما تقول لمن تثق بمودته ويثق بمودتك: إن يكن لي صديق فأنت، فتورد الصيغة مورد الترديد، وتريد منها التحقيق وإثبات الصداقة له على أتم وجه، وهنا كذلك، فهذه الأمة فيها ملهمون ومحدثون من باب الأولى، وإمام المُحدَّثين فاروق هذه الأمة، وأفضلها بعد أبي بكر رضي الله عن الصحابة أجمعين.

إذاً: أترد علينا عقولنا كهيئتكم اليوم؟ إذا وُجه إليك سؤال وطُلب منك الجواب، فلابد من أن يكون معك هذا العقل الغريزي، وهو الوصف الذي تفارق به سائر الحيوان، الحيوان ليس عنده عقل، إنما عنده تمييز غريزي، وشتان بين العقل وبين التمييز الغريزي، هذا وصف يفارق به الإنسان سائر أفراد الحيوان، بهذا الوصف يتمكن الإنسان من تحصيل العلوم النظرية، والحيوان لا يتمكن من هذا، وهنا كما قلنا غريزة ومنحة من الله، ويقال له العقل المطبوع، يعني: طُبع ابن آدم عليه، ورُكز فيه، ووُجد فيه، وخُلق فيه، بدون اختياره، وبدون كسبه، وبدون تحصيله، إنما هذا محض منحة وعطية من ربه جل وعلا.

والعقل باعتبار ثانٍ يُطلق على العلم الذي يكتسبه الإنسان بذلك الوصف الغريزي، أي: بعقله المطبوع، فيدرك به الإنسان عواقب الأمور، ويقمع به الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة المحرمة، هذا علم مكتسب حصله بذلك العقل الغريزي، أي أدرك عواقب الأمور، فقمع بعد ذلك الشهوة التي تدعو إلى اللذة العاجلة المحرمة، هذا علم مكتسب، يقال له: عقل مسموع.

ذاك مطبوع طُبعت عليه، وهذا مسموع تحصله بجدك وكسبك، وحرصك واجتهادك.

والصلة بينهما كالصلة بين الشجرة وثمارها، وكالصلة بين العين ورؤيتها، وكالصلة بين الشمس ونورها، الشجرة هذه بمثابة العقل المطبوع الغريزي، والثمرة بمثابة العقل المسموع، هل يوجد ثمرة بلا شجرة؟ لا يوجد، هل يمكن أن يحصل علم إدراك عواقب الأمور، وتحصيل العلوم، وقمع الشهوة التي تدعو إلى اللذة العاجلة المحرمة، إذا لم يكن عند المكلف عقل؟

يعني: إذا أراد الإنسان أن يعلم بهيمة من البهائم طول حياته، هل يمكن أن تتعلم؟ لا؛ لأنها فقدت العقل المطبوع، وإذا أراد أن يُوجد ثمرة ينبغي أن يوجد شجرة، فثمر من غير شجر لا يمكن، فالعقل المطبوع كالشجر، والعقل المسموع كالثمر، وكم من إنسان في هذه الحياة عنده عقل مطبوع لكن ليس عنده عقل مسموع، فرحمة الله على من قال مشيراً إلى هذه القضية والحقيقة:

لا تغرنك اللحى ولا الصور تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسراب منتشراً وليس لطالب فيه مطر

في شجر السرو منهم شبه له رواء وما له ثمر

هذا حال أكثر الناس، تراه كما قال الله عن هؤلاء الصنف: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ [الأعراف:60]، يخبر الله عن العتاة دائماً بالملأ، سُموا ملأ؛ لأنهم يملئون العين بهجة ونضارة، كما قال الله: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4]، هؤلاء صورة حسنة، وعندهم عقل غريزي، لكن أين العقل المسموع؟ هل عندهم ثمرة؟! هل لإنسانيتهم حقيقة معتبرة؟ لا، يعني لا فارق بينهم وبين البقر والحمير إلا من وجهين: تلك تمشي على أربع، وهذا يمشي على اثنتين، وتلك لها ذنب، وهذا لا ذنب له فقط.

لا تغرنك اللحى ولا الصور تسعة أعشار من ترى بقر

كيف هذا؟ قال:

تراهم كالسراب منتشرا

والسراب: هو ما أشار إليه رب الأرباب في سورة النور عندما قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]، فهو ما يتراءى للإنسان عند حر الظهيرة في الصحراء، عندما ينظر في الصحراء والعراء في شدة الظهيرة يتراءى له سحب من الماء، هذه يقال لها: سراب، إذا وصل إلى ذلك المكان لا يرى شيئاً، وذلك من شدة الحرارة، والتهاب الأرض، واستعارها، ترى كأنه سراب غيوم لكن لا يوجد ماء وليس فيه قطرة.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]: بأرض منبسطة صحراء، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [النور:39] ، عندما يرى السراب يقول: لعله يوجد ماء، فيسرع، فيصل إلى المكان الذي رأى فيه السراب فلا يرى شيئاً، وهكذا الكفار لا ينتفعون بأعمالهم، هم يظنون أنهم يعبدون طواغيتهم ليقربوهم إلى الله زلفى، ولكن الأمر ليس كذلك، وهم وما يعبدون في نار جهنم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] .

إذاً:

تراهم كالسراب منتشرا وليس لطالب فيه مطر

وهذا حال الأكثرين، ما أكثرهم، ازدحام في الأسواق ويسببون غلاء الأسعار، لكن ليس من ورائهم فائدة.

في شجر السرو منهم شبه له رواء

جر السرو طويل مرتفع، هي أطول الأشجار لكن لا تحمل الثمار:

في شجر السرو منهم شبه له رواء وما له ثمر

أي: عندهم عقل غريزي وليس عندهم عقل مكتسب، وهنا كذلك، الصلة بين العقلين كالصلة بين الشجرة وثمرتها، والعين ورؤيتها، عين إذا فقدت البصر لا يمكن أن ترى؛ لأنك فقدت النور الطبيعي، كما لو فقدت العقل الطبيعي لا يمكن أن تعي، ولو وُجدت عين ترى فالرؤية أثر للعين، فالعين هي بمثابة العقل المطبوع، والرؤية بمثابة العقل المسموع، لكن إن حجبت عينيك لا ترى، وإن أغلقت عقلك لا تعي ولا تفقه، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179]، كما تقدم معنا عن الكفار: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] .

عندك عقل مطبوع، كما إذا كان عندك عين ترى، لكن ما أردت أن ترى، أنت الذي حجبت الرؤية عن عينيك، وهكذا كالشمس وضوئها، الشمس بمثابة العقل المطبوع، والأشعة منها بمثابة العقل المسموع، العقل المطبوع يقابله الجنون، وإذا وُجد يرتفع التكليف، والعقل المسموع يقابله الزيغ والفساد، وإذا تلبس الإنسان بذلك حصل له التباب والعذاب، هنا عقل مسموع إذا لم تحصله يعتريك الزيغ والفساد والضلال والضياع، يترتب على هذا تباب وعذاب وهلاك وشقاء، أما العقل المطبوع فإذا فقدته ارتفع عنك التكليف.

هذان العقلان كما قلت: عقل مطبوع وعقل مسموع، الأول هو شرط للتكليف بتوحيد الله جل وعلا، أثر عن علي رضي الله عنه، وهذا القول نسبه إليه الراغب الأصفهاني في المفردات، ونسبه إليه في الذريعة إلى مكارم الشريعة، وكنت أشرت إلى هذين الكتابين فيما مضى لا سيما إلى كتاب الذريعة، وقلت إنه كتاب نافع فيه خير في المواعظ، وذكرت هذا عند المبحث الرابع عند الميزان الذي نعرف به قدر العلم، وهذا الأثر نسبه إلى على الإمام الغزالي في الإحياء، وهو دون إسناد في الكتب الثلاثة، قالوا: قال علي رضي الله عنه.

والإمام ابن حبان في كتابه روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، أورد هذا القول دون نسبته إلى قائله، يقول:

رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع

ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع

كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع

يعني: لا يمكن أن يكون عندك عقل مسموع إذا لم يكن عندك عقل مطبوع، كما أن ضوء الشمس لا يمكن أن تراه إذا فقدت العين والبصر.

إخوتي الكرام! عند هذا المبحث أريد أن أشير إلى أمر باختصار، وهو مهم عند مبحث العقل، وقد فصلت الكلام عليه في محاضرتين طويلتين أنصحكم بسماعهما، وكانتا بعنوان: موقف العقل البشري من الوحي الرباني، ودارت المحاضرتان الطويلتان -وكل محاضرة أخذت بحدود ثلاث ساعات- حول هذه القضية، وكانت المحاضرة الثانية تكملة للجزء الأول من هذا الموضوع، حول موقف العقل من النقل، والصلة بين الرأي والرواية، فاسمعوا هذين الشريطين لتعرفوا مكانة العقل من النقل، وموقف الإنسان من شريعة الرحمن.

أريد أن أشير إلى أمر في هذه العجالة عند هذا الشرط الأول، وهو: أن كل نص في القرآن مدح العقل وأثنى عليه، والعقلاء وأثنى عليهم، وذم الناس لعدم اتصافهم بالعقول، يراد بالعقل الممدوح والمذموم في الآيات والأحاديث العقل المسموع؛ لأنه يمدح ويُذم الإنسان على فعله الاختياري وعلى كسبه، لا على ما يُوهب إليه من ربه جل وعلا، فلا مدح لهذا لأنه ذكر، ولا ذم لتلك لأنها أنثى، إنما يُمدح هذا لأنه صالح حافظ للقرآن، ويُذم ذاك لأنه شقي عاص للرحمن.

مدح الإنسان لاتصافه بالعقل المسموع

يمدح الإنسان ويُذم بكسبه وفعله واختياره، لا بما يوهب له من غير كسبه وتحصيله، فالعقل الغريزي لا دخل لنا في تحصيله، بل هو محض منحة، إنما بإمكاننا أن نحصل العقل المسموع، ونكتسب العلوم النظرية، وبعد ذلك نزم أنفسنا بزمام التقوى، فنمسك أنفسنا، ونضبط شهواتنا، ونمنعها من اللذئذ المحرمة، هذا كله بإمكاننا، هذا عقل مسموع، لا يتم إلا بالجهاد والمجاهدة.

وإليكم بعض الآيات التي فيها الإشارة إلى مدح العقل وذمه بالوصف الثاني: يقول الله في سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، والألباب: جمع لب، وهو العقل، وسُمي العقل لباً لأنه خالص الإنسان وجوهره، ما المراد بالألباب هنا؟ العقول الزكية النيرة الواعية التي تعتبر وتتفكر، وتزداد درجات عند الله باعتبارها وتفكرها.

وهكذا قول الله في سورة طه: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:51-54]، في هذه الآيات مُدح أصحاب العقول، النهى: جمع نهية -بالضم-، ويقال للعقل نَهية؛ لأنه ينهي صاحبه عن اتباع القبيح، إذاً هذا المدح هنا للاعتبار الثاني.

وهكذا قول الله جل وعلا في سورة الفجر: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5] ، والحِجر: هو المنع، وسُمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع ويحجر ويحبس ويحجز صاحبه عن فعل القبيح، فهو لب، وهو نُهية، وهو حجر وحاجز، هو خلاصة الإنسان وينهاه عن الآثام، وهو حفظ حصين له من كل قبيح وخبيث وشين وفساد.

إذاً: أُثني هنا على الإنسان لاتصافه بذلك، واستعماله عقله الغريزي المطبوع في التفكر والاعتبار في هذه الأمور.

ذم الإنسان لعدم اتصافه بالعقل المسموع

وعندما ذُم الإنسان لعدم اتصافه بالعقل، يقصد من ذلك العقل المسموع، كالآية التي تقدمت معنا في سورة البقرة: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] .

(لا يَعْقِلُونَ) انتفى العقل عنهم بالوصف الثاني، ولو فقدوا عقولهم الغريزية المطبوعة لارتفع عنهم التكليف.

وهكذا قول الله جل وعلا في سورة الأعراف: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] أي: لهم قلوب غريزية وعقول مطبوعة، لكن لا يستعملونها فيما خُلقت له، ولا ينتفعون بها: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ [الأعراف:179]، ما حصلوا العلوم النظرية، ولا جاهدوا أنفسهم بعد ذلك لقمع الشهوات الدنية، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ [الأعراف:179] .

وهكذا قول الله إخباراً عن الكفار عندما يلقون في النار في سورة الملك: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]، انتفى عنهم العقل بالوصف الثاني لا بالوصف الأول.

وهكذا الأحاديث التي تتحدث عن ضياع العقول واختلالها في آخر الزمان، يراد منها العقل الثاني لا العقل الأول الذي هو مناط التكليف كما سيأتينا، فلا تكليف بدون عقل غريزي.

ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه والحديث في درجة الحسن، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين الساعة لهرجاً، فقالوا: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: القتل)، أي: يقع قتل كثير في آخر الزمان، (وقالوا: يا رسول الله! إنا نقتل في العام الواحد كذا وكذا من المشركين -يعني: هذا موجود في هذا العصر، ونحن نقاتل في سبيل الله ونقتل أعداء الله- قال: ليس بقتل المشركين، ولكن يقتل بعضكم بعضاً، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته) -هذا غريب عجيب، فتعجب الصحابة من هذا، (قالوا: يا رسول الله! ومعنا عقولنا؟)، أي: عندنا عقول واعية، نيرة، ذكية، زكية، طُهرت بالشريعة الإسلامية؟ يعني: نحن مؤمنون في ذلك الوقت أبرار، أو أشقياء فجار؟ معنا عقولنا، لا يقصدون بالعقل العقل الغريزي، يقصدون بالعقل الزكي، أي: العقل الذي يحصل العلم ويعمل بعلمه، يعني: نحن في ذلك الوقت أتقياء أو أشقياء؟ يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته، في هذه الحال معنا عقولنا؟ (قال: لا، تنزع أكثر عقول أهل ذلك الزمان، ويخلفهم هباء من الناس لا عقول لهم).

المراد هنا بقوله: (تنزع العقول ويخلفهم هباء من الناس لا عقول لهم) العقل المسموع، أي: ليس عندهم عقول نقية طاهرة، فهم أذكياء لكن ليسوا بأزكياء، كحال قلوب البشرية في هذه الأيام، غزوا الفضاء كما يقولون، هذا ذكاء أم لا؟ ذكاء وألمعية وعبقرية، لكن هم من الطهارة عراء، ليس عندهم زكاء، ولا خير في الذكاء إذا لم يصحبه زكاء، إن ذكاء العقل حدته وجودته، كقوة البدن، لا خير في كل منهما إذا لم يكن في طاعة الله، الجسم إذا كان قوياً ويستعمل في قطع الطرقات، والاعتداء على المؤمنين والمؤمنات، هذه مذمة، والعقل ذكي يخترع ويدبر لكن لتدمير العالم وشقائه.

يمدح الإنسان ويُذم بكسبه وفعله واختياره، لا بما يوهب له من غير كسبه وتحصيله، فالعقل الغريزي لا دخل لنا في تحصيله، بل هو محض منحة، إنما بإمكاننا أن نحصل العقل المسموع، ونكتسب العلوم النظرية، وبعد ذلك نزم أنفسنا بزمام التقوى، فنمسك أنفسنا، ونضبط شهواتنا، ونمنعها من اللذئذ المحرمة، هذا كله بإمكاننا، هذا عقل مسموع، لا يتم إلا بالجهاد والمجاهدة.

وإليكم بعض الآيات التي فيها الإشارة إلى مدح العقل وذمه بالوصف الثاني: يقول الله في سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، والألباب: جمع لب، وهو العقل، وسُمي العقل لباً لأنه خالص الإنسان وجوهره، ما المراد بالألباب هنا؟ العقول الزكية النيرة الواعية التي تعتبر وتتفكر، وتزداد درجات عند الله باعتبارها وتفكرها.

وهكذا قول الله في سورة طه: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:51-54]، في هذه الآيات مُدح أصحاب العقول، النهى: جمع نهية -بالضم-، ويقال للعقل نَهية؛ لأنه ينهي صاحبه عن اتباع القبيح، إذاً هذا المدح هنا للاعتبار الثاني.

وهكذا قول الله جل وعلا في سورة الفجر: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5] ، والحِجر: هو المنع، وسُمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع ويحجر ويحبس ويحجز صاحبه عن فعل القبيح، فهو لب، وهو نُهية، وهو حجر وحاجز، هو خلاصة الإنسان وينهاه عن الآثام، وهو حفظ حصين له من كل قبيح وخبيث وشين وفساد.

إذاً: أُثني هنا على الإنسان لاتصافه بذلك، واستعماله عقله الغريزي المطبوع في التفكر والاعتبار في هذه الأمور.