خطب ومحاضرات
مقدمة في الفقه - ثناء العلماء على الإمام الشافعي [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً, سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس ترجمة موجزة لأئمة الإسلام، ساداتنا أصحاب المذاهب الأربعة الحسان, انتهينا من ترجمة سيدنا أبي حنيفة النعمان ، وسيدنا الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنهم أجمعين، وشرعنا في ترجمة سيدنا الإمام الشافعي رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت إخوتي الكرام! سنتدارس ترجمة كل واحد من أئمتنا الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين ضمن أربعة أمور:
أولها: في نسبه وطلبه وجده في تحصيل العلم، وثانيها: في ثناء العلماء عليه ومنزلته في الدين، وثالثها: في فقهه وطريقته في التفقه في الدين، ورابعها وهي آخر الأمور: في صلته بربه وعبادته لخالقه سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام! تدارسنا الأمر الأول من هذه الأمور الأربعة في ترجمة سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وتقدم معنا أنه وُلد في البلاد المباركة في بلاد الشام في غزة، ونشأ في مكة المكرمة صانها الله وشرفها، وتوفي بعد ذلك في بلاد مصر، وُلد سنة خمسين ومائة، وتوفي سنة أربع بعد المائتين عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
وتقدم معنا جده واجتهاده في طلب العلم، فحفظ القرآن ولم يكمل السابعة من عمره رضي الله عنه وأرضاه، وحفظ الموطأ ولم يكمل العاشرة من عمره، وظهرت عليه علامات النجابة والذكاء والألمعية منذ نعومة أظفاره، وتقدم معنا ما حصل له من الرؤى المبشرة بأنه سيكون له شأن في مستقبل الزمان، وأن مذهبه سينتشر في البلدان كما انتشر اسم سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، وأنه لم يلحن في كلامه، وسيتكلم بالحكمة كما تقدم معنا تقرير هذا.
وشرعنا في مدارسة الأمر الثاني في ثناء أئمتنا عليه، وبدأت بكلام الإمام المبجل سيدنا أحمد بن حنبل رضوان الله عليهم أجمعين، وأنه ما كان يوقر أحداً كتوقيره للإمام الشافعي رضوان الله عليهم أجمعين، وأنه كان يدعو له في كل سَحَر، وما صلى صلاة إلا ودعا للإمام الشافعي واستغفر له، ولما سُئل عن ذلك قال: إن الشافعي كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، وقال لقرينه وصاحبه سيدنا يحيى بن معين أبي زكريا عليهم جميعاً رحمة ورضوان رب العالمين: إذا أردت الفقه فالزم الجانب الثاني من البغلة، والزم ذنبها لتتفقه في دين الله عز وجل!
إخوتي الكرام! هذا كله تقدم معنا، وآخر شيء ذكرته قول الإمام محمد بن الحسن وهو شيخ الإمام الشافعي ، والشافعي تقدم معنا أنه كتب عنه وِقر بعير، حِمل بُختي، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، كان يقول: إن تكلم أهل الحديث فبلسان الشافعي ، وأهل الحديث كانوا رقوداً حتى أيقظهم الإمام الشافعي رضوان الله عليهم أجمعين، وتقدم معنا تعليل هذا الكلام في الموعظة الماضية.
وصلنا عند كلام سيدنا الإمام ابن خزيمة وثنائه على سيدنا الإمام الشافعي رضوان الله عليهم أجمعين، الإمام ابن خزيمة إمام علَم مبارك، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وهو محمد بن إسحاق ، قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير في الجزء الرابع عشر صفحة خمس وستين وثلاثمائة: هو الإمام الحافظ الحجة الفقيه شيخ الإسلام، إمام الأئمة. ينعته بهذا النعت من بين العلماء الكرام: إمام الأئمة, إذا أُطلق هذا اللقب فينصرف إلى الإمام محمد بن خزيمة ، قال الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: عُني في حداثة سنه بالحديث والفقه حتى صار يُضرب المثل به بسعة العلم، والإتقان. عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، لما حصله من علم الفقه الحديث، وبرز فيهما عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
هذا الإمام الذي يُضرب المثل بسعة حفظه وإتقانه سئل كما في توالي التأسيس صفحة اثنتين وسبعين، والأثر انظروه في السير في الجزء العاشر صفحة أربع وخمسين، قال هذا المبارك عندما سُئل: هل تعلم سنة في الحلال والحرام مأثورة عن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يودعها الإمام الشافعي في كتبه؟ قال: لا, لا أعلم سنة للنبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ما ذكرها ولا سطرها ولا رواها الإمام الشافعي في كتبه، هذا كلام حق مبارك، هذا الكلام الحق الذي قاله الإمام محمد بن خزيمة، علق المعلق على سير أعلام النبلاء بكلام لا ينبغي أن يذكر، فقال: هذه مبالغة لا تُسلم لقائلها، ولا يرضى عنها الإمام الشافعي . لمَ يا عبد الله؟ هو يقول عندما سُئل: هل تعلم سنة للنبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام لم يوردها الإمام الشافعي في كتبه؟ ما عندنا شك أن علم الشافعي أعلى من علم محمد بن خزيمة، فأنت حسبما اطلعت على ما اطلعت عليه من سنن النبي عليه الصلاة والسلام هل تعلم سنة فاتت الشافعي مما تعلمه أنت؟ قال: لا، حتماً علم الشافعي أغزر وأعلم من علم محمد بن إسحاق بن خزيمة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
أمر ثانٍ هو أنه لو لم يقيد بعلمه لو قيل له: هل توجد سنة -مطلقاً- من سنن النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه خفيت على الإمام الشافعي ؟ لو قال: لا، لكان الكلام أيضاً حقاً، ولا يُقال: هذه مبالغة لا يرضاها الإمام الشافعي.
توجيه كلام ابن خزيمة بأن الشافعي أحاط بجميع السنن
وهذا النعت قيل في عدد من أئمتنا لا يُحصون، وكان أئمتنا يطلقون هذا، استمع مثلاً ما يقوله الإمام إسحاق بن راهويه شيخ الإمام البخاري عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة ربنا، يقول -والأثر ثابت عنه في عدد من الكتب، وانظروه في السير، ويحيلكم إلى المصادر في الجزء الثالث عشر صفحة واحدة وسبعين- يقول إسحاق بن راهويه: كل حديث قال عنه أبو زرعة : لا أعرفه فليس له أصل، وأبو زرعة هو عبيد الله بن عبد الكريم الرازي الذي توفي سنة أربع وستين ومائتين، تقدم معنا حاله، الإمام العلَم صاحب الكرامة العظيمة عند موته عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، كل حديث قال عنه أبو زرعة : لا أعرفه فليس له أصل.
هذا الكلام مثل كلام محمد بن إسحاق بن خزيمة في الإمام الشافعي ، فالمعنى أنه أحاط بالسنن على حسب ما في إمكان البشر، وقال الحافظ ابن عبد الهادي في العقود الدرية في مناقب سيدنا الإمام ابن تيمية في صفحة خمس وعشرين: قال الذهبي : يَصدُق عليه أن يقال فيه: كل حديث لا يعرفه فليس من كلام النبي. على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. يترجم الذهبي لشيخه الإمام ابن تيمية فيقول: يصدق عليه هذه المقولة التي قالها أئمتنا في الجهابذة الكبار قبلنا: كل حديث لا يعرفه الإمام ابن تيمية فليس من كلام نبينا خير البرية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، هذا -كما قلت- المراد منه الدلالة على مكانة هذا الإمام، وأنه اطلع على سنة النبي عليه الصلاة والسلام حسبما في وسع الإنسان، أما أنه لا يمكن أن تغيب عنه جزئيات، أو بعض أحاديث فلا، فلا داعي للتنطع نحو عبارات أئمتنا وردها لأنها لا تروق لأذهان بعضنا، فكلام الإمام ابن خزيمة يعني: أن السنن التي أنا أعلمها رواها الإمام الشافعي وهو يعرفها, وهذا كلام سديد رشيد، والشافعي أعلم من ابن خزيمة عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.
أمر ثانٍ كما قلت: لو قيل له: هل يوجد سنة لنبينا عليه الصلاة والسلام ما علمها الشافعي؟ فقال: لا؛ لكان الكلام أيضاً صحيحاً رشيداً على حسب المتعارف عليه أنه اطلع على السنن، وما يغيب عنه إلا ما يغيب عن البشر الذي لا يمكن أن يحيط بكل السنة، أما ما هو في وسع البشر فقد اطلع عليه، فالعبارة سديدة رشيدة أيضاً، وعموم كل شيء بحسبه، والله يقول في كتابه: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25]، فلا يأتي متنطع ويقول: ما دمرت الأرض ولا دمرت السماء ولا غيرها, نقول: عموم كل شيء بحسبه، وهنا كذلك عندما يقول: الشافعي أحاط، فهي إحاطة حسبما في وُسع البشر.
فلا داعي للتعليق على عبارات الأئمة، من عقوق المتأخرين للمتقدمين أن كل كلمة من كلام سلفنا سنزنها بعقولنا، وأي عقل؟ بالعقول القاصرة والأذهان الفاترة، يستعرضها فما فهمها فقال: هذا الكلام خطأ.. يا عبد الله! أنت المخطئ، ما فهمت الكلام اعتراض من غير فهم، فهذه العبارات ينبغي أن يحترس منها، وتقدم معنا أننا نحن الآن ابتُلينا بزمن كل واحد يرد على الكبير والصغير ولا يبالي.
ومثله ما ذكره شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه المغني أن مختصر الخرقي كتاب مبارك, يعلق المعلق عليه ويقول: كيف يقول عنه: إنه كتاب مبارك! لا يوجد كتاب مبارك إلا القرآن! يا عبد الله! لا داعي للهذيان، فكتب الفقه مباركة، وكتب الحديث مباركة، وكتب التوحيد مباركة، وكل العلوم الإسلامية كتبها كلها مباركة، لكن بركة كل شيء بحسبه، لكنا اعتدنا -كما قلنا- على هذا، كل عبارة نعلق عليها.
ذكر شيء من كرامات الإمام ابن خزيمة
الإمام ابن جرير توفي سنة عشر وثلاثمائة، والإمام ابن خزيمة توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، والإمام الروياني سنة سبع وثلاثمائة، ومحمد بن نصر توفي سنة أربع وتسعين ومائتين، كلهم من علماء القرن الثالث الهجري عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه, اجتمعوا في بلاد مصر وأرملوا، نفد زادهم ولم يبقَ معهم نفقة.
وهم المحمدون الأربعة، فكل واحد اسمه محمد، وأكثر أسماء المسلمين محمد وأحمد تعبيراً عن حبهم لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقلت أيضاً مقارنة بهذا أيضاً أكثر أسماء المسلمين ذكوراً وإناثاً تحمل أسماء آل البيت الطيبين الطاهرين، مِن علي وحسن وحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين, قلت: هذا مما يدل على موقف أهل السنة نحو أهل البيت، إذا أردت أن تعرف موقف أهل السنة فانظر إلى أسماء أولادهم، وقلت: من عادَوا آل البيت بتأويل أو بجهالة.. من عادوهم أسماؤهم رُفضت من قِبل أهل السنة ولا يسمون بأسمائهم إلا نادراً، ونحن لا نتشاءم بالأسماء، لكن لنحذر في موقفنا، فالإنسان يسمي أولاده بمن يحبهم.
ولذلك الآن عندما أحببنا الغرب بدأنا نسمي بالأسماء الخبيثة، ولعله بلغكم آخر اسم في الأردن يُنشر في الصحف (رابين) ونتنياهو أيضاً، وأسماء انتشرت، وأكبر الشوارع الآن في بعض البلاد تسمى باسم شارع جورج بوش، حتماً هذا دلالة على المحبة، فعند سلفنا رضوان الله عليهم هذه الأسماء المباركة.
إذاً: المحمدون الأربعة اجتمعوا في مصر وأرملوا، وليس عندهم وقت للسعي والكسب، هم يجوبون الدنيا حفظاً لحديث النبي عليه الصلاة والسلام ونشراً له، ما عندهم وقت لطلب الرزق، ولا يمكن لواحد منهم أن يريق ماء وجهه وأن يمد يده لغير ربه، لا يمكن هذا على الإطلاق، ولو مات جوعاً!
وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- أن الإنسان إذا اضطر وما سأل حتى مات، فهو أعظم لأجره وأفضل عند ربه, لا يسأل؛ لأنه إذا سأل أذل نفسه، وضيع حق الله عليه، فالأصل أن تتذلل للخالق لا لغيره، وأيضاً أضجر العباد عندما سألهم وألحَّ عليهم، ففيه ظلم من ثلاث جهات: للنفس، ولحق الرب، وللناس، فهؤلاء لا يمكن أن يسألوا أحداً من خلق الله، لكن اشتد بهم الجوع، ما الحل؟ فقال بعضهم لبعض: لابد أن نقدم واحداً منا يلجأ إلى الله يدعو الله ليفرج عنا من حيث لا نحتسب، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2-3].
وتقدم معنا في ترجمة العبد الصالح حيوة بن شريح المصري العابد القانت في الموعظة الماضية في مواعظ الجمعة، أنه كان يأخذ المدر والحصاة من الأرض، فإذا وضعها في كفه جعلها الله تِبراً خالصاً، ذهباً أحمر، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، وقلت: إن الكرامة ثابتة باتفاق أئمتنا كما تقدم معنا عزو ذلك وتخريجه إلى مصادره، وتعليق الإمام ابن كثير على هذه الحادثة في تفسيره، وهنا كذلك الله على كل شيء قدير، فقالوا: نقدم واحداً يدعو والثلاثة يؤمنوا؛ من أجل أن يحصل لنا الفرج، وكل واحد منهم يقول: لست هنالك لست هنالك، فمن الذي سيتقدم هؤلاء ليدعو لهم؟ كل واحد يهضم نفسه ويقول: أنتم أفضل مني، فقالوا: نقترع، من وقعت عليه القرعة هو الذي سيدعو ونحن نؤمن، فاقترعوا فوقعت القرعة على إمام الأئمة، فقالوا: تقدم وادعُ ونحن نؤمن والفرج سيحصل بإذن الله عز وجل، فقال: دعوني أصلي ركعتين، فإذا صليت دعوت، فصلى ركعتين وأطال السجود، وهو في الركعة الثانية ولا زال ساجداً إذا بالباب يُطرق، وإذا بعبد أسود من غلمان السلطان والأمير في بلاد مصر ومعه أربع صُرَر، فلما طرق الباب فتحوا، فقال: أين محمد بن إسحاق بن خزيمة ؟ قالوا: هذا الذي يصلي. قال: أرسلني الأمير إليكم بهذه الصرر، أين فلان؟ أين فلان؟ أين فلان؟ عد الأسماء الأربعة، فقالوا: نحن, انتظر إمام الأئمة ليفرغ من صلاته، فلما سلَّم تقدم إليه وأخبره، قال: ما قصتك؟ قال: كان الأمير نائماً فرأى النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقال له: أنت نائم والمحمدون الأربعة جياع قد طووا أياماً لا يجدون طعاماً! فقال: أين هم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: هم في مكان كذا أدركهم، فقام واستيقظ وأرسلني مباشرة إليكم، وهذه خمسون ديناراً، وخمسون ديناراً لها شأن، قيمتها خمسمائة درهم وزيادة، ويعزم عليكم الأمير إذا نفدت أن تخبروه، ثم انصرف. هذا هو إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، الذي يقول هذا الكلام المحكم في هذا الفقيه المبارك الحكيم سيدنا أبي عبد الله الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
إخوتي الكرام! هذا الكلام مقصوده: أن هذا الإمام تضلع من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، بحيث صارت السنن بين عينيه، أما أنه سيحيط بكل جزئية من جزئيات نبينا خير البرية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فهذا لا يمكن أن يحصل إلا للنبي فقط على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, أمران لا يحيط بهما إلا المعصوم: اللغة العربية، وحديث خير البرية، كما قرر ذلك الإمام الشافعي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, لا يحيط بالسنن على التمام إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن عداه ستخفى عليه بعض السنن، بدءاً من خير هذه الأمة بعد نبيها على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، أعني سيدنا أبا بكر رضي الله عنه، وانتهاء بآخر مؤمن في هذه الأمة, كل واحد سيخفى عليه بعض السنن، لكن كما قلت: إذا تضلع بالسنن، وصار لا يخفى عليه إلا النزر اليسير صح أن يقال فيه: إنه أحاط بالسنة إحاطة حسب المقارنة مع الحفاظ والجهابذة والأقران، لا أن الإحاطة هي على وجه التمام.
وهذا النعت قيل في عدد من أئمتنا لا يُحصون، وكان أئمتنا يطلقون هذا، استمع مثلاً ما يقوله الإمام إسحاق بن راهويه شيخ الإمام البخاري عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة ربنا، يقول -والأثر ثابت عنه في عدد من الكتب، وانظروه في السير، ويحيلكم إلى المصادر في الجزء الثالث عشر صفحة واحدة وسبعين- يقول إسحاق بن راهويه: كل حديث قال عنه أبو زرعة : لا أعرفه فليس له أصل، وأبو زرعة هو عبيد الله بن عبد الكريم الرازي الذي توفي سنة أربع وستين ومائتين، تقدم معنا حاله، الإمام العلَم صاحب الكرامة العظيمة عند موته عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، كل حديث قال عنه أبو زرعة : لا أعرفه فليس له أصل.
هذا الكلام مثل كلام محمد بن إسحاق بن خزيمة في الإمام الشافعي ، فالمعنى أنه أحاط بالسنن على حسب ما في إمكان البشر، وقال الحافظ ابن عبد الهادي في العقود الدرية في مناقب سيدنا الإمام ابن تيمية في صفحة خمس وعشرين: قال الذهبي : يَصدُق عليه أن يقال فيه: كل حديث لا يعرفه فليس من كلام النبي. على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. يترجم الذهبي لشيخه الإمام ابن تيمية فيقول: يصدق عليه هذه المقولة التي قالها أئمتنا في الجهابذة الكبار قبلنا: كل حديث لا يعرفه الإمام ابن تيمية فليس من كلام نبينا خير البرية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، هذا -كما قلت- المراد منه الدلالة على مكانة هذا الإمام، وأنه اطلع على سنة النبي عليه الصلاة والسلام حسبما في وسع الإنسان، أما أنه لا يمكن أن تغيب عنه جزئيات، أو بعض أحاديث فلا، فلا داعي للتنطع نحو عبارات أئمتنا وردها لأنها لا تروق لأذهان بعضنا، فكلام الإمام ابن خزيمة يعني: أن السنن التي أنا أعلمها رواها الإمام الشافعي وهو يعرفها, وهذا كلام سديد رشيد، والشافعي أعلم من ابن خزيمة عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.
أمر ثانٍ كما قلت: لو قيل له: هل يوجد سنة لنبينا عليه الصلاة والسلام ما علمها الشافعي؟ فقال: لا؛ لكان الكلام أيضاً صحيحاً رشيداً على حسب المتعارف عليه أنه اطلع على السنن، وما يغيب عنه إلا ما يغيب عن البشر الذي لا يمكن أن يحيط بكل السنة، أما ما هو في وسع البشر فقد اطلع عليه، فالعبارة سديدة رشيدة أيضاً، وعموم كل شيء بحسبه، والله يقول في كتابه: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25]، فلا يأتي متنطع ويقول: ما دمرت الأرض ولا دمرت السماء ولا غيرها, نقول: عموم كل شيء بحسبه، وهنا كذلك عندما يقول: الشافعي أحاط، فهي إحاطة حسبما في وُسع البشر.
فلا داعي للتعليق على عبارات الأئمة، من عقوق المتأخرين للمتقدمين أن كل كلمة من كلام سلفنا سنزنها بعقولنا، وأي عقل؟ بالعقول القاصرة والأذهان الفاترة، يستعرضها فما فهمها فقال: هذا الكلام خطأ.. يا عبد الله! أنت المخطئ، ما فهمت الكلام اعتراض من غير فهم، فهذه العبارات ينبغي أن يحترس منها، وتقدم معنا أننا نحن الآن ابتُلينا بزمن كل واحد يرد على الكبير والصغير ولا يبالي.
ومثله ما ذكره شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه المغني أن مختصر الخرقي كتاب مبارك, يعلق المعلق عليه ويقول: كيف يقول عنه: إنه كتاب مبارك! لا يوجد كتاب مبارك إلا القرآن! يا عبد الله! لا داعي للهذيان، فكتب الفقه مباركة، وكتب الحديث مباركة، وكتب التوحيد مباركة، وكل العلوم الإسلامية كتبها كلها مباركة، لكن بركة كل شيء بحسبه، لكنا اعتدنا -كما قلنا- على هذا، كل عبارة نعلق عليها.
إخوتي الكرام! هذا الإمام إمام مبارك، أثر عنه كرامات كثيرة، إمام الأئمة، الإمام ابن خزيمة صاحب الصحيح وصاحب كتاب التوحيد، وكتاب صفات الرب، وغير ذلك من الكتب العظيمة، من الكرامات التي له من باب تعطير المجلس بأخباره: ما نقله الذهبي في السير في الجزء الرابع عشر صفحة إحدى وسبعين وخمسمائة، وأورد الكرامة هذه للإمام ابن خزيمة في ترجمة الإمام الطبري ، وأعادها في ترجمة الإمام الروياني في الجزء الرابع عشر أيضاً صفحة سبع وخمسمائة، وفي تذكرة الحفاظ في ترجمة الإمام الروياني في الجزء الثاني صفحة ثلاث وخمسين وسبعمائة، والسبب أنه أوردها في ترجمة الطبري والإمام الروياني : أن المحمدين الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين: محمد بن إسحاق بن خزيمة ، ومحمد بن جرير الطبري ، ومحمد بن هارون الروياني ، ومحمد بن نصر ، أئمة الإسلام الكبار، والأربعة من الشافعية رضوان الله عليهم أجمعين، فكل واحد منهم له اختيار واجتهاد رضوان الله عليهم أجمعين.
الإمام ابن جرير توفي سنة عشر وثلاثمائة، والإمام ابن خزيمة توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، والإمام الروياني سنة سبع وثلاثمائة، ومحمد بن نصر توفي سنة أربع وتسعين ومائتين، كلهم من علماء القرن الثالث الهجري عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه, اجتمعوا في بلاد مصر وأرملوا، نفد زادهم ولم يبقَ معهم نفقة.
وهم المحمدون الأربعة، فكل واحد اسمه محمد، وأكثر أسماء المسلمين محمد وأحمد تعبيراً عن حبهم لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقلت أيضاً مقارنة بهذا أيضاً أكثر أسماء المسلمين ذكوراً وإناثاً تحمل أسماء آل البيت الطيبين الطاهرين، مِن علي وحسن وحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين, قلت: هذا مما يدل على موقف أهل السنة نحو أهل البيت، إذا أردت أن تعرف موقف أهل السنة فانظر إلى أسماء أولادهم، وقلت: من عادَوا آل البيت بتأويل أو بجهالة.. من عادوهم أسماؤهم رُفضت من قِبل أهل السنة ولا يسمون بأسمائهم إلا نادراً، ونحن لا نتشاءم بالأسماء، لكن لنحذر في موقفنا، فالإنسان يسمي أولاده بمن يحبهم.
ولذلك الآن عندما أحببنا الغرب بدأنا نسمي بالأسماء الخبيثة، ولعله بلغكم آخر اسم في الأردن يُنشر في الصحف (رابين) ونتنياهو أيضاً، وأسماء انتشرت، وأكبر الشوارع الآن في بعض البلاد تسمى باسم شارع جورج بوش، حتماً هذا دلالة على المحبة، فعند سلفنا رضوان الله عليهم هذه الأسماء المباركة.
إذاً: المحمدون الأربعة اجتمعوا في مصر وأرملوا، وليس عندهم وقت للسعي والكسب، هم يجوبون الدنيا حفظاً لحديث النبي عليه الصلاة والسلام ونشراً له، ما عندهم وقت لطلب الرزق، ولا يمكن لواحد منهم أن يريق ماء وجهه وأن يمد يده لغير ربه، لا يمكن هذا على الإطلاق، ولو مات جوعاً!
وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- أن الإنسان إذا اضطر وما سأل حتى مات، فهو أعظم لأجره وأفضل عند ربه, لا يسأل؛ لأنه إذا سأل أذل نفسه، وضيع حق الله عليه، فالأصل أن تتذلل للخالق لا لغيره، وأيضاً أضجر العباد عندما سألهم وألحَّ عليهم، ففيه ظلم من ثلاث جهات: للنفس، ولحق الرب، وللناس، فهؤلاء لا يمكن أن يسألوا أحداً من خلق الله، لكن اشتد بهم الجوع، ما الحل؟ فقال بعضهم لبعض: لابد أن نقدم واحداً منا يلجأ إلى الله يدعو الله ليفرج عنا من حيث لا نحتسب، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2-3].
وتقدم معنا في ترجمة العبد الصالح حيوة بن شريح المصري العابد القانت في الموعظة الماضية في مواعظ الجمعة، أنه كان يأخذ المدر والحصاة من الأرض، فإذا وضعها في كفه جعلها الله تِبراً خالصاً، ذهباً أحمر، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، وقلت: إن الكرامة ثابتة باتفاق أئمتنا كما تقدم معنا عزو ذلك وتخريجه إلى مصادره، وتعليق الإمام ابن كثير على هذه الحادثة في تفسيره، وهنا كذلك الله على كل شيء قدير، فقالوا: نقدم واحداً يدعو والثلاثة يؤمنوا؛ من أجل أن يحصل لنا الفرج، وكل واحد منهم يقول: لست هنالك لست هنالك، فمن الذي سيتقدم هؤلاء ليدعو لهم؟ كل واحد يهضم نفسه ويقول: أنتم أفضل مني، فقالوا: نقترع، من وقعت عليه القرعة هو الذي سيدعو ونحن نؤمن، فاقترعوا فوقعت القرعة على إمام الأئمة، فقالوا: تقدم وادعُ ونحن نؤمن والفرج سيحصل بإذن الله عز وجل، فقال: دعوني أصلي ركعتين، فإذا صليت دعوت، فصلى ركعتين وأطال السجود، وهو في الركعة الثانية ولا زال ساجداً إذا بالباب يُطرق، وإذا بعبد أسود من غلمان السلطان والأمير في بلاد مصر ومعه أربع صُرَر، فلما طرق الباب فتحوا، فقال: أين محمد بن إسحاق بن خزيمة ؟ قالوا: هذا الذي يصلي. قال: أرسلني الأمير إليكم بهذه الصرر، أين فلان؟ أين فلان؟ أين فلان؟ عد الأسماء الأربعة، فقالوا: نحن, انتظر إمام الأئمة ليفرغ من صلاته، فلما سلَّم تقدم إليه وأخبره، قال: ما قصتك؟ قال: كان الأمير نائماً فرأى النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقال له: أنت نائم والمحمدون الأربعة جياع قد طووا أياماً لا يجدون طعاماً! فقال: أين هم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: هم في مكان كذا أدركهم، فقام واستيقظ وأرسلني مباشرة إليكم، وهذه خمسون ديناراً، وخمسون ديناراً لها شأن، قيمتها خمسمائة درهم وزيادة، ويعزم عليكم الأمير إذا نفدت أن تخبروه، ثم انصرف. هذا هو إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، الذي يقول هذا الكلام المحكم في هذا الفقيه المبارك الحكيم سيدنا أبي عبد الله الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
من ثناء العلماء عليه أيضاً ما أثر عن العبد الصالح يحيى بن سعيد القطان ، وهو أبو سعيد البصري ، ثقة متقن حافظ إمام قدوة، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، حديثه في الكتب الستة, انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء التاسع صفحة خمس وسبعين ومائة، قال: هو أمير المؤمنين في الحديث، وكان يختم القرآن كل ليلة. وتقدم معنا خبره أنه كان يدعو لألف من شيوخه قبل أن يحدِّث، ثم يبدأ بعد ذلك بنشر حديث نبينا عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، يقول هذا العبد الصالح يحيى بن سعيد القطان ، وقد توفي قبل الإمام الشافعي بست سنين، فهو من أقرانه وأصحابه، فاستمع ماذا يقول؟ يقول: إني لأدعو للإمام الشافعي في كل صلاة. كل صلاة أصليها أدعو للإمام الشافعي، ما رأيت أعقل ولا أفقه منه.
وتقدم معنا كلام الإمام الخريبي: يجب على المسلمين أن يدعو لـأبي حنيفة في صلواتهم؛ لأنه حفظ عليهم الفقه والسنن، وهنا يحيى بن سعيد القطان يقول: أدعو للإمام الشافعي في كل صلاة، لمَ؟ قال: ما رأيت أعقل ولا أفقه منه.
هذا الأثر -إخوتي الكرام- انظروه في توالي التأسيس صفحة سبع وسبعين للحافظ ابن حجر، ورواه البيهقي في مناقب الإمام الشافعي، والإمام أبو نعيم في الحلية، والإمام ابن أبي حاتم في كتابه آداب الشافعي ومناقبه عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.
ومن جملة من أثنَوا عليه: الإمام عبد الرحمن بن مهدي ، أبو سعيد البصري ، وهو ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، قبل الشافعي بست سنين، قال شيخ البخاري الإمام علي بن المديني : ما رأيت أعلم من عبد الرحمن بن مهدي. ونعته الذهبي في السير في الجزء التاسع صفحة اثنتين وتسعين ومائة، فقال: هو سيد الحفاظ الإمام الناقد المجود. هذا الذي يقول عنه علي بن المديني : ما أريت أعلم منه، استمع ماذا يقول في حق الإمام الشافعي كما في توالي التأسيس صفحة ثمان وسبعين، وفي السير في الجزء العاشر صفحة أربع وأربعين، والأثر في مناقب الإمام الشافعي للإمام البيهقي ، ورواه الإمام ابن عساكر أيضاً، قال عبد الرحمن بن مهدي : ما صليت صلاة إلا دعوت للإمام الشافعي واستغفرت له. كما قال يحيى بن سعيد القطان ، ما صليت صلاة إلا دعوت للإمام الشافعي واستغفرت له.
ومنهم الإمام الحميدي ، عبد الله بن الزبير بن عيسى ، توفي سنة تسع عشرة ومائتين، بعد خمس عشرة من وفاة الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله، يُكْنى بـأبي بكر، ثقة حافظ فقيه، وهو من أَجلِّ بل هو أجل أصحاب سفيان بن عيينة عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه كما قال الإمام الحاكم، وكان البخاري إذا وجد الحديث عن شيخه الإمام الحميدي لا يخرجه عن غيره، ولا يعدوه إلى غيره، إذا وجد الحديث عن الإمام الحميدي حدثه به الحميدي وغيره فيعزوه إلى الحميدي وانتهى, خرج حديثه أهل الكتب الستة، لكن الإمام ابن ماجه روى له في التفسير ولم يروِ له في السنن, انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء العاشر صفحة سبع وستمائة.
قال الإمام الفسوي : ما رأيت أنصح للإسلام وأهله من الإمام الحميدي . وأول حديث في صحيح البخاري يبتدئ بالإمام الحميدي, أول إمام ذُكر في صحيح البخاري هو الإمام الحميدي ، في حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، أورده الإمام البخاري من طريق شيخه الإمام الحميدي ، وهو حديث -كما قال أئمتنا- عزيز، فليس فيه عنعنة، كلهم يصرح بالإخبار والتحديث، أئمة أعلام، أورده الإمام البخاري في أول صحيحه عن شيخه الإمام الحميدي عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.
الإمام الحميدي كان إذا حدَّث عن الشافعي يقول: حدثنا سيد الفقهاء، وهو أنصح الناس للإسلام وأهله، ينعت الإمام الشافعي بذلك.
وممن أثنوا عليه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام ، توفي سنة أربع وعشرين ومائتين، ثقة فاضل، قال الحافظ ابن حجر: لم أرَ له حديثاً مسنداً في الكتب الستة، بل ذُكرت أقواله في شرح غريب الحديث في كتب السنة، روى له البخاري تعليقاً، وذُكر أيضاً قوله في شرح غريب السنة في سنن أبي داود والترمذي ، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء العاشر صفحة تسعين وأربعمائة، قال: هو من أئمة الاجتهاد، وهو صاحب كتاب الأموال، كما له أيضاً غريب الحديث، كتاب الأموال أحسن ما أُلف في الحياة الاقتصادية الإسلامية، في أمور الاقتصاد، كتاب الأموال، أكبر كتاب في حدود ثمانمائة صفحة للإمام أبي عبيد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، يقول هذا الإمام: ما رأيت أعقل ولا أورع ولا أفصح من الإمام الشافعي ، عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.
وهذا القول إخوتي الكرام أثر أيضاً عن ثعلب إمام العربية، وهو ثقة إمام جليل كما قال الإمام الدارقطني، قال: ما رأيت أعقل ولا أروع ولا أنصح من الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، أبو عبيد يقول هذا، والإمام ثعلب إمام العربية يقول هذا، كما في توالي التأسيس صفحة تسع وسبعين.
وممن أثنوا عليه الإمام أبو نعيم الفضل بن دكين ، وهو ثقة ثبت، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة ثماني عشرة أو تسع عشرة بعد المائتين، من كبار شيوخ الإمام البخاري ، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء العاشر صفحة اثنتين وأربعين ومائة، ونعته بأنه الحافظ الكبير شيخ الإسلام، قال الإمام الفسوي : أجمع أصحابنا أنه كان غاية في الإتقان.
جاء في تاريخ بغداد في ترجمته في الجزء الثاني عشر صفحة خمسين وثلاثمائة: أنه نادى المأمون في شوارع بغداد بواسطة رسله وأعوانه: بألا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر، ويريد إذا لم يكن عنده ترخيص، ويعني إجازة من قِبل الدولة، فمر أبو نعيم الفضل بن دكين ببعض أعوان الدولة على منكر، فزجره وصاح به ونهاه، فرفع أمره إلى المأمون فاستدعاه، فقال له: توضأ، وكأن المأمون يجهل قدر هذا الإمام المبارك، فتوضأ، قال: صلِّ ركعتين، فصلى، لينظر إلى وضوئه وصلاته ليسأله بعد ذلك شيئاً من أمور الشرع ليتحقق هل عنده أهلية للأمر أو النهي أو ليبطش به بعد ذلك، كيف يدخل فيما لا يعنيه إذا ما عنده عُدة وأهلية لأن يأمر وينهى، فتوضأ وصلى، ثم قال له: مات ميت وترك أبوين كيف تقسم تركته؟ قال: للأم الثلث وللأب الباقي الثلثان، قال: فإن كان معهما أخ؟ قال: المسألة بحالها، للأم الثلث وللأب الباقي، قال: فإن كان معهما أخوَان، قال: نزل فرض الأم من الثلث إلى السدس والباقي للأب، قال: عند جميع العلماء؟ قال: لا, عند عبد الله بن عباس للأم أيضاً الثلث ولا تحجب عن الثلث إلى السدس إلا بجمع من الإخوة، فقال المأمون : سبحان الله! من قال لك لا تأمر ولا تنه؟ إنما نهينا أناساً جعلوا المعروف منكراً، هؤلاء الذين نهيناهم، أناس غوغاء، فلا يشوشون على العباد، فقلنا: ما أحد يأمر ولا ينهى إلا بترخيص وإجازة منا، لكن أنت مَن الذي ينهاك إذا كان هذا حالك؟ من الذي نهاك أنت؟ اذهب فمُرْ وانهَ كما شئت مادام هذا حالك، رضي الله عنه وأرضاه.
يقول أبو نعيم الفضل بن دكين عليه وعلى أمتنا رحمة ربنا، كما في توالي التأسيس صفحة أربع وتسعين: ما رأينا ولا سمعنا أكمل عقلاً ولا أحضر فهماً ولا أجمع علماً من أبي عبد الله الشافعي ، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
وأبو نعيم الفضل بن دكين امتحنه بعد ذلك المأمون ثم المعتصم في محنة خلق القرآن، وهددوه بقطع العطاء، فقطع زر قميصه ونبذه إلى جهة الخليفة، وقال: والله ما دنياكم عندي إلا أهون من هذا الزر. ستهددني بقطع العطاء بقطع الرزق، لو هددتني بقطع الرقبة لا أبالي، والله ما دنياكم عندي إلا أهون من هذا الزر، وقطعوا عطاءه رضي الله عنه وأرضاه، لكن ما ضربوا رقبته إجلالاً لسنه رحمة الله ورضوانه عليه. يقول هذا الإمام: ما رأينا ولا سمعنا أكمل عقلاً ولا أحضر فهماً ولا أجمع علماً من أبي عبد الله الشافعي ، رضي الله عنهم وأرضاهم.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] | 4383 استماع |
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] | 3678 استماع |
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] | 3661 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] | 3541 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] | 3309 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] | 3293 استماع |
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه | 3260 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] | 3260 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] | 3214 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] | 3166 استماع |