مقدمة في الفقه - تعبد الإمام مالك واجتهاده


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! شرعنا في مدارسة ترجمة سيدنا الإمام مالك إمام دار هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا سنتدارس ترجمته ضمن أربعة أمور هي الأمور التي تدارسنا بها ترجمة سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنهم أجمعين، أولها: في نسبه وطلبه العلم، وثانيها: في ثناء العلماء عليه، وثالثها: في فقهه، ورابعها: في عبادته وحسن صلته بربه سبحانه وتعالى، مرَّ الكلام على الأمور الثلاثة الأولى، ووصلنا إلى الأمر الرابع نتدارسه في هذه الموعظة بعون الله وتوفيقه.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن الإمام مالكاً إمام مبارك خيِّر صالح فاضل هو نجم السنن، فإذا كان حب سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه من السنة ومن الدين، فحب هذا الإمام المبارك من السنة ومن الدين أيضاً كما هو الحال في سائر أئمتنا الكرام الطيبين، ولذلك لا يبغض هذا الإمام أو غيره من أئمة الإسلام إلا من غضب عليه ربنا الرحمن، وهو من أهل البدع اللئام.

أُثر عن سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه كما في ترتيب المدارك في الجزء الأول صفحة سبعين ومائة أنه قال: لا يبغض الإمام مالكاً إلا مبتدع، ووصل الأمر بسيدنا أبي داود صاحب السنن أنه ما لعن في حياته غير اثنين فقط، الأول: قيل له: إن فلاناً من أهل البدع لعن الإمام مالكاً، فقال: لعنة الله عليه، على هذا المبتدع الخبيث وسماه باسمه، وأنزل اللعنة عليه، هذا المبتدع الأول الذي وقع في عرض سيدنا الإمام مالك، فالإمام أبو داود رضي الله عنه وأرضاه حميته لربه ودينه وغيرته على أئمة شريعة الله المطهرة دعته إلى لَعنَ المعيَّن.

والثاني: بشر بن غياث المريسي، وأئمتنا يقولون: إنه بشر الضلالة، بشر البدعة؛ ليفرقوا بينه وبين سيدنا بشر الحافي ، كما يقولون في حق سيدنا الإمام المبجل أحمد بن حنبل: أحمد السنة، ويقولون عن أحمد بن أبي دؤاد: أحمد البدعة، قاضي قضاة الدولة العباسية، وكان على طريقة الجهمية، وهو الذي امتحن عباد الله في محنة خلق القرآن.

بشر بن غياث، توفي سنة ثماني عشرة ومائتين، انظروا ترجمته المظلمة في السير في الجزء العاشر صفحة مائتين فما بعدها، وقال الإمام الذهبي في ترجمته: إنه نظر في علم الكلام والفلسفة والهذيان فغلب عليه وانسلخ من الورع والتقوى، وهو صاحب خطب وليس بصاحب حجج، كلام بليغ مفوه فصيح لكن ما عنده حجج ولا بينات، صاحب خطب وليس بصاحب حجج، ختم الإمام الذهبي ترجمته بأنه كُفِّر من قبل عدد من أئمة الإسلام، ومع ذلك قال الذهبي: كل من كُفِّر ببدعة وإن جلَّت فلا يسوى بعباد الأصنام وبأهل الأوثان، فأمره إلى ذي الجلال والإكرام.

بالنسبة للعن المعين تقدم معنا -إخوتي الكرام- أن عدداً من أئمة الإسلام كالإمام المهلب والإمام البُلقيني شيخ الحافظ ابن حجر ، وقلت: هو ما يُفهم من كلام الإمام النووي أنه يجوز لعن المعين إذا فعل ما يستوجب اللعن، وهنا عندما لعن هذا المبتدع الإمام مالكاً لعنه أبو داود وأنزل اللعنة عليه، وتقدم معنا أن الجمهور على المنع، والحافظ ابن حجر جمع بين القولين وقال: لا تعارض، فمن منع أراد المعنى اللغوي، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وأنه لا ينال رحمة الله، وهو إذا كان عاصياً فستناله رحمة الله، وهو من عداد المؤمنين، ومن أجاز فأراد السب والتعيير والتحقير والتنفير مما وقع فيه هذا الإنسان الحقير.

على كل حال: حب سيدنا الإمام مالك من السنة، ولا يبغضه إلا مبتدع، ووصل الأمر بـأبي داود أنه لعن من لعن الإمام مالكاً، رضي الله عن الإمام مالك وعن الإمام أبي داود وعن أئمتنا الكرام أجمعين.

إخوتي الكرام! تقدم معنا ثناء العلماء عليه وقلت: إنه نجم السنن، إنه نجم العلماء، إذا ذُكر العلماء فـمالك النجم الثاقب، وقد حصَّل العلم النافع وقرنه بالعمل الصالح رضي الله عنه وأرضاه، فاكتملت فيه القوة العلمية كما اكتملت فيه القوة العملية، وهما منبع الكمالات، قوة علمية وقوة عملية رضي الله عنه وأرضاه.

تقدم معنا شيء مما يتعلق بعبادته وحسن صلته بربه، ومن تعظيمه لخالقه، وقلت: إنه كان يسلك أحسن المسالك، ويتأدب أحسن الأدب مع هذا العلم الشريف مع حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فلا يمسه إلا على طهارة، ولا يحدث بحديث النبي عليه الصلاة والسلام إلا على طهارة، ولا يحدث إلا وهو على أكمل هيئة وجلسة، فلا يتكئ، ويُعدِّل جلسته ويسوي هيئته، ويتطيب، وكأنه لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد عندما ينشر حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وآخر ما ذكرته في ترجمته قصة العقرب عندما لدغته ست عشرة مرة تلدغه وتبتعد، ثم تعود إليه تلدغه، وهو يصفر ويتلوى ويتغير شكله وهيئته، ومع ذلك ما قطع حديث النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؛ إجلالاً لهذا الكلام المبارك الشريف رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! حقيقة أدب الظاهر عنوان على أدب الباطن، وإذا تأدب القلب مع الرب ظهر الأدب على الجوارح، وإذا رأيت الإنسان على ظاهره فاعلم أنه لا أدب في باطنه، أدب الظاهر عنوان على أدب الباطن، استمع لحال الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، يقول: لقد رأيتني ما في وجهي طاقة شعر، وعندما جلس عند سيدنا ربيعة الرأي رضي الله عنه وأرضاه، وهو أول شيوخه، ما في وجه الإمام مالك شعرة، فقد طلب العلم قبل أن يبلغ عمره بضع عشر سنة رضي الله عنه وأرضاه، يقول: وقد رأيتني وما في وجهي طاقة شعر، وما يدخل أحد منا أنا ومن أمثالي إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام إلا معتماً إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم! سبحان من أدبهم من صغرهم! ما في وجهه شعرة ومع ذلك لا يدخل ذلك المكان إلا وعليه العمة إجلالاً لنبينا عليه الصلاة والسلام.

وكان يحضر في حلقة سيدنا ربيعة الرأي أربعون معتماً منهم الإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم، هذا الأدب الظاهر دليل على أدب الباطن، وعلى خشية القلب من الرب.

ومن كلام الإمام مالك المحكم فيما يتعلق بالعلم وأدبه وصيانته، كان يقول كما في الحلية في الجزء السادس صفحة عشرين وثلاثمائة: إن كنت لاعباً فلا تلعبن بدينك! إذا أردت أن تلعب وتتساهل وأن تمزح فلا حرج، لكن الدين دعه في صيانة، دعه في رفعة وعلو، من كان لاعباً فلا يلعبن بدينه، والله قال في حق المنافقين الذين قالوا عن القراء الطيبين: إنهم أكذب الناس ألسنة وأرغبهم بطوناً وأجبنهم عند اللقاء، قال في حقهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66].

فمن كان لاعباً فلا يلعبن بدينه، شعائر الله لابد من تعظيمها، والمزاح بعد ذلك تمزح ضمن حدود الأدب المباح، أما أن يدخل الإنسان شعائر الدين للسخرية والاستهزاء بها ويقول: أمزح! فهذا لا يجوز أبداً.

تغير الإمام مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هيبةً له وإجلالاً

إخوتي الكرام! لقد أورد أئمتنا في ترجمته عجباً، وهذا وما يليق بهم رضي الله عنهم وأرضاهم، كان هذا الإمام المبارك عندما يأتي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عندما يحدث بحديثه ويذكره، إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ظهر عليه أثر التغير، يتغير رضي الله عنه وأرضاه عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، وينحني إجلالاً وهيبةً لهذا النبي المبارك عليه صلوات الله وسلامه، ولما حصل في قلبه من الهيبة يتغير وينحني عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام.

فقيل له في ذلك: يعتريك حالة غريبة كلما تذكر النبي عليه الصلاة والسلام، تغير على ظاهرك، انحناء؟! قال: كنا نأتي محمد بن المنكدر، وهو من شيوخ الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وسيأتينا أن الإمام مالكاً كان يقول: إذا وجدت في قلبي قسوة ذهبت لأنظر إلى وجه محمد بن المنكدر، فقط نظرة، يقول: كنا نأتي محمد بن المنكدر فنسأله عن الحديث، فإذا سألناه عن الحديث لا يحدثنا إلا وهو يبكي! نسأله عن الحديث، إذا حدثنا مع كل حديث خشوع وبكاء، والتجاء إلى رب الأرض والسماء.

و محمد بن المنكدر هو الإمام الثقة الفاضل، توفي سنة ثلاثين ومائة، حديثه في الكتب الستة، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء الخامس صفحة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ونعته شيخ الإسلام الذهبي بأنه: الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام، قال: كان من سادات القراء، وكان لا يتمالك نفسه ولا عينيه عند قراءة حديث نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وكان يحيي الليل رضي الله عنه وأرضاه، وكثيراً ما كان يردد آية ويقف عندها ويبكي.

تقدم معنا في بعض الدروس في ترجمته عندما تلا قول الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، وقف عند هذه الآية وكَثر نحيبه ونشيجه وبكاؤه، فأهل البيت اغتموا لما حصل لهذا الإمام المبارك، فدعوا أبا حاتم ليخفف عنه، فلما جاء وعلم بحاله شاركه في البكاء، وظلا يبكيان حتى طلع الفجر.

كان الإمام ابن الماجشون قرين سيدنا الإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم، كان يقول: إن رؤية محمد بن المنكدر تنفعني في ديني، رؤيته فقط، وقال الإمام مالك ما ذكرته لكم: إذا وجدت في قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن المنكدر، انظروا هذا في ترتيب المدارك في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين ومائة.

وهذا الأمر كان موجوداً عند سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، تقدم معنا في ترجمة العبد الصالح محمد بن واسع، أن جعفر بن سليمان كان إذا وجد في قلبه قسوة نظر إلى وجه محمد بن واسع، قال: وكان وجهه كوجه الثكلى، وتقدم معنا الأثر في الحلية وفي غير ذلك في السير في ترجمة هذين العبدين الصالحين: جعفر بن سليمان ومحمد بن واسع رضي الله عنهم وأرضاهم.

فالإمام مالك عندما يقال له: يحصل لك عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام تغير وانحناء؟ يقول: نحن كنا نأتي محمد بن المنكدر فنسأله عن الحديث فلا يحدثنا إلا وهو يبكى.

وقال الإمام مالك أيضاً كما في ترتيب المدارك: وكان جعفر بن محمد -وهو الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وأرضاه- كثير المُزاح والتبسم، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اخضرَّ واصفرَّ، قال الإمام مالك: وما أتيته وإلا وجدته يصلي أو يقرأ القرآن أو رأيته صائماً، على عبادة على الدوام، جعفر الصادق رضي الله عنه وأرضاه، وهو إمام مبارك ثقة عدل علم، روى له البخاري في الأدب المفرد والإمام مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة، انظروا ترجمته في السير في الجزء السادس صفحة خمس وخمسين ومائتين، قال الذهبي في ترجمته: تواتر عن هذا الإمام أنه قال: برئ الله ممن تبرأ من سيدنا أبي بكر وعمر. تواتر عن هذا الإمام جعفر الصادق بن محمد بن علي بن محمد الباقر بن علي بن الحسين زين العابدين بن الحسين بن سيدنا علي، ما بعد هذا النسب نسب، رضي الله عنهم وأرضاهم، تواتر عن هذا الإمام أنه قال: برئ الله ممن تبرأ من سيدنا أبي بكر وعمر. إمام مبارك صالح توفي سنة ثمان وأربعين ومائة قبل سيدنا أبي حنيفة بسنتين. وكان يقول: خلق الله الذباب ليذل به الملوك، كما قال هذه المقولة لـأبي جعفر المنصور ليكسر من جبروته وكبريائه.

جعفر الصادق كان كثير التبسم والمُزاح، ولا حرج في ذلك ضمن المباح، لكن عندما تأتي بعد ذلك مراسيم الشرع وشعائر الدين، وذكر النبي الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، انظر لهذا الأدب والخشوع والخضوع، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اخضر واصفر، وهذا الأمر كما قلت: كان فاشياً في أئمتنا.

أيوب السختياني كما تقدم معنا في أول ترجمة الإمام مالك، حج حجتين، والإمام مالك ما روى عنه ولا كتب، ولا يتهمه، هو شيخ أهل السنة كما لا يتهم غيره، لكنه ما رأى عليه أثر التعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم، ما رأى عليه البهجة التي تكون على العالم وطالب العلم، قال: فلما حج حجته الثالثة وجلس في فناء زمزم وحدَّث، كان إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام.. يقول الإمام مالك: يبكي حتى إني لأرحمه من كثرة بكائه، فكتبت عنه ورويت، أيوب السختياني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، توفي بعد العبد الصالح محمد بن المنكدر بسنة، سنة إحدى وثلاثين ومائة، وحديثه في الكتب الستة، ثقة ثبت من كبار الفقهاء العباد، انظروا ترجمته الطيبة في أول الجزء السادس من السير صفحة خمس، قال: هو سيد العلماء، وكان يحيي الليل كله، وكان على تواضع عظيم فلا يدع أحداً من أصحابه وتلاميذه يمشي معه، يقول شعبة: جهدت أن أمشي معه فكان يمنعني، وشعبة هو أمير المؤمنين في الحديث، ويقول: كان يمشى هاهنا وهاهنا إذا خرج حتى لا يفطن له أحد، وكان يقول: ما صدق عبد مع الله فأحب الشهرة، إذا صدق لا يحب أن يُشتهر، ولا أن يعرفه أحد رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: هذا الأدب كان عند سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، إذا ذكر النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه يعتريه التغير والوجل، وينحني إجلالاً للنبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! لقد أورد أئمتنا في ترجمته عجباً، وهذا وما يليق بهم رضي الله عنهم وأرضاهم، كان هذا الإمام المبارك عندما يأتي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عندما يحدث بحديثه ويذكره، إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ظهر عليه أثر التغير، يتغير رضي الله عنه وأرضاه عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، وينحني إجلالاً وهيبةً لهذا النبي المبارك عليه صلوات الله وسلامه، ولما حصل في قلبه من الهيبة يتغير وينحني عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام.

فقيل له في ذلك: يعتريك حالة غريبة كلما تذكر النبي عليه الصلاة والسلام، تغير على ظاهرك، انحناء؟! قال: كنا نأتي محمد بن المنكدر، وهو من شيوخ الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وسيأتينا أن الإمام مالكاً كان يقول: إذا وجدت في قلبي قسوة ذهبت لأنظر إلى وجه محمد بن المنكدر، فقط نظرة، يقول: كنا نأتي محمد بن المنكدر فنسأله عن الحديث، فإذا سألناه عن الحديث لا يحدثنا إلا وهو يبكي! نسأله عن الحديث، إذا حدثنا مع كل حديث خشوع وبكاء، والتجاء إلى رب الأرض والسماء.

و محمد بن المنكدر هو الإمام الثقة الفاضل، توفي سنة ثلاثين ومائة، حديثه في الكتب الستة، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء الخامس صفحة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ونعته شيخ الإسلام الذهبي بأنه: الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام، قال: كان من سادات القراء، وكان لا يتمالك نفسه ولا عينيه عند قراءة حديث نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وكان يحيي الليل رضي الله عنه وأرضاه، وكثيراً ما كان يردد آية ويقف عندها ويبكي.

تقدم معنا في بعض الدروس في ترجمته عندما تلا قول الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، وقف عند هذه الآية وكَثر نحيبه ونشيجه وبكاؤه، فأهل البيت اغتموا لما حصل لهذا الإمام المبارك، فدعوا أبا حاتم ليخفف عنه، فلما جاء وعلم بحاله شاركه في البكاء، وظلا يبكيان حتى طلع الفجر.

كان الإمام ابن الماجشون قرين سيدنا الإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم، كان يقول: إن رؤية محمد بن المنكدر تنفعني في ديني، رؤيته فقط، وقال الإمام مالك ما ذكرته لكم: إذا وجدت في قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن المنكدر، انظروا هذا في ترتيب المدارك في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين ومائة.

وهذا الأمر كان موجوداً عند سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، تقدم معنا في ترجمة العبد الصالح محمد بن واسع، أن جعفر بن سليمان كان إذا وجد في قلبه قسوة نظر إلى وجه محمد بن واسع، قال: وكان وجهه كوجه الثكلى، وتقدم معنا الأثر في الحلية وفي غير ذلك في السير في ترجمة هذين العبدين الصالحين: جعفر بن سليمان ومحمد بن واسع رضي الله عنهم وأرضاهم.

فالإمام مالك عندما يقال له: يحصل لك عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام تغير وانحناء؟ يقول: نحن كنا نأتي محمد بن المنكدر فنسأله عن الحديث فلا يحدثنا إلا وهو يبكى.

وقال الإمام مالك أيضاً كما في ترتيب المدارك: وكان جعفر بن محمد -وهو الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وأرضاه- كثير المُزاح والتبسم، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اخضرَّ واصفرَّ، قال الإمام مالك: وما أتيته وإلا وجدته يصلي أو يقرأ القرآن أو رأيته صائماً، على عبادة على الدوام، جعفر الصادق رضي الله عنه وأرضاه، وهو إمام مبارك ثقة عدل علم، روى له البخاري في الأدب المفرد والإمام مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة، انظروا ترجمته في السير في الجزء السادس صفحة خمس وخمسين ومائتين، قال الذهبي في ترجمته: تواتر عن هذا الإمام أنه قال: برئ الله ممن تبرأ من سيدنا أبي بكر وعمر. تواتر عن هذا الإمام جعفر الصادق بن محمد بن علي بن محمد الباقر بن علي بن الحسين زين العابدين بن الحسين بن سيدنا علي، ما بعد هذا النسب نسب، رضي الله عنهم وأرضاهم، تواتر عن هذا الإمام أنه قال: برئ الله ممن تبرأ من سيدنا أبي بكر وعمر. إمام مبارك صالح توفي سنة ثمان وأربعين ومائة قبل سيدنا أبي حنيفة بسنتين. وكان يقول: خلق الله الذباب ليذل به الملوك، كما قال هذه المقولة لـأبي جعفر المنصور ليكسر من جبروته وكبريائه.

جعفر الصادق كان كثير التبسم والمُزاح، ولا حرج في ذلك ضمن المباح، لكن عندما تأتي بعد ذلك مراسيم الشرع وشعائر الدين، وذكر النبي الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، انظر لهذا الأدب والخشوع والخضوع، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اخضر واصفر، وهذا الأمر كما قلت: كان فاشياً في أئمتنا.

أيوب السختياني كما تقدم معنا في أول ترجمة الإمام مالك، حج حجتين، والإمام مالك ما روى عنه ولا كتب، ولا يتهمه، هو شيخ أهل السنة كما لا يتهم غيره، لكنه ما رأى عليه أثر التعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم، ما رأى عليه البهجة التي تكون على العالم وطالب العلم، قال: فلما حج حجته الثالثة وجلس في فناء زمزم وحدَّث، كان إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام.. يقول الإمام مالك: يبكي حتى إني لأرحمه من كثرة بكائه، فكتبت عنه ورويت، أيوب السختياني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، توفي بعد العبد الصالح محمد بن المنكدر بسنة، سنة إحدى وثلاثين ومائة، وحديثه في الكتب الستة، ثقة ثبت من كبار الفقهاء العباد، انظروا ترجمته الطيبة في أول الجزء السادس من السير صفحة خمس، قال: هو سيد العلماء، وكان يحيي الليل كله، وكان على تواضع عظيم فلا يدع أحداً من أصحابه وتلاميذه يمشي معه، يقول شعبة: جهدت أن أمشي معه فكان يمنعني، وشعبة هو أمير المؤمنين في الحديث، ويقول: كان يمشى هاهنا وهاهنا إذا خرج حتى لا يفطن له أحد، وكان يقول: ما صدق عبد مع الله فأحب الشهرة، إذا صدق لا يحب أن يُشتهر، ولا أن يعرفه أحد رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: هذا الأدب كان عند سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، إذا ذكر النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه يعتريه التغير والوجل، وينحني إجلالاً للنبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.