مقدمة في الفقه - إمام دار الهجرة


الحلقة مفرغة

تقديم الإمام ابن عبد البر للإمام مالك في ترجمة الأئمة في كتابه الانتقاء

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

أنتقل إلى الإمام الثاني المبارك سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه.

الإمام مالك هو إمام دار الهجرة، وهو الإمام الثاني من الأئمة الأربعة حسب الترتيب الزمني، وتقدم معنا أن الإمام ابن عبد البر في الانتقاء قدم الإمام مالكاً، وثنى بـالشافعي، وثلث بسيدنا أبي حنيفة، وقلت: لا غضاضة عليه في ذلك، فهو إمام مذهبه، والإمام ابن عبد البر في التمهيد وفي الاستذكار يقول: ينبغي لطالب العلم أن يحرص على العلم الذي يفشو في بلده، والمذهب الذي يفشو في بلده فيحرص عليه، يقول: هذا ليس بمنقصة ولا عار، فلا يخرج عن المألوف المعروف مما هو شرعي.

فمذهب الإمام مالك ينتشر في بلاد المغرب، وهو مذهب شرعي معتبر، فلا ينبغي لطالب العلم هناك أن يقول: أنا سأبحث في مذهب أبي حنيفة وأنشر مذهب أبي حنيفة! هذا ليس من الحكمة، وسيقع تشويش بينه وبين العامة الذين يدينون الله بها المذهب الذي أصوله وفروعه شرعية، فيقول: هذا ليس بعار، مما يطلب من طالب العلم أن يعتني بالعلم الذي عليه شيوخه، والذي هو في المكان الذي هو فيه، ما يفشو من العلم يتعلمه.

إذاً: قدم الإمام مالكاً لأنه إمام مذهبه، وثنى بالإمام الشافعي تلميذ ذلك الإمام، وثلث بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه من أئمة الإسلام الكرام، فأورد هؤلاء الأئمة الثلاثة في الانتقاء، هذا وجه للتقديم، وهناك وجه آخر:

وهو أنه جرت عادة أئمتنا إذا ذُكر عدد من أئمة الإسلام من بقاع مختلفة، أنهم يقدمون العالم الذي هو من المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، إجلالاً لنبينا عليه الصلاة والسلام كيفما كان حال هذا العالم، سواء تقدم في السن أو تأخر، تقدم في الرتبة أو تأخر، وهذا ما فعله الإمام الشاطبي في الشاطبية حينما قدم نافعاً المدني، مع أن عبد الله بن عامر إمام أهل الشام أكبر منه سناً، وهو من التابعين الكرام، وهو شيخ نافع ، فكان الأولى أن يتقدم عليه؛ بل ينبغي أن يتقدم القراء السبعة، فهو أقدمهم سناً، لكن بدأ بـنافع وثنى بـابن كثير؛ لأن هذا مدني، وذاك مكي، كما قال:

فأما الكريم السر في الطيب نافع فذاك الذي اختار المدينة منزلا

فبدأ به إجلالاً لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فمن هو من علماء المدينة يقدم، وهذا ما فعله أيضاً الإمام ابن عبد البر بهذا الملحظ، فعالم المدينة يقدم، ويليه عالم مكة الذي هو يمني مكي سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، فثنى به كما فعل الإمام الشاطبي تماماً، ثم بعد ذلك ختم بسيدنا أبي حنيفة، هذا أيضاً توجيه سديد رشيد، اعتنى به الإمام ابن عبد البر ، مع تقديمه لإمام مذهبه، فلا حرج ولا غضاضة.

وتقدم معنا ثناؤه على سيدنا أبي حنيفة واعترافه بقدره ومرتبته، ورده على لغط اللاغطين، وتشويش المشوشين، وهو الإمام المالكي المذهب كما تقدم معنا، فهذه هي الديانة، وهذا هو الدين رضي الله عنهم أجمعين.

كلام الإمام الذهبي عن الإمام مالك ونسبه

انظروا لكلام الإمام الذهبي، وهو شافعي المذهب، انظروا لكلامه في ترجمة سيدنا الإمام مالك في السير في الجزء الثامن صفحة ثمان وأربعين، قال: هو شيخ الإسلام، حجة الأمة، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الحميري الأصبحي المدني . فهو حميري أصبحي مدني، من أصبح، وأصبح قبيلة من حمير من بلاد اليمن، فأصله حميري، قال: هو حليف بني تيم من قريش، وبنو تيم بينه وبينهم موالاة في المحالفة والنصرة، لا كما زعمه الإمام ابن إسحاق أنه بينه وبينهم ولاء كما هو بين العتقاء وأهل الولاء، فما بينهم هو محالفة ومناصرة، فهو حليف بني تيم من قريش، وهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم أجمعين، هذا هو المعتمد -إخوتي الكرام- أنهم حلفاء لبني تيم من قريش.

ما جرى بين الإمام مالك والإمام محمد بن إسحاق بسبب كلام الأخير في نسب الإمام مالك

وشذ ابن إسحاق غفر الله لنا وله فقال: إن مالكاً وأباه وجده وأعمامه موالي لبني تيم، أي أنهم كانوا أرقاء ثم أُعتقوا وحُرروا، فبنو تيم لهم عليهم نعمة الولاء، فالإمام مالك رضي الله عنه اغتاظ من هذا غاية الغيظ، مع أنه أمر ما يتعلق بالدين، لكن طبيعة البشر أنه ينفعل، فكان هذا هو سبب النُفرة بين هذين الإمامين المباركين، بين الإمام مالك والإمام محمد بن إسحاق صاحب المغازي والسير، قال الإمام ابن عبد البر في الانتقاء صفحة إحدى عشرة: زعم ابن إسحاق .. ثم بعد أن ذكر قوله قال: هذا هو السبب لتكذيب الإمام مالك لـمحمد بن إسحاق، صار يكذبه ويحكم عليه بكلام فيه قسوة، من أجل أنه يعتبر كلامه طعناً في النسب عندما اعتبره من الموالي والأرقاء، وليس بينه وبين تيم من قريش محالفة على النصرة والمعاهدة، إنما يقول: هؤلاء كانوا أرقاء عند هؤلاء، فطعن فيه، ووصل الأمر بسيدنا مالك أن قال في محمد بن إسحاق: لا تنصتوا له، ولا تُصغوا إليه، ولا تسمعوا له، إنه دجال من الدجاجلة! وهو إمام مبارك رضي الله عنه وأرضاه، لكن غضب البشر وزلل البشر، يغفر الله للإمام مالك وللإمام محمد بن إسحاق ولأئمتنا أجمعين.

ومحمد بن إسحاق ما قصر، لكن محمد بن إسحاق كما قال أئمتنا نزَّل من منزلته عندما تكلم على سيدنا الإمام مالك، وأما كلام الإمام مالك فما نزل من منزلته، إنما نزل من منزلة محمد بن إسحاق، بقى الإمام مالك مكانه، قال أئمتنا: هذا زلل، لكن محمد بن إسحاق كان ينبغي أن يقف عند حده، فهو دون الإمام مالك، وحتى لو قال فيه ما قال، كان الأولى أن يقول: أنت سيدنا وعالمنا، ولك علينا ذلك، كيف تقول: إني دجال من الدجاجلة! أما أن يقول: ائتوني بكتب الإمام مالك، وبما يحدثكم به مالك، فأنا بيطاره! هذا كلام لا ينبغي، يقول: ما يقوله الإمام مالك اعرضوه علي، فأنا البيطار، والبيطار هو الذي يتعهد الدواب ويروضها، ويقوم على ترويضها، هذا في الحقيقة غلط شنيع من محمد بن إسحاق، لكن هذا هو الضعف البشري، يغفر الله لنا ولهم أجمعين.

قال الخطيب البغدادي كما في السير في الجزء السابع صفحة ثمان وثلاثين: عاب جماعة من أهل العلم في زمان الإمام مالك، عابوا على الإمام مالك إطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والثقة والأمانة. قال الذهبي معلقاً على كلام الخطيب: كلا ما عابهم إلا لأنهم عنده بخلاف ذلك، وهو مثاب على ذلك، وإن أخطأ في اجتهاده. يعني وإن أخطأ في الكلام وقسا فهو مثاب، اجتهد وأخطأ، لكنه عابهم بما فيهم على حسب ظنه، ظن أن فيهم هذه الخصلة فتكلم بما تكلم فيهم.

وتقدم معنا أن هشام بن عروة أيضاً طعن في محمد بن إسحاق، وهذا ما اعتمده الإمام مالك في الطعن، وهو يقول ويحدث عن فاطمة بنت المنذر، زوجة هشام بن عروة، فأخذته الغيرة وقال: كيف؟ من أين اجتمع بزوجتي؟! هذا كذاب يكذب، ما روى عن فاطمة بنت المنذر، فالإمام مالك ضم هذا إلى ما عنده وهو أنه يطعن في نسبه فيعتبره من الموالي، فقال: هذا دجال من الدجاجلة! يغفر الله لنا ولهم، هو مخطئ، لكنه مثاب ومعذور، ورحمة الله واسعة، وتقدم معنا قول الذهبي: ما ادعى محمد بن إسحاق أنه رأى فاطمة بنت المنذر، فـهشام بن عروة بار في يمينه أن محمد بن إسحاق ما رأى زوجته، ومحمد بن إسحاق صادق في الرواية عنها، فليس من شروط الرواية أن يراها، ولا أن يخلو بها، ولا أن يمسها، يقال: سمعنا من عدة نسوة وما رأينا واحدة منهن، وهكذا كان التابعون والصحابة المباركون يروون عن أمنا زوجة نبينا الميمون على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وما رأوا صورتها، لكن كما قلت حصل ما حصل، وهو ضعف بشري، ووقع هذا الزلل، فاطرحه واستغفر الله للطرفين.

تعليق الإمام الذهبي على ما جرى بين الإمامين مالك وابن إسحاق

وقد علق الذهبي في الجزء السابع صفحة أربعين في ترجمة سيدنا محمد بن إسحاق، على هذا الكلام الذي جرى، فقال: قلت: لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط….. ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة -يعني غضب وانفعال، وأنه يضمر له شيئاً من النفرة والبغض- وقد عُلم أن كثيراً من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به، لا سيما إذا وثَّق الرجلَ جماعةٌ يلوح على قولهم الإنصاف. فهذان الرجلان سيدنا مالك وسيدنا محمد بن إسحاق، ومحمد بن إسحاق روى له البخاري تعليقاً ومسلم في صحيحه، لكن مقرونة، وأهل السنن الأربعة، وتُوفي في السنة التي تُوفي فيها سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنهم وأرضاهم، سنة خمسين ومائة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن رضي الله عنه وأرضاه.

يقول: وهذان الرجلان كل منهما قد نال من صاحبه -هذا يقول: أنا بيطاره، وذاك يقول: دجال من الدجاجلة- لكن أثَّر كلام مالك في محمد بعض اللين، محمد بن إسحاق أثر فيه كلام مالك، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة، كلام محمد بن إسحاق ما أثر في الإمام مالك ولا ذرة، كلام المفضول دائماً فضول يطرح، وكلام الفاضل يؤثر حقيقة، وارتفع مالك وصار كالنجم، والآخر له ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه فإنه يعد منكراً، هذا الذي عندي في حاله والله أعلم، وهذا هو الذي عليه أئمتنا رضي الله عنهم وأرضاهم.

إخوتي الكرام! مثل هذا يقع بين البشر، ونحن نعيش في دنيا، والدنيا فيها ما فيها، وإذا وقف الإنسان على شيء من ذلك فليعلم الضعف البشري والقصور الإنساني، يستغفر للقائل وانتهى الأمر، وما يسلم أحد من غضب وهفوة وزلة، وهذا حال البشر، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، ورحمة الله واسعة، ونسأل الله أن يرحمهم بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! إذاً: للإمام مالك صلة بتيم من قريش، صلة حلف لا صلة ولاء، فليس هو ولا أحد من أصوله كانوا أرقاء وحُرروا من قِبل تيم من قريش رضي الله عن المسلمين أجمعين.

مولد الإمام مالك وطلبه للعلم

هذا الإمام المبارك إخوتي الكرم وُلد سنة ثلاث وتسعين، وتُوفي سنة تسع وسبعين ومائة، فقد عاش ستاً وثمانين سنة، وتقدم معنا أن أبا حنيفة عاش سبعين سنة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا زاد عليه بست عشرة سنة في الحياة، عليهم جميعاً رضوان رب الأرض والسماوات.

إخوتي الكرام! طلب سيدنا الإمام مالك العلم وهو صغير، وكان عمره بضع عشرة سنة، فوق العشر ودون العشرين، وما جرى عليه قلم التكليف بعد، وتأهل للفُتيا، وجلس للإفادة وله عشرون سنة، صار يفتي وعمره عشرون سنة، وحدَّث عنه جماعة وهو شاب طرير، وقصده الناس من سائر البلدان، ولا زال في ريعان الشباب رضي الله عنه وأرضاه، قال الإمام ابن عبد البر في الانتقاء صفحة خمس عشرة: الذين روَوا عن الإمام مالك أكثر من أن يحصروا، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد جمع الإمام الدارقطني جزءاً في الرواة عن مالك فبلغوا قرابة الألف ممن رووا عن الإمام مالك الفقه والحديث، كالموطأ وغيره رضي الله عنهم وأرضاهم.

قوة حفظ الإمام مالك رحمه الله

إخوتي الكرام! كان لهذا الإمام الهمام حفظ عجيب كما أشرت إلى شيء من ذلك في الموعظة الماضية، يذكر الإمام ابن عبد البر في الانتقاء، والأثر في ترتيب المدارك للقاضي عياض، وهو في السير وفي غير ذلك، عن سيدنا الإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم، قال: قدم علينا الإمام الزهري محمد بن شهاب أمير المؤمنين في الحديث، فحدثنا بضعة وأربعين حديثاً في مجلس واحد، فلما كان الغد وجئنا إليه، قال: انظروا كتاباً تقرءون منه، من أجل أن تضبطوا شيئاً مكتوباً من الأحاديث تقرءونه علي، من أجل أن تضبطوا، فحدثتكم البارحة بأحاديث ما ضبطتموها، وتضيع منكم، فلو أن الكتاب بين أيديكم ترجعون إليه، فقال له ربيعة: عندنا من يعيد لك الأحاديث التي حدثتنا بها، قال: من هو؟ فقام الإمام مالك رضي الله عنه وسرد له الأحاديث التي حدث بها في الأمس، فتعجب الزهري رضي الله عنهم وأرضاهم وقال: ما كنت أظن أن أحداً يحفظ حفظي! يعني في هذا الوقت يوجد واحد مثلي، ما كنت أظن هذا، فأنت تحدث وهذا يضبط، ونحن إذا تفلت منا شيء بعد ذلك فنحن طلبة يعاون بعضنا بعضاً، نستحضر من هذا الذي يسجل ما تقول، فحدث ولا تخف، لا داعي للكتابة، عندنا آلة تسجيل تضبط ما تقول، وهو الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه.

قال الإمام مالك: لقيت مرة محمد بن شهاب الزهري رضي الله عنه وأرضاه وهو راكب على بغلته، فأخذت بلجام البغلة، فحدثني حديثاً طويلاً -وأخشى أن يكون حديث أم زرع الذي يأخذ ثلاث صفحات، وفيه عجائب وغرائب- قال: فتفلت علي منه بعض كلمات، قلت: أعده علي يا إمام! فأبى، فقلت: أما كنت تحب أن يعيد عليك الشيوخ إذا توقفت في كلمات، يعني كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، فهذا الحديث الطويل وأنا واقف وأنت راكب على البغلة، وفي الطريق وحدثتني بحديث صفحات، بعض كلمات ما ضبطها، أعد علي الحديث مرة ثانية وأُسمعك إياه كما حدثتني، قال: فأبى، قلت: أما كنت تحب أن يعاد عليك الحديث؟ قال: بلى، قال: فأعاد علي الحديث فأسمعته إياه ففرح، رضي الله عنهم وأرضاهم، هذا حفظ عجيب -إخوتي الكرام- كان عند هذا الإمام المبارك سيدنا الإمام مالك، هذا أمر ما يتعلق بنسب الإمام مالك وولادته وشيء من طلبه للعلم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

أنتقل إلى الإمام الثاني المبارك سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه.

الإمام مالك هو إمام دار الهجرة، وهو الإمام الثاني من الأئمة الأربعة حسب الترتيب الزمني، وتقدم معنا أن الإمام ابن عبد البر في الانتقاء قدم الإمام مالكاً، وثنى بـالشافعي، وثلث بسيدنا أبي حنيفة، وقلت: لا غضاضة عليه في ذلك، فهو إمام مذهبه، والإمام ابن عبد البر في التمهيد وفي الاستذكار يقول: ينبغي لطالب العلم أن يحرص على العلم الذي يفشو في بلده، والمذهب الذي يفشو في بلده فيحرص عليه، يقول: هذا ليس بمنقصة ولا عار، فلا يخرج عن المألوف المعروف مما هو شرعي.

فمذهب الإمام مالك ينتشر في بلاد المغرب، وهو مذهب شرعي معتبر، فلا ينبغي لطالب العلم هناك أن يقول: أنا سأبحث في مذهب أبي حنيفة وأنشر مذهب أبي حنيفة! هذا ليس من الحكمة، وسيقع تشويش بينه وبين العامة الذين يدينون الله بها المذهب الذي أصوله وفروعه شرعية، فيقول: هذا ليس بعار، مما يطلب من طالب العلم أن يعتني بالعلم الذي عليه شيوخه، والذي هو في المكان الذي هو فيه، ما يفشو من العلم يتعلمه.

إذاً: قدم الإمام مالكاً لأنه إمام مذهبه، وثنى بالإمام الشافعي تلميذ ذلك الإمام، وثلث بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه من أئمة الإسلام الكرام، فأورد هؤلاء الأئمة الثلاثة في الانتقاء، هذا وجه للتقديم، وهناك وجه آخر:

وهو أنه جرت عادة أئمتنا إذا ذُكر عدد من أئمة الإسلام من بقاع مختلفة، أنهم يقدمون العالم الذي هو من المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، إجلالاً لنبينا عليه الصلاة والسلام كيفما كان حال هذا العالم، سواء تقدم في السن أو تأخر، تقدم في الرتبة أو تأخر، وهذا ما فعله الإمام الشاطبي في الشاطبية حينما قدم نافعاً المدني، مع أن عبد الله بن عامر إمام أهل الشام أكبر منه سناً، وهو من التابعين الكرام، وهو شيخ نافع ، فكان الأولى أن يتقدم عليه؛ بل ينبغي أن يتقدم القراء السبعة، فهو أقدمهم سناً، لكن بدأ بـنافع وثنى بـابن كثير؛ لأن هذا مدني، وذاك مكي، كما قال:

فأما الكريم السر في الطيب نافع فذاك الذي اختار المدينة منزلا

فبدأ به إجلالاً لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فمن هو من علماء المدينة يقدم، وهذا ما فعله أيضاً الإمام ابن عبد البر بهذا الملحظ، فعالم المدينة يقدم، ويليه عالم مكة الذي هو يمني مكي سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، فثنى به كما فعل الإمام الشاطبي تماماً، ثم بعد ذلك ختم بسيدنا أبي حنيفة، هذا أيضاً توجيه سديد رشيد، اعتنى به الإمام ابن عبد البر ، مع تقديمه لإمام مذهبه، فلا حرج ولا غضاضة.

وتقدم معنا ثناؤه على سيدنا أبي حنيفة واعترافه بقدره ومرتبته، ورده على لغط اللاغطين، وتشويش المشوشين، وهو الإمام المالكي المذهب كما تقدم معنا، فهذه هي الديانة، وهذا هو الدين رضي الله عنهم أجمعين.