أرشيف المقالات

محاورات أفلاطون

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الحوار الثالث فيدون أو خلود الروح ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود قال: الحكاية يا صديقي هي كما يأتي: فأولاً إذا نظرت إلى الأرض من أعلى رايتها تشبه إحدى هذه الكور التي تكسوها أغشية من الجلد في اثنتي عشر قطعة، وهي مختلفة الألوان، فليس ما يصوره المصورون في هذه الدنيا من الألوان إلا مثال منها، أما هنالك فالأرض كلها مصبوغة بها، وهي اشد لمعاناً ونصاعة من ألواننا، فثم أرجواني عجيب الرونق، وثم ذهب يتألق، والأبيض في أرضها انصح من كل ثلج أو طباشير.
تلك الأرض مصبوغة بهذه الألوان وغيرها، وهي اكثر عدداً وأروع جمالاً مما وقعت عليه عين الإنسان، والفجوات نفسها (التي كنت أتحدث عنها) يغمرها الهواء والماء، فتراها كالضوء الوامض بين سائر الألوان، ولها لون خاص بها يخلع على تباين ما في الأرض نوعا من التآلف، وكل شيء مما ينمو في هذه المنطقة الجميلة - أشجار وأزهار وفاكهة - اجمل - بنفس الدرجة - من إضرابه هنا؛ وثم تلال، صخورها اشد صقلاً، واكثر شفافية، واجمل لوناً - بنفس الدرجة - مما نغلو بقدره عندنا من زمرد وعقيق ويصب وسائر الجواهر التي أن هي إلا نثرات منها ضئيلة، فالأحجار كلها هنالك كأحجارنا الكريمة، بل أروع منها جمالاً؛ وعلة ذلك إنها نقية، وإنها لم تفسدها ولم تبرها العناصر الملحة الفاسدة، كما فعلت بأحجارنا الكريمة، تلك العناصر التي خثرت عندنا فتولد منها الدنس والمرض في التراب وفي الصخور على السواء، كما تولدا في الحيوان والنبات، تلك هي جواهر الأرض العليا، وفيها كذلك يسطع الذهب والفضة وما اليهما، وليست تلك الجواهر بخافية عن العين وهي كبيرة وكثيرة، وتوجد في مناطق الأرض جميعاً، فطوبى لمن يراها.
ويعيش فوق الأرض ناس وحيوان، منهم من يستوطن إقليما داخلياً، ومنهم من يسكن حول الهواء، كما نسكن نحن حول البحر، ومنهم من يعيش في بلد يتاخم القارة، ويهب حوله الهواء.
وجملة الأقول انهم يستخدمون الهواء كما نستخدم نحن الماء والبحر، وللأثير عندهم ما للهواء عندنا؛ هذ وحرارة فصولهم هي بحيث لا يعرفون معها مرضاً، فيعمرون أطول بكثير مما نعمر نحن، ولهم بصر وسمع وشم، وسائر الحواس كلها، وهي ابعد كمالاً من حواسنا بنفس الدرجة التي بها الهواء أنقى من الماء، أو الأثير أصفى من الهواء.
كذلك لهم معابد وأماكن مقدسة فيها يقيم الإلهة حقاً، فهم يسمعون أصواتهم ويتلقون إجاباتهم، وهو يشعرون بهم ويديرون بينهم وبين أنفسهم أطراف الحديث، وهم يرون الشمس والقمر والنجوم كما هي في حقيقة امرها، وعلى هذا النحو كل ما هم فيه من أسباب النعيم تلك هي طبيعة الأرض كلها، وما حول الأرض من أشياء وفي الفجوات التي على ظهر الأرض أصقاع متباينة، بعضها اعمق وأوسع من فجوتنا التي نقيم فيها، وأخرى اعمق وأضيق فوهة منها، وبعضا أوسع واقل عمقاً، وتربطها جميعاً بعضها ببعض ثقوب عدة وممرات عريضة وضيقة في باطن الأرض.
وهنالك يتدفق فيها ومنها - كما يتدفق في الأحواض - تيار عظيم من الماء، وثم مجار ضخمة لانهار تحت الأرض لا ينقطع جريانها، وينابيع حارة وباردة، ونار عظيمة، وانهار كبيرة من النار، ومجار من طين سائل، منها الرفيع والسميك (كأنهار الطين في صقلية وما يتبعها من مجاري الحمم) فتغمر المناطق التي تتدفق حولها.
وهنالك في باطن الأرض نوع من الذبذبة يحرك هذا كله إلى أعلى والى اسفل، والحركة الآن في هذا الاتجاه: وبين الفجوات هوة هي أوسعها جميعا، تنفذ خلال الأرض كلها، وهي التي وصفها هوميروس بهذه الكلمات: (أن أغور تحت الأرض جد سحيق) وقد أطلق عليها في مواضع أخرى اسم جهنم، وكذلك فعل كثير غيره من الشعراء.
وسبب الذبذبة هو تلك الأنهر التي تتدفق في هذه الهوة ومنها، ولكل منها طبيعة التربة التي تجري فيها، وإنما كانت تلك الأنهار دائمة التدفق دخولاً في الهوة وخروجاً منها لان عنصر الماء ليس له قاع ولا مستقر، وهو يعج ويهتز صعوداً وهبوطاً، وهكذا تفعل الريح والهواء المحيطان به، إذ هما يتبعان الماء في صعوده وهبوطه وفي اندفاعاته فوق الأرض هنا وهناك، مثل ذلك مثل الشهيق والزفير لا ينقطعان حين نتنفس الهواء، وباهتزاز الهواء تبعاً للماء دخولاً وخروجاً نشأت عنها العواصف المروعة القاصفة: فإذا ما تراجعت المياه مندفعة إلى الأجزاء السفلى من الأرض - كما تسمى - انسكبت في تلك المناطق خلال الأرض وغمرتها، كما يحدث إذا تحركت مضخة الماء الحركة الثانية، فإذا ما خلفت تلك المناطق وراءها وكرت إلى هنا مندفعة، فأنها تملأ ما هنا من فجوات مرة أخرى، حتى إذا امتلأت هذه، فاضت تحت الأرض في قنوات لتلتمس سبيلها إلى أمكنتها العديدة؛ فتكون بذلك البحار والبحيرات والأنهار والينابيع، ومن ثم تفور في الأرض ثانية، فيدور بعضها دورة طويلة في أراض فسيحة، ويذهب بعضها إلى أمكنة قليلة وإلى المواضع القريبة، ثم تهبط مرة أخرى إلى جهنم، فيبلغ بعضها حداً دون ما كان ارتفع إليه بمقدار كبير، ولا يهبط بعضها الأخر دون ذلك الحد هبوطاً كثيراً، لكنها جميعاً تكون أوطأ من نقطة الانبثاق إلى حد ما، ثم ينهمر بعضها ثانياً في الجانب المقابل، وينهمر بعضها الأخر في الجانب نفسه، ويدور بعضه حول الأرض في ثنية واحدة أو في عدة ثنايا تشبه حنايا الثعبان، وتنزل ما استطاعت النزول، ولكنها دائماً تعود فتصب في البحيرة، إما الأنهار التي على كلا الجانبين فلا تستطيع النزول إلى ابعد من المركز، لان في الجانب المقابل لهذه الأنهار هاوية (يتبع) زكي نجيب محمود

شارك الخبر

المرئيات-١