الإخلاد
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
الإخلاد عالِم متعبد مُتبتِّل، مُنقطِع عن الدنيا، مُقبلٌ على الآخرة، نافرٌ مما يرتكبه قومُه من الفسوق والعصيان، مُستجاب الدعوة، عرِفه الناس بذلك، فكان مَقصِدهم ليدعو لهم، ويستغفر لهم، وهم يزدادون به تعلقًا وتعظيمًا لما يرونه من أثر دعائه، قومه جبارون متجبرون، ظالمون متسلطون، بسطوا سيطرتهم على أراض شاسعة، وأخضعوا أُمَمًا كثيرة.
تدور الدوائر ويُسلَّط عليهم مَن هو أقوى، وحين أدركوا أنْ لا قبل لهم بموسى عليه الصلاة والسلام وجيشه، هُرعوا إلى عالمهم العابد يطلبون منه الدعاء بالنصر، فتأبَّى عليهم، وشدَّد الرفض، فكتاب الله في صدره، ونور العلم في قلبه!
كيف يعرض عن الحق ويقف مع الباطل، وأي حجة سيقف بها أمام الله!
أيِسَ منه الكُبراء والوجهاء، فأرسلوا النساء والأطفال والضعفاء يستصرِخونه، وعيونهم بالاستعطاف ترمقه، فاضت العيون وبُحَّت الحناجر، وما زالوا به حتى لان قلبُه لدعواهم، مع يقينه بباطلهم.
لم يضعف أمام كأس وغانية، ولا أمام مال وسلطة، الدنيا كلها بِبَهْرَجها لم تكن له فاتنة، ولكنه أوتي من قبل حميته لقومه،فتنكب للحق! وهوت به معصيته إلى وادٍ سحيق!
أخلد إلى الأرض، واتَّبع سبيل غير المؤمنين، فأصبح علمه هباء، وأثر عبادته سرابًا! خسر الدنيا والآخرة، وصار كالذين يخربون بيوتهم بأيديهم، ويطفئون أنوارهم بأنفسهم! وكما يسلخ جلد الحيوان ويفصل عن جسده، فيتشَوَّه شكلُه، فقد انسلخ عن العلِم الذي كان مُتَلَبسًا به، وترك العمل بما يقتضيه، فَتَشَوَّه إيمانُه، وسيطرت عليه ظلمة شيطانية، جعلته من الغواة المُغوين، ومن الضالين المُضلِّين، أخرجته من علو الدين إلى سفلِ الدنيا، ومن الارتقاء الروحاني إلى الهبوط الأرضي، ولو شاء الله لرفعه بما عنده من علم، ولكنه قدم هواه على طاعة مولاه، ولما اختار الهوان أهانه الله.
وكما أن الكلب لاهث على كل حال، رابضًا أو عاديًا في حال عطشه ورِيِّه، فقد صيَّر الله هذا وأمثاله لاهثين خلف الدنيا، مُنقطعين إليها بالمعاصي، منها لا يرتوون، وبنصيحة الناصح لا ينتفعون، لا ينزجرون إن زجروا، ولا يهتدون إن تركوا! ومن كان معرضًا عن آيات الله فهذا حاله، لاهث على كل حال، إن وعظ ضل وإن ترك ضل.
الإخلاد إلى الأرض ليس مجرد اقتراف للمعاصي، بل هو الركون إلى السفل، والتلبس بالرذائل، مستمرًّا ماكثًا مداومًا على ذلك.
والإخلاد درجات أعظمها الإخلاد الكامل، وهو الخروج من ربقة الدين بالكلية، كما هو حال صاحب القصة الذي نزلت فيه الآيات الكريمات، ومن الإخلاد ما هو دون ذلك، بحيث يتنازع العبد طرفان، طرف روحاني يرفعه للعلو، وطرف أرضي يجذبه للسفل، فبعض الناس مع بقاء أصل الدين عنده إلا أنه:
أخلد إلى الأرض فابتغى المال بالكسب الحرام مرابيًا أو راشيًا مرتشيًا! أخلد إلى الأرض فراح يبتغي معصية الله برزق الله من صحة ومال، متنقلًا بين مواخير الدعارة، وأحضان المومسات، قارعًا كؤوس الخمر! أخلد إلى الأرض من أجل التنافس في عمل أو شرفٍ، فلا يجد حرجًا من الغدر والنميمة والكذب والبهتان في سبيل تفرُّده والتفوق على غيره! أخلدت إلى الأرض ساعية للشهرة، متنازلة عن دينها بقدر ما يزيد من متابعيها، مستدعية نظرات يمقتها الله!
أخلدت إلى الأرض متخليةً عن مبادئها وحشمتها لنيل وظيفة أو ترقية، وما زالت في منحدر التنازلات التي لم تكن تتخيل يومًا أن تصل إليها! أخلدت إلى الأرض متجهة إلى السحرة لتقرب حبيبًا أو تضر بغيضًا! ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾[الأعراف: 175 - 177].