شرح اعتقاد أهل السنة [15]


الحلقة مفرغة

في الدنيا سحر وسحرة، والسحرة محكوم بكفرهم، ومن اعتقد أن السحر يكون بغير قدرة الله أو بغير إذنه فقد كفر.

وسبب ذكر السحر في هذه العقيدة أن المعتزلة أنكروا وجوده إنكاراً عجيباً وعناداً منهم، وإلا فإنه مشاهد وجود السحرة ووجود أعمالهم السحرية، ولذلك فأهل السنة يقرون بوجود السحر، ويقولون: إنه لا يكون إلا بإذن الله الكوني القدري.

وقد دل على وجوده وتأثيره الكتاب والسنة، فقد ذكر الله تعالى ما يحصل من الشياطين وتعليمهم السحر في قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، فلا شك أن هذه الآية صريحة في أن هناك سحراً، وأنه يؤثر ويضر، وأن منه ما يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، ولكن الجميع بإذن الله تعالى الكوني القدري لا الشرعي الديني.

فإن الله تعالى حرم الإضرار بالمسلمين ديناً وشرعاً، ولكن أعطى هؤلاء السحرة قدرة خاضعة لقدرته تعالى يؤثرون بها في هؤلاء المسحورين، فمن السحر ما يحصل به الموت، ومنه ما يمرض، أو يحصل به الانصراف الكلي عن الزوجة أو الأهل أو المال أو ما أشبه ذلك.

ومن الأدلة أيضاً أمر الله تعالى بالاستعاذة من السحرة في قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وهن السواحر، فلولا أن لهن شراً يضر ويؤثر لما أمر بالاستعاذة من شرهن.

والذين قالوا: إنه ليس له حقيقة استدلوا بما حكى الله تعالى عن سحرة فرعون قال تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:66-69].

ذكروا أن السحر كان منتشراً وفاشياً في عهد فرعون، وأن هناك سحرة مشهورين بتعلم السحر، فلما أخبرهم فرعون بأن موسى قلب عصاه حية تسعى عند ذلك جاؤوا بحبال وبعصي فألقوها في الوادي، وإذا بالوادي كله كأنه حيات تضطرب وتسعى، فعند ذلك أوجس في نفسه خيفة موسى، فذكر العلماء أن هذا خيال، ولذلك قال: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ)، يعني: ليس له حقيقة وإنما هو خيال. وذلك لأن السحرة قد يلبسون على أعين الناظرين فيوهمونهم بما لا حقيقة له، ويخيلون إليهم أشياء يعتقدون أنها حقيقة وهي خيالات، هذا معنى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66].

وعلى كل حال فالوجود ظاهر في أن السحر له حقيقة.

أدلة وجود السحر حقيقة

من الأدلة ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة : (حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله). وفي رواية: (أنه يأتي النساء وما يأتيهن).

وهذا العمل الذي عمله هذا اليهودي الذي يقال له: لبيد بن الأعصم لم يكن في جسم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عقله؛ فإن الله تعالى قد عصمه وحفظه، ولكنه فيما يتعلق بالنساء، عمل عملاً كأنه صار حائلاً بين المرء وبين نسائه بأن يخيل إليه أنه يأتيهن وما يأتيهن، أو حال بينه وبين القدرة الجنسية، والله أعلم.

فالحاصل أن هذا مما أثر فيه هذا السحر، فلما دله الله تعالى على موضع ذلك السحر وأخرجه بطل عمله وقام كأنما نشط من عقال، وقال: (إن الله تعالى قد شفاني)، فلذلك استدل به على أنه قدر يؤثر في هذا النوع، وهذا أيضاً مشاهد أن السحرة يعملون من السحر ما يبطلون به شهوة الرجل حتى لا يستطيع أن يأتي امرأته، وإذا قرب منها بطلت شهوته.

ومن ذلك أيضاً الحديث الذي أورده ابن كثير ورواه ابن جرير عن عائشة أن امرأة جاءتها بعدما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت لها أن زوجها غاب عنها، فجاءتها عجوز فقالت لها: أتحبين أن يرجع زوجكِ؟ قالت: نعم. تقول: فجاءتني بالليل وأركبتني، وركبت وإياها على كلبين أسودين، فلم يكن إلا قليل حتى كنا ببابل، فأتينا إلى إنسانين في ذلك المكان، وقلت: إني أريد أن أتعلم السحر. فقالا: إنما نحن فتنه فلا تكفري. فقلت: إني أريد أن أتعلم. فقال لها: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. تقول: ففعلت. فخرج منها شيء أسود فصعد في السماء، فقالوا: صدقتِ، هذا هو الإيمان خرج منكِ. ثم إنهم علموها.

تقول: فأعطتني حباً أو قمحاً فقالت: ابذريه في الأرض. فقلت: انبت فنبت، فقلت: انضج. فنضج، فقلت: انطحن فانطحن. فلما رأيت أني لا آمر بشيء إلا حصل سقط في يدي. فهذه المرأة تعلمت من هذين هذا الأمر، وهو أنها لا تأمر بشيء إلا حصل، وهذا نوع مما يدل على أن للسحر حقيقة.

وأما وقائع الناس فهي شيء كثير وهو أمر مشاهد.

كيفية قلب الساحر للحقائق

إذا قلت: كيف يتمكن الساحر -وهو إنسان بشر مثلنا- من أن يقلب الإنسان إلى فرس -مثلاً- أو قط. أو وعل؟! أو كيف يقلب قلبه من مستقيم إلى منحرف؟! أو كيف يؤلف بين الاثنين أو يفرق بينهما ويوقع بينهما هذه الوحشة مع كونهما متحابين أو نحو ذلك؟ فكيف يتمكن الإنسان من هذا العمل الذي فيه قلب للحقائق وتغيير لها؟!

أجاب العلماء بأن الإنسان لا يفعل شيئاً، ولا يقدر على فعل شيء يخالف الطبائع الأصلية، وإنما تفعل ذلك الشياطين، ذلك لأن الشيطان له قدرة على ملابسة الإنسان ومماسته، وكذلك الساحر قد يكون عنده قدرة على تسخير قوم من الجن ثم تسليطهم على من يريد، فإذا سلط هذا الجني الذي هو من جنوده على فلان لابسه ذلك الجني أو ذلك الشيطان، فإذا لابسه فإنه قد يغير هيكله ويقلب صورته، وقد يحوله إلى حيوان بهيم كما يذكر ذلك في الحكايات ونحوها، يذكر أن ساحراً أو ساحرةً قلبت إنساناً إلى حصان أو فرس، وأن ساحراً قلب إنساناً إلى وعل له قرون، والحكايات في ذلك مشاهدة وكثيرة.

فالشيطان هو الذي يلابس ذلك الإنسان الذي عمل له، فيستطيع بإذن الله أن يغير هيكله، وأن يقلب صورته ومودته، ويغير محبته إلى بغض أو بغضه إلى محبة، أو ما أشبه ذلك، فهذا من الشيطان لا من ذلك الإنسان الذي هو الساحر؛ فإنه ليس عنده هذه القدرة ولا هذا التمكن، فهذا حقيقة السحر، أنه ليس بفعل الإنسان ولكن بفعل الشياطين الذين يسخرهم ذلك الساحر.

كفر الساحر

قال المصنف رحمه الله: [السحر واستعماله كفر من فاعله] أي أن الساحر كافر.

والدليل على ذلك قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، وذلك لأن اليهود اتهموا سليمان عليه السلام بأنه ساحر، فقالوا: كيف يركب على الريح؟! وكيف تحمله الريح وهو على بساطه فيسير مسيرة شهر في نصف يوم؟ كما قال الله تعالى: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12]، فقالوا: هذا دليل على أنه ساحر، وكيف سخرت له الشياطين وسخرت له الجن؟ كما أخبر الله في قوله تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:37-38]، قالوا: فلابد أنه ساحر. فنزهه الله وبين أنه نبي، ولكن هذه كرامة ومعجزة حيث سخر له الريح وسخر له الشياطين.

(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)، الشياطين الذين يعلمون الناس السحر كفروا، وهذا دليل على أن من تعلم منهم فإنه تعلم الكفر، ومن الأدلة على كفره أيضاً في نفس الآية قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)، فإذاً كانوا يقولون له: (فَلا تَكْفُرْ)، أي: فلا تتعلم السحر فإن ذلك كفر، فهذا هو وجه الدلالة.

ومعلوم أن هذا الساحر الذي يتعلم السحر وتخدمه هذه الشياطين لا تخدمه إلا بعدما يخدمها، فالساحر يخدم الشياطين ويخدم مردة الجن، فلأجل ذلك يصيرون طوع إشارته ويصيرون تحت إمرته، فيلابسون من يريد ملابستهم، ويضرون من يريد إضرارهم، فهو يخدمهم ويعبدهم، ولا يطيعونه لأول مرة، بل لابد أنهم يطلبون منه أن يتقرب إليهم، فكثيراً ما يذكر أنهم يذبحون للجن أو للشياطين من دون الله، ويرضون منه أن يذبح لهم -مثلاً- ولو عصفوراً أو دجاجةً أو نحو ذلك باسم الشيطان الفلاني أو نحوه، وربما يدعو الشيطان ويسجد له في حالة كفره وندائه له من دون الله، والنداء لا شك أنه شرك وكفر، فإذا ناداه ودعاه واستجاب له ولبى طلبه عند ذلك يسجد له من دون الله تعالى، فيكون أشرك بدعائه مع الله، وأشرك بالسجود له، وأشرك بالذبح له من دون الله تعالى، وهكذا أيضاً قد يحملونه على أن يترك العبادات حتى يكون من أوليائهم، فيترك الصلوات والنفقات الواجبة عليه والصوم، ويأكل في رمضان أو ما أشبه ذلك، كل ذلك ليتحقق أنه أطاعهم طوعاً ظاهراً.

ومعروف أيضاً أن الشياطين يألفون النجاسات والقذارات وما أشبهها، فلذلك يطلبون منه إذا أراد أن يستخدمهم أن يستعمل النجاسات، فربما يلطخ بدنه بالدماء أو بالأبوال أو بالعذرة أو ما أشبه ذلك، ولأجل ذلك أمر الإنسان إذا دخل الخلاء أن يستعيذ بالله من شرورهم ويقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث) أي: ذكران الشياطين وإناثهم. وأمر النبي عليه السلام بالتستر إذا دخل الإنسان الخلاء، قال: (إن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم)، وأخبر: (إن هذه الحشوش محتضرة) يعني الأماكن التي يتخلى فيها.

فإذا خدمهم هذا الخادم وهو الساحر بأن تلبس بهذه النجاسات وتلطخ بها عند ذلك عرفوا أنه صار طوع إشارتهم فأصبح خادماً لهم وأصبحوا خداماً له مسخرين، ولا يستطيعون حينها أن يتخلوا عن أمر يشير به إليهم، ويستطيع أنه يسخر -مثلاً- مائة عفريت أو مئات من العفاريت والجن، فيقول: يا هذا! تسلط على فلان أو على فلانة، لابس فلاناً. فإذا لابسه، فقدر أنه مات سلط آخر وقال: اذهب فحل محله. ونحو ذلك، فما خدموه إلا لأنه خدمهم، ولأنه كفر بالله وآمن بهم، ولأجل ذلك نعتقد أنه كافر.

عقوبة الساحر

اتفق جمهور العلماء على أنه يقتل، واستدلوا بالحديث الذي في السنن عن جندب الخير بلفظ (حد الساحر ضربة بالسيف -وفي رواية: ضربه بالسيف-)، وقالوا في سبب روايته: إن جندباً دخل على بعض الأمراء في عهد بني أمية وإذا عنده ساحر، وإذا ذلك الساحر يفعل أشياء مستغربة، حتى إنه يمسك رجلاً فيقطع رأسه فيبقى رأسه في يده، ثم بعد ذلك يرده مكانه وهم ينظرون، فيقولون: سبحان الله! يحيي الموتى، ويميت فيحيي. فعند ذلك في اليوم الثاني اشتمل جندب على سيف، واستعاذ بالله من الشيطان، وقرأ بعض الآيات، فلما قرب من الساحر ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال: أحيِ نفسك -يعني: إن كنت صادقاً-. ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حد الساحر ضربه بالسيف)؛ فإذا حكمنا بأنه كافر فإنه يقتل.

وكذلك ما روي عن عمر ، ففي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة أنه قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه أن: (اقتلوا كل ساحر وساحرة)، قال: فقتلنا ثلاث سواحر. فهذا أمر من عمر -وهو أحد الخلفاء الراشدين- بقتل السحرة، وكذلك ذكروا أن حفصة بنت عمر -وهي إحدى أمهات المؤمنين- كان لها جارية، وكانت قد دبرتها -أي: أعتقتها عن دبر، فعند ذلك عملت تلك الجارية لها سحراً، ثم اعترفت، فقالت لها: لماذا؟ قالت: أردت أن تموتي حتى أعتق. فأمرت بها أن تقتل لما أنها اعترفت بذلك، والوقائع في ذلك كثيرة تدل على أن هذا حده.

أما الإمام الشافعي فلم ير أنه يقتل ولا أنه يكفر، ولكنه يقول: نأتي بالساحر ونقول له: صف لنا سحرك، فإذا وصفه بشيء فيه كفر أو شرك فإننا عند ذلك نكفره ونقتله، وإن وصفه بشيء دون ذلك فلا، ومعلوم أنه إذا أحضر وهدد بالقتل فسوف ينكر ذلك.

والحاصل أن السحر موجود، وأن السحرة يستخدمون الشياطين، وأن الشياطين لا تخدمهم إلا بعدما يكفرون بالله ويتقربون إليها بما تحبه منهم، وأنهم بذلك يصبحون كفاراً، وأن حد الساحر القتل، وأنه على الصحيح يقتل حداً ولا يستتاب، هذا هو الذي مشى عليه العلماء.

كذلك أيضاً من اعتقد أن السحر يكون بغير إذن الله، وأنه ينفع ويضر بغير إذن الله، والله تعالى يقول: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، وذلك لأنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فالله تعالى هو الذي يسلط هؤلاء ويعطيهم من هذه القوة ما يكون مخالفاً للعادة وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137]، ولكن الله أعطاهم وسلطهم حتى يكون ذلك علامة على أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

علاج السحر

أما علاجه فقد ذكر العلماء أن علاجه الناجح بالإيمان بالله تعالى وبالعمل الصالح، وبالقراءات والأدعية والأوراد ونحوها، ولذلك يقول ابن القيم في كلام له: النشرة التي هي حل السحر عن المسحور نوعان:

حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، فيتقرب الناشر والمنشر إلى الشيطان بما يحبه فيبطل عمله عن المسحور. وهذا لا يجوز. يعني: لا يجوز أن تذهب إلى ساحر وتقول له: حُلَّ السحر عن فلان. سواءٌ أكان هو الذي عمل السحر أم غيره؛ فإن هذا إقرار للسحرة واستخدام لهم، وإذا عرفنا أن حد الساحر القتل فكيف مع ذلك نقره ونقول له: حُلَّ السحر أو حُلَّ سحرك؟! بل إذا عرفنا أنه ساحر فإننا نبادر فنقتله.

إذاً فلا يجوز حل السحر إلا بالرقية وبالقراءة وبالأدعية النافعة وبالأدوية المفيدة وما أشبه ذلك، هذا هو الذي يحل به، ومعلوم أن كثيراً ممن يبتلون ويصابون بهذا العمل الشيطاني يقولون: إننا قرأنا عند فلان وقرأنا عند القراء ولم نر فائدة! فنقول لهم: أتيتم من قبل أنفسكم، فإذا أردت أن تنفعك الرقية فنأمرك أولاً بأن تصحح عقيدتك، وتؤمن إيماناً يقينياً بأركان الإيمان وبأمور الغيب كلها.

ثانياً: لابد أن تحافظ على الأعمال الصالحة وتتقرب إلى الله تعالى بها.

ثالثاً: لابد أن تتنـزه عن المحرمات والشركيات والبدع والمعاصي والملاهي وآلات الشيطان وما يحبه، وتنـزه نفسك ومنزلك عن كل ما يألفه الشيطان ويتشجع به.

رابعاً: لابد أن تعتقد يقيناً أن هذه القراءة النافعة تؤثر، فلا تجعلها كتجربة، لا كما يقول أحدهم: أنا أفعل أو أرقي أو أسترقي تجربة، فإن شفيت وإلا فما ضرت. بل إنها لا تفيد إلا مع اليقين بها، وأن توقن يقيناً كالشمس أنها نافعة وأنها هي الشفاء النافع إذا تمت الشروط.

خامساً: حال الراقي، أن يكون الراقي من أهل الإيمان والتقى والورع، ومن المستقيمين على طاعة الله تعالى، فمثل هؤلاء بإذن الله رقيتهم تفيد، ومن أسباب ذلك أيضاً كون الراقي مقتصراً على الأكل الحلال، ولا يطعم إلا شيئاً حلالاً ليس فيه شبهة، وقد تأيد ذلك بوقائع كثيرة:

ذكروا أن رجلاً كان -بإذن الله- إذا أُعطي الإناء ليقرأ فيه نفث فيه نفثتين أو ثلاثاً، وصار بإذن الله شفاءً لمن استعمله إذا تمت الشروط وسبب ذلك تنزهه عن الحرام وتقيده بالعبادات وبالطاعات وما أشبهها، وكذلك أيضاً كان رجل مجرب بالشفاء بإذن الله إذا رقى أحداً، فسُئل عن ذلك فأخبر: أن أباه عندما حضره الموت قال له: يا بني! لا تأكل إلا من هذا البستان، إياك أن تأكل من غيره فإنه رزق حلال. فاقتصر على بستان فيه نخلات وشجرات يسقيها ويشتري من ثمرتها ما يصلحها به ويتقوت بها ولا يدخل في بطنه شيئاً من غيرها تحقيقاً أنها حلال، فكان ذلك سبب إجابة دعوته وشفاء من يرقيهم من المرضى ونحوهم.

فلذلك نقول: لابد من هذه الشروط في الرقية:

أولها: إصلاح العمل، أن يصلح ذلك المريض عمله.

ثانياً: أن ينزه نفسه عن المعاصي والسيئات.

ثالثاً: أن يصلح منزله ويبعد عنه الملاهي وما أشبهها.

رابعاً: أن يعتقد يقيناً أن الرقية نافعة ومؤثرة.

خامساً: أن يكون الراقي من أهل الورع والزهد.

سادسها: أن يستعمل في الرقى الآيات التي وردت الرقية بها وعرف تأثيرها، مثل آية الكرسي، وآيات السحر الثلاث في سورة الأعراف، وهن قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف:118-119]، وفي سورة يونس قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس:81-82]، وفي سورة طه قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:67-69]، فيقرأ هذه الآيات، ويقرأ آية الكرسي وآيتين من آخر سورة البقرة: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ [البقرة:285]، وسورة الفاتحة، وأول سورة البقرة، وأول سورة آل عمران، وآخرها، وآيات من سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأعراف:54] إلى ثلاث آيات، وأول سورة يونس، وأول سورة طه، وأول سورة النحل، وآيتين من آخر سورة الإسراء، وعشر آيات من أول سورة الصافات، وأربع من آخر سورة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، وسورتي المعوذتين، وسورة الإخلاص، وكذلك الأدعية التي وردت، مثل قوله: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)، وقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وأدعية مأثورة في ذلك بإذن الله يكون من آثارها إبطال عمل هؤلاء السحرة.

من الأدلة ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة : (حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله). وفي رواية: (أنه يأتي النساء وما يأتيهن).

وهذا العمل الذي عمله هذا اليهودي الذي يقال له: لبيد بن الأعصم لم يكن في جسم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عقله؛ فإن الله تعالى قد عصمه وحفظه، ولكنه فيما يتعلق بالنساء، عمل عملاً كأنه صار حائلاً بين المرء وبين نسائه بأن يخيل إليه أنه يأتيهن وما يأتيهن، أو حال بينه وبين القدرة الجنسية، والله أعلم.

فالحاصل أن هذا مما أثر فيه هذا السحر، فلما دله الله تعالى على موضع ذلك السحر وأخرجه بطل عمله وقام كأنما نشط من عقال، وقال: (إن الله تعالى قد شفاني)، فلذلك استدل به على أنه قدر يؤثر في هذا النوع، وهذا أيضاً مشاهد أن السحرة يعملون من السحر ما يبطلون به شهوة الرجل حتى لا يستطيع أن يأتي امرأته، وإذا قرب منها بطلت شهوته.

ومن ذلك أيضاً الحديث الذي أورده ابن كثير ورواه ابن جرير عن عائشة أن امرأة جاءتها بعدما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت لها أن زوجها غاب عنها، فجاءتها عجوز فقالت لها: أتحبين أن يرجع زوجكِ؟ قالت: نعم. تقول: فجاءتني بالليل وأركبتني، وركبت وإياها على كلبين أسودين، فلم يكن إلا قليل حتى كنا ببابل، فأتينا إلى إنسانين في ذلك المكان، وقلت: إني أريد أن أتعلم السحر. فقالا: إنما نحن فتنه فلا تكفري. فقلت: إني أريد أن أتعلم. فقال لها: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. تقول: ففعلت. فخرج منها شيء أسود فصعد في السماء، فقالوا: صدقتِ، هذا هو الإيمان خرج منكِ. ثم إنهم علموها.

تقول: فأعطتني حباً أو قمحاً فقالت: ابذريه في الأرض. فقلت: انبت فنبت، فقلت: انضج. فنضج، فقلت: انطحن فانطحن. فلما رأيت أني لا آمر بشيء إلا حصل سقط في يدي. فهذه المرأة تعلمت من هذين هذا الأمر، وهو أنها لا تأمر بشيء إلا حصل، وهذا نوع مما يدل على أن للسحر حقيقة.

وأما وقائع الناس فهي شيء كثير وهو أمر مشاهد.

إذا قلت: كيف يتمكن الساحر -وهو إنسان بشر مثلنا- من أن يقلب الإنسان إلى فرس -مثلاً- أو قط. أو وعل؟! أو كيف يقلب قلبه من مستقيم إلى منحرف؟! أو كيف يؤلف بين الاثنين أو يفرق بينهما ويوقع بينهما هذه الوحشة مع كونهما متحابين أو نحو ذلك؟ فكيف يتمكن الإنسان من هذا العمل الذي فيه قلب للحقائق وتغيير لها؟!

أجاب العلماء بأن الإنسان لا يفعل شيئاً، ولا يقدر على فعل شيء يخالف الطبائع الأصلية، وإنما تفعل ذلك الشياطين، ذلك لأن الشيطان له قدرة على ملابسة الإنسان ومماسته، وكذلك الساحر قد يكون عنده قدرة على تسخير قوم من الجن ثم تسليطهم على من يريد، فإذا سلط هذا الجني الذي هو من جنوده على فلان لابسه ذلك الجني أو ذلك الشيطان، فإذا لابسه فإنه قد يغير هيكله ويقلب صورته، وقد يحوله إلى حيوان بهيم كما يذكر ذلك في الحكايات ونحوها، يذكر أن ساحراً أو ساحرةً قلبت إنساناً إلى حصان أو فرس، وأن ساحراً قلب إنساناً إلى وعل له قرون، والحكايات في ذلك مشاهدة وكثيرة.

فالشيطان هو الذي يلابس ذلك الإنسان الذي عمل له، فيستطيع بإذن الله أن يغير هيكله، وأن يقلب صورته ومودته، ويغير محبته إلى بغض أو بغضه إلى محبة، أو ما أشبه ذلك، فهذا من الشيطان لا من ذلك الإنسان الذي هو الساحر؛ فإنه ليس عنده هذه القدرة ولا هذا التمكن، فهذا حقيقة السحر، أنه ليس بفعل الإنسان ولكن بفعل الشياطين الذين يسخرهم ذلك الساحر.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح اعتقاد أهل السنة [8] 2695 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [5] 2358 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [13] 2328 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [7] 2147 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [3] 1851 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [12] 1773 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [6] 1719 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [17] 1694 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [10] 1675 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [4] 1645 استماع