شرح العقيدة الطحاوية [91]


الحلقة مفرغة

ذهب بعض المبتدعة إلى أن الأولياء أفضل من الأنبياء، سبحانك هذا بهتان عظيم، فالأولياء بم صاروا أولياء؟ ومتى نزل عليهم الوحي؟ الأولياء تولاهم الله وصاروا أولياءه عندما اتبعوا رسله، وأطاعوهم واتبعوا شريعته؛ فبذلك أصبحوا من أوليائه، فتولاهم الله، وتولى توفيقهم وحفظهم، قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] وليهم أي: حافظهم، وهو الرقيب عليهم، وهو الموفق لهم، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22] حزب الله هم جنده، وهم عباده الصالحون، وهم الذين يحبهم ويحبونه، الذين شهد لهم بولايته، واتباعهم لأمره، وتقبل شرعه، وعلى هذا فالناس قسمان: ولي لله، وعدو لله، لا يخرج الإنسان من هذين القسمين، ومن تولاه الله حفظه، ومن عادى ربه خلى بينه وبين أعدائه، فصار ولياً للشياطين تستهويه وتستحوذ عليه، وتغريه وتؤزه إلى الشر أزاً أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] فمن لم يكن ولياً لله فهو ولي للشيطان، وعلى هذا المنوال وضع شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه المشهور الذي طبع عدة مرار واسمه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجعل هذا الكتاب في بيان أولياء الله وعلامتهم، وأولياء الشيطان وعلامتهم، وبيّن أن كل من آمن بالله واتقاه حق تقواه، وحقق الإيمان به، فهو ولي لله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، والله تعالى ذكر أن أولياءه هم المؤمنون المتقون، وذكر ثوابهم.

فقال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، لا تفسر ولاية الله إلا بما فسرها به الله سبحانه، فأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فكل من حقق الإيمان بالغيب من الإيمان بالله والإيمان بالبعث والإيمان بالحساب والجزاء والإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والإيمان بكل ما أخبر الله تعالى به، وكذلك ظهرت عليه آثار هذا الإيمان من العمل والاستعداد، وكذلك حقق تقوى الله ومخافته ورجاءه، وعمل بطاعته؛ فإنه من أولياء الله، وأما من خالف ذلك ولم يطع أمر الله بل خالفه، وعاند وعصى، وطغى وبغى؛ فإنه من أولياء الشيطان.

إذاً: أولياء الله هم كل المؤمنين، وكل المتقين، فكلهم أولياء لله، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي ولاية الله: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فجعل ولي الله تعالى هو الذي يواليه ويتولاه، ومن عاداه فإنه حرب لله، وأي شخص يقوى على محاربة الله؟! وصريح الحديث: أن أولياء الله يتولاهم ربهم وينصرهم ويعزهم ويحميهم على من خالفهم، وعلى من خرج عليهم، وكذلك في القرآن: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]، وإذا كان الله ولينا فإننا أولياء الله، وإذا كان الرسول ولينا فنحن نتولاه، وإذا كان المؤمنون أولياء بعضهم من بعض فإنهم أولياء الله، وقد ذكر الله تعالى ولاية المؤمنين بعضهم لبعض فقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض [التوبة:71] يعني: ينصر بعضهم بعضاً، ويؤيد بعضهم بعضاً، ويحمي بعضهم بعضاً، ويتناصرون فيما بينهم؛ وذلك لأنهم جميعاً أولياء الله، فكل منهم يتولى الآخر وينصره، ويحرصون على اكتساب ولاية الله بهذه الأمور التي هي ولاية من تولاه الله، ومحبته ونصرته، والقرب منه، يقول ابن عباس رضي الله عنهما في الأثر المشهور: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. من أراد أن ينال ولاية الله وأن يكون من أولياء الله؛ فليحب أولياء الله وليوالهم وليقرب منهم، وليعاد أعداء الله وليقاطعهم وليبتعد عنهم، وبذلك ينال العبد ولاية الله له، ويكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

المؤمنون بعضهم أولياء بعض

المؤمنون بعضهم يتولى بعضاً، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، هكذا أخبر (بعضهم أولياء بعض) كما أن الكفار يتولى بعضهم بعضاً، كما أخبر الله في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] يعني: لا تتولوا أعداء الله، بل يكفيكم أن تكونوا جميعاً أولياء لله وأولياء لبعضكم، يكفيكم أن يتولاكم الله وأن تكونوا من أولياء الله.

هذه عقيدتنا، ونرجو إن شاء الله أن نتوفى على هذه العقيدة، وهي أن المسلمين والمؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأن من تولى الله فإنه من أوليائنا، وأن جميع من آمن واتقى فهو من أولياء الله.

وقد ذهبت الصوفية إلى أن هناك أولياء خصيصون، فهم يسمون الأولياء، وأما بقية المؤمنين فلا يصلون إلى درجة الولاية، وجعلوا الذي سموه ولياً أرفع رتبة من النبي، وجعلوا النبي أرفع رتبةً من الرسول، وهذا مخالفة لشرع الله، ومر بنا في الشرح البيت الذي يستشهدون به، وهو قولهم:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

فجعلوا النبوة منزلة وسطى، وجعلوا الرسول المنزلة الدنيا، والولي المنزلة الرفيعة، فقالوا: إن الولي هو الأعلى، ويليه النبي، وأنزل منه الرسول، فمقام النبوة جعلوه في الوسط:

.. فويق الرسول ودون الولي

هكذا مثلوا، وفضلوا كثيراً ممن سموهم أولياء على جميع الرسل، وفضلوهم على الأنبياء، وقالوا: إن الولي غني عن الشرع، وغني عن القرآن، وغني عن هذا الدين، لماذا؟

لأن له ولاية رقته إلى رتبة عالية، فأصبح يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي ينزل على الأنبياء والرسل، وروح هذا الولي عندهم تتصل بالملأ الأعلى، وتطلع على اللوح المحفوظ، وتأخذ منه المعلومات، وتنال منه مرادها، ويستغني الولي عن هذا الشرع، وعن هذا القرآن، وعن هذه العبادات كلها؛ ولأجل ذلك جعلوه في رتبة عالية، وقالوا: إنه يأخذ بسره أو بسريرته، وأنه يحدثه قلبه عن ربه، يقول بعض الأولياء: حدثني قلبي عن ربي، ويسمون ذلك مكاشفة أو باطناً من البواطن التي لا يطلعون عليها غيرهم.

قال ابن القيم في إغاثة اللهفان:

إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي

أو قلت قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأفعال

أو قلت قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والإمام العالي

أو قلت قال صحابهم من بعدهم فالكل عندهم كشبه خيال

لا يعتبرون بذلك كله، ويقول:

قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفا أحوالي

عن حضرتي عن فطرتي عن خلوتي عن شاهدي عن وافدي عن حالي

عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي

دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحال

نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم نبذ المسافر فضلة الآكال

هذه الاصطلاحات التي اتفقوا عليها يدعون أنهم تفوقوا بها على المسلمين وعلى الإسلام وعلى أولياء الله المؤمنين من الصحابة والتابعين ونحوهم، ويستغنون بها في زعمهم عن الشرع الشريف وعن أهله، وقد حدث من آثار ذلك أنهم عظموا هؤلاء الذين ادعوا أنهم أولياء أو ادعوا لهم الولاية، وعبدوهم من دون الله، فما عبدت القبور إلا بالغلو في الصالحين، فإن الشيطان صار يزين لهم أن هذا ولي، وقد سقطت عنه التكاليف، وأنه لا حرج عليه فيما يفعل، وأنه قد ارتقى قلبه إلى ربه، وأنه مستغنٍ عن الشرع وعن أهل الشرع، فـالسيد البدوي المشهور بطنطا في مصر إلى الآن يعتقدون أنه لا يدخل مصر أحد إلا من بعد أن يأذن له السيد البدوي ، فهو الذي يتصرف في الكون كله، وعندهم أنه مالك الملك، تعالى الله عن قولهم، فلأجل ذلك لا ينكرون عليه ترك العبادة، سمعت من بعض المشايخ يقول: إنه عرف أنه دخل مرة المسجد، والناس في الصلاة، فبال في المسجد وخرج ولم يصل، فسمعوه وقالوا: مجذوب مجذوب، قلبه عند ربه، وجعلوا يتمسحون به! وأمثاله كثير، ولا يكون عليهم أي حرج، ويسمونهم الأولياء، وأنهم لا حرج عليهم في أي شيء، كما قال الصنعاني رحمه الله:

كقوم عراة في ذرى مصر ما ترى على عورة منهم هناك ثياب

يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب

يمشون عراة، ويقولون: لا حرج عليهم، قلوبهم في الملأ الأعلى، يشتغلون عن الشرع! هكذا وصلت الحال بهم إلى أن أسقطوا عنهم -بزعمهم- التكاليف، وإذا رأوا مجنوناً من هؤلاء المجانين الذين رفع القلم عنهم لفقد عقله، أخذوا يتمسحون به، وقالوا: هذا ولي من أولياء الله، وإذا مات أحدهم فشيّع، يزعمون أن الملائكة تحمله، وإذا جعلوه فوق السرير على النعش، يخيل إليهم أنه قد ارتفع عن المناكب، وأنه يطير في الهواء على نعشه، وكل هذا تخييل من الشيطان، وهكذا كل الذين عبدوا من دون الله، فإنهم ما عبدوا إلا بسبب أن الجهلة غلوا فيهم، واعتقدوا فيهم أنهم أولياء لله من دون الناس.

انتشار قبور الأولياء قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

في هذه الجزيرة قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان هناك قبور يدّعون أنها قبور أولياء من أولياء الله، وقد ذكر منها الشيخ محمد في رسالته كشف الشبهات قبر رجل اسمه شمسان ، ولم يذكر تفصيلاً عن حالته، وقبر آخر يسمى يوسف ، وآخر يسمى تاجاً ، ذكر هؤلاء الثلاثة في كشف الشبهات، وكذلك ذكرهم مولى علي بن مولى عمران في قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:

جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي في سب دين الهاشمي محمد

إلى أن قال:

الشيخ جاهد بعض أهل جهالة يدعون أصحاب القبور الهمد

تاجاً وشمساناً وما ضاهاهما من قبة أو تربة أو مشهد

جاءهم الشيطان وقال: هذا ولي من أولياء الله، فتبركوا به ما دام حياً، وإذا مات فاعبدوه، فعبدوه من دون الله، وكثرت في ذلك المعبودات من دون الله، وانتشرت في كثير من البلاد، ففي العراق يدعون ولاية عبد القادر الجيلاني ، وهو عبد صالح وعالم من العلماء، إلا أنه لم يكن له صنعة في علم الشريعة وفي علم الحديث، ولأجل ذلك لا يميز بين صحيح الحديث وسقيمه، ولعلكم قرأتم شيئاً من كتابه الذي يسمى: (الغنية) ففيه ما يدل على أنه لم يكن متضلعاً من علم السنة، ولكن كان من أهل السلوك، وكان من أهل التصوف، ومن أهل العبادة، فلأجل ذلك غلوا فيه، وادعوا أنه ولي، وصاروا ينقلون عنه أشياء من خوارق العادات ليست صحيحة، بل هي مكذوبة مختلقة لا أصل لها من الصحة، فمن ذلك: ذكروا أن امرأة جاءت إليه وقالت: إن ابني مات وإنه وحيدي، وليس لي ابن غيره، فسلْ الله أن يحييه، فقال: سأفعل، ثم إنه طار في الهواء، حتى أدرك ملك الموت وهو في السماء، وقد قبض أرواحاً وجعلهم في زنبيل، فقال: رد روح هذا الميت، فلما لم يفعل أخذ الزنبيل، وأسقط ما فيه من الأرواح، فحيي كل من قبض في ذلك اليوم من تلك الأرواح التي قبضها ملك الموت! وهذه خرافة من خرافاتهم.

ومن ذلك: ذكروا أنه أتي بكبش مشوي أو مطبوخ، فقال: كلوا ما عليه من اللحم، ولا تأخذوا عظامه، ولا تزيلوها، فلما أكلوا اللحم كله، قال: قم يا كبش بإذن الله، فقام الكبش ينفض شعره وجلده كأنه لم يمت! وهذه أيضاً خرافة لا أصل لها.

وكثر الكذب عليه من مثل هذه الأكاذيب، فادعوا أنه ولي من أولياء الله، وأنه أفضل من الأنبياء، وأن له العصمة، وأنه مستغن عن الشرع، وأنه.. وأنه.. .

والذين ترجموا له من أولئك المخرفين جعلوه من غلاة الاتحادية، أو من أهل وحدة الوجود، ولا شك أنه -إن شاء الله- بريء من هذا كله، بل هو عابد من العباد، ولكن لما ظهر على يديه شيء من الكرمات، ادعوا أنه وصل إلى هذه الدرجات، وولدوا عليه هذه الأكاذيب، وكان من نتيجتها أنه صار معظماً يعبد مع الله، يعبد في أفريقيا، ويعبد في بلاد الهند والسند والعراق والشام، وغالباً يذكر عبد القادر على الألسن كثيراً، حتى سمعت رجلاً في يوم عرفة في حجة من الحجات يهتف: يا عبد القادر يا عبد القادر ، خذ بيدي، أنجني، اغفر لي، خذ بيدي من الهلاك، فنصحته وقلت: ومن هو عبد القادر ؟ فقال: السيد عبد القادر الجيلاني ، هذا ولي الله، هذا الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ويملك أزمة الأمور، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، يمجده هذه التمجيدات! فقلت له: ومن رب الناس قبل عبد القادر ؟ ولماذا عبد القادر لم يرد عن نفسه الموت؟ وأين الآن عبد القادر حتى نعرف حالته؟ هو مخلوق خلق من ماء مهين، ثم تمتع وعاش في الدنيا كما تمتع غيره، ولكن ذلك الشخص أخذ يوبخني ويقول: أنت تسقط قدر أولياء الله، أنت لا تحب أولياء الله حقاً، أولياء الله فيهم.. وفيهم.. ، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأشباه ذلك، وعرفت أنه لا حيلة فيه، فأخذت أقول له: أنا كفرت بـعبد القادر ، كفرت بك يا عبد القادر ، فابعث لي ما تشاء، فقبض على رأسه واعتقد أني سأموت في لحظتي! هكذا زين لهم الشيطان، ولا شك أن الجهل هو الذي أردى بهم إلى أن اعتقدوا هذا في هذه المعبودات في نظرهم. وفي اليمن ولي يقال له ابن علون ، وهو مشهور أيضاً، وله قصص، وكان من العلماء، لكن بعد موته جاء الشيطان وقال: هذا قبر ابن علون ، وهو ولي الله، فالآن يدعى في كل الأماكن، وإن كان في الزمن الأخير بعدما تفقهوا، وجاءتهم كتب أئمة الدعوة، تنبهوا وتركوا ذلك.

وبكل حال فهذه الولاية التي أوقعها الشيطان في قلوب هؤلاء، زين لهم أنها مرتبة راقية رفيعة، انخدع بها هؤلاء حتى عبدوا المخلوقين من دون الله.

ويذكر لنا كثير من الإخوان أنه هناك قبور: في باكستان، وفي أفغانستان، وفي الهند والسند، بل وفي البلاد العربية: كمصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، والسودان، واليمن في جنوبه وشماله، ولا حقيقة لتلك الأمور، حتى ذكروا أن بعضهم مات له حمار، فدفنه، ثم جاء إلى أهل البلد وقال: هذا قبر ولي من أولياء الله، فقالوا: من هو؟ فسمى لهم اسماً مستعاراً، فعبد ذلك الحمار، وبني عليه، وجعلوا يأتون إليه، ويتبركون بتربته ويدعونه! ولا شك أن هذا من وسوسة الشيطان حتى أوصلهم إلى هذه الحال، ومع ذلك فإن هناك أشخاصاً ادعيت فيهم الولاية، وأنهم أولياء لله، وهم ليسوا أولياء لله، بل أعداء الله، ومنهم ملاحدة من أهل وحدة الوجود، وكم يذكر في تراجمهم من المبالغة والمديح العظيم والثناء عليهم، كـابن عربي الاتحادي الذي هو من أهل الوحدة، وهو على طريقة الحلاج وغيره ممن يقولون: إن وجود الخالق هو وجود المخلوق، وعين الخالق هو عين المخلوق! تعالى الله عن قولهم، ومع ذلك يذكرون في ترجمته الثناء عليه، والمديح له، والمبالغة في أمره وإطرائه، حتى من بعض أهل السنة الحنابلة، مثل ابن العماد الحنبلي صاحب شذرات الذهب، كان في القرن الحادي عشر، لما ذكر ترجمة ابن عربي ، أخذ يحكي له من الحكايات التي تدل على أنه مستجاب الدعوة، وأنه مقرب عند الله، وأنه.. وأنه.. ، ويورد له ذكريات، ويورد له أقاويل وحكم، بينما الذين ترجموه من أهل المعرفة كـابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بينوا حقيقته، وذكروا أنه اتحادي ملحد، يقول بوحدة الوجود، فلا يغتر بمن مدحه أو أثنى عليه، وهكذا أمثاله كثيرون، فعلى هذا نحذر من هؤلاء الذين يفضلون أولياء الله -كما يقولون- على أنبياء الله، بل نعرف أن نبياً واحد أفضل من جميع من يسمونهم أولياء.

المؤمنون بعضهم يتولى بعضاً، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، هكذا أخبر (بعضهم أولياء بعض) كما أن الكفار يتولى بعضهم بعضاً، كما أخبر الله في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] يعني: لا تتولوا أعداء الله، بل يكفيكم أن تكونوا جميعاً أولياء لله وأولياء لبعضكم، يكفيكم أن يتولاكم الله وأن تكونوا من أولياء الله.

هذه عقيدتنا، ونرجو إن شاء الله أن نتوفى على هذه العقيدة، وهي أن المسلمين والمؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأن من تولى الله فإنه من أوليائنا، وأن جميع من آمن واتقى فهو من أولياء الله.

وقد ذهبت الصوفية إلى أن هناك أولياء خصيصون، فهم يسمون الأولياء، وأما بقية المؤمنين فلا يصلون إلى درجة الولاية، وجعلوا الذي سموه ولياً أرفع رتبة من النبي، وجعلوا النبي أرفع رتبةً من الرسول، وهذا مخالفة لشرع الله، ومر بنا في الشرح البيت الذي يستشهدون به، وهو قولهم:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

فجعلوا النبوة منزلة وسطى، وجعلوا الرسول المنزلة الدنيا، والولي المنزلة الرفيعة، فقالوا: إن الولي هو الأعلى، ويليه النبي، وأنزل منه الرسول، فمقام النبوة جعلوه في الوسط:

.. فويق الرسول ودون الولي

هكذا مثلوا، وفضلوا كثيراً ممن سموهم أولياء على جميع الرسل، وفضلوهم على الأنبياء، وقالوا: إن الولي غني عن الشرع، وغني عن القرآن، وغني عن هذا الدين، لماذا؟

لأن له ولاية رقته إلى رتبة عالية، فأصبح يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي ينزل على الأنبياء والرسل، وروح هذا الولي عندهم تتصل بالملأ الأعلى، وتطلع على اللوح المحفوظ، وتأخذ منه المعلومات، وتنال منه مرادها، ويستغني الولي عن هذا الشرع، وعن هذا القرآن، وعن هذه العبادات كلها؛ ولأجل ذلك جعلوه في رتبة عالية، وقالوا: إنه يأخذ بسره أو بسريرته، وأنه يحدثه قلبه عن ربه، يقول بعض الأولياء: حدثني قلبي عن ربي، ويسمون ذلك مكاشفة أو باطناً من البواطن التي لا يطلعون عليها غيرهم.

قال ابن القيم في إغاثة اللهفان:

إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي

أو قلت قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأفعال

أو قلت قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والإمام العالي

أو قلت قال صحابهم من بعدهم فالكل عندهم كشبه خيال

لا يعتبرون بذلك كله، ويقول:

قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفا أحوالي

عن حضرتي عن فطرتي عن خلوتي عن شاهدي عن وافدي عن حالي

عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي

دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحال

نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم نبذ المسافر فضلة الآكال

هذه الاصطلاحات التي اتفقوا عليها يدعون أنهم تفوقوا بها على المسلمين وعلى الإسلام وعلى أولياء الله المؤمنين من الصحابة والتابعين ونحوهم، ويستغنون بها في زعمهم عن الشرع الشريف وعن أهله، وقد حدث من آثار ذلك أنهم عظموا هؤلاء الذين ادعوا أنهم أولياء أو ادعوا لهم الولاية، وعبدوهم من دون الله، فما عبدت القبور إلا بالغلو في الصالحين، فإن الشيطان صار يزين لهم أن هذا ولي، وقد سقطت عنه التكاليف، وأنه لا حرج عليه فيما يفعل، وأنه قد ارتقى قلبه إلى ربه، وأنه مستغنٍ عن الشرع وعن أهل الشرع، فـالسيد البدوي المشهور بطنطا في مصر إلى الآن يعتقدون أنه لا يدخل مصر أحد إلا من بعد أن يأذن له السيد البدوي ، فهو الذي يتصرف في الكون كله، وعندهم أنه مالك الملك، تعالى الله عن قولهم، فلأجل ذلك لا ينكرون عليه ترك العبادة، سمعت من بعض المشايخ يقول: إنه عرف أنه دخل مرة المسجد، والناس في الصلاة، فبال في المسجد وخرج ولم يصل، فسمعوه وقالوا: مجذوب مجذوب، قلبه عند ربه، وجعلوا يتمسحون به! وأمثاله كثير، ولا يكون عليهم أي حرج، ويسمونهم الأولياء، وأنهم لا حرج عليهم في أي شيء، كما قال الصنعاني رحمه الله:

كقوم عراة في ذرى مصر ما ترى على عورة منهم هناك ثياب

يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب

يمشون عراة، ويقولون: لا حرج عليهم، قلوبهم في الملأ الأعلى، يشتغلون عن الشرع! هكذا وصلت الحال بهم إلى أن أسقطوا عنهم -بزعمهم- التكاليف، وإذا رأوا مجنوناً من هؤلاء المجانين الذين رفع القلم عنهم لفقد عقله، أخذوا يتمسحون به، وقالوا: هذا ولي من أولياء الله، وإذا مات أحدهم فشيّع، يزعمون أن الملائكة تحمله، وإذا جعلوه فوق السرير على النعش، يخيل إليهم أنه قد ارتفع عن المناكب، وأنه يطير في الهواء على نعشه، وكل هذا تخييل من الشيطان، وهكذا كل الذين عبدوا من دون الله، فإنهم ما عبدوا إلا بسبب أن الجهلة غلوا فيهم، واعتقدوا فيهم أنهم أولياء لله من دون الناس.




استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2708 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2626 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2585 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2557 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2467 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2403 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2382 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2367 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2330 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2295 استماع