شرح العقيدة الطحاوية [68]


الحلقة مفرغة

من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وهذان الركنان يحتاج كل منهما إلى تفاصيل، وقد مر بنا بعض التفاصيل، والمؤمن الذي يؤمن بالله يؤمن بما أخبر من التفاصيل لهذه الأشياء؛ وذلك لأن من تمام الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به مما كان أو هو كائن.

ومن علامات الإيمان باليوم الآخر الاستعداد له، ولا شك أن يوم القيامة عظيم الهول، عظيم الكرب، سماه الله يوم الفزع الأكبر.

وأما تفاصيله فإنها مأخوذة من الأدلة التفصيلية التي اشتملت عليها الآيات والأحاديث، وإذا قرأها أو سمعها المؤمن فبلا شك أنه يظهر عليه أثر تلك الأمور، فيستعد للحساب إذا آمن به، ويستعد لتطاير الصحف إذا آمن بها، ويستعد لورود الحوض إذا آمن به، ويستعد للصراط إذا آمن به، وآخر شيء يؤمن به الجنة أو النار، فيعلم أنهما النهاية، وأن الجنة دار الكرامة لأولياء الله، والنار دار العذاب لأعداء الله، ولكل منهما بنون، ولكل منهما أهل، وقد وعد الله كلاً منهما بملئها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: فيّ الجبارون والمتكبرون، فقال الله للجنة: أنت دار رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت دار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما علي ملؤها)، وإذا كان كذلك فإنه يستعد لما ينجيه من النار، ولما يؤهله للجنة.

وأما صفة ما فيهما فقد فصلت في ذلك الأدلة، وألفت فيها المؤلفات، فللإمام ابن القيم رحمه الله كتاب مفيد اسمه ( حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ) جمع فيه صفة الجنة، وما ورد فيها، وذكر فيه درجاتها وآنيتها وقصورها وأنهارها وأشجارها وثمارها وحورها وفرشها وسررها.. وجميع ما أخبر الله عنها، وهكذا لتلميذه ابن رجب رحمه الله كتاب سماه (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) تكلم فيه عن النار وعن عذابها وحميمها وزقومها وأغلالها وسعيرها وزمهريرها ودركاتها وحرها وحال أهلها، وما ورد فيهم، فإذا قرأ القارئ هذا الكتاب اشتد خوفه، واشتد فزعه، وإن لم يكن فيه تفصيل للأعمال التي يستحق بها العبد النار، ولكن ذكر فيه صفة عذاب النار، وأما الأعمال فهي مذكورة مبسوطة في الأدلة، تجدون في الآيات والأحاديث التي ذكر فيها أهل النار وأهل الجنة، من فعل كذا دخل الجنة، ومن فعل كذا دخل النار، وهذه مشروحة وموسع الكلام فيها، وإذا عرفها المسلم فإنه بلا شك يهتم بها، فيعرف الأعمال الصالحة التي تصير أهلها من أصحاب الجنة فيعملها، والتي توعد عليها بعذاب النار فيتركها، ويبتعد عنها، وعن أهلها حتى يكون من أهل الوعد، ويسلم من الوعيد.

قال المؤلف رحمه الله:

[وقوله: والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286].

الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع، ألفاظ متقاربة، وتقسيم الاستطاعة إلى قسمين -كما ذكره الشيخ رحمه الله- هو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط، وقالت القدرية والمعتزلة: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل، وقابلهم طائفة من أهل السنة فقالوا: لا تكون إلا مع الفعل، والذي قاله عامة أهل السنة: إن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه تكون قبله، ولا يجب أن تكون معه، والقدرة التي يكون بها الفعل لابد أن تكون مع الفعل، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة.

وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات، فقد تتقدم الأفعال، وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحداً على ترك الحج، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وكذا قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا [التغابن:16]، فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتقِ الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولم يعاقب من لم يتقِ وهذا معلوم الفساد.

وكذا قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4]، والمراد منه: استطاعة الأسباب والآلات، وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين: لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ [التوبة:42]، وكذبهم في ذلك القول، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل، ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين، وحيث كذبهم فدل أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال على ما بين تعالى بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى [التوبة:91]، إلى أن قال: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ [التوبة:93].

وكذا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، والمراد: استطاعة الآلات والأسباب، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـعمران بن حصين : (صلِ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، وإنما نفى استطاعة الفعل معها].

هذا الكلام يتعلق بركن من أركان الإيمان وهو القدر -والقدر: كما نقل عن الإمام أحمد - هو قدرة الله، والمعنى: أن الله قادر على كل شيء، وأنه يدخل في قدرته أفعال العباد وحركاتهم، وأنه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

ومن الإيمان بالقدر: الإيمان بأن للإنسان قدرة على أفعاله وإرادة بها أصبح مكلفاً، وأن من فقد تلك القدرة سقط عنه التكليف؛ وذلك لأن هذا شيء محسوس، ظاهر ليس فيه خفاء، فالإنسان الأعمى لا يكلف أن يقرأ في الكتاب، والإنسان الأعرج لا يكلف أن يسعى السعي الشديد في الطواف أو في السعي لعجزه عن ذلك، وقد أسقط الله الجهاد عن المعذورين في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61]، ونحو ذلك من الآيات.

استطاعة بمعنى التوفيق

ذكر الشارح: أن الاستطاعة تنقسم إلى قسمين: استطاعة بمعنى التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله، واستطاعة بمعنى مزاولة الفعل، وهذه يوصف بها العبد.

فأما التوفيق والإلهام والهداية فهي إلى الله لا يستطيعها العباد، بل قد نفاها الله تعالى حتى عن نبيه، فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، وقال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37]، وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33]، وقال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37]، أي: من أضله فلا أحد يقدر على هدايته، فهذه الاستطاعة تستدعي توفيق الله وإلهامه وإفهامه، وتستدعي الإقبال بقلبه وقالبه إلى الأعمال.

ولكن بلا شك أن الإنسان أيضاً: له قدرة على بعض الأسباب، فيجعلها الله سبباً لهداية بعض الناس؛ ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي رضي الله عنه: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فجعله سبباً للهداية، والله هو الهادي، بمعنى: أنك أنت بينت لذلك الرجل وحذرته وأنذرته وخوفته، ودعوته إلى ما ينفعه، وبينت له النافع، وبينت له الضار، وبينت له عاقبة هذا وعاقبة هذا، فالله قذف في قلبه المعرفة والقبول، وتقبل ما جئت به، فأصبح بذلك قابلاً؛ فمثل هذا بلا شك أنه سبب في الهداية، فأصلها من الله، وأنت منك الأسباب.

كذلك يقول في حديث آخر (من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه)، سماه هدى، أي: ضد الضلال، فالداعي -بلا شك- متسبب، والله هو الذي جعل السبب مؤثراً ومفيداً.

استطاعة بمعنى القدرة على الفعل

القسم الثاني من الاستطاعة: الاستطاعة التي هي مزاولة الفعل والقدرة عليه، وهذه هي التي لا يكلف الله من لم يقدر عليها، فالعاجز -مثلاً- عن الحج بدنياً لا يستطيعه؛ ولذلك قال تعالى: مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، والفقير الذي لا يجد ما يوصله إلى مكة لا يستطيع، ولو كان يستطيع بدنياً، والذي لا يستطيع بدنياً كالذي لا يثبت على السيارة أو على الطائرة لمرض أو لشلل أو لخوف أو ما أشبه ذلك، يقال عنه أيضاً: لا يستطيع الثبوت على المركوب فهو معذور بذلك، لا يستطيع بماله أو لا يستطيع ببدنه.

ومعلوم أن الله تعالى لا يكلف الإنسان مع عجزه، إنما يكلفه إذا كان قادراً، وكذلك إذا كان فاهماً، ولذلك أسقط الله التكاليف عن الأطفال لكونهم غير قادرين ولا فاهمين، وأسقطها عن فاقدي العقول لنقصهم معنوياً، وكذلك أسقطها عن العاجزين في قوله تعالى في الجهاد: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ [التوبة:91]، يعني: ليس عليهم حرج في أن يتخلفوا عن الجهاد، مثل هؤلاء لا يستطيعون أن يخوضوا المعارك، وكذلك المرضى لا يستطيعون، وكذلك الذين لا يجدون ما ينفقون، لا يجدون مركوباً أو لا يجدون عدة، فهؤلاء أسقط الله عنهم الجهاد، كما أسقط عن العاجز مالياً الحج بقوله: مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، وفسرت (سبيلاً): بالزاد والراحلة في بعض الأحاديث والآثار، فدل على أن الاستطاعة: قدرة العبد من حيث المال ومن حيث البدن، فإذا كان ذلك الفعل يستدعي مالاً كالحج والجهاد سقط عنه إذا فقد المال، وإذا كان لا يستدعي مالاً كالقريب من مكة ولكنه يستدعي قوة البدن، وكان هذا الإنسان مريضاً أو عاجزاً بدنياً سقط عنه، والجهاد كذلك يسقط عنه إذا كان عاجزاً بدنياً، وأما إذا كان عاجزاً مالياً، ولكن هناك من تكفل به وجهزه فإنه لا يسقط عنه.

وكذلك العبادات البدنية المحضة إذا كان فيها مشقة فإنها تسقط أو تؤجل، مثل: الصيام في السفر أو في المرض، يقال: لا يستطيع أن يصوم وهو مريض، لا يستطيع أن يصوم وهو مسافر لمشقة السفر، فيؤجل الصيام، وكذلك بقية الأعذار، أما الصلاة فإنها عمل بدني؛ فلأجل ذلك تتوقف أفعالها على القوة والقدرة، فإذا لم يستطع أن يحصل على الماء سقطت عنه الطهارة بالماء، واكتفى بالتيمم، يقال: لا يستطيع الحصول على الماء أو لا يستطيع استعمال الماء لمرض أو حرق أو نحو ذلك، وكذلك فعل الصلاة: إذا لم يستطع أن يصلي وهو قائم صلى وهو جالس، فإن عجز عن الصلاة جالساً صلى على جنب أو مستلقياً كما في بعض الروايات، فمن عجز عن نوع من الاستطاعة البدنية انتقل إلى ما يستطيعه، ويعرف ذلك العرب في كل شيء حتى يقول بعضهم:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ

أراد بذلك الأمور العادية، أي: الأفعال المحسوسة، فمثلاً: الحرف تختلف، فالإنسان الذي معه قوة بدنية يستطيع أن يحمل الأثقال، فهذا يحترف هذه الحرفة، وقد تكون أكثر أجرة، وآخر لا يستطيع ذلك، ولكن يستطيع أن يعمل الأعمال التي ليس فيها حمل ولا أثقال، كحراسة أو ما أشبهها، فالناس يتفاوتون في الاستطاعة.

الاستطاعة تكون قبل الفعل ومع الفعل

معلوم أن الاستطاعة تكون قبل الفعل ومع الفعل، قبل الفعل: يعني قبل مباشرته، نرى إنساناً قوياً فنقول: أنت مكلف بأن تصلي قائماً، ونرى إنساناً غنياً فنقول: أنت مكلف بالحج؛ لأنك تستطيعه مالياً، وهذه الاستطاعة تستمر إلى أن ينتهي من العمل، فتكون قبل الفعل، وفي أثناء الفعل؛ ولأجل هذا لو صلى ركعتين من الظهر وهو قائم ثم عجز جلس، وأتم بقية صلاته جالساً، وكذلك في الحج، لو أنه عمل بعض أعمال الحج وعجز عن بعضها كالرمي -مثلاً- وكَّل فيه، وسقط عنه لعجزه، ويقال في سائر الأفعال: إن الاستطاعة تكون قبل الفعل، ولا يخاطب بها إلا من كان مستطيعاً قبل مزاولة الفعل، وتكون في أثناء الفعل أيضاً.

بطلان القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل

قول من قال: الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل: قول باطل؛ وذلك لأنه لو كان كذلك لم يكن الإنسان مكلفاً حتى يفعل، فلا يكون على القادر توبيخ، إذا كان الإنسان قادراً على الحج ولكنه تركه، وقال: أنا غير مكلف حتى أقدر، قلنا له: أنت مكلف من الآن؛ لأنك موصوف بالقدرة بدنياً ومالياً، فيلزمك أن تباشر الفعل، وهكذا الإنسان الصحيح البدن الذي يسمع النداء للصلاة ولا عذر له، ويستطيع أن يأتي إلى المساجد فيؤدي الصلاة فيها، فهل يقال له: أنت لا تستطيع حتى تباشر الفعل؟ أنت غير مكلف إلى أن تبدأ في الفعل؟ لو قيل ذلك لسقطت كثير من العبادات، لو قيل مثلاً: أنت لست بمكلف ما دمت في بيتك حتى تبدأ في مباشرة الفعل؛ لاعتذر الكثير، وقالوا: لا نكون قادرين إلا إذا باشرنا، فهذا قول لا يقوله عاقل.

ولو كان كذلك لاعتذر كثير من الناس عن العمل، فلو قيل له في النكاح: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم)، فلا يقول: أنا لا أستطيع، ما معنى الاستطاعة هنا؟ هل يقال: أنت لا تستطيع حتى تدخل بالزوجة؟ إذا رأيناه يملك المال وعنده الأهلية، قلنا: أنت مستطيع أن تتزوج، فلو قال مثلاً: ما دمت لم أتزوج، فأنا لي رخصة في أن أترك الزواج، قلنا: هذا خلاف العقل.

وقول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:25] رخصة في أن يتزوج الأمة المملوكة إذا لم يستطع طول الحرة، فهل هذه الرخصة لا تكون إلا لمن عجز بعد الفعل؟ نقول: ليس كذلك، بل إذا رأيناه ذا مال يقدر على مهر الحرة، منعناه أن يتزوج الأمة، وقلنا: لا تحل لك، قد يقول: ما دمت لم أتزوج فأنا غير مستطيع، نقول: أنت الآن مستطيع، الطول هو المال، والمال موجود عندك، وهكذا يقال في أنواع الاستطاعة.

بطلان مذهب الجهمية في الاستطاعة

الجهمية قالوا: إن العبد ليس له حركة، وحركاته ليست اختيارية، بل اضطرارية، ويُسمون المجبرة، فهؤلاء سلبوا العبد قدرته، وسلبوه اختياره، وجعلوا حركات يديه أو ركوعه أو سجوده أو جنايته أو سكره.. أو نحو ذلك اضطراراً إجباراً ليس له أي اختيار، وقالوا: إنما هو بمنزلة أغصان الشجرة التي تحركها الرياح، وبمنزلة حركة المرتعش الذي ترتعش يداه ولا يقدر على إمساكها، هكذا جعلوا حركاته!

فجعلوا طاعاته ومعاصيه خارجة عن استطاعته، وليس له أي اختيار، وأبطلوا بذلك الأوامر والنواهي، وأبطلوا بذلك الشريعة كلها، ومع ذلك فإنهم متناقضون، وقد مر بنا كثير من تناقضهم؛ وذلك لأنك لو ضربت أحدهم، واحتججت بالقدر؛ ما عذرك في ضربك، ولا تركك تضربه، فكذلك أيضاً نقول: لا تحتج بالقدر على فعل المعاصي وترك الطاعات، بل عليك أن تزاول الفعل بقدر استطاعتك التي منحك الله، فالله أعطى الإنسان استطاعة بها يزاول الأفعال، ولولا تلك الاستطاعة لما حصل تكليف بهذه العبادات وبهذه الأفعال، ولو نفيت لبطلت الشريعة.

بطلان مذهب المعتزلة في الاستطاعة

الجهمية يجعلون أفعال العباد الصادرة منهم ليس لهم فيها أي اختيار، بل هم مضطرون إليها، وأما المعتزلة فمذهبهم أن العبد هو الذي يخلق فعله، وليس لله قدرة على أفعال العبد، فجعلوا العبد مستقلاً بفعله، ونفوا قدرة الله عليه، ونفوا الأدلة التي تدل على ذلك، فقالوا: إن الله لا يقدر أن يهدي ولا أن يضل، بل العبد هو الذي يهدي نفسه أو يضل نفسه، وجعلوا للعباد الاختيار لا لله تعالى، وأبطلوا قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، وأبطلوا عموم قول الله تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، وقالوا: لا يقدر إلا على ما يشاء، لا على كل شيء، وهكذا قالوا في كل ما هذا سبيله.

فنقول: لا شك أن هذا قول باطل لا يمكن أن يصدر من عاقل؛ وذلك لأنا نؤمن بقدرة الله، ونؤمن بعمومها، ولا ينافي ذلك أنه أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم أصبحوا بها مكلفين، يثابون على الخير، ويعاقبون على الشر، ولكن تلك القدرة مغلوبة بقدرة الله، فقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم.

أدلة ثبوت الاستطاعة

قال رحمه الله: [وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20] والمراد: نفي حقيقة القدرة لا نفي الأسباب والآلات؛ لأنها كانت ثابتة، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) -إن شاء الله تعالى- وكذا قول صاحب موسى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:67]، وقوله: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، والمراد منه: حقيقة قدرة الصبر لا أسباب الصبر وآلاته، فإن تلك كانت ثابتة له، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل، وإنما يلام من امتنع منه الفعل لتضييعه قدرة الفعل؛ لاشتغاله بغير ما أمر به، أو شغله إياها بضد ما أمر به، ومن قال: إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل يقولون: إن القدرة لا تصلح للضدين، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل، وهي مستلزمة له لا توجد بدونه].

معلوم أن الإنسان معه قدرة عامة، ولكن قد يغلب تلك القدرة والاستطاعة ما يفوتها عليه، ففي قصة موسى والخضر أن الخضر: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف:67-68]، ولكن موسى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً [الكهف:69]، ومع ذلك لم يستطع الصبر؛ لأنه رأى ما أنكره، ففي المرة الأولى لما خرق السفينة لم يستطع أن يصبر؛ لأنه رأى شيئاً عجباً فلم يستطع أن يصبر، ثم أخبره الخضر بأنه أراد عيبها حتى لا تؤخذ منهم، ولما رآه قتل غلاماً بغير ذنب لم يصبر أن ينكر عليه، ولكن لم يعلم عاقبة هذا الغلام، وأنه طبع كافراً، فلم يستطع الصبر مع كونه قادراً أن يمسك نفسه، ولما بنى الخضر الجدار في تلك القرية التي لم يضيفهما أهلها استنكر ذلك، كيف أنهم لم يضيفونا! ومع ذلك تقيم جدارهم؟ فلم يستطع أن يصبر، وهو قادر على ذلك.

إذاً: قوله: لَنْ تَسْتَطِيعَ ليس المراد لا تستطيع بدنياً، ولا تستطيع عقلاً، بل هو يقدر، لكنك إذا رأيت شيئاً تستنكره وتستقبحه؛ فالعادة أنك تندفع، ولو كنت لا تدري ما عاقبته، هذا معنى الاستطاعة في هذا الباب، وبلا شك أن هذه الاستطاعة مقدورة، ولو لم تكن مقدروة لما قال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً [الكهف:69]، فأفاد بأنه قادر وأن عنده استطاعة.

والاستطاعة تكون مالية، مثل استطاعة الذي يريد الحج ونحوه، أو تجب عليه نفقة أقاربه، وتكون بدنية كاستطاعة صوم الكفارات ونحوها، قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4]، في كفارة الظهار، وفي كفارة القتل، يعني من لم يستطع العتق، وهو استطاعة مالية، والصيام استطاعة بدنية محضة، وقال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4] يعني: من لم يستطع صوم الشهرين الذي هي استطاعة بدنية لعذر من الأعذار.

فيقال في القدرة: الله تعالى قدرته عامة، وجعل للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم، وأما الآية التي بدأ بها الشارح هنا، وهي قوله: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20]، فمعلوم أنهم لهم أسماع ولهم أبصار، ولكن كانوا ينفرون من هذا الشيء فلا يستطيعون أن ينصتوا ويستمعوا له، وكذلك لا يستطيعون مقابلته، وفي إمكانهم أن يجلسوا ويستمعوا، ولكن الدوافع تدفعهم، قد ذكر الله مثل ذلك عن المشركين في قوله تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، ومعلوم أن هذا ليس بظاهر، فقلوبهم كقلوب غيرهم، ولكن كأنهم يقولون: كلامك لا يدخل في قلوبنا ولا يدخل في أسماعنا، ولو سمعناه لم نتأمله ولم نتعقله ولا ننظر إليه نظر الاعتبار، فهل يقال: إنهم عاجزون عن الاستماع؟ ليسوا عاجزين، فكذلك قوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ)، هم قادرون على السمع، ولكن ينفرون منه، وهذه النفرة من الحق بسبب وسوسة الشيطان.

فالآن -مثلاً- كثير من أهل البدع لا يستطيعون أن يستمعوا النصائح التي تخالف بدعهم، إما أنهم لا ينصتون لها، وإما أنهم إذا حضروها أخذوا يتكلمون، كما في قول المشركين: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26]، وإما أن يهربوا ويخرجوا ويبتعدوا، كما حكى الله عن نوح أنه قال: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً [نوح:7]، كأنهم يقولون: إذا سمعناه نخشى أن يدخل في قلوبنا شيء فيعلق بها، وهكذا يقوله كثير من المبتدعة الآن، كما يحكي لنا بعض الإخوة الذين ذهبوا إلى نجران وألقى محاضرة تتعلق بالسنة وعقيدة أهل السنة، وكان الغالب على أهل المسجد أنهم من المكارمة الذين هم الإسماعيلية، فلما جلسوا يستمعون جاء مشايخهم وأخذوا يقيمونهم واحداً.. واحداً.. واحداً.. مخافة أن يقع في أسماعهم أو يصل إلى قلوبهم شيء يغير معتقداتهم، فهم -ولو كان الكلام حقاً- لا يقبلونه، ليس معهم قدرة ولا استطاعة على أن يقولوا: نستمع وننظر: إن كان حقاً فإنا نقبله، وإلا لم يضرنا سماعه، بل يبتعدون عنه.

وهكذا أخبرنا بعض الإخوة الذين جلسوا مدة قصيرة يدرسون في المرحلة المتوسطة في القطيف، أنه اتفق مع طلابه وهم كلهم شيعة على أن يتجادل معهم بالقرآن وبصحيح السنة، ولما عزموا على المجالسة، وهم يعتقدون أنهم سيغلبونه، جلسوا معه مرة أو مرتين، وكأن آباءهم أحسوا بشيء من التغير في معتقدهم، فما كان منهم إلا أن رحلوه، وقالوا: ابتعد عن بلادنا، ولا تعد تدرس في بلادنا ولا تدرس أولادنا! لماذا؟ هل كانوا لا يستطيعون أن يسمعوا منه، مع أنه إنما كان يبين معاني الآيات والأحاديث ونحوها؟ نقول: هم يستطيعون أن يسمعوا، قال الله: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ معلوم أنهم لهم قدرة على ذلك، ولكن هناك ما يدفعهم، ويحول بينهم وبين هذا الاستماع، فالاستطاعة أصلاً موجودة، ولكن هناك ما يدفعها عن أن تكون مؤثرة أو تصل إلى أصلها.

الرد على القدرية

قال رحمه الله: [وما قالته القدرية بناء على أصلهم الفاسد، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون: إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان، بل هذا بنفسه رجح الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية، كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفاً، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق.

وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية خصه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7]، فالقدرية يقولون: هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق، وهو بمعنى: البيان وإظهار دلائل الحق، والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن؛ ولهذا قال: (أولئك هم الراشدون) والكفار ليسوا راشدين، وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125]، وأمثال هذه الآية في القرآن كثير، يبين سبحانه أنه هدى هذا وأضل هذا، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً [الكهف:17]، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان إن شاء الله تعالى].

رد الشارح على القول الذي حكاه عن المعتزلة؛ لأنه حكى في أول الكلام ثلاثة أقوال:

القول الأول: قول الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور، وليس له اختيار، وأنه بمنزلة الشجرة التي تحركها الرياح، فهو مدفوع إلى الزنا، وهو مدفوع إلى الربا، وهو مدفوع إلى السكر، وهو مدفوع إلى الصلاة، وليس له أي اختيار!!

والقول الثاني: قول المعتزلة: وهو أن العبد هو الذي يخلق فعله ويزاوله، وليس لله أية قدرة على فعله!!

والقول الثالث: قول أهل السنة: وهو أن للعبد قدرة واختياراً، ولكنها مغلوبة بقدرة الله وباختياره، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهدايته للمؤمنين تعتبر فضلاً منه وكرماً، وإضلاله للكافرين يعتبر عدلاً منه بدون ظلم، قال الله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وكذلك امتن على هؤلاء، وعلم أنهم أهل للفضل وأهل للنعمة وأهل للهداية؛ فهداهم وسددهم.

أما الجبرية فعندهم أنه ليس له أي اختيار، بل هو بمنزلة المرتعش، والمعتزلة عندهم ليس لله أية قدرة، بل العبد هو الذي يضل نفسه، وهو الذي يهدي نفسه، ونفوا مدلول الآيات: وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:36-37].

وقد عرفنا الرد عليهم بمثل هذه الآيات: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125]، هذا أنعم عليه، وهذا خذله، وإنعامه على هذا يعتبر فضلاً، ويعتبر خذلانه لهذا عدلاً:

ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع