خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [62]
الحلقة مفرغة
السؤال: نرجو من فضيلتكم زيادة الإيضاح: كيف يكون الخلاف بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة خلافاً معنوياً وليس خلافاً صورياً كما قال الشارح رحمه الله، مع أن الجميع متفقون على أن فاقد الإيمان كافر، وفاقد العمل فاسق؟
الجواب: هذه المسألة سيشرحها ويوضحها الشارح فيما بعد، ويذكر الأدلة التي يستدل بها الحنفية، والراجح أن النزاع معنوي لا لفظي، ويوضح أنه ليس بلفظي أن الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان؛ يتوسعون في فعل الذنوب، ويسهلون المعاصي، ويكثر فيهم اقتراف السيئات، ويقولون: ما دامت ليست من الإيمان، وما دام أن الإيمان كامل بدون هذه الحسنات، وبدون هذه القربات، فما لنا ولها؟ فلا حاجة إلى أن نتنفل، ولا حاجة إلى أن نتصدق، ولا حاجة إلى أن نتوقى المآثم والمحرمات؛ لأنها لا تنقص الإيمان، فيكثر التساهل منهم في مثل هذا، وهذا ناتج عن هذا القول، وهو القول بأن الأعمال ليست من مسمى الإيمان.
أما إذا جعلناها من مسمى الإيمان فإننا نقول: إنها كلها يكون لها تأثير في الإيمان، فإذا صلى ركعتين نافلة زاد إيمانه، وإذا تصدق بصدقة ولو قليلة زاد إيمانه وانضم إليه هذا العمل، وإذا تكلم بكلمة خير زاد إيمانه، وإذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر زاد إيمانه، وإذا خطا خطوات لله تعالى في عمل صالح زاد بذلك إيمانه، وما أشبه ذلك.
كما أنه ينقص إيمانه إذا فعل ضد ذلك، إذا نطق بكلام سيء نقص إيمانه، وإذا مشى إلى ملاهي أو مآثم نقص إيمانه، وإذا أنفق في سبيل الشيطان نفقة سيئة كان ذلك نقصاً في إيمانه، وهكذا.
فهذا هو التفاوت بين من يقول: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولا حرج عليه إذا عصى وإذا أذنب، وإيمانه كامل، وهذه المعاصي لا يكون لها تأثير في الإيمان، ولا يكون لها تأثير في نقصه، ولا غير ذلك، فالإيمان موجود، والإيمان كامل، والأعمال زائدة عليه، وإن كان الناس يتفاوتون في الثواب والعقاب؛ فيفتح للناس باب التساهل في ترك الطاعات، وفي فعل شيء من المآثم، هذا هو النتيجة، أما إذا قلنا: إن الأعمال من مسمى الإيمان، وإنها داخلة فيه؛ فإن الإنسان يحرص على ما يكمل إيمانه، ويبتعد عما ينقص إيمانه.
السؤال: إنا نرى في زماننا هذا، وبين معارفنا مذهب جهم بن صفوان ، حيث إذا أمرنا أحداً بالمعروف، ونهيناه عن المنكر الذي هو واقع فيه قال لك: إن الإيمان بالقلب، أو قال: المهم أن تكون النية صالحة، فكيف نتعامل مع هؤلاء جزاكم الله خيراً؟
الجواب: عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فجعل الذي في القلب يظهر على الأعمال، فنحن نقول لهذا: أثبت لنا أنك مؤمن، هل تريد أن نشق عن قلبك حتى نرى أنه أبيض أو أسود؟ نحن إنما نعاملك بالظاهر، فظاهرك أنك فاسق، وظاهرك أنك عاصي، وظاهرك أنك طريد شريد، ونحن نبغضك على ما يظهر منك، ونحن نمقتك وإن كان قلبك ما كان، فنحن ما نعاملك إلا بما يظهر لنا، ولا يصح أن نحسن الظن بكل أحد يقول: أنا مؤمن؛ فإن الناس لا يوثق بأقوالهم.
وبكل حال هؤلاء الذين يتمادون في العصيان، ويتركون العبادات والطاعات، ويدعون أن إيمانهم كامل، وأن الإيمان يكفي فيه المعرفة في القلب الذي هو مذهب جهم؛ فسقة سيما إذا تظاهروا بالعصيان، فلا نصدقهم، بل نعاقبهم بالعقوبة التي تردعهم وتردع أمثالهم.
السؤال: هل يكون رجاء الإنسان حال المصائب أغلب من خوفه دائماً أم أن ذلك مخصوص بالمرض الذي يتيقن أنه سيموت بعده؟
الجواب: في حالة المرض يغلب جانب الرجاء سواء رجي زوال ذلك المرض أو لم يرج، يعني: يحسن الظن بربه، ويقبل على ربه وهو واثق بأن الله تعالى واسع الرحمة وكثير العطاء، وأنه عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، وأنه أهل التقوى وأهل المغفرة، فكل من أصيب بمصيبة أو مرض أو نحو ذلك؛ عليه أن يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة ربه، ومع ذلك يكون خائفاً وجلاً لا يزول الخوف عن قلبه، يكون خائفاً ويكون راجياً، ولكن يغلب الرجاء؛ لأنه في هذه الحال قد لا يحسن بعض الأعمال، ويأتي من الأعمال ما يفسدها، فيلعج بالدعاء، ويكثر من الذكر، وينوي النية الصادقة أنه إذا شفي أكثر من الحسنات والقربات، وما أشبه ذلك، ويثاب على هذه النية.
السؤال: ما حكم من يستهزئ بمن التزم بدين الله، ويصفه بالنفاق؟ وهل يجب مقاطعته وهجره بعد دعوته إلى الدين؟
الجواب: الاستهزاء قد يصل إلى الكفر، فإذا استهزأ بإنسان لأجل دينه فإن هذا الاستهزاء يوقعه -والعياذ بالله- في الخروج من الملة، فيقع في الكفر الصريح، وما ذاك إلا لأنه تنقص الدين، وما تنقص هذا الشخص، وهذا إذا تنقصه لأجل الدين، مثل أن يقول له بعد أن أقام الصلاة: هل نفعتك صلاتك؟ أو إذا أمرته بإعفاء اللحية قال: ماذا أفادتكم هذه اللحى؟ ماذا فعلت لكم؟ أنتم منافقون، ما وفرتم هذه اللحى إلا نفاقاً أو إرهاباً أو لشيء تبطنونه أو ما أشبه ذلك، فلاشك أنه تنقص هذه الشعائر الإسلامية، وهكذا بقية الأعمال، مثلاً استهزأ بالزهاد أو استهزأ بالعباد، أو بالمصلين، أو بالصائمين، أو ما أشبه ذلك؛ لأجل عباداتهم، فلا شك أن هذا ردة؛ لأنه تنقص أهل الشرع لأجل الشرع، فكأنه تنقص الشرع، ومن تنقص الشريعة فقد ارتد عن الدين والعياذ بالله.
أما إذا كان تنقصه لذلك الشخص بعينه؛ لأنه يتهمه بشيء، مثلاً يقول: فلان وإن تطوع فإني لا أثق بتطوعه ولا بمظهره، يتهم ذلك، ويظهر منه أو على فلتات لسانه أنه لا يتهم من كان مثل ذلك، ما اتهم المصلين كلهم، ولا استهزأ بأهل اللحى كلهم،ولا بأهل اللباس القصير كلهم، إنما استهزأ بإنسان معين، فهذا قد لا يصل إلى هذا الحد، لكن اتهامه ذنب عليه أن يتوب منه.
السؤال: بعض الناس إذا تصدق بصدقة قال: بركة نازلة، وهدية واصلة، من روحي إلى روح النبي محمد، وإلى روح أمواتنا أجمعين، فما الجائز في مثل هذا وفقكم الله؟
الجواب: لا حاجة إلى هذه المقالة، ويكفيه النية، والأولى أنه يجعلها لنفسه أو يتصدق بها عن أمواته، أو عن أموات المسلمين، وأما قوله: إلى روح النبي صلى الله عليه وسلم فلا أرى ذلك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أعمال أمته، وإن لم يهدوا له مثلها، ولم يكن السلف يهدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال شيئاً؛ لأنه هو الذي أرشد الأمة ودلهم، فله مثل أعمالهم (من دعا إلى هدى كان مثل أجور من اتبعه)، أما المسلمون فلا بأس أن تتصدق عنهم، أو تدعو لهم، سواء كانوا أقارب أو أباعد لا بأس بذلك، أما هذه المقالة فلا، لكن لو قلت مثلاً: اللهم اجعل ثوابها لي ولأمواتي أو للمسلمين فلا بأس بذلك.
السؤال: ورد هذا الدعاء على ألسنة بعض الناس، وهو: اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك، هل هذا صحيح يدعى به، أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب: ما ورد هذا الدعاء، قوله: الذي سترت به نفسك فلا يراك أحد. هذا خاص بالله، وهو أنه لا يرى في الدنيا، وأنه دون الأنوار كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فلا ينبغي أن يشرك الرب سبحانه وتعالى في هذا النور أحد أو في هذا الستر، فله أن يدعو أن يستر الله عورته ، وأن يؤمن روعته، كما ورد ذلك في حديث: (اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي)، فأما سترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا يراك أحد. فلم يرد مثل هذا.
السؤال: ذكرتم أن السابقين من المؤمنين كانت أعمالهم أقل من أعمال الذين أسلموا بعد الهجرة، مع أن الله عز وجل قد مدح السابقين في الإيمان، وقدمهم على من أسلم بعد ذلك، فكيف نوفق بين هذا وبين معتقد أهل السنة أن أكثر المؤمنين عملاً أكملهم وأقواهم إيماناً جزاكم الله خيراً؟
الجواب: الذين أسلموا في أول الأمر هم أكثر أعمالاً، حيث إنهم عملوا مثلاً ثلاثاً وعشرين سنة، يعني: منذ أن أسلموا إلى الوفاة، والذين أسلموا أخيراً ما عملوا قبل الوفاة إلا سنتين، فأيهما أكثر؟
لا شك أن الذين عملوا مدة طويلة أكثر، فهذا وجه من أوجه تفضيل السابقين الأولين.
ووجه ثاني: أن الأولين السابقين الذين أسلموا قبل الشرائع أسلموا في حالة قلة وذلة، وتحملوا المشاق والتعب، وهم الذين أوذوا في الله، وضربوا وحبسوا، وألقوا في الشمس، وألقيت عليهم الحجارة، وأوذوا بالجوع وبالجهد، وتحملوا ذلك، وهذا لا شك أنه زيادة في أعمالهم.
وهم الذين هاجروا في الله وتركوا أموالهم وأولادهم وبلادهم، وعشائرهم وأقوامهم، وتحملوا مشاق الهجرة، وسافروا مثلاً إلى الحبشة، ولا شك أن ذلك أشق عملاً، وكل ما كان العمل شاقاً كان الأجر أكبر، فهذا وجه تفضيلهم.
وأيضاً: هم الذين أسلموا من أول وهلة، أسلموا لأول دعوة، وذلك دليل على قبول قلوبهم، وقبول نفوسهم للإيمان، حيث لم يتلعثموا ولم يترددوا في قبول الإسلام، فدل على صفاء قلوبهم ونقائها مما يكدرها.
وبكل حال فلا شك أن السابقين الذين سبقوا بالإيمان أقوى إيماناً، ولكن المتأخرون الذين أسلموا في سنة ثمان لما أسلموا كانت الأعمال قد كملت، فكان الصيام موجوداً، وكان الحج موجوداً قد فرض، وكان الجهاد قد فرض، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد شرع، وكان القرآن قد نزل كله إلا القليل، فهم كلفوا بأن يعملوا به دفعة واحدة، بخلاف الأولين فإنهم إنما كلفوا بالموجود منه، ما أنزل قبل الهجرة إلا القرآن المكي، وما فرضت الصلاة مثلاً إلا قبل الهجرة، وكذلك التوحيد ونحوه، وما حرمت الخمر في ذلك الوقت ونحو ذلك، فبكل حال هؤلاء عملوا بما أمروا به، فلهم أجر كامل، وهؤلاء عملوا بما أمروا به -أي: بعدما أسلموا في آخر الأمر- فلهم أجرهم.
السؤال: هل صاحب الكبيرة ناقص الإيمان؟
الجواب: مذهب أهل السنة أن العاصي الذي يرتكب كبيرة يسمى فاسقاً، ويسمونه مؤمناً بإيمانه وفاسقاً بكبيرته، ويقولون: إن الإيمان في حقه موجود ولكنه شبه مفقود، حيث لا ترى عليه أثره، ويحملون على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: أنه ناقص الإيمان، أو أن الإيمان ينزع عنه في حالة الزنا مثلاً أو السرقة أو شرب الخمر، ثم لا يعود إليه كاملاً، بل يعود إليه وقد اختل ونقص، وبكل حال فأهل السنة يعتقدون أن معه أصل الإيمان الذي هو يقينه وتصديقه بأنه مسلم وبأنه من أهل الشريعة ومن أهل القبلة، ولكن لضعف إيمانه وقع في هذه المعاصي.
السؤال: هل يستطيع المسلم أن يستكمل الإيمان مطلقاً، حيث وشعبه قد حصرت في قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة ...)، الحديث؟
الجواب: قد اختلف العلماء في تلك الشعب لما عدوها، وكأنهم بسبب هذا الاختلاف لم يتفقوا على تحديد؛ فلأجل ذلك قال بعضهم: إن الحصر في سبعين أو ببضع وستين ليس مقصوداً به العدد، بل المراد به الكثرة، فإنه صلى الله عليه وسلم كثيراًما يذكر السبعة والسبعين والسبعمائة للكثرة لا للحصر؛ وذلك لأن كثيراً من العلماء أخذوا يبوبون الأبواب التي تدخل في الإيمان ووجدوها أكثر من السبعين، وقد تصل إلى المائة والمئات، فدل على أن هذه تعتبر أصول، ومن العلماء من قال: إن البضع والسبعين يراد بها الجوامع، فمثلاً: إماطة الأذى عن الطريق شعبة من الإيمان، ولكن ليس خاصاً بإماطة الحجر أو القذاة أو القذر، بل يدخل في ذلك إزالة كل مرض وإيصال كل نفع، وله أمثلة كثيرة، فدل ذلك على أن خصال الخير كثيرة، وأن الإنسان قل أن يحيط بها.
وبكل حال يوصف بأنه كامل الإيمان إذا عمل بكل أنواع الشريعة، وعمل بدقيقها وجليلها، ولم يقترف ما ينقصها، ولا ما يخل بها.
السؤال: هل البخاري يكفر الكرامية والكلابية والأشاعرة؟
الجواب: هذا الخلاف ما حدث إلا بعده، ابن كرام ما حدث إلى بعد البخاري ، وكذلك ابن كلاب والأشاعرة ونحوهم، ففي زمن البخاري لم يكن هناك من يخالف في مثل هذا إلا الجهمية، والجهمية لم يعتبرهم من أهل السنة، إنما عرَّف أهل السنة بأنهم أهل القبلة، وكأنه لم يعتبر الجهمية من المسلمين؛ وذلك لقوة مخالفتهم للأصول، حيث اجتمع فيهم شر الخصال، وأبعدها، وأفضعها، فإنهم أشركوا بجحد الصفات، وغلو بالإرجاء، وغلوا بالجبر، وغلطوا في مسمى الإيمان بزعمهم أنه المعرفة، فاجتمعت فيهم خصال الشر كله، فلم يعتبر خلافهم، وأما من سواهم فلم يوجد إلا بعده.
والحنفية في زمانه يعترفون بالإقرار، ويجعلون الإيمان هو الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان، والماتريدية يوافقونهم على الإقرار، وإن كانوا يخرجون القول من الإيمان، والكرامية يجعلونه الإقرار باللسان فقط، ومحمد بن كرام كان في آخر القرن الثالث، وتوفي البخاري في وسط القرن الثالث في سنة ست وخمسين ومائتين، قبل أن يشتهر ابن كرام أو قبل أن يقول بهذا القول.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2715 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2630 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2591 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2564 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2472 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2408 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2387 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2373 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2336 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2300 استماع |