شرح العقيدة الطحاوية [43]


الحلقة مفرغة

مما تكلم به العلماء في العقيدة: أسماء الإيمان والدين، فعند أهل السنة والأئمة وجماهير السلف أن الإيمان والدين هو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وأن الأعمال من مسمى الإيمان، هذه عقيدة أهل السنة.

وعند أكثر الحنفية: أنه الاعتقاد بالجنان، والإقرار باللسان، ولم يجعلوا الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا هو الذي ذكره الطحاوي بناءً على أنه معتقد الحنفية.

وذهبت الماتريدية إلى أنه الاعتقاد بالجنان فقط، ولا تدخل فيه الأعمال ولا الأقوال.

وذهبت الكرامية إلى أنه مجرد الإقرار باللسان فقط، وإن لم يكن هناك اعتقاد بالجنان، فعلى قولهم فإن المنافقين مؤمنون؛ لأنهم يقرون باللسان، وهم يقولون: المنافقون مؤمنون، ولكنهم مستحقون للوعيد الذي توعدهم الله به ولو كانوا مؤمنين.

وذهب الجهم بن صفوان وأتباعه إلى أن الإيمان هو مجرد المعرفة، فعندهم - على هذا الاصطلاح- أن إبليس من المؤمنين، وأن فرعون من المؤمنين، وكذلك الكفار الذين عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، كما حكى الله عنهم بقوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26] ، وكما سمعنا في نظم أبي طالب أنه كان يعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتبعه، فعندهم يكون مؤمناً، وكذلك اليهود يكونون عندهم مؤمنين لقوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] .

هذه ملخص الأقوال في مسمى الإيمان، والأصل هو قول أهل السنة، وهو أنه يجمع بين الثلاثة: القلب، واللسان، والأركان. وهو الذي ذكره البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، يقول: وهو قول وفعل، وهو إنما نص على القول والفعل، وعلى الزيادة والنقصان، ولم يذكر الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد لا خلاف فيه، فلأجل ذلك خصص ووضح أن القول والفعل من الإيمان، ثم أخذ يذكر الأبواب في ذلك، ويقول: باب: الصلاة من الإيمان. باب: رد السلام من الإيمان. باب: أداء الخمس من الإيمان. باب: الصدقة من الإيمان.. وهكذا.

وقد أقره على ذلك الذين شرحوا صحيحه من أهل السنة، مثل: ابن كثير الذي شرح أول صحيح البخاري وأقره، وكذلك ابن رجب شرح أول صحيح البخاري وأقره، وأتى عليه بالأدلة، وهكذا الذين شرحوه من أهل السنة، أما الذين شرحوه من غيرهم فإنهم قد وقعوا في بعض التأويلات، مثل: صاحب عمدة القاري، وهو العيني، فإنه حنفي؛ لأجل ذلك أخذ يتأول هذه الأبواب، ويحاول أن تكون على مذهب الحنفية، وشارح الطحاوية الذي نقرأ له حنفي -أيضاً-، وهو علي بن أبي العز ، ولكنه تتلمذ على ابن كثير ، فتأثر به في باب العقيدة، فلأجل ذلك فإنه في باب الأسماء والصفات التزم بمذهب أهل السنة، ولما أتى على هذا الموضع -وكان كلام الطحاوي فيه مخالفاً لمذهب أهل السنة بناء على مذهب الحنفية- لم يستطع أن يجمع بينه وبين قول أهل السنة جمعاً ظاهراً، فحاول أن يجعل الخلاف لفظياً، يعني: أننا إذا جعلنا الإيمان -أصلاً- هو الاعتقاد الجازم، كانت الأعمال من ثمرات هذا الاعتقاد؛ لأن الذي يعمل إنما يحمله على العمل الاعتقاد الجازم، وهذا صحيح؛ إذ إن الإنسان إذا رسخت العقيدة في قلبه انبعثت جوارحه بالأعمال، وأكثر من الصالحات والحسنات والقربات، وإذا ضعفت العقيدة التي في قلبه ضعفت الأعمال عنده، والدوافع التي تدفعه إلى الأعمال الخيرية.

ولكن لابد أن نقول: إن هذه الأعمال التي يعملها تسمى إيماناً، وأن الإيمان يزيد ويقوى، وأن كل واحد من هذه الأعمال يوصف بأنه إيمان، فتوصف الصلاة بأنها إيمان، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] نزلت هذه الآية لما صرفت القبلة إلى الكعبة، فقال بعض الصحابة: فما بال صلاتنا إلى بيت المقدس قبل أن تصرف؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم الأولى قبل التعديل لن تضيع، فسمى الصلاة إيماناً.

وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأعمال كلها من الإيمان في قوله: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة؛ أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، والشعب: هي القطع من الشيء التي إذا تفرقت ضعف، وإذا اجتمعت كمل واستقام، فمعناه: أن هذه الشعب متى اجتمعت في قلب المؤمن وفي عمله أصبح مؤمناً كامل الإيمان، وإذا نقص واحدة نقص إيمانه، وهكذا فإذا ذهبت كلها ذهب الإيمان كله من قلبه.

وفي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد من الإيمان، وهي نطق باللسان، وجعل إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وهي عمل بالأركان، وجعل الحياء من الإيمان، وهو اعتقاد بالجنان، فدخل بذلك كل ما يشبه هذه الأشياء، هذا معتقد أهل السنة.

أما معتقد الحنفية فالإيمان عندهم: هو الاعتقاد والقول، وبعضهم جعل الخلاف بينهم وبين أهل السنة لفظياً، والصحيح أنه معنوي؛ وذلك لأن الإنسان إذا لم يعتقد أن الأعمال من مسمى الإيمان ضعف حرصه على الأعمال، ولم يبالِ بالسيئات؛ لاعتقاده أنها لا تنقص الإيمان، وأن الحسنات لا تجلب الإيمان، وأنها ليست من الإيمان؛ فيضعف بذلك حرصه واجتهاده، فلأجل ذلك اهتم أهل السنة بمن يعتقد هذا الاعتقاد، وقربوهم، وقد ذكر عن البخاري أنه قال: رويت في هذا الكتاب عن مائتين وسبعين عالماً، كلهم يقول: الأعمال من مسمى الإيمان. يعني: أنه اختار مشايخه الذين روى عنهم في الصحيح -لا في خارج الصحيح- والذين بلغ عددهم إلى مائتين وسبعين أو نحو ذلك، وكانوا كلهم على هذه العقيدة، يعني: لم يروِ في صحيحه عن الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان، مع كثرتهم في زمانه، وهذا دليل على اهتمام السلف بعقيدتهم، وتحريهم في أخذها، ومعرفتهم بمن هو أهل لأن يروى عنه ومن ليس أهلاً لذلك.

عدم تحقق الإيمان بالقول بدون العمل

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

[وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام!! وهذا غلو منه؛ فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده.

ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء. يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى، فمن الناس من نور لا إله إلا الله في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق.

ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) ، وقوله: (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله) ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، ونحو ذلك].

القول بأن الأعمال ليست من الإيمان يحتج أهله بأنهم إذا حققوا الاعتقاد نتجت عنه الأعمال وأثمرت، وقد يستدلون بعطف الأعمال على الإيمان في مثل قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] .

والجواب: أن المراد بالإيمان هنا: أصله، والمراد بالأعمال: نتيجته وثمرته، أو المراد أكثروا من الأعمال الصالحة، وبكل حال فالأعمال لابد أنها داخلة في الإيمان؛ وذلك لأن الإيمان -الذي هو قوة اليقين وقوة التصديق- له علامات وله آثار وله ثمار، ومن أرفعها وأعلاها: ظهورها على بدن صاحبها. فنقول على هذا: كلها إيمان، فإذا رأيناه يغض بصره عن الإثم وعن العورات، قلنا: هذا هو الإيمان، وإذا رأيناه يصون سمعه عما لا يحل؛ قلنا: هذا هو الإيمان، وإذا رأيناه يحفظ لسانه عن الكلام القبيح والسيئ، أو سمعناه يتلفظ بالذكر وبالدعاء وبالنصح وبالتعليم؛ قلنا: هذا هو الإيمان، يعني: ظهر الإيمان عليه، وإذا رأينا زهده وورعه، وتقلله من المشتبهات، وبعده عن الآثام، قلنا: هذا هو الإيمان، أو هذا هو المؤمن، وأشباه ذلك.

وأما الأدلة التي وردت في نجاة أهل التوحيد -أهل كلمة الإخلاص- كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) ، وقوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) وأخبر عن شفاعته في يوم القيامة أنها تنال من قال: (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه، وأشباه ذلك، هذه الأحاديث تمسك بها أهل الإرجاء -الذين غلبوا جانب الرجاء- فقالوا: إنه يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ويكفي أن ينوي الإخلاص، ولا يشترط أن يعمل، ولا يشترط أن يكف عن السيئات، حيث لم يشترط ذلك في هذه الأحاديث.

ولكن هذا القول خاطئ، والصواب: أن من قالها فإنه لابد أن يعمل بموجبها؛ فإن لا إله إلا الله قد قيدت بالقيود الثقال، ولها شروط سبعة ذكرت في قول الشاعر:

علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها

وبعضهم زاد شرطاً ثامناً، ونظمه بقوله:

وزيد ثامنها الكفران منك بما سوى الإله من الأنداد قد ألِهَ

فما دام أن هذه الشهادة قد قيدت بهذه القيود فلابد أن يتبعها العمل، وإلا فلا يكون القول صادقاً، وعرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بنجاة أهل هذه الكلمة، فإنما أراد أهلها الذين تقع في قلوبهم موقعاً ينتج عنه أثر ونتيجة، وهذا الأثر هو العمل، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا الله؛ عبدوه بكل أنواع العبادة، فذلك هو التأله، وتركوا معصيته، وذلك -أيضاً- من التأله، وأعرضوا عما سواه، وذلك -أيضاً- من التأله له وترك التأله لغيره، فأما إذا لم يعبدوه فلا يصدق عليهم أنهم اتخذوه إلهاً، وكذلك إذا لم يؤدوا حقوق عبادته كلها لم يصدق عليهم أنهم اتخذوه إلهاً.

وأما الذين قالوا: إن هذه الأحاديث في كلمة (لا إله إلا الله) محمولة على أول الأمر، فيقول بعض العلماء: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) -ونحو ذلك- محمول على من دخل في الإسلام لأول مرة، فإنه يكف عنه، ولكن بعد ذلك ينظر في حاله: فإن استمر في العمل بمعنى لا إله إلا الله يكف عنه كفاً تاماً، وإن لم يستمر في العمل بها، ولم يؤدِ حقوقها؛ فحينئذ يعود إلى ما كان عليه، فيقاتل عليها؛ لأنه قالها ولم يعمل بها.

وهناك من حمل قوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه) ، أو (حرم الله على النار من قال: لا إله إلا الله) على أن المراد نار الكفار، يعني: التي يخلدون فيها. يعني: أنه وإن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، أو لا يدخل نار الكفار، وهذا خلاف ما في الأحاديث المطلقة.

فإذاً: نحمل أحاديث الرجاء -التي فيها النجاة لأهل لا إله إلا الله- على أن المراد: من قالها صادقاً من قلبه، وانطلقت جوارحه بالعمل بمقتضاها، فأنت إذا دعوت إنساناً إلى لا إله إلا الله، فنطق بها، وقال: أقول: لا إله إلا الله، وأقول: إن محمداً رسول الله. فطالبه بعد ذلك بمعناها، قائلاً له: ما معنى الإله؟ أليس الإله هو المألوه أو المعبود؟ نطالبك بأن تعبده، وأنت أقررت بأنه المستحق للعبادة، فأين العبادة؟ من العبادة أركان الإسلام.. من العبادة واجبات الإسلام.. من العبادة مكملات الإسلام.. من العبادة ترك المحرمات في الإسلام، طالبه بمعنى ذلك، وقل: هذا هو التأله، إن أتيت بذلك فأنت صادق، وإلا فأنت منافق؛ لأن الذي يقولها ثم لا يعمل بها شبيه بالمنافقين؛ فإن المنافقين يقولونها ليحموا بذلك أموالهم وأبدانهم، أما المؤمنون فإنهم يقولونها ويطبقونها.

تفاوت قوة الإيمان بتفاوت قوة الاعتقاد وكثرة الأعمال

قال الشارح رحمه الله: [والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب.

وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار.

وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان، التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته -وهو في تلك الحال- أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت!

وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية؛ فغفر لها.

وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض.

وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب].

عرفنا أن كلمة (لا إله إلا الله) لابد أن يعمل بها، وأن الذين يقولونها ولا يعملون بها هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار؛ وذلك لأنهم أخلوا بشرطها؛ وهو: العمل والتطبيق، أو أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فلم تنفعهم هذه الكلمة إلا نفعاً دنيوياً، وذلك بأن حقنوا بها دماءهم، وأحرزوا بها أموالهم، فلما أظهروا أمام الناس أنهم مؤمنون -والله مطلع على ما في قلوبهم- لم تنفعهم هذه الكلمة التي ما صدرت عن اعتقاد، ولم يعملوا بها حق العمل.

إذاً: أهل الإيمان حقاً هم الذين يقولونها ويعملون بمقتضاها، وتصدر عن قلوبهم، وتطمئن قلوبهم بمدلولها، ويعرفون معناها.

وهم -بلا شك- متفاوتون في هذه القوة، وذلك بحسب كثرة الأدلة، وبحسب كثرة الأعمال، فكلما كثرت الأعمال الصالحة قوي الإيمان في القلب؛ ولأجل هذا نقول: إن الأعمال من مسمى الإيمان، وإنها تزيد الإيمان، وإن السيئات تنقص الإيمان، وكذلك ترك الصالحات ينقص الإيمان.

وإذا كان الإيمان يتفاوت، فإن قدره في القلب يتفاوت، والإيمان الذي على الأبدان يتفاوت، وقد مثل الشارح الإيمان الذي في القلب بالبصر الذي في العين، وقال: الناس يتفاوتون في الإبصار، فبالرغم من أنهم كلهم مبصرون؛ إلا أن بعضهم أقوى بصراً من بعض، فبعضهم يرى الشخص من بعيد -من مسيرة ثلاثة أو أربعه أميال- فيعرف شخصه، وبعضهم لا يعرفه ولو كان بينه وبينه خمسة أمتار أو نحوها، وبعضهم يقرأ الخط الدقيق بدون نظارة ونحوها، وبعضهم لا يقرؤه إلا إذا كان كبيراً، كما هو مشاهد.

واختلاف الناس في البصر يماثله اختلافهم في العقل، إذ يتفاوت الناس فيه، فمنهم من يكون فطناً ذكياً، ومنهم من يكون في غاية البلادة والغباوة، ومنهم من يكون بين ذلك.

وإذا كان التفاوت حاصلاً في هذين الأمرين، وهما من خلق الله تعالى وتدبيره، فنقول: كذلك الإيمان الذي في القلب يقوى في حق أهل الإيمان القوي الذين تكاثرت الأدلة عليهم فرسخ بها الإيمان في قلوبهم، وآخرون ضعف الإيمان في قلوبهم بقلة الأدلة أو بعدم تأملها، لأجل ذلك فإن البعض من أهل الإيمان إذا جاءته شبهة أو دعاه داع إلى الضلال أو إلى الردة ترك الإسلام، وترك الصلوات، وترك الأعمال، وما ذاك إلا لضعف الإيمان الذي في قلبه؛ وضعف الأدلة التي بنى عليها هذا الإيمان، وبعضهم يكون الإيمان في قلبه أرسى من الجبال، لا تزعزعه الشبهات ولا التشكيكات، ولا الإيرادات التي يوردها عليه دعاة الضلال، فلو أتوه بكل دليل عندهم، ولو ألقوا عليه كل شبهة؛ فإن إيمان قلبه يحرق تلك الشبهات ويزيلها؛ وذلك لأن قلبه مستنير، وقد مثل الشارح الإيمان بالنور، فإن القلب إذا كان فيه إيمان فإن فيه نوراً، وأنتم تعرفون تفاوت الأنوار، فمنهم من يكون النور الذي في قلبه كنور الشمس الذي يضيء على الدنيا، ومنهم من يكون كنور القمر، ومنهم من يكون كالسرج القوية، ومنهم من يكون كالشمعة الضعيفة أو ما أشبهها، وقوة النور تتوقف على المواد التي تمد ذلك النور، فكذلك النور في القلب ما الذي يمده؟ لا شك أن الذي يمده الأدلة من آيات الله تعالى، ومن مخلوقاته، ومن أحكامه وشرائعه، ومن المعجزات التي جرت على أيدي رسله وعلى أيدي أوليائه، تواردت على ذلك القلب، فتمكنت ورسخت فيه، فصار لا حيلة لأحد في تضعيفها ولا إزالتها.

فإذا رأيت إنساناً إيمانه ضعيف فإنك تجده قليل الأعمال، كثيراً ما يترك الصلوات أو يتكاسل عنها، ويرتكب بعض المنهيات ونحو ذلك، كيف السبيل إلى إنقاذه؟

السبيل إلى ذلك أن تحثه على ما يقوي إيمانه، بأن تكرر عليه الأدلة والآيات والبراهين التي تصل إلى قلبه، وتكرر عليه ما يبطل الشبهات التي امتلأ بها قلبه، فإن لم تقدر على ذلك فأرشده إلى ما يقرؤه أو ما يسمعه من النشرات، أو من الكتب والمؤلفات التي تحتوي على براهين وآيات ودلالات واضحات، وبذلك يقوى الإيمان في قلبه، وتزول تلك الأسباب التي تضعفه، فعند ذلك ينبعث بدنه وأعضاؤه وجوارحه بالأعمال الصالحات، فلا ينظر إلا نظر إيمان، ولا يسمع إلا سماع إيمان، ولا يتكلم إلا كلام إيمان، ولا يهم بقلبه إلا بما هو إيمان، ولا يمشي إلا إلى إيمان، ولا يعمل بيديه إلا ما هو إيمان، ولا ينفق ماله إلا فيما هو إيمان.. وهكذا. فهذا ونحوه من ثمرات الإيمان الذي هو أصل في القلب، ثم بعد ذلك ينبعث على الجوارح.

الأدلة العقلية والنقلية على زيادة الإيمان

قال الشارح رحمه الله: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله.

وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح: فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المخبر كالمعاين) ، وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر -وإن جزم بصدق المخبِر- قد لا يتصور المخبَر به نفسه كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل -صلوات الله على نبينا محمد وعليه-: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة -مثلاً- يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل.

وكذلك الرجل أول ما يسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان].

من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان -الذي في القلب، والذي في اللسان، وعلى الجوارح- يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] ، كيف زادهم إيماناً؟ أي: تصديقاً بخبر الله، وعملاً بآثار ذلك التصديق، فالله أخبرهم بأنه ينصرهم، وبأنه لا يخذلهم، فلما جاءهم هذا الخبر ما زادهم إلا تصديقاً بالله تعالى وبخبر الله، فدل ذلك على أن الإيمان يزيد، وكل ما هو قابل للزيادة فهو قابل للنقص.

وقال تعالى في سورة الأنفال: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] فسمعاها أو قراءتها تزيدهم إيماناً يعني: أنهم يعملون بها، ويصدقون بها، ويعرفون مدلولها، فيكون ذلك زيادة في أعمالهم.

وقال تعالى في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] ، السكينة التي أنزلها في قلوبهم: الطمأنينة إلى خبر الله وخبر رسوله، والثقة بأنه ينصر من نصره، كما في الآيات الأخرى، فهذه الثقة زادتهم إيماناً؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فدل على أنهم كانوا مؤمنين، وأن هذه السكينة زادتهم إيماناً إلى إيمانهم، ولا شك أنها زيادة محسوسة بحيث زادت أعمالهم، وكثرت حسناتهم، وقلت سيئاتهم، فيكون ذلك من أسباب زيادة الحق والإيمان.

هذه بعض الأدلة على زيادة الإيمان، والشارح يقول: إن الزيادة هي زيادة الأعمال، يعني: أن الذي عمل بالشريعة أول ما نزلت عمل بأعمال قليلة، ولما زادت الشرائع زادت أعماله، ومعلوم أن الذين أسلموا بمكة في أول الإسلام ما فرضت عليهم الطهارة ولا الصلاة ولا الصوم ولا الصدقة ولا الجهاد، وما فرض عليهم من أركان الإسلام إلا الشهادتان، حيث بقوا عشر سنين قبل أن تفرض عليهم الصلاة، أما الذين أسلموا في سنة ثمان من الهجرة فقد أسلموا بعد أن تمت شرائع الإسلام، فصاروا يصلون ويزكون ويصومون ويجاهدون ويحجون ويعلمون ويعملون ويتعلمون القرآن ويقرءونه، فأعمالهم أكثر من أعمال الأولين الذين اقتصروا على التوحيد وعلى الإخلاص، فهذا دليل على تفاوت الإيمان بكثرة الأعمال، وهذه وجهة لبعض العلماء في زيادة الإيمان: أن المراد بها: زيادة الأعمال وكثرتها.

ومثل الشارح بمن بلغته الشريعة فآمن بها، ولم تبلغه تفاصيلها كالنجاشي ملك الحبشة، فإنه لما أسلم لم تبلغه تفاصيل الشريعة من أركان الإسلام والمحرمات في الدين، وكذلك ما سمع من القرآن إلا بعضه، ولم يعمل به كله، فإيمانه بحسب ما وصل إليه من الأركان ومن الأحكام، فهو أقل نسبياً من الذين حضروا التنزيل فآمنوا به مفصلاً، وعملوا به عملاً كاملاً، فهؤلاء أكثر عملاً، فهم أقوى إيماناً وأزيد، هكذا فسر بعض العلماء الزيادة بكثرة الأعمال.

التصديق الذي في القلب يتفاوت

التصديق الذي في القلب يتفاوت، فقد عرفنا خبر صاحب البطاقة الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدعى وله تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، مكتوب فيها سيئاته، لا يدرك أعلاه البصر؛ فيعترف بذلك كله، ثم يخرج له بطاقة صغيرة مكتوب فيها الشهادتان، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة؛ لماذا؟ لأن هذه الشهادة صدرت من صميم قلبه، صدرت وهو موقن بها يقيناً صادقاً وإيماناً قوياً، فلما قالها بهذه النية وبهذه العقيدة محت جميع ما سبقها، وكفرت السيئات كلها، وأحرقتها إحراقاً مزيلاً لأثرها، فلم يبق لها جرم تزن به، فكانت هذه الشهادة هي التي ثقلت بتلك الأعمال.

واستدل الشارح بقصة الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً، ثم سأل: هل له من توبة؟ فأفتاه عابد بأنه لا توبة له، فقتله وتمم به المائة، ثم سأل بعد ذلك فدله العالم على قرية بها أناس صالحون، فجاء إليها مهاجراً فاراً بدينه، فأدركه الموت وهو في الطريق، فلما أدركه الموت كان من محبته لتلك القرية أن أخذ ينأى بصدره ويقرب إليها، فكان فعله هذا دليلاً على قوة إيمانه وقوة تصديقه؛ مما جعله يلحق بأهل تلك القرية وتقبل توبته، فهذا دليل على أن الإيمان إذا كان قوياً في القلب ظهرت آثاره وظهرت علاماته.

واستدل -أيضاً- بقصة امرأة بغي -يعني: زانية- كانت تكثر من الزنا، ثم إنها تابت، ولما رأت كلباً يلهث على ركية يكاد يموت عطشاً، نزعت موقها -يعن: خفها- وملأته ماءً وسقت ذلك الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، وذلك دليل على أن رحمتها بهذه البهيمة ورجاءها من الله المغفرة هو الذي حملها على ذلك، فتعلق قلبها بربها أنه الذي يثيبها على هذا العمل، فكان هذا العمل الصادق الخالص نابعاً من إيمان قوي وتصديق ثابت، فأصبح مكفراً لهذه السيئات التي سبقت.

وبكل حال: فالأعمال التي تكون على البدن، إذا كان البدن عاملاً بها زاد الإيمان الذي في القلب، وزاد الإيمان الذي هو من مسمى الإيمان، فإن تكلم بكلمة من الخير زاد إيمانه، وإن تكلم بكلمة شر أو سوء نقص إيمانه، وإذا أنفق لله تعالى درهماً أو ديناراً أو شيئاً يبتغي به وجه الله زاد إيمانه، وإن أنفقه فيما يسخط الله من لهو وباطل وكفر وضلال نقص إيمانه، وإن مشى خطوات إلى ذكر وإلى مسجد وإلى علم وإلى عبادة من العبادات زاد إيمانه، وإن مشى خطوة أو خطوات إلى لهو وباطل ولعب ومعصية من المعاصي وما أشبهها فمشيه هذا ينقص إيمانه.

ومعلوم أن الصلوات تزيد الإيمان، وأن أكل الحرام ينقص الإيمان، وأن النكاح الحلال بالنية يزيد الإيمان، والنكاح الحرام ينقص الإيمان، وكذلك الكسب الحلال والنفقة منه يزيد الإيمان، والكسب الحرام والنفقة منه ينقص الإيمان، ويقال كذلك في الكلام السيئ والكلام الحسن: فالذكر بأنواعه والدعاء والأمر بالخير وتعلم العلم وتعليمه يزيد به الإيمان، وتعلم الباطل والسوء والكلام السيئ والسباب والشتائم ونحوها ينقص الإيمان.. وهكذا.

فعلى المسلم أن يتفقد نفسه ويتفقد أعماله، ويحرص على أن يكون في زيادة لا في نقصان.

الفرق بين لفظ (التصديق) و(الإيمان) فيما يتعلق بخبر الغيب والشهادة

لا يستعمل بدل كلمة الإيمان التصديق، والدليل عليه قوله تعالى في سورة العنكبوت: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] ، مع أن التصديق يتعدى بـ(الباء)، فيقال: صدقت به، ولا يقال: صدقت له. وأنت حين تتكلم عن شخص تقول: صدقت فلاناً، وصدقت بخبره، ولا تقول: صدقت له، فكذلك قوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ [يونس:83] (آمن لموسى) ولم يقل: فما آمن به؛ لأن المراد: اتبعوه وعملوا بما جاء به، فهذا دليل على أن الإيمان أصبح مغايراً للتصديق، وليس مرادفاً له، فعرف بذلك أن الاستدلال بأن الإيمان في اللغة: هو التصديق، لا يصلح دليلاً على أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان.

قال الشارح رحمه الله: [فالحاصل أنه لا يقال: قد آمنته، ولا صدقت له. إنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بـ(أقررت)، أقرب من تفسيره بـ(صدقت)، مع الفرق بينهما؛ لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا. قيل له: صدقت.

وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له، فإن فيه أصل معنى الأمن والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبِر، ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ (آمن له) إلا في هذا النوع.

ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك؛ لكان كفراً أعظم، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر هو التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان، يكون تصديقاً وموافقة وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان. ولو سلم الترادف فالتصديق يكون بالأفعال أيضاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان تزنيان، وزناهما النظر، والأذن تزني، وزناها السمع -إلى أن قال:- والفرج يصدق ذلك ويكذبه) .

وقال الحسن البصري رحمه الله: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال).

ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفه وبينه.

فالتصديق -الذي هو الإيمان- أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص، من غير تغير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق.

ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه من لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.

ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة، لكن الشارع زاد فيه أحكاماً، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي، أو أن يكون قد نقله الشارع، وهذه أقوال لمن سلك هذا الطريق].

كل هذا من البيان والإيضاح للفرق بين التصديق والإيمان، وأنهما ليسا مترادفين من كل جهة، ولو كانا مترادفين في اللغة فإنهما غير مترادفين في الشرع، فمعلوم أن التصديق ضده التكذيب، يقال: صادق أو كاذب، ويقال: صدقته أو كذبته، فالتصديق ضده التكذيب.

أما الإيمان فليس ضده التكذيب، بل ضده الكفر، فيقال: آمن أو كفر، مؤمن وكافر، فأصبح له ضد غير التصديق، فدل على أنه ليس هو التصديق من كل جهة، والذين قالوا: الإيمان والتصديق معناهما واحد، يقال لهم: قد دلت اللغة على التفريق بينهما كما في الأمثلة التي ذكرها الشارح، فإذا قال: طلعت الشمس. قيل: صدقت، أو كذبت. ولا يقال: آمنت به، ولا آمنا بخبره، بل يقال: صدقناه، وأصبح الإيمان اسماً للإيمان بالشيء الغائب؛ لأن الله أخبر بذلك في قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] أي: يجزمون به ويعتقدونه وإن كان غائباً لم يروه... إلى آخر ما ذكره الشارح.

وبكل حال: فالإيمان في الأصل وفي اللغة: هو التصديق، ولكن نقله الشارع من اللغة، وجعله مسمى شرعياً، فأصبحت الأعمال من مسمى الإيمان، فمن آمن باللسان، وصرح بسب الدين، وبسب الله، وبسب الرسل، وبكلمات الكفر -ونحو ذلك- وهو مع ذلك يدعي أو يزعم أنه من أهل الإيمان، وأن قلبه مؤمن؛ لم نصدقه في ذلك، بل عاملناه بما يقول؛ وذلك لأنا نعمل بالظاهر، كما روي (أنه صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في قتل بعض المنافقين، فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: يشهد، ولا شهادة له. قال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: يشهد، ولا شهادة له. قال: أليس يصلي؟ قال: يصلي، ولا صلاة له. قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم) يعني: أنه أمر بأن يعمل بالظاهر.

ولما استأذنه خالد بن الوليد أن يقتل ذا الخويصرة الذي قال: (اعدل يا محمد! فقال: ألا نقتله؟ قال: لعله يصلي. فقال: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) يعني: أننا إنما نعامله بما يظهر منه، فلأجل ذلك إذا قال بعضهم: إن قلبي ممتلئ إيماناً، إن قلبي مؤمن. قلنا له: صدق هذا الإيمان بعلامة عليه وهو العمل، فإنه من مكملاته، فإذا لم تعمل، بل خالفت ما تقوله بما تعمله كذبناك، ولم نقبل قولك، فلو كنت صادقاً لعملت، كيف تزعم أنك تحب الله وتحب الرسول وتحب الشريعة والإسلام، ومع ذلك لا تأتي بعلامة على هذه المحبة؟!

تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

والأثر الذي روي عن الحسن مشهور، وهو أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال)، فنفى أن يكون بالتحلي، يعني: الحلة الظاهرة كاللباس أو الهيئة أو الشعور أو المظهر أو المقال أو السكنى فيما بين المسلمين أو نحو ذلك، وكذلك التمني، يعني: الألفاظ، يقول: أنا مؤمن، أنا من أهل الإيمان، ويمدح بذلك نفسه، ليس ذلك هو حقيقة الإيمان، الإيمان في الحقيقة هو ما امتلأ به القلب، ثم ظهرت آثاره على الأعمال، أي: صدقته الجوارح بأعمالها.

من استكمل خصال الإيمان استكمل إيمانه

الإيمان الذي يكون في القلب، ويكون في البدن، هما ملازمان، وكذلك الذي يكون باللسان، والذي يكون بالأركان هما متلازمان، وكلاهما من خصال الإيمان، فمن استكملها استكمل الإيمان، كما ذكر ذلك البخاري عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: (إن للإيمان شروطاً وخصالاً وخصائص، من استكملها استكمل الإيمان، ومن أخل بها نقص منه الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص)، هذا كلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

ولا شك أنه أخذ ذلك عن الصحابة، فهو عرف أن الإيمان لا يكفي فيه الانتماء والتسمي، فله شروط، وله مكملات، وله آثار، وله أعمال، فلابد أن المؤمن يأتي بها ويستكملها؛ حتى يكتب بذلك مؤمناً حقاً.

فهكذا يكون المؤمنون الذين لا يفرقون بين الله ورسله، ولا يردون شيئاً من شريعته، هؤلاء هم المؤمنون حقاً.

وقد عرفنا أن عقيدة أهل السنة أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه لا يكون مؤمناً إذا لم يعمل؛ وذلك لأن الإيمان الذي في القلب تظهر آثاره على الأعمال، فالأعمال إيمان كما أن الاعتقاد إيمان، وكما أن الأذكار اللسانية إيمان، وكما أن النفقات في وجوه الخير إيمان، وكما أن الأعمال الخيرية كلها وخصال الخير وخصال الدين كلها من الإيمان، فالكفر له شعب، والإيمان له شعب، فيقال: إن السباب والشتم واللعن من خصال الكفر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، فجعل الأعمال المحرمة كفر، وقال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة)، فجعلها كفراً، أي: من خصال الكفر، فخصال الكفر تسمى كفراً، وخصال الإيمان تسمى إيماناً.

والعبد يحرص على أن يجمع خصال الخير كلها حتى يكون مؤمناً حقاً: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4] ، من الذين يزهد في هذا الثواب كله؟! فالمؤمن يحرص على أن يكون مؤمناً حقاً حتى يحصل له هذا الثواب.

كذلك الذين زعموا أن الأعمال ليست من الإيمان، وجعلوا الإيمان مقتصراً على العقيدة وعلى الكلام -كما هو مذهب الأحناف- لا شك أن قولهم فيه خلل، وقد ذكرنا فيما سبق أنهم لما اعتقدوا هذه العقيدة ضعف قدر الإيمان الذي في قلوبهم، فصاروا يكتفون بما في القلب وبما في اللسان، ولا يعدون الأعمال من مسمى الإيمان، فيضعف تنافسهم في الخيرات، ولا يبالي أحدهم بما ارتكب من السيئات والخطيئات، فيقعون في الذنوب ولا يشعرون، أو يظنون أنها لا تنافي إيمانهم، أو أنها لا تنقص ثوابهم، وكذلك يزهدون في الأعمال الخيرية من الحسنات والقربات وسائر الطاعات، ويظنون أنها لا يكون لها تأثير في إيمانهم ولا في قرباتهم ولا في أعمالهم، فكان ذلك سبباً في نقص تنافسهم في الخيرات.

أما أهل السنة فإنهم لما عرفوا أن الأعمال من الإيمان صاروا يتنافسون في كثرة الخصال الخيرية، وصاروا يعملون الأعمال الدينية، وصاروا يكثرون من الحسنات، ويتقون السيئات والمخالفات، فصاروا بذلك في أعلى المراتب، وقد مر بنا كثير من أقوالهم التي يتعللون بها، ولكنها لا تصلح مستنداً.