شرح العقيدة الطحاوية [29]


الحلقة مفرغة

من أركان الإيمان بالله: الإيمان بقضائه وقدره، فهو ركن من أركان الإيمان الستة، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وذكره الله تعالى بقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وبقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2].

العلم والكتابة

والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:

أولاً: العلم، وثانياً: الكتابة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ، هذا دليل على العلم، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الأنعام:59]، هذا دليل على الكتابة.

كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) أي: أنه تعالى علم ما سوف يحدث من أول الدنيا إلى آخرها، وأثبت ذلك، وليس في ذلك صعوبة على الله، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] يعني: علمه وكتابته للأشياء قبل وقوعها يسير عليه ليس فيه صعوبة؛ لأنه هو الذي أوجد الكائنات، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، وحيث إنها تكون بإرادته سبحانه وتعالى، فإنها كذلك كائنة بعد خلقه وبعد إيجاده لها، فهو علمها قبل أن توجد وأثبتها في اللوح المحفوظ كما أخبر بذلك.

وقد كان غلاة القدرية قديماً ينكرون هذا النوع ويقولون: إن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع، وبعضهم يقول: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، بمعنى: أنه لا يعلم مفردات الأشياء وإن كان يعلم عموماتها، وقد ورد في حديث: (أن ثلاثة من أهل مكة اجتمعوا في مكان فقال بعضهم: أترون أن الله يسمع ما نقول، فقال الثاني: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وقال الثالث مستنكراً: إن كان يسمع جهرنا فإنه يسمع سرنا، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [فصلت:22-23] -يعني: أهلككم- فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23]) فهكذا ظن هؤلاء الذين يظنون أن الله لا يعلم أعمالهم، أو أنه يخفى عليه شيء من أحوالهم، أو أنهم يكونون في مكان أو موضع لا يراهم ربهم أو نحو ذلك.

وفائدة العبد إذا آمن بأن الله عالم بسره وعالم بنجواه، وعالم بأحواله، وعالم بما هو عامل، وإذا علم وآمن بأنه قد كتب أعماله قبل أن يوجده، وقد كتب ما هو كائن، ويعلم ما توسوس به نفسه، ويتحدث به قلبه؛ لا شك أن فائدة ذلك أنه يخاف الله حق الخوف، فإن من علم أن أعماله محصاة عليه، وعلم أنها مكتوبة لا تضيع؛ دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، وأنه سوف يحاسب عليها، وأنه سيوقف عليها كما في قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]؛ فإنه سيخاف الله.

فهذه درجة من درجات القدر، وهي الإيمان بأن الله عالم بالأعمال وبالمخلوقات، وعالم بعددها، وكتب ذلك وأثبته قبل أن توجد المخلوقات بأسرها، وأنه لا يحدث إلا ما علم الله أنه سوف يحدث، في الوقت الذي قدر أنه يحدث فيه دون تقدم أو تأخر.

الإرادة والخلق

وأما الدرجة الثانية فهي الإيمان بإرادة الله تعالى وبخلقه، هذه الدرجة تتضمن أن الله أراد ما في الكون وخلقه.

والإرادة عامة لا يكون شيء في الوجود خارجاً عنها، وهي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى المشيئة، فلهذا يقول المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يكون في الوجود حركة إلا بإرادة الله ومشيئته، ولا يكون لإنسان حول إلا بإذن الله، ولا يكون له قوة ولا قدرة ولا استطاعة على أمر من الأمور إلا بالله تعالى، فما شاءه كان وإن لم يشأ العباد، وما شاءه العباد لا يكون إذا لم يشأ الله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أبيات له:

فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن

فيؤمن العبد بأن ما شاء الله كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ الله لم يكن وإن شاء الخلق، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعون بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، ومع ذلك فإنا إذا آمنّا بكتابة هذه المخلوقات وبإيجاد الله لها، لم يكن ذلك عذراً لنا في ترك الأعمال، بل يزيدنا ذلك نشاطاً في العمل وجداً واجتهاداً، وما ذاك إلا أننا خلقنا للعمل، وأعطينا من القوة ما نستطيع به مزاولة الأعمال.

فهذا هو الجمع بين كون الله تعالى خالق ما في الوجود، وأنه يريد ما في الكون، وبين كونه أراد من العباد أفعالهم التي هي الطاعة والإيمان، أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمرهم بما هم قادرون على امتثاله، وأعطاهم من القوة ما يزاولون به تلك الأعمال وما يصح أن تنسب إليهم، ويثابون عليها ويعاقبون عليها، فعلى هذا يجتمع إيمان أهل السنة بما ذكرنا، ويكون هذا من السر الذي لا يعلم كيفيته إلا الله، كما تقدم لنا أن القدر سر الله تعالى في خلقه.

والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:

أولاً: العلم، وثانياً: الكتابة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ، هذا دليل على العلم، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الأنعام:59]، هذا دليل على الكتابة.

كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) أي: أنه تعالى علم ما سوف يحدث من أول الدنيا إلى آخرها، وأثبت ذلك، وليس في ذلك صعوبة على الله، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] يعني: علمه وكتابته للأشياء قبل وقوعها يسير عليه ليس فيه صعوبة؛ لأنه هو الذي أوجد الكائنات، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، وحيث إنها تكون بإرادته سبحانه وتعالى، فإنها كذلك كائنة بعد خلقه وبعد إيجاده لها، فهو علمها قبل أن توجد وأثبتها في اللوح المحفوظ كما أخبر بذلك.

وقد كان غلاة القدرية قديماً ينكرون هذا النوع ويقولون: إن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع، وبعضهم يقول: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، بمعنى: أنه لا يعلم مفردات الأشياء وإن كان يعلم عموماتها، وقد ورد في حديث: (أن ثلاثة من أهل مكة اجتمعوا في مكان فقال بعضهم: أترون أن الله يسمع ما نقول، فقال الثاني: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وقال الثالث مستنكراً: إن كان يسمع جهرنا فإنه يسمع سرنا، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [فصلت:22-23] -يعني: أهلككم- فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23]) فهكذا ظن هؤلاء الذين يظنون أن الله لا يعلم أعمالهم، أو أنه يخفى عليه شيء من أحوالهم، أو أنهم يكونون في مكان أو موضع لا يراهم ربهم أو نحو ذلك.

وفائدة العبد إذا آمن بأن الله عالم بسره وعالم بنجواه، وعالم بأحواله، وعالم بما هو عامل، وإذا علم وآمن بأنه قد كتب أعماله قبل أن يوجده، وقد كتب ما هو كائن، ويعلم ما توسوس به نفسه، ويتحدث به قلبه؛ لا شك أن فائدة ذلك أنه يخاف الله حق الخوف، فإن من علم أن أعماله محصاة عليه، وعلم أنها مكتوبة لا تضيع؛ دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، وأنه سوف يحاسب عليها، وأنه سيوقف عليها كما في قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]؛ فإنه سيخاف الله.

فهذه درجة من درجات القدر، وهي الإيمان بأن الله عالم بالأعمال وبالمخلوقات، وعالم بعددها، وكتب ذلك وأثبته قبل أن توجد المخلوقات بأسرها، وأنه لا يحدث إلا ما علم الله أنه سوف يحدث، في الوقت الذي قدر أنه يحدث فيه دون تقدم أو تأخر.

وأما الدرجة الثانية فهي الإيمان بإرادة الله تعالى وبخلقه، هذه الدرجة تتضمن أن الله أراد ما في الكون وخلقه.

والإرادة عامة لا يكون شيء في الوجود خارجاً عنها، وهي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى المشيئة، فلهذا يقول المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يكون في الوجود حركة إلا بإرادة الله ومشيئته، ولا يكون لإنسان حول إلا بإذن الله، ولا يكون له قوة ولا قدرة ولا استطاعة على أمر من الأمور إلا بالله تعالى، فما شاءه كان وإن لم يشأ العباد، وما شاءه العباد لا يكون إذا لم يشأ الله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أبيات له:

فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن

فيؤمن العبد بأن ما شاء الله كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ الله لم يكن وإن شاء الخلق، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعون بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، ومع ذلك فإنا إذا آمنّا بكتابة هذه المخلوقات وبإيجاد الله لها، لم يكن ذلك عذراً لنا في ترك الأعمال، بل يزيدنا ذلك نشاطاً في العمل وجداً واجتهاداً، وما ذاك إلا أننا خلقنا للعمل، وأعطينا من القوة ما نستطيع به مزاولة الأعمال.

فهذا هو الجمع بين كون الله تعالى خالق ما في الوجود، وأنه يريد ما في الكون، وبين كونه أراد من العباد أفعالهم التي هي الطاعة والإيمان، أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمرهم بما هم قادرون على امتثاله، وأعطاهم من القوة ما يزاولون به تلك الأعمال وما يصح أن تنسب إليهم، ويثابون عليها ويعاقبون عليها، فعلى هذا يجتمع إيمان أهل السنة بما ذكرنا، ويكون هذا من السر الذي لا يعلم كيفيته إلا الله، كما تقدم لنا أن القدر سر الله تعالى في خلقه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين: المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً.

وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.

وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها.

وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205] وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، وقال تعالى عقب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38].

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وفي المسند: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك).

فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره؛ فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، فعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك.

فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته].

الفرق بين المشيئة والإرادة

يقول: إن الذين ضلوا في هذا الباب سووا بين المشيئة والإرادة، والصحيح أن بينهما فرقاً: فإن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية وإرادة قدرية.

فالإرادة القدرية هي بمعنى المشيئة، والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، فالله تعالى أراد الطاعات شرعاً وأحبها، وأراد المعاصي كوناً وكرهها ولم يحبها، ولكنه قدرها وأرادها وشاءها، ولو لم يشأها لم تكن، ولكنه ما رضيها ولا أحبها، بل كرهها وتوعد عليها ولو كانت بمشيئته وبقدرته وبإرادته الكونية حتى لا يكون في الوجود ما لا يريد، وحتى لا يعصى ربنا قسراً عليه.

فنعرف بذلك أن هناك فرقاً بين المشيئة والإرادة، أي: الإرادة الشرعية، فالإرادة الشرعية هي كونه تعالى يريد الطاعات، يعني: شرعها وأرادها وأحبها.

وقد ذكر الله هذه الإرادة في مواضع كقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فهذه إرادة شرعية، وكذلك قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ [النساء:26] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]، فهذه الإرادات شرعية.

نقول: إن الله تعالى أراد الطاعات شرعاً، فأراد من الخلق كلهم الإيمان شرعاً، وأراد منهم الطاعات، فأراد منهم أن يصلوا، وأراد منهم الصيام، والصدقات، والزكوات، والجهاد، والحج، والعمرة، والذكر، والقراءة، والبر والتقوى، أراد هذا منهم شرعاً، وأحب هذه الطاعات، وأراد منهم ترك المعاصي شرعاً، وكره منهم تلك المعاصي؛ فهذه إرادة شرعية وهي تستلزم المحبة للمراد.

فإذا شرع الله شيئاً وأراده شرعاً فإنه يحبه ولو لم يكن، فيحب الإيمان من الخلق كلهم ولو لم يحصل إلا من بعضهم، ويحب الصلوات من الناس كلهم ولو أن بعضهم ما حصلت منه الصلاة، ويحب الصوم، ويحب الصدقات، ويحب الجهاد، ويحب التوبة، ويحب الاستغفار، ويحب الأذكار، ويحب التلاوة، يحب ذلك منهم وقد أراده شرعاً، ولكنه لم يحصل إلا من البعض وهم المسلمون المؤمنون.

فهذه إرادة شرعية، وهي التي ذكرنا أن الله تعالى يحب ما يترتب عليها، ولكنها لا تستلزم وجود المراد، فقد يريد شرعاً أمراً ولكنه لا يحصل لكونه ما أراده قدراً، فمثلاً: أراد من الكفار الإيمان شرعاً ولم يرده قدراً، فلذلك لم يحصل، وأراد من العصاة أن يطيعوه ولكنه لم يرده قدراً ولم يشأه، فلذلك لم يحصل، هذا معنى الإرادة الشرعية.

أما الإرادة الكونية: فهي التي لا بد أن يقع مرادها، وقد ذكرت في آيات كثيرة كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [الأنعام:125] وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125]، فهذه إرادة كونية، أي: مكتوبة في الكون وفي الأزل، وهي القدرية، وهي التي يقع المراد بها، وإن لم يكن محبوباً، فليس كل ما يريده الله من هذه الكائنات يكون محبوباً، فلذلك نقول: إنه أراد المعاصي كوناً ولكنه لا يحبها، وأراد الكفر كوناً ولكنه لا يحبه ولم يرده شرعاً، ومع ذلك لو لم يشأه لما حصل، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد ولمّا لم يحبه ولم يأمر به شرعاً بل كرهه، كان مترتباً عليه العقاب!

القدرية والجبرية لا يثبتون إلا الإرادة الكونية

هذا هو المراد بكونه سبحانه لا يكون في الوجود إلا ما يريد؛ ولكن غلا في هذه الإرادة قوم ونفاها قوم، وتقابل الطرفان والطائفتان، فطائفة جبرية جعلوا كل الموجودات مخلوقة لله ولم يجعلوا للإنسان أي تصرف، بل جعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وقالوا: إن عقوبته على المعاصي ظلم، حيث إنه مقسور ومجبور عليها؛ فهذه الطائفة هم الجبرية.

والطائفة الثانية التي قابلتهم: هم نفاة القدر أو نفاة قدرة الله، وهم الذي يقولون: ننزه الله عن الظلم فنقول: إنه لو خلق هذه المعاصي وعاقب عليها لكان ظالماً، فهذه الطائفة غلت في النفي فقالت: إن أعمال العباد ومعاصيهم وطاعاتهم ليست من خلق الله، بل من خلقهم ومن إيجادهم، وإن العباد هم الذي يوجدون أفعالهم، فهذه الطائفة غلت في النفي، وجعلت الإنسان يخلق فعله، ونفت أن يكون لله أي قدرة على أفعال العبد، وزعموا بذلك أنهم أهل العدل والتوحيد.

وكلا الطائفتين ضال؛ فالطائفة الأولى جعلت القدر عذراً للعصاة، حيث إنهم يقولون: كيف يخلقنا ويخلق فينا المعاصي ثم يعاقبنا عليها؟

والطائفة الثانية: جعلت مع الله من يخلق، وجعلت كل إنسان خالقاً مستقلاً بأفعاله، وكذبت الأدلة التي تثبت أن الأمر بيد الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

مذهب أهل الحق في خلق أفعال العباد

وتوسط أهل الحق وقالوا: إن الكائنات حاصلة بقدرة الله كلها طاعات ومعاصي، ولكن تنسب إلى العبد من حيث إن الله أعطى العبد قدرة يزاول بها الأعمال ويصح نسبتها إليه؛ ولأجل ذلك يقولون: إن العباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم؛ تنسب أعماله إليه وإن كانت بقضاء الله تعالى وبقدره، وبإرداته الكونية، وبمشيئته التي حصلت بإرادة الله، ولكنها تنسب إلى العبد.

ولو سلبنا العبد هذه القدرة لبطلت الشريعة، وفي بطلان الشريعة بطلان الحكمة من إرسال الرسل ومن إنزال الكتب، ومن الأوامر والنواهي، ومن خلق الثواب والعقاب، والله تعالى منزه عن ذلك.

فلو لم يكن للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم لما أمروا؛ ولأجل ذلك تتوجه إليهم الإرشادات فيقول الله تعالى: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [التوبة:105]، فأخبر بأنهم لهم أعمال، ولو لم يكن لهم قدرة لما أمروا، ولكن الله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم، وقدرتهم مسبوقة بقدرة الله.

أما أدلة الرضا فقد مر بنا الآيات والأحاديث في إثبات أن الله تعالى يرضى ويسخط، وللرضا والسخط أسباب ذكر في هذه الآيات بعضها، فتارة يثبته وتارة ينفيه، يقول الله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر، ومعناه أنه يكرهه، وأخبر بأنه يرضى بالشكر وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، وأضاف هنا الكفر إليهم؛ لأنه الذي صدر بأفعالهم وإن كانت مقدرة، والشكر إليه تشكره، وهكذا الحديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط ثلاثاً)، فأثبت الرضا وأثبت السخط، وأثبت الكراهية: (وكره لكم ثلاثاً)، أثبت أن هذه المعاصي يكرهها الله.

ومعلوم أنه نهى العباد، وما نهاهم إلا ولهم قدرة على الانتهاء، وعلى أن ينزجروا ويتركوا الأعمال السيئة التي منها الكفر.

والحاصل: أن من عقيدة أهل السنة إثبات أن الله يرضى ويسخط ويحب ويكره، وأن الأعمال التي يحبها قد أمر بها عباده، وما أمرهم إلا وهم قادرون، وأن الأعمال التي نهى عنها يسخطها ويكرهها، ولا ينهاهم إلا عن شيء يقدرون على فعله، فإن العاجز لا يُنهى عما يعجز عن فعله، فلا يقال مثلاً للإنسان: لا تحي الموتى؛ لأنه عاجز عن إحيائهم فلا ينهى عنه، ولا يقال له: لا تصعد إلى السماء؛ لأنه عاجز عن أن يصل إلى السماء، ولا يقال له مثلا:ً لا تخرق الأرض؛ لأنه عاجز عن أن يخرقها، بخلاف ما إذا قيل له: لا تقتل النفس التي حرم الله، فإنه في إمكانه أن يقتل، وكذلك: لا تزن أو لا تأكل الحرام .. فلا ينهى إلا عن شيء هو قادر على أن يفعله.

وهكذا أيضاً الأفعال: لا يؤمر بشيء مستحيل، فلا يقال له مثلاً: رد أمس، ولا يقال له: اقلب الحجر ذهباً، فلا يؤمر بشيء لا يستطيعه، بخلاف ما يستطيعه، فيقال له مثلاً: احمل هذا الكرسي أو: انقل هذا المصحف من مكان إلى مكان، أو يقال له: قم واركع ركعتين، لأن هذه في استطاعته، فيؤمر بما يستطيع وينهى عما هو ممكن أن يفعل، ولا يؤمر بالمستحيل أن يفعله ولا ينهى عن الشيء الذي يستحيل فعله.

يقول: إن الذين ضلوا في هذا الباب سووا بين المشيئة والإرادة، والصحيح أن بينهما فرقاً: فإن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية وإرادة قدرية.

فالإرادة القدرية هي بمعنى المشيئة، والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، فالله تعالى أراد الطاعات شرعاً وأحبها، وأراد المعاصي كوناً وكرهها ولم يحبها، ولكنه قدرها وأرادها وشاءها، ولو لم يشأها لم تكن، ولكنه ما رضيها ولا أحبها، بل كرهها وتوعد عليها ولو كانت بمشيئته وبقدرته وبإرادته الكونية حتى لا يكون في الوجود ما لا يريد، وحتى لا يعصى ربنا قسراً عليه.

فنعرف بذلك أن هناك فرقاً بين المشيئة والإرادة، أي: الإرادة الشرعية، فالإرادة الشرعية هي كونه تعالى يريد الطاعات، يعني: شرعها وأرادها وأحبها.

وقد ذكر الله هذه الإرادة في مواضع كقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فهذه إرادة شرعية، وكذلك قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ [النساء:26] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]، فهذه الإرادات شرعية.

نقول: إن الله تعالى أراد الطاعات شرعاً، فأراد من الخلق كلهم الإيمان شرعاً، وأراد منهم الطاعات، فأراد منهم أن يصلوا، وأراد منهم الصيام، والصدقات، والزكوات، والجهاد، والحج، والعمرة، والذكر، والقراءة، والبر والتقوى، أراد هذا منهم شرعاً، وأحب هذه الطاعات، وأراد منهم ترك المعاصي شرعاً، وكره منهم تلك المعاصي؛ فهذه إرادة شرعية وهي تستلزم المحبة للمراد.

فإذا شرع الله شيئاً وأراده شرعاً فإنه يحبه ولو لم يكن، فيحب الإيمان من الخلق كلهم ولو لم يحصل إلا من بعضهم، ويحب الصلوات من الناس كلهم ولو أن بعضهم ما حصلت منه الصلاة، ويحب الصوم، ويحب الصدقات، ويحب الجهاد، ويحب التوبة، ويحب الاستغفار، ويحب الأذكار، ويحب التلاوة، يحب ذلك منهم وقد أراده شرعاً، ولكنه لم يحصل إلا من البعض وهم المسلمون المؤمنون.

فهذه إرادة شرعية، وهي التي ذكرنا أن الله تعالى يحب ما يترتب عليها، ولكنها لا تستلزم وجود المراد، فقد يريد شرعاً أمراً ولكنه لا يحصل لكونه ما أراده قدراً، فمثلاً: أراد من الكفار الإيمان شرعاً ولم يرده قدراً، فلذلك لم يحصل، وأراد من العصاة أن يطيعوه ولكنه لم يرده قدراً ولم يشأه، فلذلك لم يحصل، هذا معنى الإرادة الشرعية.

أما الإرادة الكونية: فهي التي لا بد أن يقع مرادها، وقد ذكرت في آيات كثيرة كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [الأنعام:125] وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125]، فهذه إرادة كونية، أي: مكتوبة في الكون وفي الأزل، وهي القدرية، وهي التي يقع المراد بها، وإن لم يكن محبوباً، فليس كل ما يريده الله من هذه الكائنات يكون محبوباً، فلذلك نقول: إنه أراد المعاصي كوناً ولكنه لا يحبها، وأراد الكفر كوناً ولكنه لا يحبه ولم يرده شرعاً، ومع ذلك لو لم يشأه لما حصل، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد ولمّا لم يحبه ولم يأمر به شرعاً بل كرهه، كان مترتباً عليه العقاب!

هذا هو المراد بكونه سبحانه لا يكون في الوجود إلا ما يريد؛ ولكن غلا في هذه الإرادة قوم ونفاها قوم، وتقابل الطرفان والطائفتان، فطائفة جبرية جعلوا كل الموجودات مخلوقة لله ولم يجعلوا للإنسان أي تصرف، بل جعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وقالوا: إن عقوبته على المعاصي ظلم، حيث إنه مقسور ومجبور عليها؛ فهذه الطائفة هم الجبرية.

والطائفة الثانية التي قابلتهم: هم نفاة القدر أو نفاة قدرة الله، وهم الذي يقولون: ننزه الله عن الظلم فنقول: إنه لو خلق هذه المعاصي وعاقب عليها لكان ظالماً، فهذه الطائفة غلت في النفي فقالت: إن أعمال العباد ومعاصيهم وطاعاتهم ليست من خلق الله، بل من خلقهم ومن إيجادهم، وإن العباد هم الذي يوجدون أفعالهم، فهذه الطائفة غلت في النفي، وجعلت الإنسان يخلق فعله، ونفت أن يكون لله أي قدرة على أفعال العبد، وزعموا بذلك أنهم أهل العدل والتوحيد.

وكلا الطائفتين ضال؛ فالطائفة الأولى جعلت القدر عذراً للعصاة، حيث إنهم يقولون: كيف يخلقنا ويخلق فينا المعاصي ثم يعاقبنا عليها؟

والطائفة الثانية: جعلت مع الله من يخلق، وجعلت كل إنسان خالقاً مستقلاً بأفعاله، وكذبت الأدلة التي تثبت أن الأمر بيد الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

وتوسط أهل الحق وقالوا: إن الكائنات حاصلة بقدرة الله كلها طاعات ومعاصي، ولكن تنسب إلى العبد من حيث إن الله أعطى العبد قدرة يزاول بها الأعمال ويصح نسبتها إليه؛ ولأجل ذلك يقولون: إن العباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم؛ تنسب أعماله إليه وإن كانت بقضاء الله تعالى وبقدره، وبإرداته الكونية، وبمشيئته التي حصلت بإرادة الله، ولكنها تنسب إلى العبد.

ولو سلبنا العبد هذه القدرة لبطلت الشريعة، وفي بطلان الشريعة بطلان الحكمة من إرسال الرسل ومن إنزال الكتب، ومن الأوامر والنواهي، ومن خلق الثواب والعقاب، والله تعالى منزه عن ذلك.

فلو لم يكن للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم لما أمروا؛ ولأجل ذلك تتوجه إليهم الإرشادات فيقول الله تعالى: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [التوبة:105]، فأخبر بأنهم لهم أعمال، ولو لم يكن لهم قدرة لما أمروا، ولكن الله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم، وقدرتهم مسبوقة بقدرة الله.

أما أدلة الرضا فقد مر بنا الآيات والأحاديث في إثبات أن الله تعالى يرضى ويسخط، وللرضا والسخط أسباب ذكر في هذه الآيات بعضها، فتارة يثبته وتارة ينفيه، يقول الله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر، ومعناه أنه يكرهه، وأخبر بأنه يرضى بالشكر وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، وأضاف هنا الكفر إليهم؛ لأنه الذي صدر بأفعالهم وإن كانت مقدرة، والشكر إليه تشكره، وهكذا الحديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط ثلاثاً)، فأثبت الرضا وأثبت السخط، وأثبت الكراهية: (وكره لكم ثلاثاً)، أثبت أن هذه المعاصي يكرهها الله.

ومعلوم أنه نهى العباد، وما نهاهم إلا ولهم قدرة على الانتهاء، وعلى أن ينزجروا ويتركوا الأعمال السيئة التي منها الكفر.

والحاصل: أن من عقيدة أهل السنة إثبات أن الله يرضى ويسخط ويحب ويكره، وأن الأعمال التي يحبها قد أمر بها عباده، وما أمرهم إلا وهم قادرون، وأن الأعمال التي نهى عنها يسخطها ويكرهها، ولا ينهاهم إلا عن شيء يقدرون على فعله، فإن العاجز لا يُنهى عما يعجز عن فعله، فلا يقال مثلاً للإنسان: لا تحي الموتى؛ لأنه عاجز عن إحيائهم فلا ينهى عنه، ولا يقال له: لا تصعد إلى السماء؛ لأنه عاجز عن أن يصل إلى السماء، ولا يقال له مثلا:ً لا تخرق الأرض؛ لأنه عاجز عن أن يخرقها، بخلاف ما إذا قيل له: لا تقتل النفس التي حرم الله، فإنه في إمكانه أن يقتل، وكذلك: لا تزن أو لا تأكل الحرام .. فلا ينهى إلا عن شيء هو قادر على أن يفعله.

وهكذا أيضاً الأفعال: لا يؤمر بشيء مستحيل، فلا يقال له مثلاً: رد أمس، ولا يقال له: اقلب الحجر ذهباً، فلا يؤمر بشيء لا يستطيعه، بخلاف ما يستطيعه، فيقال له مثلاً: احمل هذا الكرسي أو: انقل هذا المصحف من مكان إلى مكان، أو يقال له: قم واركع ركعتين، لأن هذه في استطاعته، فيؤمر بما يستطيع وينهى عما هو ممكن أن يفعل، ولا يؤمر بالمستحيل أن يفعله ولا ينهى عن الشيء الذي يستحيل فعله.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2712 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2629 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2589 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2560 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2471 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2407 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2385 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2372 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2335 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2299 استماع