أرشيف المقالات

الهجرة بين مراد الشيطان وقدر الرحمن

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الهجرة بين مراد الشيطان وقَدَر الرحمن

الله تعالى خلق السموات والأرض بالحق، وأوجدنا على الأرض بالحق، وأمرنا كذلك أن نحيا فيها بالحق فلا نقول إلا حقا ولا نعمل إلا حقا..!!
 
لكن شياطين الإنس والجن دائما يبغضون الحق، ويتحدون أصحابه، يريدون أن يلحدوا الجيل المسلم، يودون أن يحطموا أخلاقه، ويبددوا مبادئه ﴿ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30] هكذا فعل الشيطان مع آدم وزوجته فأخرجهما من الجنة، ثم تاب آدم فتاب الله عليه..
وهكذا فعل مع إبراهيم عليه السلام وهو يبني قواعد التوحيد في مكة فرُجم رجم الكلب وهو يرجم كل عام في موسم الحج، ومع محمد - صلى الله عليه وسلم - اجتمع إبليس مع أباليس البشر في دار الندوة ليضعوا معا خطة للقضاء على الأمناء علي هذا الدين وعلى رأسهم خاتم المرسلين، ديدنه القعود في الطريق المستقيم لإبعاد سالكيه وغوايتهم ودفعهم الى الهاوية..!! ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17].
شعرت قريش بخطر هجرة المسلمين وخروجهم سوف يشكل خطراً يتهدد مصالحهم، فقرروا عقد اجتماع طارئ في دار الندوة وكان معهم إبليس يريد القضاء على الرسول وصحابته ودعوته، بين النفي والسجن والقتل وبعد أن اكتمل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلًا‏.‏
قال أبو الأسود‏:‏ نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت‏.‏
قال الشيخ النجدي‏:‏ لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به‏؟‏ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم - بعد أن يتابعوه - حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيًا غير هذا‏.‏
قال ثالث احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله - زهير والنابغة - ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم‏.‏
ووافق برلمان الشر في مكة على اقتراح القتل بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورًا‏.‏
 
لكنهم يخططون والله يقدر، يرسمون والله ينظر، يمكرون والله يمكر...!! والله خير الماكرين..!! أما مكرهم ﴿ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10].
 
اجتمع الشباب المكلفون بقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على باب بيته ليلة الهجرة ينتظرون خروجه ليقتلوه، وقد صوّر الله تعالى ذلك المكر بقوله..
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30] يتقرر عند الله غير ما يقررون..!! وينتج غير ما يريدون..!! أراد الأباليس القضاء على الإسلام وأصحابه..!! لكن الله أراد إظهار الإسلام وأتباعه..!! فكان ما أراد الله ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 117] فليطمئن أصحاب الدعوات إلى أمر الله أما أباليس البشر وقطاع الطرق..!! حين يفشلون من إيقاف قطار الدعوة يطمحون إلى التخلص من الداعية ظناً منهم أنهم بذلك يقضون على دعوته، وهذا تفكير أعداء الإسلام في كل عصر، وفي كل مصر..!! شاهدنا ورأينا ذلك في أحداث الحياة المتجددة والمتتابعة، لكن تدبير الله تعالى وعنايته بالدعوة والدعاة كما كانت عنايته بأصحاب الهجرة غلب تدبير المجرمين من الأباليس والمشركين ومرادهم، فقد كشف الله لرسوله زيفهم ومكرهم ﴿ ..وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10].....!!
 
كانت مؤهلات رسول الله لهذا الحفظ وهذه النجاة القران والدعاء " أنت رب المستضعفين وأنت ربي.
أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تحل علي غضبك، وتُنزل بي سخطك.
وأعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك، وجميع سخطك.
لك العتبى عندي خير ما استطعت.
ولا حول ولا قوة إلا بك.
 
وسجل عنه ربه ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 80]...
 
كان يقرأ القرآن في طريقه يتحصن به، ويتقوى به، يتوجه إلى الله بكلماته، ويستجلب نصر الله بآياته..!!..
كيف لا وهو كلام الله، كيف لا وهو حبل الله، كيف لا وهو وحي الله، كيف لا وهو دستور الإسلام، كيف لا وهو مصدر الأمان، ونبع الإيمان، عند خروجه من منزله وجد أربعين شابا..
ينتظرونه ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل..!! فتحصن هو بالقرآن ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9] خرج من بين أيديهم بعد أن نثر التراب علي رؤوسهم ﴿ ...وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 17].
 
وصل الغار مع صحبه..!! فوصلوا من خلفه، فقال أبوبكر لو نظر أحدهم إلى قدمه لرآنا..!! وهنا يتجلى عنصر الثقة بالله بعد الأخذ بالأسباب..!! كيف؟! "ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا..!! وسجلت في القرآن يتعبد بها المؤمنون إلى يوم الدين ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
 
ضع خطتك في الحياة، وهيئ لها كل الأسباب، ولا تنسى مسبب الأسباب، تصل إلى طريق النجاح وقمة الفلاح بإذن الله..!! درس عظيم يبرز من كل محطات الإسلام..!! في الحج علمته هاجر للأمة، وفي الهجرة درسه محمد للأمة..!! لأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، فلا يجب أن نحيى متواكلين، متهاونين، مضيعين لأوقاتنا...!! وما وصلت إليه الأمة من ضياع، ومن هوان، حتى أصبحت في ذيل الأمم إلا لأننا أهملنا الأسباب، وتركنا رب الأسباب..!! توجهنا إلى الشرق والغرب نستجدي المعونة..!! فما كان إلا أوكلنا الله إلى أنفسنا، فضاعت منا الأسباب، وأغلقت في وجوهنا الأبواب، و تبعثرت في طريقنا الأزلام والأنصاب إلا من رحم ربي وعصم..!! ولن تعود الأمة لسابق مجدها وكامل عزها إلا بوصل اللاحق بالسابق، أخذا بالأسباب، واعتصاما برب الأسباب.
 
نعم فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، ولأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، هذا ما جاء به الإسلام، علينا أن نثق في نصر الله..
مهما ترادفت الخطوب، ومهما تراكمت الغيوم، ومهما تكاثرت الظلمات....
 
رصدت أموال لوأد الهجرة..
وما أشبه الليلة بالبارحة كم من الجهود تتضافر، وكم من الأفواه تنافق، وكم من الألسنة تكذب، وكم من العقول تظلم، وكم من القلوب تحقد، وكم من الأموال تنفق لحرب الإسلام وعزل الدين..!! لكن هيهات هيهات..!! ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36].
 
القابض على الإسلام كالقابض على الجمر وذلك منذ القدم وحتى تقوم الساعة..!!
 
محمد - صلى الله عليه وسلم - في يقول لأبي بكر في الغار ما ظنك باثنين الله ثالثهما ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] وهو الذي قال لابنته فاطمة رضي الله عنها وهي تبكي عند تعرضه للأذى من قريش: إن الله مانع أباك وقال لزيد بن حارثة في طريق عودته من حادثة الطائف الاشهر قمعا والأكثر ظلما، لما قال له زيد في دهشة: أترجع إليهم وقد أخرجوك، قال النبي الكريم والرسول العظيم: إن الله جاعل لما تري فرجا ومخرجا إن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.
 
المسلم الحق الذي يحي بين تقلبات الأيام وشدائد الأعوام ومكائد الأنام مؤمنا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا، مؤملا في قدر الله له ومعيته وعطائه وحفظه، يعلم أن ما أخطائه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، يتجه إلى خالقه فلا يستعن إلا به ولا يتوكل إلا عليه، ويسأل رازقه فلا يسأل غيره ولا يعبد بسواه، لأنه يردد دائما في مصلاه "إياك نعبد وإياك نستعين" فلا يتحول بتحول الأيام، ولا يتغير بتغير الأعوام، وإنما يحيا صلب العود، رابط الجأش، قوي الإيمان، واثقا في نصر الله..
لماذا؟ لأنه يحيا في هذه الأرض عبدا حرا لله لا لأحد سواه..!!
 
بينما أخفق مراد إبليس ومعه شياطين الإنس تحقق مراد الله فكانت الهجرة رحلة فريدة سطرها الإسلام، وسجلها القرآن، ونسج خيوطها جيل عباد الرحمن، الذي طوع البلاد والعباد لرب البلاد والعباد، في فترة من الوقت لا تساوي في عمر الزمن شيئا..!!

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢