خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [22]
الحلقة مفرغة
نحمد الله على كل حال، ونعوذ به من حال أهل النار، ونحمد الله أن جعلنا مسلمين وأعاذنا من شر البدع والمبتدعين، ونحمد الله أن اختار لنا دين الإسلام ورضيه لنا ديناً، وأتم علينا نعمته وأكمل لنا الدين، ونحمد الله أن ثبتنا على دينه، نسأله سبحانه أن يثبتنا عليه إلى الممات.
دين الإسلام الذي اختاره الله لهذه الأمة هو دينه الباقي، وهو دين الأنبياء كلهم أولهم وآخرهم، وأصله معرفة العبد ربه ودينه ونبيه، أصله الاعتراف بالله تعالى رباً وإلهاً ومدبراً، أصله التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، فبعد أن يعترف العبد بأنه سبحانه رب الأرباب ومسبب الأسباب لا إله غيره ولا رب سواه يعقد على ذلك قلبه عقداً محكماً، فيحمله هذا الاعتقاد على أن يبادر إلى الطاعة وأن يبتعد عن المعصية، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يتفانى في خدمة ربه وفي عبادته، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يرخص عنده كل شيء في سبيل رضا ربه سبحانه وتعالى.
ويحمله هذا الاعتقاد على أن يهجر في ذات الله كل قريب وكل بعيد، وعلى أن يرضي الله بسخط الناس كائناً من كان، وعلى أن يلتمس رضا الله بجميع ما ينفق وبجميع ما يملك ولو طلب منه ربه أن يبذل نفسه وأن يبذل ماله لكان ذلك سهلاً رخيصاً عنده؛ ذلك لأنه يعلم أن رضا ربه فيه الفوز وفيه السعادة، وفيه تحصيل خيري الدنيا والآخرة.
ولكن ذلك كله يتوقف على عقيدة القلب العقيدة السليمة الصحيحة التي هي معرفة الله تعالى بكامل صفاته، معرفته بما يستحقه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وإثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى التي يستحق بها أن يعظم حق التعظيم، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ويستحق أن يعبد حق عبادته ويطاع حق طاعته، وتلك العقيدة إذا رسخت في القلب وتمكنت منه فلن تزعزعها شبهة، ولن يزيلها مزيل مهما كانت العوائق ومهما كانت الظروف.
ولاشك أن هذه العقيدة لما رسخت في قلوب الصحابة رضي الله عنهم رأينا لها الآثار، ونزل فيهم قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].. . إلى آخر الآيات.
ونتذكر أن كل من اعتقد هذه العقيدة وثبتت في قلبه ثبوتاً ورسخت رسوخ الجبال أنه يعرف بذلك بعمله، ويعرف بتفانيه بحيث لا تأخذه في الله لومة لائمة، ولو دعي إلى أن يخرج من ماله ونفسه لما توقف في ذلك، فهذه علامة الصدق وعلامة الصادق في هذه العقيدة.
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66] يقول: أنا من ذلك القليل، لو كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا لفعلنا، أو أن نخرج من أموالنا وديارنا لخرجنا.
وهكذا كل مؤمن، ولكن كل مؤمن صادق وكل مؤمن مصدق وكل مؤمن سليم الإيمان كامل الإيمان يؤمن بأن ما عند الله خير وأبقى، ويؤمن بأن ربه هو الذي أعطاه، وهو الذي يملكه، وهو الذي طلب منه سبحانه وتعالى هذا الطلب، فيهون عليه ذلك الطلب.
إذاً فمعرفة العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة المسلمين مهمة غاية الأهمية، وأصل هذه العقدية -كما قلنا- هو معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهذا هو السبب في أن الرب سبحانه تعرف إلى عباده، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37]، وأكبر مخلوقاته السماوات والأرض، بل ومن مخلوقاته خلقك بنفسك، خلق جنس الإنسان، وخلق الأرض وما بث فيها من دابة، ولا شك أن هذه من أكبر الآيات الدالة على أنه خالق وعلى كل شيء قدير، وإذا كان هو الخالق لهذا الخلق فإنه كما قال ابن كثير المستحق للعبادة.
فيعرفه العباد ويصفونه بصفات الكمال، فيصفونه بأنه هو السميع الذي لا يحجب سمعه شيء، ولا تشتبه عليه الأصوات، وبأنه البصير الذي لا يستر بصره حجاب، وبأنه يرى عباده مهما كان ويرى كل شيء ولا تخفى عليه من عباده خافية، وبأنه العليم الذي يعلم كل ما دق وجل، وكل ما قدم وحدث، وكل كبيرة وصغيرة وبأنه الرحيم بعباده، وبأنه عزيز ذو انتقام، وبأنه صادق الوعد، وبأنه مالك الملك، وبأنه كامل الصفات له الصفات الكاملة التي أثنى بها على نفسه سبحانه ووصفه بها رسوله، فيصفونه بذلك.
فيتعلمون هذه الصفات وأدلتها، وإذا عرفوا أدلتها لا شك أنها يكون لها تأثير في قلوبهم، وتأثيرها في قلوبهم بعد رسوخها بأن تنطق ألسنتهم بذكره، وتخشع قلوبهم لهيبته، وتشتغل أبدانهم كلها بطاعته سبحانه، ويعرفون ما يحبه فيتقربون إليه بكل محبوب، ويعرفون ما يكرهه ويبغضه فيبتعدون عنه غاية البعد، ويعرفون أسباب رضاه فيأتون بها، فذلك هو السبب في التركيز على علم العقيدة.
إذاً فاهتم -أيها الأخ المسلم- بعلم العقيدة حتى ترسخها في قلبك وفي قلب كل مسلم، وتعرف بذلك صادق العقيدة من غيره الذي يعبد الله على شفا جرف.
المعصية دليل على نقص قدر الرب في القلب
واعلم أن كل من رأيته مقصراً في الطاعة، أو كل من رأيته مرتكباً لشيء من المعاصي، فإن ذلك لنقص قدر ربه في قلبه، فقدر الله تعالى وعظمة الرب في القلب لا شك أن لها تأثيرها، فإذا نقص قدرها في القلب ظهرت المعاصي، وظهر التقصير في الطاعات، وظهر ارتكاب شيء من المكروهات أو من المحرمات، فهذه علامة واضحة على كمال الإيمان وثبوته ورسوخه في القلب وعلى نقصه، وهذا هو السبب في تركيزنا على علم العقيدة في هذا الدرس، وكذلك غيرنا من الذين يهتمون به في هذه العقيدة الطحاوية، وفي غيرها من كتب العقائد، فليهتم المسلمون بأمر عقيدتهم، وليعرفوا فوائدها، وليتعبدوا ربهم بموجبها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
[وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني : سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ -بعد روايته حديث النزول- يقول: سئل أبو حنيفة فقال: ينزل بلا كيف. انتهى.
وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه. فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش.
ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى].
من صفات الله سبحانه وتعالى أنه القاهر فوق عباده، قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، وقال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، فيؤمن العباد بهذا القهر الذي مقتضاه الغلبة والإحاطة، والقهر: هو قوة الغلبة، بمعنى أنه غالب متصرف في العباد ليس لهم قدرة على التصرف في أنفسهم بدون اختيار الله وقضائه وتدبيره.
ومن صفاته سبحانه أنه هو العلي بجميع أنواع العلو، علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، وكذلك فوقية القدر وفوقية القهر وفوقية الذات، ولا شك أن هذه الصفات قد دلت عليها الأدلة السمعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي مرجع الإسلام في الاستدلال، فمرجع المسلمين في استدلالهم على صفات ربهم هذه النصوص الثابتة المنقولة عن نبيهم نقلاً ثابتاً متواتراً.
ولاشك أن هذا الإثبات للفوقية بجميع أنواعها يستلزم أن يكون الرب سبحانه وتعالى بكل شيء عليم؛ فإنه إذا كان قاهراً لعباده وقادراً عليهم وعالماً بهم ومطلعاً عليهم، ويرى صغيرهم وكبيرهم وخفيهم وجليهم، كان ذلك دالاً على عظمته وعلى إحاطته.
والمخلوقون حقيرون بالنسبة إلى عظمة ربهم، فالمخلوق الذي هو الإنسان جزء صغير من مخلوقات الله، والأرض التي نحن عليها والسماوات التي فوقنا ومحيطة بنا جزء صغير أيضاً من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فإذا كانت الأرض قبضته، والسماوات مطويات بيمينه فما مقدار الإنسان؟! وما قدره في هذا الكون؟!
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السماوات والأرض في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم، وحبة الخردل هي أصغر ما يُتَصَوَّر من الحبوب، فالخردل شجر معروف وحبه صغير جداً، فيقول: إذا قبض أحدكم حبة خردل في كفه هل يحس بأنها تشغل مكاناً؟! كذلك السماوات السبع والأرضون السبع يقبضها الله وكأنها حبة خردل في يد أحدكم.
فإذاً هذا دليل على العظمة، وأن علوه سبحانه وتعالى فوق عباده لا ينافي علمه، ولا ينافي اطلاعه، ولا ينافي علمه بعباده، ولا ينافي رؤيته لهم وقربه منهم وهيمنته عليهم ونظره إليهم وعلمه بأحوالهم وبأقوالهم وسماعه لأصواتهم، وما أشبه ذلك، ألا يكون العبد مستحضراً لذلك في كل حالاته حتى يعبد ربه غاية العبادة، وحتى يخافه غاية الخوف، إذاً فمن أصل عقيدة أهل السنة الاعتقاد بالفوقية لله، وأن ذلك لا ينافي علمه وقربه واطلاعه على عباده.
كذلك عليه أن يعرف العقائد الفاسدة فيجتنبها، أو يركز على عقيدة السلف والأئمة وأهل السنة ويعرض عما سواها من عقائد المبتدعة، كوحدة الوجود والحلوليين ونحوهم من الفرق الضالة الذين أنكروا علو الله وقالوا: إنه لا فوق ولا تحت، ولا مباين ولا محايث. أو: إن وجوده هو وجود الكون، أو: إنه حال في المخلوقات بذاته -تعالى الله عما يقولون-، فكل أولئك لم يثبت الإيمان في قلوبهم ولم ترسخ معرفة الله وعقيدة الإسلام في أفئدتهم، فوسوس إليهم الشيطان أن ذات الله حالة فيكم أو في كل مكان، أو أن وجوده هو وجود الكون أو ما أشبه ذلك، يريدون بذلك أن يبرروا مذاهبهم، فعلى المسلم أن يعرف العقيدة السليمة وأن يعتقدها ويتعبد لله تعالى بموجبها.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2711 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2629 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2589 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2559 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2470 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2407 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2385 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2372 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2335 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2299 استماع |