شرح متن الورقات [14]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله: [والبيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.

والنص: ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً، وقيل: ما تأويله تنزيله، وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي.

والظاهر: ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر، ويؤول الظاهر بالدليل، ويسمى ظاهراً بالدليل].

تقدم لنا المخصصات المتصلة، وذكرنا من المخصصات المتصلة: الشرط، وكذلك أيضاً من المخصصات المتصلة: الصفة، ثم بعد ذلك أيضاً تكلمنا عن المخصصات المنفصلة، والمراد بالمخصصات المنفصلة: ما كانت مستقلة، وهذه تشمل الحس والعقل وكذلك أيضاً الشرع.

ثم بعد ذلك تكلمنا عن المطلق والمقيد وعرفنا كلاً من المطلق والمقيد، ومتى يحمل المطلق على المقيد ومتى لا يحمل؟ ثم بعد ذلك تكلمنا عن المجمل، وذكرنا تعريفه في اللغة والاصطلاح، وأسباب الإجمال.

ثم بعد ذلك ذكر المؤلف رحمه الله وبين المبين، والنص والظاهر والمؤول، وهذه من دلالات الألفاظ التي سنتعرض لها إن شاء الله.

وقوله رحمه الله تعالى: (والمجمل: ما افتقر إلى البيان) تقدم تعريف المجمل في اللغة وذكرنا أنه في اللغة: المجموع، ومن ذلك قولهم: أجمل الحساب إذا جمعه.

وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف رحمه الله بقوله: (ما افتقر إلى بيان)، أي: اللفظ المجمل المفتقر إلى بيان؛ إما بالقول أو بالفعل، وقلنا في تعريفه: ما له دلالة على معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه.

تعريف المبين

ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله: (والبيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي).

التبيين في اللغة أو المبين في اللغة: بالفتح المبين لغةً: اسم مفعول من التبيين, وهو الموضح والمفسر.

وأما تعريف المبين في الاصطلاح: فهو الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان.

مثال ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله )، فهذا خطاب مبين مبتدأ أي: في ابتدائه مستغنٍ عن البيان، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين وقت صلاة الظهر بأنه من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، والمبيَن: اسم مفعول، وأما المبيِن: فهو اسم فاعل من بين يبين إذا فسر وأوضح غيره، والموضح وهو في اللغة: المفسر والموضح لغيره، وهذا هو البيان الذي أراده المؤلف رحمه الله بقوله: (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي).

وهذا التعريف الذي ذكره المؤلف رحمه الله -بقوله: (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي)- انتقد من قبل بعض الأصوليين؛ لأن المؤلف ذكر الحيز، والتبيين أمر معنوي، والأمر المعنوي لا يوصف بالاستقرار في الحيز؛ لأن الحيز هو الفراغ الذي يشغله شيء، ويكون في الأمور المحسوسة، أما في الأمور المعنوية فإنه لا يكون فيها.

وقوله رحمه الله: (من حيز الإشكال) أي: من صفة الإشكال، والمراد بالإشكال: خفاء المراد منه بحيث لا يدرك.

وقوله رحمه الله: (إلى حيز التجلي) أي: إلى حيز الوضوح بحيث يتبين هذا المجمل؛ إما بالقول أو بالفعل أو بالصفة أو غير ذلك من طرق البيان التي سيأتي بيانها.

فقول المؤلف رحمه الله في تعريف المبين أو البيان بأنه (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي) قلنا: بأن قوله: (حيز) هذا موضع انتقاد؛ لأن الحيز إنما يكون للأمور المحسوسة، والبيان هذا من الأمور المعنوية، أو التبيين أمر معنوي لا يوصف بالاستقرار في الحيز؛ لأن الحيز هو الفراغ الذي يشغله شيء.

وقوله: (من حيز الإشكال) أي: من صفة الإشكال, والإشكال هو: خفاء المراد منه بحيث لا يدرك.

وقوله: (إلى حيز التجلي)، أي: إلى حيز الوضوح وذلك ببيان المراد منه: إما بالقول أو بالفعل أو بالصفة.

وعرف المبين أو البيان بأنه الدليل، وتقدم تعريف الدليل بأنه: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.

وهناك تعريف ثالث للبيان بأنه: العلم الحاصل من الدليل، وهذا أحسن.

طرق تبيين المجمل

بالنسبة للتبيين أو البيان ورد له طرق في الشرع لتبيين المجمل، فمن هذه الطرق:

الأول: التبيين بالقول، والمراد بذلك التلفظ صراحةً بالمراد، مثال ذلك: قول الله عز وجل: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فهذا بين بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فيما سقت السماء أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالسواني نصف العشر ).

ومن ذلك قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، ثم بعد ذلك بين ذلك بقوله: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69].

ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، هذا بينه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله في حديث عبد الله بن عمرو وهو مخرج في صحيح مسلم عندما بين النبي عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة، فقال: ( صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله ما لم تحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت الفجر من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس )، ففي هذا تبيين بالقول.

الثاني: التبيين بالفعل، ومثال ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام بين كثيراً من أفعال الصلاة بفعله دون قوله، فالصلاة حصل بيانها بالقول، وحصل بيانها بالفعل. ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وأيضاً قول الله عز وجل: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وأيضاً قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، فالسعي بينه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، والطواف أيضاً بينه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، والحج أيضاً حصل فيه بيان من النبي عليه الصلاة والسلام بالفعل.

الثالث: تبيين النبي عليه الصلاة والسلام بالإشارة، وهذا من أمثلته ( أن النبي عليه الصلاة والسلام آلى من نسائه شهراً، فلما مضت تسعة وعشرون يوماً دخل على نسائه، فقيل له: إنك آليت شهراً، فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، أو هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه في الثالثة )، يعني: الشهر هكذا وهكذا هذه ثلاثون، أو: هكذا وهكذا وهكذا وهذه تسعة وعشرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين الشهر بالإشارة.

الرابع: التبيين بالكتابة، وهذا أيضاً كثير، فالنبي عليه الصلاة والسلام كتب إلى عماله، ومن ذلك حديث عمرو بن حزم المشهور، وفيه كتابة النبي عليه الصلاة والسلام لأمور الصدقات والديات.

الخامس من طرق التبيين: ترك الفعل؛ فترك النبي عليه الصلاة والسلام الفعل يدل على عدم وجوبه -وسيأتينا أيضاً في أفعال النبي عليه الصلاة والسلام إذا ترك النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً- ومثال ذلك: قيام النبي عليه الصلاة والسلام عن التشهد الأول في الركعة الثانية، فلم يرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى التشهد الأول فهذا يدل على أنه ليس واجباً.

واعلم أن المراد بالمبين أو بالتبيين: كل ما يزيل الإشكال، فكل ما يزيل الإشكال فهو داخل تحت البيان؛ فيدخل في ذلك تخصيص العام، ويدخل في ذلك تقييد المطلق، ويدخل في ذلك تأويله -يعني: صرف الظاهر عن المعنى المتبادر إلى معنىً آخر بدليل- ويدخل في ذلك النسخ، ويدخل في ذلك الترجيح، المهم أن البيان شامل لكل شيء يقصد به إزالة الإشكال.

السادس من طرق التبيين: إقراره وسكوته عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك: إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر لما قال: ( السلب للقاتل )، فأقر النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ذلك، فهذا مما يدل على ما ذكره أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وسيأتينا إن شاء الله إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، وحكم إقراراته.

تأخير البيان عن وقت الحاجة ووقت الخطاب

من المسائل المتعلقة بالبيان: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأمرين: أولاً: لأن ذلك يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق.

وثانياً: أنه يؤدي إلى عبادة الله على غير بصيرة.

وأما تأخير البيان عن وقت الخطاب فهذا جائز، ومن ذلك ما تقدم من قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، ثم بعد ذلك بينت هذه البقرة بقوله: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] .

وأيضاً من الأدلة على ذلك قول الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:18-19]، فقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

ومن الأدلة على ذلك أيضاً فرض الصلوات، فإن الله عز وجل فرض على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في ليلة الإسراء، ولم تبين في تلك الليلة كيفية الصلوات ولا أوقات الصلوات حتى نزل جبريل عليه الصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة والسلام فبين أوقات الصلوات ( فصلى به في أول الوقت وفي آخره، وقال: ما بين هذين الوقتين وقت ).

ورود القول والفعل بعد لفظ مجمل

كذلك أيضاً من مسائل التبيين: إذا ورد بعد لفظ مجمل قول وفعل كل منهم صالح لأن يكون بياناً، فهذه المسألة لا تخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يتفقا في الحكم، فهذه اختلف فيها الأصوليون، والصحيح في ذلك أن أحدهما يكون مبيناً، والآخر يكون مؤكداً له، وهذا ما عليه جمهور الأصوليين.

الأمر الثاني: أن يختلفا في الحكم، فالحكم عند جمهور الأصوليين أنه يرجع في ذلك إلى القول، فيكون المبين هو القول؛ لأن الفعل هذا يتطرق له احتمالات، فجمهور الأصوليين أن المبين هو القول، سواء تقدم القول أو تأخر، ومن الأمثلة على ذلك: القارن، فقد ورد في السنة أنه يكفيه طواف واحد وسعي واحد، فقول النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة رضي الله تعالى عنها: ( يجزئك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك )، فهذا الحديث فيه بيان لقول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، فالحديث فيه بيان شيء لهذه الآية؛ لأن القران هذا من صور الحج ومن صور المناسك، ففيه بيان لشيء من هذه الآية، وفي هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يجزئك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك )، ففيه أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، وورد أيضاً (أن النبي عليه الصلاة والسلام طاف طوافين وسعى سعيين)، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قارناً، فالبيان هنا للقران، فورد فيه قول وورد فيه فعل، والحكم مختلف، فهذا فيه طوافان وسعيان، وهذا فيه طواف واحد وسعي واحد، فجمهور الأصوليين على أن المبين هو القول، فالقول هو المقدم سواء تقدم أو تأخر.

بيان الظني للقطعي

كذلك أيضاً من المسائل المتعلقة بالبيان أنه يجوز عند جمهور الأصوليين أن يبين الأقوى بالأظهر وبالمساوي، ويبين الأضعف بالأقوى من باب أولى، يعني: لا يشترط تساوي الدليلين في القوة، هذا عند جمهور الأصوليين، وهذه مسألة يرتب عليها الفقهاء رحمهم الله فروعاً -فالخلاف فيها ليس لفظياً وإنما هو معنوي- هل يبين القطعي بالظني؟ يعني هل يقوى الظني على تبيين القطعي؟ فالمسألة فيها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون كلاً من المبين والمبين قطعياً فهذا لا إشكال فيه.

الحالة الثانية: أن يكون المبَين ظنياً والمبين قطعياً وهذا أيضاً لا إشكال فيه.

الحالة الثالثة: يترتب عليها الخلاف وهي عكس الحالة الثانية: أن يكون هذا المبَين قطعياً، والمبِين ظنياً، فهل يقوى الظني -كخبر الآحاد- على تبيين القطعي أو لا؟ هذا له شأن عند الحنفية رحمهم الله، والصحيح في ذلك: ما عليه جمهور الأصوليين، والعلة في ذلك: أن المبِين وإن كان ظنياً فهو أوضح من المبَين؛ لأن المبَين مجمل، فالمبِين وإن كان ظنياً أوضح من المبين في الدلالة على المراد، فوجب العمل بالواضح.

ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله: (والبيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي).

التبيين في اللغة أو المبين في اللغة: بالفتح المبين لغةً: اسم مفعول من التبيين, وهو الموضح والمفسر.

وأما تعريف المبين في الاصطلاح: فهو الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان.

مثال ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله )، فهذا خطاب مبين مبتدأ أي: في ابتدائه مستغنٍ عن البيان، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين وقت صلاة الظهر بأنه من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، والمبيَن: اسم مفعول، وأما المبيِن: فهو اسم فاعل من بين يبين إذا فسر وأوضح غيره، والموضح وهو في اللغة: المفسر والموضح لغيره، وهذا هو البيان الذي أراده المؤلف رحمه الله بقوله: (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي).

وهذا التعريف الذي ذكره المؤلف رحمه الله -بقوله: (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي)- انتقد من قبل بعض الأصوليين؛ لأن المؤلف ذكر الحيز، والتبيين أمر معنوي، والأمر المعنوي لا يوصف بالاستقرار في الحيز؛ لأن الحيز هو الفراغ الذي يشغله شيء، ويكون في الأمور المحسوسة، أما في الأمور المعنوية فإنه لا يكون فيها.

وقوله رحمه الله: (من حيز الإشكال) أي: من صفة الإشكال، والمراد بالإشكال: خفاء المراد منه بحيث لا يدرك.

وقوله رحمه الله: (إلى حيز التجلي) أي: إلى حيز الوضوح بحيث يتبين هذا المجمل؛ إما بالقول أو بالفعل أو بالصفة أو غير ذلك من طرق البيان التي سيأتي بيانها.

فقول المؤلف رحمه الله في تعريف المبين أو البيان بأنه (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي) قلنا: بأن قوله: (حيز) هذا موضع انتقاد؛ لأن الحيز إنما يكون للأمور المحسوسة، والبيان هذا من الأمور المعنوية، أو التبيين أمر معنوي لا يوصف بالاستقرار في الحيز؛ لأن الحيز هو الفراغ الذي يشغله شيء.

وقوله: (من حيز الإشكال) أي: من صفة الإشكال, والإشكال هو: خفاء المراد منه بحيث لا يدرك.

وقوله: (إلى حيز التجلي)، أي: إلى حيز الوضوح وذلك ببيان المراد منه: إما بالقول أو بالفعل أو بالصفة.

وعرف المبين أو البيان بأنه الدليل، وتقدم تعريف الدليل بأنه: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.

وهناك تعريف ثالث للبيان بأنه: العلم الحاصل من الدليل، وهذا أحسن.

بالنسبة للتبيين أو البيان ورد له طرق في الشرع لتبيين المجمل، فمن هذه الطرق:

الأول: التبيين بالقول، والمراد بذلك التلفظ صراحةً بالمراد، مثال ذلك: قول الله عز وجل: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فهذا بين بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فيما سقت السماء أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالسواني نصف العشر ).

ومن ذلك قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، ثم بعد ذلك بين ذلك بقوله: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69].

ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، هذا بينه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله في حديث عبد الله بن عمرو وهو مخرج في صحيح مسلم عندما بين النبي عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة، فقال: ( صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله ما لم تحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت الفجر من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس )، ففي هذا تبيين بالقول.

الثاني: التبيين بالفعل، ومثال ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام بين كثيراً من أفعال الصلاة بفعله دون قوله، فالصلاة حصل بيانها بالقول، وحصل بيانها بالفعل. ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وأيضاً قول الله عز وجل: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وأيضاً قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، فالسعي بينه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، والطواف أيضاً بينه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، والحج أيضاً حصل فيه بيان من النبي عليه الصلاة والسلام بالفعل.

الثالث: تبيين النبي عليه الصلاة والسلام بالإشارة، وهذا من أمثلته ( أن النبي عليه الصلاة والسلام آلى من نسائه شهراً، فلما مضت تسعة وعشرون يوماً دخل على نسائه، فقيل له: إنك آليت شهراً، فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، أو هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه في الثالثة )، يعني: الشهر هكذا وهكذا هذه ثلاثون، أو: هكذا وهكذا وهكذا وهذه تسعة وعشرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين الشهر بالإشارة.

الرابع: التبيين بالكتابة، وهذا أيضاً كثير، فالنبي عليه الصلاة والسلام كتب إلى عماله، ومن ذلك حديث عمرو بن حزم المشهور، وفيه كتابة النبي عليه الصلاة والسلام لأمور الصدقات والديات.

الخامس من طرق التبيين: ترك الفعل؛ فترك النبي عليه الصلاة والسلام الفعل يدل على عدم وجوبه -وسيأتينا أيضاً في أفعال النبي عليه الصلاة والسلام إذا ترك النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً- ومثال ذلك: قيام النبي عليه الصلاة والسلام عن التشهد الأول في الركعة الثانية، فلم يرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى التشهد الأول فهذا يدل على أنه ليس واجباً.

واعلم أن المراد بالمبين أو بالتبيين: كل ما يزيل الإشكال، فكل ما يزيل الإشكال فهو داخل تحت البيان؛ فيدخل في ذلك تخصيص العام، ويدخل في ذلك تقييد المطلق، ويدخل في ذلك تأويله -يعني: صرف الظاهر عن المعنى المتبادر إلى معنىً آخر بدليل- ويدخل في ذلك النسخ، ويدخل في ذلك الترجيح، المهم أن البيان شامل لكل شيء يقصد به إزالة الإشكال.

السادس من طرق التبيين: إقراره وسكوته عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك: إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر لما قال: ( السلب للقاتل )، فأقر النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ذلك، فهذا مما يدل على ما ذكره أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وسيأتينا إن شاء الله إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، وحكم إقراراته.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح متن الورقات [3] 2755 استماع
شرح متن الورقات [11] 2360 استماع
شرح متن الورقات [23] 2273 استماع
شرح متن الورقات [15] 2234 استماع
شرح متن الورقات [7] 2071 استماع
شرح متن الورقات [2] 2044 استماع
شرح متن الورقات [18] 2026 استماع
شرح متن الورقات [17] 1972 استماع
شرح متن الورقات [20] 1944 استماع
شرح متن الورقات [25] 1924 استماع