شرح عمدة الفقه - كتاب المناسك [10]


الحلقة مفرغة

تقدم لنا أن المحلين من المتمتعين وغيرهم ممن لم يحرموا في الحج أنه يستحب لهم أن يحرموا في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وأن يكون إحرامهم من أماكنهم كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أحرموا من البطحاء، ويكون إحرامهم أيضاً قبل الزوال، ودليل ذلك: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى، وخروجهم حال الإحرام، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى قبل الزوال؛ لأنه صلى الظهر بمنى من اليوم الثامن، فدل ذلك على أن إحرامهم كان قبل الزوال.

وذكرنا فيما تقدم أنه يستحب له أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من اليوم التاسع في منى، وأن يبيت ليلة التاسع بمنى، ويصلي قصراً بلا جمع، وذكر المؤلف رحمه الله أنه أيضاً يخرج إلى عرفات، وذكرنا متى يخرج من منى إلى عرفات، وإن تيسر له أن يقيم بنمرة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أن نمرة ليست من عرفة.

وذكر المؤلف رحمه الله أنه يصلي الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين.

قال رحمه الله: (فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين ثم يروح إلى الموقف وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة) تقدم لنا متى يبدأ وقت الوقوف بعرفة، وذكرنا أن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا في ذلك على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: المشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه يبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني من يوم عرفة.

والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة والشافعي : أنه يبدأ من بعد الزوال.

والرأي الثالث: أنه يبدأ من بعد غروب الشمس، يعني: الوقوف الركن، وهذا رأي الإمام مالك رحمه الله.

الجمع بين الظهر والعصر يوم عرفة

وقول المؤلف رحمه الله: [صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين].

ظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن الحاج يجمع بين العصر والظهر في يوم عرفة، حتى وإن كان من أهل مكة، فغير أهل مكة من الآفاقيين لا إشكال في أنهم يجمعون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الآفاقيين جمعوا كما في حديث جابر الطويل، لكن هل يجمع أهل مكة أو لا يجمعون؟

هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:

الرأي الأول: رأي مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن أهل مكة يجمعون ويقصرون كسائر الحجاج.

والرأي الثاني: رأي الحنابلة والشافعية: أن أهل مكة لا يجمعون ولا يقصرون.

والرأي الثالث: رأي أبي حنيفة رحمه الله: أنهم يجمعون ولا يقصرون.

فالمسألة طرفان ووسط؛ مالك رحمه الله يقول: بأنهم يجمعون ويقصرون، والشافعي وأحمد يقولان: بأنهم لا يجمعون ولا يقصرون، وعند أبي حنيفة : أنهم يجمعون ولا يقصرون.

والصواب في هذه المسألة: أنهم يجمعون ويقصرون كسائر الحجاج، أما كونهم يجمعون فأصح الأقوال في ذلك أن علة الجمع هي النسك؛ لأن الحاج يحتاج إلى أن يجمع بين الظهر والعصر لكي يتصل الوقوف ويتفرغ للدعاء والذكر والابتهال، فعلّة الجمع هي النسك، وأما بالنسبة لعلة القصر فهي السفر.

وأهل مكة إذا خرجوا من مكة إلى عرفات فإنهم يكونون مسافرين؛ لأنه تقدم لنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن المدة الطويلة في المسافة القصيرة سفر، وأهل مكة يخرجون من مكة إلى عرفات، فالمسافة قصيرة، لكن المدة طويلة؛ لأنهم لن يرجعوا في نفس اليوم إلى أماكنهم، بل سيذهبون إلى مزدلفة، ثم بعد ذلك لا يرجعون إلى أماكنهم إلا يوم العيد، فهذه مدة طويلة في مسافة قصيرة، فحكمها حكم السفر.

ما يستثنى من الوقوف بعرفات

قال رحمه الله: (ثم يروح إلى الموقف، وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة).

عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة ) فالوادي ليس محل الوقوف شرعاً، لأن الوادي قد يكون عرضةً لأن يتأذى الإنسان في نفسه أو في ماله، فقد تكون هناك أمطار، فيتأذى الإنسان في نفسه أو ماله، وأيضاً الأودية قد تكون مأوىً لبعض المؤذيات من الحشرات ونحوها، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ارفعوا عن بطن عرنة ) وإنما صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر والعصر في بطن الوادي للاحتياج إلى ذلك، لأن بطن الوادي أرضه سهلة، فأرفق بالناس أن تكون الصلاة في ذلك المكان.

الوقوف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم

قال رحمه الله: (ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم أو قريباً من الصخرات).

النبي عليه الصلاة والسلام لم يصعد الجبل، وإنما قال: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف ) وفي حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة )، فنقول: الإنسان يقف في أي مكان يستقبل القبلة، وأما قصد الجبل وصعود الجبل فهذا لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام.

قال رحمه الله: (ويجعل حبل المشاة بين يديه) لما تقدم في حديث جابر قال: ( وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ) وقوله: (حبل المشاة)، أي: طريقهم الذي يسلكونه.

قال رحمه الله: (ويستقبل القبلة) هذا هو السنة: أن يستقبل القبلة، وأن يرفع يديه للدعاء، فإن النبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه، وفي حديث أسامة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان رافعاً يديه وكان ماسكاً خطام الناقة بإحدى يديه، فلما سقط خطام الناقة من يده أهوى النبي عليه الصلاة والسلام بيده لكي يأخذ خطام الناقة ولم يزل رافعاً اليد الأخرى ) وهذا مما يدل على أنه يستحب للإنسان أن يرفع يديه في ذلك الموقف.

الوقوف بعرفة راكباً

قال رحمه الله: [ويكون راكباً].

أي: يقف راكباً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف على ناقته، فيقول المؤلف رحمه الله: يقف راكباً، وهل يقف راكباً، أو يقوم قائماً؟ بعض السلف قال: بأنه يقوم قائماً حال الدعاء، والمؤلف رحمه الله يقول: يقف على راحلته، يعني: يركب سيارته إن كان معه سيارة أو نحو ذلك ويستقبل القبلة ويدعو، والصحيح في ذلك أن هذا يرجع إلى المصلحة، فإذا كانت مصلحة الشخص أو مصلحة غيره أن يقف راكباً وقف راكباً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما وقف راكباً على راحلته؛ لأن الناس يحتاجون إليه ليأخذوا عنه نسكهم وينظروا كيف يفعل.

ونظير ذلك ما تقدم لنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وسعى على بعيره؛ لأن الناس ازدحموا عليه، ولكي يشرف عليهم وينظروا إليه، فهذه مصلحة، فنقول: يرجع إلى المصلحة، فإذا كان الإنسان ممن ينظر إليه ويقتدى به فإنه يقف وقوفاً يستفيد الناس منه، وإذا كان الإنسان ينظر لما هو الأخشع لقلبه: هل يقف بعرفة راكباً أو يقف به وهو جالس ويدعو الله عز وجل، المهم: أن الإنسان ينظر ما هو الأخشع لقلبه.

الذكر والدعاء بعرفة

قال رحمه الله: [ويكثر من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير].

وهذا دليله قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ).

قال رحمه الله: [ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله عز وجل].

يجتهد في الدعاء، ويكثر من الدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك؛ لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ) وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله والترمذي .

وقت الإفاضة من عرفة

قال رحمه الله: (إلى غروب الشمس).

يعني: يقف إلى غروب الشمس؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر : ( وقف إلى أن غربت الشمس واستحكم غروبها وذهبت الصفرة ).

والوقوف إلى غروب الشمس واجب من واجبات الحج، ويدل له أدلة، منها:

الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم- وقف إلى أن غربت الشمس، وقال: ( خذوا عني مناسككم ).

والدليل الثاني: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً )، ولا شك أن الدفع في ضوء النهار أيسر من الدفع في ظلمة الليل، ومع ذلك لم يدفع النبي عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن غربت الشمس.

والدليل الثالث: أن النبي لم يرخص لأحدٍ من الضعفة أن يدفع قبل غروب الشمس، ولو كان جائزاً لرخص، وسيأتينا إن شاء الله أن الضعفة يرخص لهم في الدفع من مزدلفة في آخر الليل، ومع ذلك في عرفات لم يرخص النبي عليه الصلاة والسلام لأحدٍ في الدفع قبل غروب الشمس.

قدر الوقوف بعرفة وآخر وقت له

قدر الوقوف بعرفة لحظة واحدة، يعني: إذا وقف في وقت الوقوف لحظة واحدة وهو أهل للوقوف فإنه قد تم حجه، ومن هو أهل للوقوف؟ نقول: أهل الوقوف هو المسلم المحرم بالحج العاقل، بحيث لا يكون مغمى عليه ولا مجنوناً ولا سكراناً.

ووقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر من يوم النحر من اليوم العاشر، وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله، ويدل له كما تقدم حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه )، وأيضاً حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جاء عرفة ليلة جمعٍ قبل الطلوع فقد أدرك ) وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

وقول المؤلف رحمه الله: [صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين].

ظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن الحاج يجمع بين العصر والظهر في يوم عرفة، حتى وإن كان من أهل مكة، فغير أهل مكة من الآفاقيين لا إشكال في أنهم يجمعون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الآفاقيين جمعوا كما في حديث جابر الطويل، لكن هل يجمع أهل مكة أو لا يجمعون؟

هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:

الرأي الأول: رأي مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن أهل مكة يجمعون ويقصرون كسائر الحجاج.

والرأي الثاني: رأي الحنابلة والشافعية: أن أهل مكة لا يجمعون ولا يقصرون.

والرأي الثالث: رأي أبي حنيفة رحمه الله: أنهم يجمعون ولا يقصرون.

فالمسألة طرفان ووسط؛ مالك رحمه الله يقول: بأنهم يجمعون ويقصرون، والشافعي وأحمد يقولان: بأنهم لا يجمعون ولا يقصرون، وعند أبي حنيفة : أنهم يجمعون ولا يقصرون.

والصواب في هذه المسألة: أنهم يجمعون ويقصرون كسائر الحجاج، أما كونهم يجمعون فأصح الأقوال في ذلك أن علة الجمع هي النسك؛ لأن الحاج يحتاج إلى أن يجمع بين الظهر والعصر لكي يتصل الوقوف ويتفرغ للدعاء والذكر والابتهال، فعلّة الجمع هي النسك، وأما بالنسبة لعلة القصر فهي السفر.

وأهل مكة إذا خرجوا من مكة إلى عرفات فإنهم يكونون مسافرين؛ لأنه تقدم لنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن المدة الطويلة في المسافة القصيرة سفر، وأهل مكة يخرجون من مكة إلى عرفات، فالمسافة قصيرة، لكن المدة طويلة؛ لأنهم لن يرجعوا في نفس اليوم إلى أماكنهم، بل سيذهبون إلى مزدلفة، ثم بعد ذلك لا يرجعون إلى أماكنهم إلا يوم العيد، فهذه مدة طويلة في مسافة قصيرة، فحكمها حكم السفر.

قال رحمه الله: (ثم يروح إلى الموقف، وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة).

عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة ) فالوادي ليس محل الوقوف شرعاً، لأن الوادي قد يكون عرضةً لأن يتأذى الإنسان في نفسه أو في ماله، فقد تكون هناك أمطار، فيتأذى الإنسان في نفسه أو ماله، وأيضاً الأودية قد تكون مأوىً لبعض المؤذيات من الحشرات ونحوها، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ارفعوا عن بطن عرنة ) وإنما صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر والعصر في بطن الوادي للاحتياج إلى ذلك، لأن بطن الوادي أرضه سهلة، فأرفق بالناس أن تكون الصلاة في ذلك المكان.