شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [8]


الحلقة مفرغة

تقدم لنا من أهل الزكاة الفقير، وذكرنا أن الفقير هو الذي لا يجد كفايته مطلقاً، لا يجد شيئاً، أو يجد أقل من النصف، وأن المسكين: هو الذي يجد النصف فأكثر، وذكرنا أن الفقراء، والمساكين يعطون كفايتهم، وكفاية من يمونونهم من النفقات الشرعية، والحوائج الأصلية.

وأيضاً تكلمنا عن العاملين عليها، وأنهم السعاة، ومن يحتاج إليه فيها، وذكرنا أنه يدخل فيهم الكتاب، والقسام، والعداد، والكيال، ومن يقوم بالوزن، وغير ذلك، وذكرنا شروط العامل على الزكاة.

وتكلمنا عن المؤلفة قلوبهم، وأن المؤلفة قلوبهم لهم صور، وذكرنا هذه الصور، وهل يشترط في المؤلف قلبه أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته، أو أن هذا ليس شرطاً؟ تكلمنا عن هذه المسألة، وقلنا: الصواب في هذه المسألة أنه يختلف باختلاف المؤلَف.

والرقاب لهم صور:

الصورة الأولى: المكاتب، والمكاتب: هو الذي اشترى نفسه من سيده، فيعطى من الزكاة ما يسدد به دين كتابته.

الصورة الثانية: افتكاك الأسير، فإذا كان هناك أسير لأحد من المسلمين عند الكفار، فإنه يدفع من الزكاة ما يفك به أسر هذا الأسير.

الصورة الثالثة: أن يشترى بأموال الزكاة أرقاء، ثم يعتقوا.

الصورة الرابعة: أن يعتق قنه أو مكاتبه بدلاً عن الزكاة، وهذا موضع خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من أجاز كـالقاضي من الحنابلة، ومن العلماء من منعه كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

الغارمون

قال المؤلف رحمه الله: [ السادس: الغارمون، وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح، أو لإصلاح بين طائفتين من المسلمين ].

هذا السادس من أهل الزكاة: الغارم، والغرم في اللغة: اللزوم، ومنه قوله سبحانه وتعالى عن النار: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] أي: كان ملازماً لأهلها، وأما في الاصطلاح: فالغارم ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: غارم لنفسه، والقسم الثاني: غارم لإصلاح ذات البين.

قال المؤلف: (وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح)، هذا القسم الأول، وهو الغارم لنفسه، والغارم لنفسه: هو من تدين لواحد من الأمور الآتية:

الأمر الأول: تدين من أجل النفقات الشرعية، رجل استدان من أجل أن يشتري طعاماً له ولمن يمونه، فنقول: هذا يعطى من الزكاة.

الأمر الثاني: تدين من أجل الحوائج الأصلية التي يحتاجها من الأواني، والفرش، والآلات، ونحو ذلك.

ومما يدخل فيما تقدم: من تدين لاشتراء مركب يليق به، فهذا نعطيه من الزكاة.

ويدخل في ذلك أيضاً من تدين لأجل الزواج لا يجد أحداً ينفق عليه، فنقول: هذا يعطى من الزكاة.

ويدخل في ذلك أيضاً: من تدين لاشتراء مسكن يسكنه يليق به، فهذا نعطيه من الزكاة، وقيدنا بأن يكون المركب، والمسكن ونحو ذلك من النفقات والحوائج الأصلية التي تليق به؛ لأنه إذا كان فقيراً فإنه ينفق على نفسه نفقة الفقراء، وليس له أن ينفق على نفسه نفقة الأغنياء، فإذا اشترى سيارة لا يركبها إلا غني واستدان لا يعطى من الزكاة، أو مثلاً: اشترى بيتاً كبيراً يسكنه الأغنياء، فهذا لا نعطيه من الزكاة، وإنما نأمره أن يبيع هذا البيت ويشتري ما يليق به، ثم نعطيه من الزكاة إذا استدان، كذلك أيضاً: نأمره أن يبيع هذه السيارة، ويشتري ما يليق به، ثم نعطيه من الزكاة، هذان أمران: الأمر الأول: ما يتعلق بالنفقات الشرعية، والأمر الثاني: ما يتعلق بالحوائج الأصلية.

الأمر الثالث: إذا أصابت ماله جائحة من الجوائح فلحقته الديون، فهذا نعطيه، مثال ذلك: رجل ذو زراعة فاقترض لأجل مزرعته، أو رجل ذو تجارة، فاستدان من أجل تجارته، أو ذو صناعة، فاستدان من أجل صناعته، ثم لحق زراعته، أو صناعته، أو تجارته الجوائح، المزرعة أصابتها العواصف من الأمطار والرياح فأتلفت الزرع والثمار، وكذلك أيضاً: المصانع احترقت، التجارات كسدت، ونحو ذلك، فلحقته الديون، فهذا نعطيه من الزكاة، ويشترط لهذا الغارم الذي استدان لنفسه أن يكون فقيراً، فإن كان غنياً يجد فهذا لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة، لو كان عنده مال، أو عنده عقارات يستطيع أن يبيعها، فنقول: هذا لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة، بل عليه أن يوفي من هذه الأموال الزائدة، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إذا كان بيته واسعاً فإنه يبيع هذا البيت الواسع، ويسدد ويشتري ما يليق به، وقالوا: إذا كان عنده نسختان من كتاب، فإنه يبيع إحدى النسختين ويسدد، فيشترط للغارم لنفسه أن يكون فقيراً، حتى لو غرم لنفسه في أمر محرم، اشترى أمراً محرماً، وغرم لنفسه، فإنه إذا تاب يعطى من الزكاة، وأيضاً قال العلماء رحمهم الله: سواء كان غرم للخالق أو للمخلوق.

القسم الثاني: الغارم لإصلاح ذات البين، وذلك بأن تحدث بين طائفتين أو قبيلتين منازعات وخلافات، فيحصل سفك للدماء، وإتلاف للأموال، وجروح وكسور، فيأتي شخص ويصلح بين هاتين الطائفتين، ويتحمل في ذمته ما حصل بينهم من الديات، وأيضاً قيم الأموال، وأروش الجنايات، يتحمل هذه الأشياء، فهذا يحل له أن يأخذ من الزكاة، ولو كان غنياً، ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، وهذا من الغارمين، وأيضاً حديث قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم أنه ( تحمل حمالة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أقم عندنا يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ).

وإصلاح ذات البين هذا يدخل تحته صور:

الصورة الأولى: أن يتحمل في ذمته الديات، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، يتحملها في ذمته، ويذهب ويجمع من الزكاة لكي يسدد، فهذا نعطيه من الزكاة.

الصورة الثانية: أن يستقرض ويسدد، ثم يذهب ويأخذ من الزكاة، يعني: يستقرض من زيد من الناس مثلاً كذا وكذا، ويسدد، ثم بعد ذلك يأخذ من الزكاة، فهذا نقول: نعطيه من الزكاة.

الصورة الثالثة: أن يسدد من ماله، ثم يأخذ من الزكاة، هذه الصورة موضع خلاف، والأقرب فيها أنه إن نوى الرجوع على أهل الزكاة رجع، وإن لم ينو الرجوع فإنه لا يرجع.

فأصبح عندنا الغرم لإصلاح ذات البين تحته هذه الصور الثلاث.

في سبيل الله

قال المؤلف رحمه الله: [ السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم ].

هذا السابع من أهل الزكاة: في سبيل الله، في سبيل الله تحته مسألتان:

المسألة الأولى: قال الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، هل قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60] خاص بالجهاد أم أنه يشمل كل سبل الخير؟ هذا موضع خلاف.

وأهل العلم رحمهم الله اختلفوا في المراد بالجهاد:

الرأي الأول هو خاص بالجهاد في سبيل الله، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله، واستدلوا على ذلك من الآية:

أما الدليل الأول: فإن الله عز وجل قال في الآية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [التوبة:60] حصر الصدقات في هؤلاء الأصناف الثمانية، ولو قلنا: بأن قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60] يشمل كل سبل الخير، من فتح الطرق، وتعبيدها، وحفر الآبار، وغير ذلك، لم يكن لهذا الحصر فائدة، كان قال الله عز وجل: إنما الصدقات في سبيل الله، ولم يكن لهذا الحصر فائدة، وأصبح هذا الحصر ملغى، وكلام الله عز وجل ينزه عن ذلك.

الدليل الثاني: أن الله عز وجل قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، فالله عز وجل قسم الصدقات للفقراء والمساكين، لو قلنا: بأن قوله: (وَفيِ سَبِيلِ اللهِ) شامل لكل سبل الخير لم يكن لذكر الفقراء والمساكين فائدة؛ لأن المساكين يدخلون في سبيل الله، والفقراء يدخلون في سبيل الله، والغارمون يدخلون في سبيل الله، وفي الرقاب يدخلون في سبيل الله، ولم يكن لهذا التقسيم الذي ذكره الله عز وجل فائدة، وهذا كما ذكرنا ما عليه أكثر أهل العلم.

أيضاً دليل ثالث: أننا لو قلنا: بأن هذا شامل لكل طرق الخير؛ لضاع حق الفقراء والمساكين؛ لأن كون الإنسان ينشئ بزكواته مسجداً أحب إليه من كونه يصرفها لفقير يأكلها؛ لأنه يريد الصدقة الجارية، فيضيع حق الفقراء والمساكين.

الرأي الثاني: أنه يشمل كل طرق الخيرات؛ لأن قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام.

وأيضاً: استدلوا بما فيه أبي داود حديث أم معقل : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحج من سبيل الله )؛ لكن هذا الحديث ضعيف.

وكذلك أيضاً قالوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم ودا -دفع الدية- من إبل الصدقة، كما في الصحيح؛ لكن هذا أيضاً يجاب عنه بأنه أيضاً ورد بلفظ: ( وداه من عنده )، وجمع العلماء بين اللفظين بأنه اشترى هذه الإبل من إبل الصدقة.

على كل حال الأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه أكثر أهل العلم رحمهم الله، وأن الزكاة لا تصرف إلا لهؤلاء الثمانية الذين بينهم الله عز وجل في كتابه.

مسألة أخرى: إذا قلنا: بأن قوله سبحانه وتعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ المراد به: الجهاد في سبيل الله، فكيف يصرف في الجهاد؟

قال المؤلف: (وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم).

هذا ما ذهب إليه المؤلف، ومذهب الشافعي أن أموال الزكاة تصرف للجند المتطوعة، الذين ليس لهم رواتب، فإذا كان هناك جند متطوعة ليس لهم رواتب نعطيهم من أموال الزكاة ما يذهبهم إلى أماكن الجهاد، ويستعينون بها على القتال، أما إذا كان لهم رواتب فإننا لا نعطيهم، هذا الرأي الأول.

الرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله: أن المراد في سبيل الله: الغزو، وكل ما يلزم المجاهد من آلات الجهاد وعدته، وهذا القول هو الصواب، وعلى هذا نعطي المجاهدين الذين لا رواتب لهم، ونشتري أيضاً بأموال الزكاة آلات للمجاهدين وذخائر، وغير ذلك، يعني: كل ما يستعان به على الجهاد في سبيل الله، فإنه داخل، وهذا رأي الإمام مالك رحمه الله، وهو الصواب، ولا يحصر ذلك بالغزاة، بل يشمل كل ما يتعلق بالجهاد في سبيل الله من إعطاء الجند ومن شراء الأسلحة والذخائر، وعمل أماكن لتدريب المجاهدين وغير ذلك، هذا هو الصواب.

ابن السبيل

قال المؤلف رحمه الله: [ الثامن: ابن السبيل: وهو المسافر المنقطع به، وإن كان ذا يسار في بلده ].

السبيل: هو الطريق، وأضيف المسافر إلى الطريق لملازمته له، كما يقال: طير الماء، لملازمته للماء، وقال المؤلف رحمه الله: (وهو المسافر المنقطع به، وإن كان ذا يسار في بلده)، حتى ولو كان غنياً، فإذا سافر شخص لأمر مباح، أو أمرٍ مشروع، ثم انقطع به سفره، سرقت دراهمه، أو مثل ما يحصل الآن صار عليه حادث، أو اختلت سيارته، وليس عنده أموال يستطيع أن يصلح بها سيارته، أو يبلغه إلى مراده، فهذا نعطيه من الزكاة.

وهل يعطى من الزكاة ما يرجعه إلى بلده أو نقول: نعطيه من الزكاة ما يوصله إلى مقصوده، ويرجعه إلى بلده؟

نقول: الصواب أنه يعطى من الزكاة ما يوصله إلى مقصوده، ويرجعه إلى بلده، فمثلاً: هذا رجل سافر إلى مكة، لكي يعتمر، وفي أثناء الطريق سرقت نفقته أو ضاعت، إن قلنا: يرجع إلى بلده نعطيه مائة ريال ترجعه إلى بلده، وإن قلنا: يذهب إلى مكة يحتاج إلى خمسمائة ريال، فنقول: نعطيه ما يذهبه إلى مكة، ويقضي غرضه ومقصوده ويرجعه إلى بلده.

قال المؤلف: (المنقطع به)، يؤخذ منه أنه إذا لم يشرع في السفر، أنه لا يعطى من الزكاة، يعني: هذا رجل أراد السفر، قال: أعطوني من الزكاة، فنقول: هذا لا نعطيه من الزكاة، وهذا هو المشهور من المذهب، ولهذا قال: المنقطع به.

والرأي الثاني: رأي الشافعي أنه يعطى من الزكاة.

والصواب في هذه المسألة التفصيل، وهو إن كان هذا السفر يحتاج إليه فإننا نعطيه من الزكاة، وإن كان لا يحتاج إليه فإننا لا نعطيه من الزكاة، لو كان سفر نزهة، قال: أنا أريد أتنزه، أعطوني ألف ريال، أو يريد أن يتطوع لله بعمرة أو بحج، قال: أعطوني من الزكاة، هذا لا يعطى من الزكاة؛ لكن إذا كان السفر يحتاج إليه، مثلاً: يحتاج إلى علاج ونحو ذلك، فهذا نعطيه من الزكاة، هذا الصواب.

قال: (وإن كان ذا يسار في بلد) حتى ولو كان غنياً، فعندنا إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]، وهذه سيذكرها المؤلف رحمه الله.

دفع الزكاة لغير الأصناف الثمانية أو لواحد منهم

قال المؤلف رحمه الله: [ فهؤلاء هم أهل الزكاة، لا يجوز دفعها إلى غيرهم ].

قوله رحمه الله: [لا يجوز دفعها إلى غيرهم].

يخرج ما تقدم صرفها في بقية سبل الخير، غير هؤلاء الأصناف الثمانية، كتعبيد الطرق، وحفر الآبار، وبناء المساجد، ونحو ذلك، فلا يجوز.

قال: [ ولا يجوز دفعها إلى غيرهم، ويجوز دفعه إلى واحد منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ( أمر بني زريع بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر )، وقال لـقبيصة : ( أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ) ].

يقول المؤلف رحمه الله: (يجوز أن تدفع إلى واحد)، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله هو قول أكثر أهل العلم خلافاً للشافعي ، فإن الشافعي رحمه الله يقول: إذا كان عندك زكاة تجزئها ثمانية أجزاء، الجزء الأول للفقراء، للمساكين، للعاملين، للمؤلفة... إلى آخره، ورأي أكثر أهل العلم أنها لا تجزأ، وأنه لا بأس أن تدفعها إلى واحد، ويدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفيه ( قول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وتدفع إلى فقرائهم )، صنف واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـقبيصة : ( أقم عندنا يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها ).

قدر ما يدفع إلى الأصناف الثمانية من الزكاة

قال المؤلف رحمه الله: [ ويدفع إلى الفقير، والمسكين ما تتم به كفايته ].

هنا بين المؤلف رحمه الله قدر ما يأخذه كل من الفقير والمسكين، فالذي يأخذه الفقير قدر كفايته من النفقات الشرعية والحوائج الأصلية كما تقدم، فيأخذ الفقير والمسكين قدر كفايته من الحوائج الأصلية والنفقات الشرعية، فمثلاً: إذا كانت كفايته هو ومن يمونه في العام تساوي عشرين ألفاً، وراتبه ألف، بقي عليه ثمانية آلاف، يأخذ من الزكاة ثمانية آلاف، وإذا كان يحتاج إلى أوانٍ، إلى فرش، إلى آلات، إلى طعام، إلى أدوات كتابية له ولمن يمونه، نقول: نعطيه من الزكاة ما يكفيه، ويكفي من يمونه من النفقات الشرعية، والحوائج الأصلية سنة، أو تمام الكفاية إذا كان يجد بعض الكفاية.

قال المؤلف رحمه الله: [ وإلى العامل قدر عمالته ].

العامل يدفع إليه ولو كان غنياً، فنعطيه قدر الأجرة، فإنه يأخذ لا لحاجته، وإنما يأخذ لعمله، وللحاجة إليه، فهذا نعطيه قدر الأجرة، فإذا كانت كفايته في الشهر ألفان، وأجرته ألف ما نعطيه إلا ألف، لا يأخذ إلا قدر أجرته.

قال المؤلف رحمه الله: [ وإلى المؤَلف ما يحصل به تأليفه ].

المؤَلف يعطى ما يحصل به التأليف، فإذا كان يحصل التأليف بألف ريال ما نزيد، إذا كان التأليف لا يحصل إلا بألفين، نعطيه ألفين، وهكذا.

قال المؤلف رحمه الله: [ وإلى المكاتب والغارم ما يقضي دينه ].

هذا ظاهر، الغارم سواء كان غارماً لنفسه، أو غارماً لإصلاح ذات البين، فإننا نعطيه ما يقضي به دينه، أيضاً المكاتب نعطيه ما يقضي به دين الكتابة، والمكاتب كما تقدم لنا هو من اشترى نفسه من سيده بدين منجم.

قال المؤلف رحمه الله: [ وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه ].

تقدم أن (في سبيل الله) الصواب أنه يصرف في كل ما يتعلق بأمر الجهاد، إما للغزاة، وإما لآلات الغزو، وغير ذلك مما يحتاج إليه.

قال المؤلف رحمه الله: [وإلى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده].

ابن السبيل: المسافر المنقطع به يعطى ما يوصله إلى بلده، وأيضاً كما قلنا: الصواب ما يقضي به حاجته ويوصله إلى بلده.

قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يزاد واحد منهم على ذلك ].

من يأخذ من الزكاة مع غناه

قال المؤلف رحمه الله: [ وخمسة منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة، وهم الفقير، والمسكين، والمكاتب، والغارم لنفسه، وابن السبيل، وأربعة يجب الدفع إليهم مع الغنى، العامل والمؤلف والغازي والغارم لإصلاح ذات البين].

العامل يجوز أن يأخذ من الزكاة وإن كان غنياً؛ لأنه لا يأخذ لحاجته، وإنما يأخذ للحاجة إليه لعمالته.

والمؤَلف أيضاً يعطى، حتى ولو كان غنياً، المؤلف قلبه؛ لأنه لا يعطى لأجل حاجته، وإنما يعطى لأجل تأليفه.

والغازي يعطى حتى ولو كان غنياً، فإذا ذهب وليس له راتب في بيت مال المسلمين، فإننا نعطيه من الزكاة.

قال: ( والغارم لإصلاح ذات البين ).

الغارم لإصلاح ذات البين حتى لو كان عنده مال كثير وغرم، استدان لكي يصلح بين هاتين الطائفتين ونحو ذلك، فإنه يعطى من الزكاة، ولو كان غنياً.

وابن السبيل ذكره المؤلف رحمه الله أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة، فابن السبيل نعطيه حتى ولو كان غنياً في بلده، يعني: ابن السبيل لا يأخذ إلا للحاجة في حال السفر، حتى ولو كان غنياً في بلده، ما نقول له: استقرض، حتى لو قدر أن يستقرض، ما يجب عليه أن يستقرض.

قال المؤلف رحمه الله: [ السادس: الغارمون، وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح، أو لإصلاح بين طائفتين من المسلمين ].

هذا السادس من أهل الزكاة: الغارم، والغرم في اللغة: اللزوم، ومنه قوله سبحانه وتعالى عن النار: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] أي: كان ملازماً لأهلها، وأما في الاصطلاح: فالغارم ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: غارم لنفسه، والقسم الثاني: غارم لإصلاح ذات البين.

قال المؤلف: (وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح)، هذا القسم الأول، وهو الغارم لنفسه، والغارم لنفسه: هو من تدين لواحد من الأمور الآتية:

الأمر الأول: تدين من أجل النفقات الشرعية، رجل استدان من أجل أن يشتري طعاماً له ولمن يمونه، فنقول: هذا يعطى من الزكاة.

الأمر الثاني: تدين من أجل الحوائج الأصلية التي يحتاجها من الأواني، والفرش، والآلات، ونحو ذلك.

ومما يدخل فيما تقدم: من تدين لاشتراء مركب يليق به، فهذا نعطيه من الزكاة.

ويدخل في ذلك أيضاً من تدين لأجل الزواج لا يجد أحداً ينفق عليه، فنقول: هذا يعطى من الزكاة.

ويدخل في ذلك أيضاً: من تدين لاشتراء مسكن يسكنه يليق به، فهذا نعطيه من الزكاة، وقيدنا بأن يكون المركب، والمسكن ونحو ذلك من النفقات والحوائج الأصلية التي تليق به؛ لأنه إذا كان فقيراً فإنه ينفق على نفسه نفقة الفقراء، وليس له أن ينفق على نفسه نفقة الأغنياء، فإذا اشترى سيارة لا يركبها إلا غني واستدان لا يعطى من الزكاة، أو مثلاً: اشترى بيتاً كبيراً يسكنه الأغنياء، فهذا لا نعطيه من الزكاة، وإنما نأمره أن يبيع هذا البيت ويشتري ما يليق به، ثم نعطيه من الزكاة إذا استدان، كذلك أيضاً: نأمره أن يبيع هذه السيارة، ويشتري ما يليق به، ثم نعطيه من الزكاة، هذان أمران: الأمر الأول: ما يتعلق بالنفقات الشرعية، والأمر الثاني: ما يتعلق بالحوائج الأصلية.

الأمر الثالث: إذا أصابت ماله جائحة من الجوائح فلحقته الديون، فهذا نعطيه، مثال ذلك: رجل ذو زراعة فاقترض لأجل مزرعته، أو رجل ذو تجارة، فاستدان من أجل تجارته، أو ذو صناعة، فاستدان من أجل صناعته، ثم لحق زراعته، أو صناعته، أو تجارته الجوائح، المزرعة أصابتها العواصف من الأمطار والرياح فأتلفت الزرع والثمار، وكذلك أيضاً: المصانع احترقت، التجارات كسدت، ونحو ذلك، فلحقته الديون، فهذا نعطيه من الزكاة، ويشترط لهذا الغارم الذي استدان لنفسه أن يكون فقيراً، فإن كان غنياً يجد فهذا لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة، لو كان عنده مال، أو عنده عقارات يستطيع أن يبيعها، فنقول: هذا لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة، بل عليه أن يوفي من هذه الأموال الزائدة، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إذا كان بيته واسعاً فإنه يبيع هذا البيت الواسع، ويسدد ويشتري ما يليق به، وقالوا: إذا كان عنده نسختان من كتاب، فإنه يبيع إحدى النسختين ويسدد، فيشترط للغارم لنفسه أن يكون فقيراً، حتى لو غرم لنفسه في أمر محرم، اشترى أمراً محرماً، وغرم لنفسه، فإنه إذا تاب يعطى من الزكاة، وأيضاً قال العلماء رحمهم الله: سواء كان غرم للخالق أو للمخلوق.

القسم الثاني: الغارم لإصلاح ذات البين، وذلك بأن تحدث بين طائفتين أو قبيلتين منازعات وخلافات، فيحصل سفك للدماء، وإتلاف للأموال، وجروح وكسور، فيأتي شخص ويصلح بين هاتين الطائفتين، ويتحمل في ذمته ما حصل بينهم من الديات، وأيضاً قيم الأموال، وأروش الجنايات، يتحمل هذه الأشياء، فهذا يحل له أن يأخذ من الزكاة، ولو كان غنياً، ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، وهذا من الغارمين، وأيضاً حديث قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم أنه ( تحمل حمالة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أقم عندنا يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ).

وإصلاح ذات البين هذا يدخل تحته صور:

الصورة الأولى: أن يتحمل في ذمته الديات، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، يتحملها في ذمته، ويذهب ويجمع من الزكاة لكي يسدد، فهذا نعطيه من الزكاة.

الصورة الثانية: أن يستقرض ويسدد، ثم يذهب ويأخذ من الزكاة، يعني: يستقرض من زيد من الناس مثلاً كذا وكذا، ويسدد، ثم بعد ذلك يأخذ من الزكاة، فهذا نقول: نعطيه من الزكاة.

الصورة الثالثة: أن يسدد من ماله، ثم يأخذ من الزكاة، هذه الصورة موضع خلاف، والأقرب فيها أنه إن نوى الرجوع على أهل الزكاة رجع، وإن لم ينو الرجوع فإنه لا يرجع.

فأصبح عندنا الغرم لإصلاح ذات البين تحته هذه الصور الثلاث.