فتنة المال وطلب الدنيا بعمل الآخرة
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
من أسباب الانتكاسةفتنة المال وطلب الدنيا بعمل الآخرة
لهذا السبب مظاهر، منها التوسع في المباحات، وتحكم الآخرين من غير المستقيمين بمعاش المهتدي وحياته، وطلبه إرضاءَهم على حساب دينه، ومنافسة أهل الدنيا ومزاحمتهم، والدخول في الديون والانشغال بالمشاريع والفرح بالأرباح والتخطيط للبعيد..
يتلوه الاستبشار بمصاحبة المترفين والتكالب في دنيا المخذولين، ثم بعد ذلك لا تعده!
عن حذيفة رضي الله عنه قال: إياكم ومواقف الفتن! قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه.
حلية الأولياء 1/ 277 قال الإمام أحمد: عزيزٌ علي أن تذيب الدنيا أكباد رجال وعت قلوبهم القرآن.
أفٍّ لدنيا لا تواتيني ♦♦♦ إلا بتمزيقي لها عُرى ديني
قال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا، ولو كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم.
صفة الصفوة 2/ 160.
أخي المبارك:
هم الذين بدأوا بالزيغ ومالوا لغير مراد الله ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، وهم الذين كرهوا الاستمرار في الطاعات ﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [التوبة: 127] هم الذين تكبروا عن الاستجابة للحق وقد عرفوه ورأوه واضحاً، فكان الجزاء ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ﴾ [الأعراف: 146] ثم ماذا؟ تراكمت الذنوب، وأدمنت على النفور القلوب ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14] تعلقوا بالدنيا وأخلدوا إليها يقول الله تعالى عن أحد المنتكسين على أدبارهم ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ [الأعراف: 175، 176].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطى رضي وإن منع سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كانت الحراسة كان في الحراسة، وإن كانت السقاية كان في السقاية، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع".
ومما يشهد لهذا المعنى من أخبار التاريخ:
في الكامل 1/ 156 لابن عدي في ذكر أمر قارون: قال قتادة: كان يسمى المنور من حسن صورته، وجاء أنه كان حسن الصوت بالتوراة.
(وفي تاريخ الطبري 1/ 265 بسنده عن ابن عباس في قوله: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾ [القصص: 76] قال: كان ابن عمه، وكان موسى يقضي في ناحية بني إسرائيل وقارون في ناحية، والمنتظم (حتى 257هـ) 1/ 366 وكان قارون وهو ابن عم موسى بن عمران عظيم المال كثير الكنوز قيل إن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلا، فبغى على قومه بكثرة ماله فوعظوه ونهوه وقالوا له ما قص الله تعالى في كتابه: ﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 76، 77]، فأجابهم جواب مغتر لحلم الله عنه فقال: إنما أوتيته يعني المال والخزائن على علم عندي قيل على خبر ومعرفة مني وقيل لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا، فلم يرجع عن غيه ولكنه تمادى في طغيانه حتى خرج على قومه في زينته وهي أن ركب برذونا أبيض بمراكب الأرجوان المذهبة وعليه الثياب المعصفرة وقد حمل معه ثلاثمائة جارية على مثل برذونه وأربعة آلاف من أصحابه وبنى داره وضرب عليها صفائح الذهب وعمل لها بابا من ذهب فتمنى أهل الغفلة والجهل مثل ماله فنهاهم أهل العلم بالله، وأمره الله تعالى بالزكاة من كل ألف دينار دينار، وعلى هذا: من كل ألف شيء شيء فلما عاد إلى بيته وجده كثيرا فجمع نفرا يثق بهم من بني إسرائيل فقال إن موسى أمركم بكل شيء فاطعتموه وهو الآن يريد أخذ أموالكم فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت فقال آمركم أن تحضروا فلانة البغي، فتجعلوا لها جعلا فتقذفه بنفسها ففعلوا ذلك فأجابتهم إليه ثم أتى موسى فقال إن قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم فقال من سرق قطعناه ومن افترى جلدناه ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة وأن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ فقال نعم قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فقال ادعوها فإن قالت فهو كما قالت فلما جاءت قال لها موسى أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة ألا صدقت أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء قالت لا كذبوا ولكن جعلوا جعلا على أن أقذفك، فسجد ودعا عليهم فأوحى الله إليه مر الأرض بما شئت تطعك فقال يا أرض خذيهم...
فهو يخسف به كل يوم قامة.
ومن حب الترأس أيضًا الاغترار بفتنة الأتباع: في تفسير ابن كثير 2 / 266
عن ابن عباس قال: لما نزل موسى بالجبارين ومن معه أتى بلعام بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم؛ فسلخه الله ما كان عليه؛ فذلك قوله تعالى: ﴿ فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾ [الأعراف: 175] الآية.
سبيل النجاة:
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: يا معاشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن، قال: فسكتوا، فقال: أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن فتن فلا تقطعوا منه آمالكم فإن المؤمن يفتن ثم يتوب، وأما القرآن فمنار كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه أحدا وما شككتم فيه فكلوه إلى عالمه أو كلوا علمه إلى الله، وأما الدنيا فمن جعل الله الغنى في قلبه فقد أفلح ومن لا فليس بنافعة دنياه كذا رواه شعبة موقوفًا وهو الصحيح، وروى بعض هذه الألفاظ مرفوعا عن معاذ.
ومن أخبار الثابتين في فتنة السراء:
ما ذكره ابن الجوزي في صفوة الصفوة 4 / 140:
عن أحمد بن جميل المروزي قال: قيل لعبد الله بن المبارك إن إسماعيل ابن علية قد ولى الصدقات، فكتب إليه ابن المبارك:
يا جاعل العلم له بازياً
يصطاد أموال المساكينِ
احتلت للدنيا ولذاتها
بحيلة تذهب بالدينِ
فصرت مجنونًا بها بعد ما
كنت دواء للمجانينِ
أين رواياتك في سردها
عن ابن عون و ابن سيرينِ
أين رواياتك والقول في
لزوم أبواب السلاطينِ
إن قلت أكرهت فماذا كذا
زل حمار العلم في الطين
..
فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى.