خطب ومحاضرات
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [5]
الحلقة مفرغة
تقدم لنا مقدار النصاب في القطع في السرقة، وأن العلماء رحمهم الله تعالى اختلفوا في ذلك على آراء:
الرأي الأول: أن مقدار القطع في السرقة ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو عرضاً يساوي أحدهما، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
والرأي الثاني: رأي الشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام : أن القطع في السرقة معتبر بربع دينار؛ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً).
والرأي الثالث: رأي المالكية: أن القطع في ثلاثة دراهم؛ للحديث الذي تقدم معنا.
وأما الحنفية فالقطع عندهم في عشرة دراهم، ويستدلون بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في عشرة دراهم)، وهو ضعيف لا يثبت، والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام : أن القطع في ربع دينار، وأن المعتبر في ذلك الذهب، وذكرنا أن ربع الدينار يساوي أربعة غرامات وربع الغرام، وعلى هذا تقطع اليد في غرام واحد وربع الربع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عائشة رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله يقول: (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً)].
الشرح:
هذا مما يستدل به الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، وهذا الحديث دليل على اشتراط النصاب في السرقة، وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله.
والرأي الثاني: أن اليد تقطع في القليل والكثير، وهذا قول الظاهرية، وأن النصاب ليس شرطاً، واستدلوا بحديث أبي هريرة في صحيح البخاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)، والبيضة لا تأتي بربع دينار، والحبل لا يأتي بربع دينار.
وأيضاً يستدلون بعموم قول الله عز وجل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38].
أما العموم هذا فهو مخصوص بأدلة النصاب كما تقدم لنا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
وأما حديث أبي هريرة : (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)، فالجواب عنه من أوجه:
الوجه الأول: أن المراد بالبيضة ما يبلغ النصاب، وهي ما يضعه المحارب على رأسه يتقي بها السهام، وهذه تبلغ النصاب، والحبل المراد به الحبل الكبير كحبل السفينة، فهذا الحبل الكبير -حبل السفينة- تقطع اليد في سرقته.
الجواب الثاني: أن المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق يسرق البيضة)، التنفير والتقبيح والتغليظ.
الجواب الثالث: أن المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده) أن سرقته للبيضة يجره إلى أن يسرق ما هو أكبر من البيضة.. إلى آخره فتقطع يده، ويسرق ما هو أكبر من الحبل، يعني: إذا سرق البيضة ثم سرق الحبل، سرق ما هو أغلى منهما ثمناً، فيؤدي به ذلك إلى أن تقطع يده.
قال رحمه الله تعالى: [باب في إنكار الشفاعة في الحدود والنهي عنها:
عن عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت, فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا
وفي لفظ: (كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها)].
الشرح:
الشفاعة في اللغة: مأخوذة من الشفع، وهي جعل الفرد زوجاً.
وفي الاصطلاح: التوسط للغير لجلب منفعة أو دفع مضرة، والمراد بها هنا التوسط لإسقاط حد من حدود الله بعد ثبوته عند الحاكم.
قال المؤلف رحمه الله: عن عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم)، يعني: جلب لهم الهم وهو الحزن، (شأن المخزومية)، أمر المخزومية ، والمخزومية هذه اسمها فاطمة بنت الأسود المخزومية ، (التي سرقت, فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)، لكي يسقط عنها النبي صلى الله عليه وسلم الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطعها، (فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني: من يتجرأ ويستطيع أن يكلمه في هذا الشأن العظيم إلا حبه، (فكلمه أسامة , فقال: أتشفع في حد من حدود الله) الاستفهام هنا للإنكار، أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، (ثم قام فاختطب، فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه)، يعني: الهلاك هنا كما يقول العلماء: يراد به الهلاك الحسي والهلاك المعنوي، الهلاك الحسي هلاك الأبدان، وإسقاط الحدود سبب لهلاك الأبدان؛ لأنه إذا لم تقم الحدود اختل الأمن ووقعت الفوضى، وأكل الناس بعضهم بعضاً، فحصل هلاك الأبدان. والهلاك المعنوي هلاك الدين وتضييع شريعة الله عز وجل.
قال: (إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف)، يعني: صاحب الشرف، إما لمنصبه، أو لنسبه، أو لماله، يعني عنده شرف لسبب من الأسباب المعتبرة في عرف الناس، إما شرفه لماله، أو شرفه لنسبه، أو شرفه لمنصبه ومكانته، (تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف)، الذي ليس له لا مال ولا منصب ولا نسب، (أقاموا عليه الحد, وايم الله)، يعني: والله، (لو أن
وفي لفظ: (كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها).
فوائد الحديث
فيه: تحريم الشفاعة في الحدود، والشفاعة في الحدود إذا وصلت السلطان حرمت، أما قبل أن تصل إلى السلطان فإنه لا بأس بها، لكن إذا وصلت إلى السلطان، واليوم ما يسمى بالإمارة، إذا وصلت فإن الشفاعة فيها محرمة ولا تجوز.
وفي هذا الحديث: إنكار المنكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة بن زيد حتى ولو كان المنكر صدر من أقرب قريب لك فإنك تنكر عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة وغلظ في الإنكار أيضاً، مع أن أسامة رضي الله تعالى عنه كان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وسبق أن ذكرنا أن خطب النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: خطب راتبة مستمرة، كخطبة الجمعة والعيدين.. إلى آخره.
وخطب عارضة، تعرض عند وجود سببها، مثل هذا الحديث.
حكم قطع يد جاحد العارية
والرأي الثاني رأي جمهور العلماء: أن جاحد العارية لا تقطع يده؛ لأنه ليس سارقاً، وفي الحديث: (لا قطع على خائن ولا منتهب ولا مختلس)، والحديث رواه أهل السنن، فجمهور العلماء يقولون: بأن جاحد العارية لا تقطع يده، والحنابلة يتمسكون بهذا الحديث، وهذا أيضاً قول الظاهرية، والصواب في هذه المسألة هو مذهب الحنابلة، وأن جاحد العارية تقطع يده.
فإن قيل: بأنه ليس سارقاً، والسرقة هي أخذ المال على وجه الاختفاء، وهنا لم يأخذ الجاحد على وجه الاختفاء؟
فيجاب عن هذا بأن هذه سنة مستقلة كما ذكر ابن القيم رحمه الله، وهي مستثناة من الأصل، ونظير هذا: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، وفي لفظ: (فليهرق)، لماذا يغسله سبعاً مع أنه قد يكون الماء كثيراً وما أثرت فيه النجاسة، لكن نقول: هذه سنة مستقلة.. إلى آخره.
وأيضاً في هذا الحديث: العدل في إقامة الحدود بين الشريف والضعيف.
وفي هذا أيضاً: أن ترك إقامة الحدود سبب للهلاك، وأن إقامة الحدود سبب للبقاء الحسي والمعنوي، وأن ترك إقامة الحدود سبب للهلاك الحسي والمعنوي.
وفي هذا أيضاً: قسم النبي صلى الله عليه وسلم من دون استحلاف، وهذا القسم إذا كان هناك مصلحة فإن هذا جائز ولا بأس به.. إلى آخره.
وفي هذا أيضاً: المبالغة في الكلام والخطبة عند الحاجة إلى ذلك، وكذلك أيضاً ضرب الأمثلة والتشبيه، وهذا أسلوب من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والإرشاد.
وفيه: ما عليه من كان قبلنا من الضلال والتحريف والتغيير، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [27] | 2827 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [22] | 2549 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [17] | 2541 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [1] | 2442 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب الصيد [1] | 2353 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [3] | 2234 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [28] | 2208 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [2] | 2177 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب اللعان [3] | 2147 استماع |
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [23] | 2140 استماع |