شرح عمدة الأحكام - كتاب الطلاق [5]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أم عطية رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحد امرأة على الميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا, ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً ولا شيئاً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار ).

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! ابنتي إن توفي عنها زوجها, وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا- مرتين أو ثلاثاً- كل ذلك يقول: لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها, ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر عليها سنة, ثم تؤتى بدابة -حمار أو طير أو شاة- فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها, ثم تراجع بعدما شاءت من طيب أو غيره ) ].

الشرح:

تقدم أن الإحداد في اللغة: المنع.

وأما في الاصطلاح: فهو منع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة، وكل ما يرغب في نكاحها.

وتقدم أن الإحداد واجب؛ وأن الأصل المنع.

وفي الحديث قوله: (فوق ثلاث إلا على زوج)، ذكرنا أن الإحداد ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون على زوج، فهذا أربعة أشهر وعشرا, مدة العدة.

والقسم الثاني: أن يكون على غير زوج كقريب ونحو ذلك، فهذا ثلاثة أيام لا تتجاوزها.

قال: (ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب). ثوب العصب هذه ثياب غزلها يؤتى بها من اليمن, غزل هذه الثياب يلوى الخيوط ثم تصقل، ثم بعد ذلك تفل، فإذا فلت تكون ألوانها مختلفة.

قال: (ولا تكتحل، ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) (نبذة) يعني: قطعة، والقسط والأظفار نوعان من أنواع البخور.

في هذا الحديث: بيان ما تجتنبه الحادة:

فأولاً: كل ما يتعلق بثياب الزينة يجب عليها أن تجتنبه، وهذا راجع إلى عرف الناس.

ثانياً: الكحل، فيجب على الحادة أن تمتنع منه.

ثالثاً: يقاس على الكحل الخضاب، سواء في رأسها أم في يديها أم في رجليها، ومثلها اليوم أدوات التجميل، يعني: تجميل وصبغ الوجه ونحو ذلك مما تستخدمه النساء، هذا كله تمنع منه الحادة.

رابعاً: الطيب، سواء كان في بدنها أم في لباسها أم في طعامها، كله ممنوع منه، ويستثنى من ذلك إذا طهرت من حيضتها، فإنه لا بأس أن تطيب محل الحيض بقطعة من قسط أو أظفار تضعه في مكان الحيض؛ لأن الحيض رائحته منتنة، فلكي يزول هذا النتن يشرع أن تطيب هذا المكان.

خامساً: تمنع الحادة من سائر أنواع الحلي، من ذهب وفضة ونحاس وحديد، سواء كان في يديها أم في رجليها، هذا كله يجب أن تتخلص منه مدة الإحداد.

السادس: ما يتعلق بالأدهان، لو دهنت بدنها، أو دهنت رأسها، هل تمنع من ذلك أو لا تمنع؟ نقول: هذه الأدهان تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أدهان فيها طيب، فهذه تمنع منها.

القسم الثاني: أدهان غير مطيبة، وهذه لا بأس بها.

السابع مما تمنع منه المرأة الحادة: الخروج من البيت إلا لحاجة.

وما عدا ذلك فإنه جائز، فيجوز للمرأة أن تغتسل، وأن تأخذ سنن الفطرة: تقليم الأظافر، نتف الإبط، حلق العانة، الاغتسال، التنظف، تسريح الشعر، كل هذه الأشياء جائزة، التي تمنع منه الحادة هي الأمور السابق ذكرها، وهي ما دلت عليها السنة، وما عدا ذلك فجائزة، والأصل في ذلك الحل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها, وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا- مرتين أو ثلاثاً- كل ذلك يقول: لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول )].

قوله: (ترمي بالبعرة على رأس الحول) هذا فسرته زينب بنت أم سلمة رضي الله تعالى عنها:

[ ( فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها: دخلت حفشاً -الحفش: هو البيت الصغير- ولبست شر ثيابها, ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة -حمار أو طير أو شاة- فتفتض به ) ].

فالمرأة كانت تتمسح لأنه تراكم عليها هذه الأوساخ، فهي لسنة كاملة لم تغتسل، فتتنظف ثم تؤتى بهذه الدابة، ثم تمسح بها ما تعلق بها؛ لأن الأوساخ قد تراكمت عليها، قالت: فقلما تفتض بشيء إلا مات.

هذا يدل على أن الأوساخ تراكمت عليها، كونها تجلس سنة كاملة لا تمس الماء إلى آخره، هذا صعب جداً، وكلما تفتض، يعني: تتمسح بهذه الدابة من طير أو حمار أو شاة إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة, وهي الروثة من الحيوان، فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره.

في هذا الحديث النهي عن الكحل، وتقدم أن المرأة ممنوعة من الكحل وهنا قال: (وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟) لكن إذا كان هناك موضع ضرورة للكحل؛ لأن بعض النساء قد تضطر إليه، قد لا تجد الدواء الذي تداوي به عينها، فهل يجوز أن تكتحل أو لا يجوز؟

الجمهور: أنه إذا كان موضع ضرورة فإن هذا جائز ولا بأس به.

وعند ابن حزم الأخذ بظاهر الحديث وهو أنه لا يجوز حتى ولو ذهبت عينها.

كيف الجواب عن الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا، مرتين أو ثلاثاً؟

أجاب الجمهور: أن هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن حالتها ليست حالة ضرورة، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وفيه ما كان عليه أهل الجاهلية من الجهل العظيم؛ لبعدهم عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت المرأة تمكث سنة على رأس الحول، وفي الإسلام تمكث أربعة أشهر وعشراً.

أما قول الله عز وجل في الحادة: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] فهذه الآية في المتوفى عنها زوجها، والجواب أن هذا الحكم منسوخ، وهذا عليه أكثر العلماء.

والجواب الثاني: أن الإحداد ينقسم إلى قسمين: إحداد مندوب, وهي أن تترك الزينة ونحو ذلك لمدة عام.

والقسم الثاني: الإحداد الواجب هو أربعة أشهر وعشر، وهذا ما ذهب إليه الشعبي رحمه الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.