شرح صحيح مسلم - كتاب الفضائل [2]


الحلقة مفرغة

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في باب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي , قال: حدثنا سليمان بن بلال , عن عمرو بن يحيى عن ابن عباس , عن سهل بن سعد الساعدي , عن أبي حميد , قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرصوها, فخرصناها وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق, وقال: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله, فانطلقنا حتى قدمنا تبوك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة, فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله, فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء, وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب وأهدى له بغلة بيضاء, فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له برداً، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ فقالت: عشرة أوسق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي, ومن شاء فليمكث, فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة, فقال: هذه طابة، وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه, ثم قال: إن خير دور الأنصار دار بني النجار, ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة, وفي كل دور الأنصار خير, فلحقنا سعد بن عبادة فقال أبو أسيد : ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار فجعلنا آخراً؟! فأدرك سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخراً؟! فقال: أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟).

قال: حدثناه أبو بكر بن أبي شيبة , قال: حدثنا عفان ، ح، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم , قال: أخبرنا المغيرة بن سلمة المخزومي قالا: حدثنا وهيب ، حدثنا عمرو بن يحيى بهذا الإسناد إلى قوله: (وفي كل دور الأنصار خير) , ولم يذكر ما بعده من قصة سعد بن عبادة , وزاد في حديث وهيب : (فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم) , ولم يذكر في حديث وهيب : (فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ].

قوله رحمه الله: (حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب , حدثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن يحيى عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبي حميد قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك).

غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة.

قوله: (فأتينا وادي القرى), هذا الوادي بين المدينة وتبوك، (على حديقة)، أي: بستان، (لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرصوها), يعني: احزروا ما يجيء أو كم يجيء من تمرها.

قوله: (فخرصناها وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق), الوسق: يساوي ستين صاعاً.

قوله: (قال: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله, وانطلقنا حتى قدمنا تبوك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم فيها أحد منكم, فمن كان له بعير فليشد عقاله), العقال: هو ما يربط به البعير, (فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء), معروف الجبل، وجبلا طيء هما: (أجا وسلمى).

هذا الحديث تضمن مسائل منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اخرصوها), يعني: كم تجيء هذه الحديقة من التمر, وفي هذا اختبار المتبوع لأتباعه بمثل هذه الأشياء بالتمرين ولإذهاب السآمة عنهم, وأيضاً فعل ما يذهب السآمة عن الأتباع, وخصوصاً فيما يتعلق بالسفر.

وفيه مشروعية الخرص, وقد مر معنا في الزكاة، كذلك في المعاملات في مسألة العرايا. (وانطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستهب عليكم)، وهذه آية من آيات الله أيدها النبي صلى الله عليه وسلم, وهي إخباره عن حصول هذه الريح الشديدة.

وقوله: (فلا يقم فيها أحد منكم), فيه: أنه إذا هبت الريح أنه ينبغي ألا يقوم الإنسان, وأن يكون جالساً؛ لأنه إذا كان جالساً فإنه يكون أثبت له، بخلاف ما إذا كان قائماً فإنه يكون أخف, وربما الريح أثرت عليه.

قوله: (فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء), وهذا يدل على أن هذه ريح شديدة؛ لأنها حملته حتى ألقته بجبلي طيء، يعني: (أجا وسلمى)، وفي هذا أيضاً: اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه.

(وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة), أيلة: هي بيت المقدس.

(وأهدى له بغلة بيضاء), وفي هذا قبول الهدية من الكفار, وأن هذا جائز ولا بأس به, فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه الهدية, فمادام أنه لا يترتب عليه محظور شرعي, فالأصل في ذلك الحل.

(فكتب إليه), كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, والظاهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه يدعوه إلى الإسلام, وفي هذا الدعوة إلى الله عز وجل بالكتابة, ودعوة الإمام أهل الكفر إلى الإسلام.

(وأهدى له برداً), وفي هذا أيضاً: الإثابة على الهدية, وهذا هو السنة، أن تقبل الهدية وأن تثيب عليها, إذا أهداك شخص هدية أن تقبل منه وأن تثيبه على هديته.

(ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى, فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ فقالت: عشرة أوسق), وفي هذا: دليل على حذق النبي صلى الله عليه وسلم, وحسن خرصه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي), وفي هذا الإسراع في السفر, يعني: المقصود هنا: الإسراع المعتدل.

ومن ذلك ما جاء في حديث جابر في دفع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير العنق, فإذا وجد فجوة نص), فإذا كان الإسراع لا يخل, ولا يترتب عليه ضرر, فإن هذا جائز ولا بأس به, بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن الإنسان إذا قضى نهمته من سفره فليسرع إلى أهله.

(فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة), يعني: في ضواحي المدينة قبل دخول المدينة.

قوله: (هذه طابة), في هذا أن (طابة) اسم من أسماء المدينة. (وهذا أحد, وهو جبل يحبنا ونحبه)، تقدم الكلام على هذه المسألة, وفيه مشروعية محبة جبل أحد, وأنه ينبغي للمسلم أن يحب جبل أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه؛ ولأن (أحداً) يحب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فنحب هذا الجبل, وفيه أن الجماد يحب, وأن محبة الجماد تليق به, كما أن تسبيحه لله بما يليق به: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44], كما أن خشيته لله بما يليق به.

ثم قال: (إن خير دور الأنصار دار بني النجار), فيه أن دور الأنصار كلها فيها خير, لكنها تتفاضل في الخيرية, كما أن المسلمين يتفاضلون, وكما أن الصحابة رضي الله عنهم يتفاضلون, وأن أفضلها كما رتبها النبي صلى الله عليه وسلم, (ثم دار بني عبد الأشهل, ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة, وفي كل دور الأنصار خير).

ولا شك أن في كل دور الأنصار خير, وأن النبي صلى الله علي وسلم فاضل بينهم وخير بينهم بناءً على سابقتهم في الإسلام وعنائهم وجهادهم في الإسلام, يعني: هذا التخيير ليس مبنياً على مال أو حسب أو نسب, وإنما على السابقة والعناء ونحو ذلك.

وفي هذا: أنه لا بأس من التخيير بين الناس وبين القبائل مادام أنه لا يترتب عليه محظور شرعي, وكان هذا من قبيل العدل, وأن التخيير بناءً على بذل الجهد في خدمة الإسلام والمسلمين, وأن هذا جائز ولا بأس به.

قال: (فلحقنا سعد بن عبادة ): سعد سيد بني ساعدة.

(فأدرك سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخراً؟! فقال: أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟!), يعني: يكفيكم أن تكونوا من الخيار, وفي هذا حسن جواب النبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك فيه إرضاء سعد رضي الله تعالى عنه, لأن النبي صلى الله علي وسلم أرضاه, بأن بين له أنه من الخيار, ويكفي أنه من الخيار.

قوله: وزاد في حديث وهيب: (فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم), يعني: ببلادهم, والبحر: هو القرى, ولم يذكر في حديث وهيب : (فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وفي هذا بيان لما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب أيلة, فالذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كتب له ببلدهم مع الدعوة إلى الإسلام, والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم لا يغفل ذلك.

قال: [وحدثنا عبد بن حميد , قال: أخبرنا عبد الرزاق , قال: أخبرنا معمر عن الزهري , عن أبي سلمة عن جابر قال: ح، وحدثني أبو عمران محمد بن جعفر بن زياد - واللفظ له - قال: أخبرنا إبراهيم - يعني: ابن سعد - عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن جابر بن عبد الله قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد, فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ كثير العضاة)].

العضاة: الشجر التي لها شوك, يعني: كل شجرة لها شوك.

[(فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها, قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلاً أتاني وأنا نائم فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي, فلم أشعر إلاّ والسيف صلتاً في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله, ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله. قال: فشام السيف -يعني: أغمده- فها هو ذا جالس, ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم)].

وفي هذا: آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، حيث حماه الله عز وجل من هذا الرجل.

وفي هذا أيضاً: توكل النبي صلى الله عليه وسلم على الله عز وجل, وهو سيد المتوكلين, قال: (من يمنعك مني)؟ لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أصحابي أو نحو ذلك، وإنما قال: الله, فهذا هو تمام التوكل على الله عز وجل.

وفي هذا أيضاً: التفرغ في الوادي لطلب الاستظلال, مع أن هذا جائز ولا بأس به.

وفيه أيضاً: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يتخذ حارساً يحرسه.

وفيه أيضاً: عفو النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يعرض بهذا الرجل.

قال: [وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وأبو بكر بن إسحاق قالا: أخبرنا أبو اليمان, قال: أخبرنا شعيب عن الزهري , قال: حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي وأبو سلمة بن عبد الرحمن (أن جابر بن عبد الله الأنصاري -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أخبرهما أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد, فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة يوماً) ثم ذكر نحو حديث إبراهيم بن سعد ومعمر.

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , قال: حدثنا عفان قال: حدثنا أبان بن يزيد , قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع) بمعنى حديث الزهري, ولم يذكر: ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم].

قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو عامر الأشعري ومحمد بن العلاء - واللفظ لـأبي عامر - قالوا: حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً, فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء, فأنبتت الكلأ والعشب الكثير)]، العشب والكلأ والحشيش هذه كلها مما تنبته الأرض, لكن اليابس هو الحشيش، والعشب والكلأ هو الرطب.

قال: [(فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكان منها أجادب أمسكت الماء, فنفع الله بها الناس, فشربوا منها وسقوا ورعوا)], وهذه الأرض الثانية: الأجادب، وهي التي لا تنبت الكلأ, لكن تمسك الماء, فلا يسرع نضوب الماء.

[(وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً)], هذا النوع الثالث من الأرض, والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأرض قيعان، وأنها لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ.

[(فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلّم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً, ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)].

يعني: النبي صلى الله عليه وسلم جعل الناس كأقسام الأرض, وقد قسمها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أرضاً كانت طيبة فأنبتت العشب والكلأ الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا, هذا القسم الأول؛ أنبتت العشب والكلأ, وأيضاً أمسكت شيئاً من الماء, فانتفع الناس بالعشب وشربوا أيضاً, ومن الكلأ رعوا العشب, وأيضاً شربوا وسقوا ورعوا بهائمهم, هذا النوع الأول من الأراضي.

النوع الثاني: قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ, فلم تنبت كلأ ينتفع الناس برعي المواشي, ولم تمسك الماء, بل ذهب الماء لم يستق الناس ولم يشربوا.

النوع الثالث: أجادب, أمسكت الماء لكن ما أنبتت.

فالأقسام ثلاثة:

القسم الأول: أنبتت العشب الكثير فانتفع الناس.

القسم الثاني: أمسكت الماء لكن ما أنبتت الكلأ.

القسم الثالث: ما أنبتت كلأً ولا أمسكت ماءً.

هذا الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن, هذا الغيث الكثير, والناس في هذا الغيث الكثير على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من انتفع بهذا الوحي بالقرآن والسنة وتعلمه وعلمه الناس, وهذا هو أعلى المراتب, من تعلمه وحفظه وعمل به وعلمه غيره, وهذا في أعلى المراتب.

النوع الثاني: من أمسك الماء فانتفع الناس بهذا العلم، لكن هو لم ينتفع به, تعلم العلم وانتفع الناس به, لكنه لم يعمل به, هو حفظ العلم للناس ورواه لهم, لكنه هو لم ينتفع به, وهذا يحصل لكثير من الناس يحفظ ويروي, لكنه هو لم ينتفع, يعني: لم ينتفع بالعمل, وقد يكون له حفظ ولم يكن له فهم, فيحفظ ويروي, لكنه ما يفهم بحيث أنه يعلم وينفع الناس.

النوع الثالث: كالأرض السبخة؛ لا يحفظ ولا يفهم ولا ينفع الناس, أعرض عن هذا الوحي فلم يحفظه ولم يفهمه ولم ينفع الناس بهذا العلم, وهذا غالب على عامة الناس اليوم, فعامة الناس اليوم معرضون, فأصبح أنواع الناس هذه الأنواع الثلاثة:

فالنوع الأول: الذي حفظ وفهم وعلم.

والنوع الثاني: حفظ ولم يفهم لكنه رواه لغيره, أو أنه لم يعمل به, بلغته السنن فحفظها وعلمها, لكن لم يعمل بها.

النوع الثالث: أرض سبخة لم تمسك الماء ولم تنبت العشب والكلأ, فهذا النوع من الناس لم يحفظوا, ولم يفقهوا ولم يعلموا, وإنما أعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا شك أن النوع الأول هو أرفع الأنواع, والنبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالأرض الطيبة التي أنبتت العشب والكلأ الكثير, فرعى الناس وشربوا وسقوا ورعوا.. إلخ.

وأما القسم الثالث: هذه قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً, وفي هذا فضل تعلم العلم.

وفيه أيضاً: ذم الإعراض عن تعلم العلم, فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل من أعرض عن تعلم العلم مثل أرض القيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.

هذا فيه: ذم الإعراض عن تعلم العلم.

وفيه أيضاً: ضرب المثال عند التعليم, وهكذا الله عز وجل كثيراً ما يضرب الأمثال في القرآن, والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كثيراً ما يضرب الأمثلة في سنته.

قال: [وحدثنا عبد الله بن براد الأشعري وأبو كريب - واللفظ لـأبي كريب - قالا: حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني, وإني أنا النذير العريان)].

النذير العريان: الرجل إذا أراد أن ينذر قومه ما يخاف عليهم ينزع ثوبه ويشير به إليهم إذا كان بعيداً لكي يخبرهم بما سيأتيهم.

وهذا كثيراً ما يفعله رقيب القوم، يعني: من يبعث رقيباً لكي ينظر هل هناك من سيداهم هؤلاء أو لا, فإذا رأى أحداً نزع ثوبه وأشار به إليهم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أنا النذير وإني أنا النذير العريان), يعني: أنا بمنزلة النذير العريان الذي ينذر قومه ما قد يأتيهم ويدهمهم.

قال: [(فالنجاء! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا)], يعني ساروا من أول الليل, والدلجة: السير في أول الليل, [(فانطلقوا على مهلتهم, وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم, فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم, فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به, ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق )].

هذا مثال ضربه النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: أنا مثلي كمثل النذير العريان الذي أنذر قومه، فمن أطاعه نجا ومن عصاه جاءه العدو واجتاحه فهلك.

وفي هذا: ضرب المثل.

وفيه أيضاً: المبالغة في نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، حيث شبه نفسه بنذير عريان, وأن من لم يجبه سيأتيه جيش العدو وسيستأصله.

وفيه: أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي سبب النجاة, وأن معصية النبي صلى الله عليه وسلم هي سبب الهلاك.

قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي الزناد عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً, فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه, فأنا آخذ بحجزكم, وأنتم تقحمون فيه )، الفراش: هو الذي يطير كالبعوض.

التقحم هو: الإقدام والوقوع, والحجز هو: معقد الإزار والسراويل.

وفي هذا أيضاً ضرب المثل في التعليم.

وفيه أيضاً: أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي ما تمنع من الوقوع في النار, وأن عدم طاعته هي سبب الوقوع في النار.

(وأنتم تقحمون فيه), أي: تقدمون على الوقوع في النار, لكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يمنع, فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو سبب النجاة من النار, وعدم الاتباع سبب الوقوع في النار كما تقع هذه الدواب والفراش.

وفيه أيضاً: أن عدم الأخذ بهدي النبي صلى الله عليه وسلم يشبه بالدواب والفراش؛ لأن الدواب والفراش لا أحد يمنعها من الوقوع في النار, والناس الذين لا يأخذون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم كالدواب والفراش يقعون في النار, لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنعهم من التقحم.

قال: [وحدثناه عمرو الناقد وابن أبي عمر قالا: حدثنا سفيان عن أبي الزناد بهذا الإسناد نحوه].

قال: [وحدثنا محمد بن رافع , قال: حدثنا عبد الرزاق , قال: أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر أحاديث منها, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها, وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها, قال: فذلكم مثلي ومثلكم؛ أنا آخذٌ بحجزكم: هلم عن النار! هلم عن النار! فتغلبوني تقحمون فيها ).

(هلم عن النار) يعني: ابتعدوا عن النار, ابتعدوا عن النار، وفي هذا كما تقدم تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الناس بهذه الفراش التي تقع في النار, وأن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وقاه الله من النار, ومن لم يتبع تقحم فيها.

وفي هذا: إثبات النار, يعني: الذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه بالنار التي أعدها الله لأعدائه في الآخرة.

قال: [وحدثنا محمد بن حاتم , قال: حدثنا ابن مهدي قال: حدثنا سليم عن سعيد بن ميناء عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً, فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها, وأنا آخذٌ بحجزكم عن النار, وأنتم تفلتون من يدي ). الجنادب: حشرة تشبه الجراد.

والله أعلم.