شرح صحيح مسلم - كتاب الألفاظ


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

قال مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: [كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها].

الألفاظ: جمع لفظ، وقوله: من الأدب وغيرها، الأدب: هو ما ينبغي أن يكون عليه المسلم قولاً وفعلاً من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات.

والألفاظ كما تقدم: جمع لفظ، وهو ما يتلفظ به من قول، والمراد بهذا الكتاب ما ينبغي أن يتلفظ به المسلم، وما ينهى أن يتلفظ به.

قال رحمه الله تعالى: [وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى ، قالا: أخبرنا ابن وهب ، قال حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال: قال أبو هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار)].

في هذا الحديث إثبات القول لله عز وجل لقوله: قال الله عز وجل، وصفة القول صفة فعلية من صفاته سبحانه وتعالى، وصفاته الفعلية حسب مشيئته لما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى.

وقوله: يسب ابن آدم الدهر. في هذا تحريم سب الدهر، والمراد بالدهر الزمان، سواء كان ليلاً أو نهاراً أو أسبوعاً أو شهراً أو سنة.. إلى آخره، وفي هذا تحريم سب الدهر.

وقوله: وأنا الدهر. فسره بقوله: بيدي الليل والنهار. وقوله: بيدي الليل والنهار، فسره بقوله: أقلب الليل والنهار، فالله سبحانه وتعالى بيده الليل والنهار، بمعنى: أنه يقلب الليل والنهار، فيذهب بهذا ويأتي بهذا، ويزيد هذا وينقص من هذا، وفي هذا الحديث تحريم سب الدهر.

وكانت الجاهلية قبل الإسلام يسبون الدهر، إذا وقع لأحدهم آفة في بدنه أو ماله أو عرضه نسب هذه الحادثة إلى الدهر، وجعل يسب الدهر، فيقول: يا خيبة الدهر! أو أنه يسب الدهر، يلعنه ويشتمه.. إلى آخره، وهذا محرم ولا يجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الدهر، وخلق ما في هذا الدهر من الحوادث، فإذا سب هذا المخلوق فإنه يكون ساباً لخالقه الذي هو سبحانه وتعالى، وإلا فإن الدهر مخلوق لله سبحانه وتعالى، ليس بيده شيء، وليس إليه شيء من التصرف، فسبه هذا سب لله سبحانه وتعالى.

وهذا أيضاً نوع من الجهل؛ لأن الدهر هو محل الحوادث، وليست الحوادث إليه، ولا يملك هذا الدهر أن يخلق الحوادث، أو أن يتسبب في الحوادث، وإنما الذي يخلق الحوادث هو الله سبحانه وتعالى، وهذا الدهر إنما هو مخلوق لله سبحانه وتعالى.

ولهذا الله سبحانه قال: (بيدي الليل والنهار، أقلب الليل والنهار)، فهذا الدهر مخلوق لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقلبه كما سمعنا، فسبه هذا هو سب لله سبحانه وتعالى، وسب الدهر نقص في التوحيد، ولهذا بوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه التوحيد باباً: باب ما جاء في سب الدهر. فسبه نقص في التوحيد؛ لأن الدهر لا يتصرف في الحوادث، ولا يخلق الحوادث، ولا يتسبب فيها.. إلى آخره، وإنما هو مخلوق ومدبَّر لله سبحانه وتعالى، فسبه نقص في التوحيد؛ لأنه سب لله سبحانه وتعالى، ولهذا الشيخ رحمه الله جعله في كتابه التوحيد.

وقوله: (وأنا الدهر). هل يؤخذ من هذا إثبات اسم لله عز وجل اسمه للدهر لقوله: (وأنا الدهر)؟ هذا موضع خلاف، والصحيح أنه لا يثبت لله عز وجل هذا الاسم، وإنما بينه الله عز وجل بقوله: (بيدي الليل والنهار)، وقوله: (أقلب الليل والنهار)، فقوله: وأنا الدهر، هذا لا يثبت اسماً لله عز وجل، ولأن هذا ليس من الأسماء الحسنى، أسماء الله سبحانه وتعالى أسماء بلغت الحسن في غايتها، وهذا محل الحوادث وليس اسماً، فليس من الأسماء الحسنى.

وأيضاً في هذا الحديث إثبات صفة اليد لله سبحانه وتعالى لقوله: (بيدي الليل والنهار)، فالله سبحانه وتعالى صفة اليد حسب ما يليق بجلاله وعظمته، وهي من الصفات الخبرية التي تثبت لله سبحانه وتعالى حسب ما يليق بالله سبحانه وتعالى، بلا كيف ولا تحريف ولا تمثيل.. إلى آخره.

قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر واللفظ لـابن أبي عمر ، قال إسحاق : أخبرنا، وقال ابن أبي عمر : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر)].

وفي هذا إثبات الأذية لله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى تلحقه الأذية، وكيفية ذلك؟ هذه صفة تثبتها لله سبحانه وتعالى، وأن الأذية تحصل لله سبحانه وتعالى حسب ما يليق بجلاله وعظمته، وفي هذا كما تقدم أن سب الدهر سبب لسب لله سبحانه وتعالى، وإيذاء لله سبحانه وتعالى.

قال: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار). في هذا أن الله سبحانه وتعالى مدبر لهذا الزمان، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقلب الليل والنهار، بمعنى أنه يذهب بهذا ويأتي بهذا، ويزيد هذا وينقص هذا.

قال: [وحدثنا عبد بن حميد ، قال أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر! فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر! فإني أنا الدهر)]، وهذا نوع من سب الدهر حيث نسب الخيبة إلى الدهر، وكما تقدم أن سب الدهر سبب لوقوع سب الله سبحانه وتعالى.

قال: (أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما)، وفي هذا إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى، وفيه أن الدهر مخلوق مدبر لله سبحانه وتعالى لا يصنع الحوادث ولا يخلقها، ولا يكون سبباً لها، فنسبة الحوادث خلقاً أو تسبباً إلى الدهر قدح في العقل؛ لأن هذا الدهر هو محل الحوادث، ولا يتسبب هذا الدهر في شيء من الحوادث ولا يخلقها.

وفي هذا قبض الليل والنهار، وأن هذا سيكون في يوم القيامة، يوم القيامة هو اليوم الآخر فإنه لا يوم بعده، إذ تلف هذه الأجرام السماوية الكبيرة كالشمس والقمر وتلقى في النار، وحينئذ لا يوم بعد يوم القيامة، فأهل النار في ظلمة، نسأل الله السلامة، وأهل الجنة في نور، قال العلماء: النور الذي يكون فيه أهل الجنة كالنور الذي يكون قبل طلوع الشمس.

قال: [وحدثنا قتيبة ، قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر)].

وقوله: (يا خيبة الدهر) كما تقدم نسبة الخيبة، وهي عدم الفلاح والفوز والنجاح، وحصول التعاسة، نسبة هذه الأشياء إلى الدهر، هذا سب للدهر.

قال: [وحدثني زهير بن حرب ، قال حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)].

قال: [وحدثنا حجاج بن الشاعر ، قال: حدثنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يسب أحدكم الدهر؛ فإن الله هو الدهر، ولا يقولن أحدكم للعنب: الكرم؛ فإن الكرم الرجل المسلم)].

في هذا النهي عن تسمية العنب كرماً، أو تسمية شجر العنب كرماً، وكانت هذه التسمية موجودة في أول الأمر ثم بعد ذلك نهي عنها.

والعلة في ذلك بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإن الكرم الرجل المسلم)، ويدل لذلك قول الله عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فالكرم إنما يكون للرجل المسلم، فالمسلم هو الذي يوصف بالكرم لما فيه من الإيمان والهدى والنور والتقوى والاستجابة لأمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل الصالحات، فالمسلم.. وقلب المسلم هما اللذان يوصفان بالكرم، وأما العنب فلا يوصف بالكرم؛ لأن العنب فاكهة من سائر الفواكه لا توصف بالكرم.

ويمكن أن يعلل بأن الشارع نهى عن وصف العنب بالكرم؛ لأنهم كانوا يتخذون العنب خمراً، وكان الغالب على الخمور في الجاهلية وفي أول الإسلام قبل تحريم الخمر، أنها كانت تتخذ من العنب، ولهذا أبو حنيفة رحمه الله يرى أن الخمر اسم لعصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد.

أما جمهور العلماء فإنهم يرون أن الخمر كل مسكر، ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب خمراً، والذي يظهر -والله أعلم- أنهم كانوا في الجاهلية يسمونه كرماً لأنهم يعصرون منه الخمر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميته كرماً، وإنما الكرم هو الرجل المسلم أو قلب المؤمن كما سيأتي في الرواية الثانية، وفي هذا أن المسلم يسمى بالكرم، والعلة كما تقدم.

قال: [وحدثنا عمرو الناقد وابن أبي عمر ، قالا: حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: كرمٌ؛ فإن الكرم قلب المؤمن)]، وهذا كما تقدم أن قلب المؤمن يوصف بالكرم، وأيضاً الرجل المسلم يوصف بالكرم لما تقدم؛ لما يشتمل عليه قلب المؤمن من الإيمان والتقوى والهدى والنور والاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال: [وحدثنا زهير بن حرب ، قال: حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسموا العنب الكرم؛ فإن الكرم الرجل المسلم)]، وفي هذا كما تقدم النهى عن تسمية العنب بالكرم، وإنما الكرم إنما هو الرجل المسلم، وفي هذا أيضاً العدل في الألفاظ، وأن يعطى كلٌ ما يستحقه، فالذي يستحق هذا اللفظ الكبير إنما هو المسلم أو قلب المسلم، وأما هذه الشجرة فإنها لا تستحق مثل هذا اللفظ كما تقدم.

يظهر والله أعلم أنهم كانوا يسمون العنب كرماً؛ لأنهم كانوا يعصرونه خمراً ويشربونه.. إلى آخره، فسموه بهذا الاسم، فنهى الشارع عن تسميته بهذا الاسم، وهذا من باب التأكيد على النهى عن الخمر، حتى العنب الذي أصله مباح لا يسمى بهذا الاسم؛ لأنك إذا سميته بهذا الاسم ربما رغبت في عصير العنب حتى ولو كان خمراً، فنهى الشارع عن ذلك.

قال: [وحدثنا زهير بن حرب ، قال: حدثنا علي بن حفص ، قال: حدثنا ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: الكرم؛ فإن الكرم قلب المؤمن).

قال: وحدثنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال: هذا ما حدثنا أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم للعنب: الكرم؛ إنما الكرم الرجل المسلم).

وحدثنا علي بن خشرم ، قال: أخبرنا عيسى يعني ابن يونس ، عن شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: الحبلة)].

يعني: العنب، وفي هذا إثبات هذه التسمية للعنب، وفيه أيضاً أن الإنسان إذا نهى عن شيء فإنه يذكر الشيء المباح، وهذا أسلوب من أساليب الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعني أنت إذا نهيت الناس عن شيء، فاذكر لهم ما فتح الله عز وجل من الأبواب المباحة.

أنت إذا نهيت الناس عن النظر المحرم فاذكر ما أباح الله عز وجل من النظر المباح، إذا نهيت عن الشراب المحرم فاذكر ما أباح الله عز وجل من الشراب المباح وهكذا، وهكذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما حرم شيء إلا وأباح ما هو خير منه، وما فيه مصلحة العباد في الدنيا وفي الآخرة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكن قولوا: الحبلة)، وفي هذا إثبات هذا الاسم للعنب لشجر العنب.

قال: [وحدثنيه زهير بن حرب قال: حدثنا عثمان بن عمر قال: حدثنا شعبة عن سماك قال: سمعت علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: العنب والحبلة) ].

نقف على هذا، والله أعلم.