شرح العقيدة الطحاوية [35]


الحلقة مفرغة

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

[قوله: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً).

قال الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] ، وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]. الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين؛ زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً.

وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان ، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول (الجهمية)، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون ، حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك.

وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً؛ لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب، كما قيل:

قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً

ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى كسائر صفاته، ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) ، يعني: نفسه. وفي رواية: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ، وفي رواية: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً، كقوله لـمعاذ : (والله إني لأحبك) ، وكذلك قوله للأنصار، وكان زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة حبه، وأمثال ذلك. وقال له عمرو بن العاص : (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) ، فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته، لا لشيء آخر، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة؛ لتخللها المحب، ففيها كمال التوحيد، وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، فظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله على محبته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم، وتوطين النفس على أعلى ما أُمر، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة، فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة].

معنى الخلة والخليل

تكلم الشارح رحمه الله -كما سمعنا- على مسألة الخلة التي قال الله فيها: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] ، وذكر أن الخلة أعلى أنواع المحبة، وأن الخليل في الأصل: هو المحبوب الذي تخللت محبته شغاف القلب، فالخليل: هو المحبوب الذي بلغت محبته النهاية، والأخلاء: هم الأحباب، قال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] يعني: الذين كانوا متحابين محبة شديدة في الدنيا، إذا لم تكن تلك المحبة على التقوى صار بعضهم في الآخرة لبعض عدواً، ولو كانت تلك المحبة والخلة وثيقة وقوية.

فالخلة تخلل المحبة شغاف القلب، قال الشاعر:

قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً

قوله: (مسلك الروح) يعني: دخلت فيما يدخل فيه الروح، الروح يسري في الجسد وفي العروق وفي الدماء وفي العظم وفي البشر وفي كل شيء ما عدا الشعر، فالروح يسري في كل الإنسان، يقول: إني أخاطب محبوبة كأنها تخللت ما تخلله الروح حتى وصلت إلى شغاف القلب، وبذا سمي الخليل خليلاً.

ويقول الشاعر أيضاً:

لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل

فالخليل: هو المحبوب.

وقال الله تعالى حكاية عن بعض الكفار في النار: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان:28] يعني: محبوباً.

الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، يعني: محبوباً، والنبي صلى الله عليه وسلم له أخلاء محبوبون، ولكن المحبة القوية الخالصة كانت بينه وبين ربه، فربه تعالى قد اتخذه خليلاً، وهو قد أحب ربه تلك المحبة التي هذه نهايتها، وهذه غايتها، فبقي قلبه ممتلئاً بتلك المحبة التي هي الخلة، ليس فيه موضع لغيره، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يكون قلبه ممتلئاً بمحبة ربه، المحبة التي لا ينازعها غير محبة المحبوب.

الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وأحبه هذا النوع من المحبة، وإبراهيم كذلك أحب ربه المحبة التامة التي هي أعلى أنواع المحبة، ولما وهبه الله ولده إسماعيل أحبه كما هو معلوم أن الولد محبوب في النفس، وأن النفس تميل إليه وتحبه محبة طبعية، محبة شفقة وحنان، فلما تعلق قلب إبراهيم بولده وأحبه غار الرب تعالى على خليله أن يكون في قلبه موضع لغير ربه، وأن يكون قلبه منشغلاً بربه، فهو يريد ألا يكون فيه أية محبة صادقة لغير الله تعالى، فعند ذلك امتحنه بذبح ولده، فلما استسلم لذلك، والتزم بأن يطيع ربه في هذه المحنة، وأن يذبح ولده؛ خرج ذلك الجزء الذي في قلب إبراهيم من المحبة لولده، وذلك الاشتراك الذي كان فيه من محبة الولد، وصفا قلب إبراهيم لربه، وعرف ربه من قلبه أنه ممتلئ بمحبة ربه، وأنه لا يقدم على محبته محبة مال ولا ولد ولا أخ ولا خليل ولا غير ذلك، فعند ذلك نسخ الله هذا الأمر كما سمعنا،وفداه الله بذبح عظيم.

شبهة إنكار المحبة بين العبد وربه والرد عليها

المحبة من أعلى صفات الله الفعلية، الله تعالى يحب عباده، ويتخذ من يشاء منهم خليلاً، فإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم هما الخليلان اللذان اتخذهما الله لهذه الخلة التي هي من خصائصهما، وأما بقية الخلق فإنهم يحبون الله تعالى والله تعالى يحب المؤمنين ويحب المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين كما أخبر بذلك.

فالمحبة عامة للمؤمنين، والخلة خاصة بالخليلين، وهي من الله تعالى.

صفة الخلة وصفة المحبة عموماً، أنكرتها الجهمية من الجانبين، فقالوا: الله لا يُحِب ولا يُحَب، أنكروا أن المؤمنين يحبون ربهم، وأنكروا أن الله يحبهم، لماذا؟

يقولون: إن المحبة لا تكون إلا بين اثنين بينهما تجانس، فالإنسان يحب إنساناً لأنه إنسان؛ ولأن بينهما تجانساً، وليس بين الرب وبين الخلق تجانس، يقولون: الرب قديم، والإنسان حادث، فما دام أن بينهما هذا التفاوت فلا يمكن أن يكون بينهما هذه المحبة التي هي خاصة بالمتجانسين.

هذه شبهة، ولا شك أنها شبهة باطلة، فالمؤمنون يجدون في قلوبهم المحبة، ويجدون من ربهم آثار هذه المحبة، فالله تعالى يحب عباده، ومن آثار هذه المحبة: أنه ينصرهم، ويكرمهم، ويؤيدهم، ويقويهم، ويعلي شأنهم، ويعلي كلمتهم، ويوفقهم، ويسدد خطاهم، أليس ذلك دليل من آثار المحبة؟

إذا رأيت إنساناً يكرم رجلاً، ويقدسه، ويقدمه، ويدخله بيته دائماً، ويزوره، ويستزيره، ويهدي له، ويقبل هديته، ويمدحه في المجالس، ألست تستدل على أنه يحبه؟ نعم، وتقول: هذا يحب فلاناً، وبينهما محبة.

نحن نشهد آثار رحمة الله تعالى، نشهد أنه يوفق بعض عباده، وأنه ينصرهم ويؤيدهم، ويقويهم ويقوي عزائمهم، ويقوي قلوبهم، أليس ذلك من آثار المحبة؟

بلى؛ هذا دليل على أنه أحبهم حيث أظهرهم وقواهم ونصرهم وأيدهم، كما حصل لأولياء الله تعالى في كل مكان وزمان.

إذاً: نستدل بآثار المحبة على وجودها، هذا لو لم ترد في الأدلة، فكيف والأدلة الشرعية كثيرة كقول الله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ، اجتمعت المحبتان: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وهذا رد على المعتزلة في الجهتين، هم يقولون: لا يحُب ولا يحِب، والآية أثبتت أنه يحبهم وأنهم يحبونه، ومن آثار محبته لهم: أنه ينصرهم ويؤيدهم ويقوي كلمتهم، وآثار محبتهم لربهم: أنهم يعبدونه، ويخلصون العبادة له، ويوحدونه ويطيعونه، ويطيعون أمره، ويعظمون شرعه، ويستعدون للقائه، ويعملون بشرائعه كلها، ويحذرون من أسباب غضبه، ويفعلون أسباب ثوابه، وهذا دليل على أنهم يحبونه.

كذلك أيضاً محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم واجبة عليهم، وهي تابعة لمحبة الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) .

نحن نحب هذا النبي صلى الله عليه وسلم، والكثير يقولون: نحن نحبه، ونشهد أنه رسول الله، لكن لهذه المحبة علامات، فلابد أن تظهر في الذي يحبه علامات المحبة، ومن أبرزها طاعته واتباعه، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].

تكلم الشارح رحمه الله -كما سمعنا- على مسألة الخلة التي قال الله فيها: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] ، وذكر أن الخلة أعلى أنواع المحبة، وأن الخليل في الأصل: هو المحبوب الذي تخللت محبته شغاف القلب، فالخليل: هو المحبوب الذي بلغت محبته النهاية، والأخلاء: هم الأحباب، قال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] يعني: الذين كانوا متحابين محبة شديدة في الدنيا، إذا لم تكن تلك المحبة على التقوى صار بعضهم في الآخرة لبعض عدواً، ولو كانت تلك المحبة والخلة وثيقة وقوية.

فالخلة تخلل المحبة شغاف القلب، قال الشاعر:

قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً

قوله: (مسلك الروح) يعني: دخلت فيما يدخل فيه الروح، الروح يسري في الجسد وفي العروق وفي الدماء وفي العظم وفي البشر وفي كل شيء ما عدا الشعر، فالروح يسري في كل الإنسان، يقول: إني أخاطب محبوبة كأنها تخللت ما تخلله الروح حتى وصلت إلى شغاف القلب، وبذا سمي الخليل خليلاً.

ويقول الشاعر أيضاً:

لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل

فالخليل: هو المحبوب.

وقال الله تعالى حكاية عن بعض الكفار في النار: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان:28] يعني: محبوباً.

الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، يعني: محبوباً، والنبي صلى الله عليه وسلم له أخلاء محبوبون، ولكن المحبة القوية الخالصة كانت بينه وبين ربه، فربه تعالى قد اتخذه خليلاً، وهو قد أحب ربه تلك المحبة التي هذه نهايتها، وهذه غايتها، فبقي قلبه ممتلئاً بتلك المحبة التي هي الخلة، ليس فيه موضع لغيره، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يكون قلبه ممتلئاً بمحبة ربه، المحبة التي لا ينازعها غير محبة المحبوب.

الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وأحبه هذا النوع من المحبة، وإبراهيم كذلك أحب ربه المحبة التامة التي هي أعلى أنواع المحبة، ولما وهبه الله ولده إسماعيل أحبه كما هو معلوم أن الولد محبوب في النفس، وأن النفس تميل إليه وتحبه محبة طبعية، محبة شفقة وحنان، فلما تعلق قلب إبراهيم بولده وأحبه غار الرب تعالى على خليله أن يكون في قلبه موضع لغير ربه، وأن يكون قلبه منشغلاً بربه، فهو يريد ألا يكون فيه أية محبة صادقة لغير الله تعالى، فعند ذلك امتحنه بذبح ولده، فلما استسلم لذلك، والتزم بأن يطيع ربه في هذه المحنة، وأن يذبح ولده؛ خرج ذلك الجزء الذي في قلب إبراهيم من المحبة لولده، وذلك الاشتراك الذي كان فيه من محبة الولد، وصفا قلب إبراهيم لربه، وعرف ربه من قلبه أنه ممتلئ بمحبة ربه، وأنه لا يقدم على محبته محبة مال ولا ولد ولا أخ ولا خليل ولا غير ذلك، فعند ذلك نسخ الله هذا الأمر كما سمعنا،وفداه الله بذبح عظيم.

المحبة من أعلى صفات الله الفعلية، الله تعالى يحب عباده، ويتخذ من يشاء منهم خليلاً، فإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم هما الخليلان اللذان اتخذهما الله لهذه الخلة التي هي من خصائصهما، وأما بقية الخلق فإنهم يحبون الله تعالى والله تعالى يحب المؤمنين ويحب المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين كما أخبر بذلك.

فالمحبة عامة للمؤمنين، والخلة خاصة بالخليلين، وهي من الله تعالى.

صفة الخلة وصفة المحبة عموماً، أنكرتها الجهمية من الجانبين، فقالوا: الله لا يُحِب ولا يُحَب، أنكروا أن المؤمنين يحبون ربهم، وأنكروا أن الله يحبهم، لماذا؟

يقولون: إن المحبة لا تكون إلا بين اثنين بينهما تجانس، فالإنسان يحب إنساناً لأنه إنسان؛ ولأن بينهما تجانساً، وليس بين الرب وبين الخلق تجانس، يقولون: الرب قديم، والإنسان حادث، فما دام أن بينهما هذا التفاوت فلا يمكن أن يكون بينهما هذه المحبة التي هي خاصة بالمتجانسين.

هذه شبهة، ولا شك أنها شبهة باطلة، فالمؤمنون يجدون في قلوبهم المحبة، ويجدون من ربهم آثار هذه المحبة، فالله تعالى يحب عباده، ومن آثار هذه المحبة: أنه ينصرهم، ويكرمهم، ويؤيدهم، ويقويهم، ويعلي شأنهم، ويعلي كلمتهم، ويوفقهم، ويسدد خطاهم، أليس ذلك دليل من آثار المحبة؟

إذا رأيت إنساناً يكرم رجلاً، ويقدسه، ويقدمه، ويدخله بيته دائماً، ويزوره، ويستزيره، ويهدي له، ويقبل هديته، ويمدحه في المجالس، ألست تستدل على أنه يحبه؟ نعم، وتقول: هذا يحب فلاناً، وبينهما محبة.

نحن نشهد آثار رحمة الله تعالى، نشهد أنه يوفق بعض عباده، وأنه ينصرهم ويؤيدهم، ويقويهم ويقوي عزائمهم، ويقوي قلوبهم، أليس ذلك من آثار المحبة؟

بلى؛ هذا دليل على أنه أحبهم حيث أظهرهم وقواهم ونصرهم وأيدهم، كما حصل لأولياء الله تعالى في كل مكان وزمان.

إذاً: نستدل بآثار المحبة على وجودها، هذا لو لم ترد في الأدلة، فكيف والأدلة الشرعية كثيرة كقول الله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ، اجتمعت المحبتان: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وهذا رد على المعتزلة في الجهتين، هم يقولون: لا يحُب ولا يحِب، والآية أثبتت أنه يحبهم وأنهم يحبونه، ومن آثار محبته لهم: أنه ينصرهم ويؤيدهم ويقوي كلمتهم، وآثار محبتهم لربهم: أنهم يعبدونه، ويخلصون العبادة له، ويوحدونه ويطيعونه، ويطيعون أمره، ويعظمون شرعه، ويستعدون للقائه، ويعملون بشرائعه كلها، ويحذرون من أسباب غضبه، ويفعلون أسباب ثوابه، وهذا دليل على أنهم يحبونه.

كذلك أيضاً محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم واجبة عليهم، وهي تابعة لمحبة الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) .

نحن نحب هذا النبي صلى الله عليه وسلم، والكثير يقولون: نحن نحبه، ونشهد أنه رسول الله، لكن لهذه المحبة علامات، فلابد أن تظهر في الذي يحبه علامات المحبة، ومن أبرزها طاعته واتباعه، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].

ذكر الشارح أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وقد تقدم الكلام على القرآن، وأنه كلام الله، وأن الله تعالى متكلم، يتكلم إذا شاء، ومن كلامه القرآن، وكلامه لا يفنى، ولو كتب بكل أقلام الدنيا وكانت البحار مداداً لها؛ لفنيت الأقلام وتكسرت، ولفنيت مياه البحار قبل أن يفنى كلام الله.

والله تعالى خص من عباده من كلمهم، ومنهم: موسى، قال الله تعالى يخاطب موسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] (اصطفيتك) يعني: اخترتك وفضلتك وميزتك بهذه الأشياء التي منها: أن الله كلمه، ومنها: أنه أرسله وجعله من المرسلين، وغير ذلك مما ميزه الله به.

هذه الآية لا يستطيع المعتزلة أن يؤولوها: (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي).

أما الآية التي استشهد بها الشارح، وهي قوله الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] ، ومثلها قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، فهذا صريح أيضاً في أن الله كلم موسى، ومعروف أن الكلام هو المسموع؛ لقوله تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] فهو كلام سمعه، ولكن المعتزلة لما أنكروا هذه الصفة تأولوها تأويلاً بعيداً، فيقولون: إن التكليم هنا: التجريح، (كلمه) أي: جرحه بأظافير الحكمة. وما أبعد هذا التأويل!! ونسوا أن الله تعالى أخبر بأنه اصطفاه بكلامه، وتكرر الآيات يمنع من صرفها إلى هذا التأويل البعيد، ونسوا أن التأويل لا يمكن إلا ببينة وبقرينة ترجح ما تأولوه، وحيث إنه ليس هناك قرينة فلا نقبل منهم هذا التأويل البعيد، وهذا تحريف.

وقد ذكر أن رجلاً جاء إلى أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة من قراء البصرة، وقال: أريد أن تقرأ هذه الآية هكذا: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا) يعني: أن موسى هو الذي كلم الله، وأن الله لم يكلم موسى، فجعل اسم (الله) مفعول به منصوب على أنه هو المكلم.

ماذا قال أبو عمرو رحمه الله؟

قال: هب أني أو غيري قرأها هكذا، فكيف تفعل بقول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟! فبهت ذلك المعتزلي، حيث إن تلك الآية لا تستطيع المعتزلة تأويلها ولا تحريفها، ويسمى هذا: تحريفاً لفظياً.

والحاصل أن المعتزلة أنكروا هاتين الصفتين: صفة الخلة التي هي أعلى أنواع المحبة، وصفة الكلام من الله تعالى الذي هو صفة كمال، أنكروا هاتين الصفتين.

وهذه المقالة -التي هي إنكار هذه الصفات- اشتهرت عن الجعد بن درهم كما ذكر الشارح، وهو الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط -قرية من قرى العراق- فقتله في يوم العيد وجعله أضحيته يوم العيد، بعد أن أفتى علماء زمانه بكفره، وأنه أصر على قوله وعناده ولم يرجع، ولم يقبل، فبعدما خطب رحمه الله نزل وذبحه.

يقول ابن القيم رحمه الله في النونية:

ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان

شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان

ما هي مقالته؟

إذ قال إبراهيمُ ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الدان

المقالة التي أنكروها عليه أنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، وأنكر اتخاذ الله إبراهيم خليلاً.

هذه المقالة حفظت عن الجعد ، وذكر ابن تيمية رحمه الله أن الجعد أخذها عن طالوت ، وطالوت أخذها عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر المشهور، فصارت مأخوذة عن سحرة اليهود.

والجهم أخذها عن الجعد ونشرها فنسبت إليه، أصبح يقال: جهمية. الجهم كلمة مستبشعة، قالوا: إنها مشتقة من جهنم، مما يدل على أن اسمه قريب من هذه الكلمة.

وذكر الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ مقالته عن طائفة يقال لهم: السمنية.

وعلى كل حال فأسانيد الجهمية تعود إلى السمنية وإلى سحرة اليهود وإلى أشبهاهم، فكيف يترك لها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعقائد سلف المسلمين؟!

نبينا محمد عليه الصلاة والسلام شارك إبراهيم وموسى في منزلة الخلة والتكليم

قال الشارح رحمه الله: [وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في حديث الإسراء.

وهنا سؤال مشهور؛ وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟

وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة، يضيق هذا المكان عن بسطها. وأحسنها: أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد ما يليق بهم؛ لأنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليهما وسلم، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره.

وأحسن من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم. متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، بل هو متناول لإبراهيم أيضاً، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33] ، فإبراهيم وعمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر:34] فإن لوطاً داخل في آل لوط، وكما في قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49] ، وقوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] فإن فرعون داخل في آل فرعون، ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما فيها: (كما صليت على آل إبراهيم). وفي كثير منها: (كما صليت على إبراهيم)، ولم يرد: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلا في قليل من الروايات، وما ذلك إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً. وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم].

سمعنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي مثل ما أعطي الأنبياء قبله، فلما اتخذ الله إبراهيم خليلاً اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً كما تقدم في قوله: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ من أمته خليلاً، مع أنه قد أحب كثيراً منهم، كقوله لـمعاذ : (إني أحبك) ، وكتسمية زيد : حب النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة حب النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه، ولكن لم يقل: إن هذا خليلي، بل قال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر ، ولكن صاحبكم خليل الله) .

وقد كلم الله موسى تكليماً، وحصل ذلك -أيضاً- لنبينا صلى الله عليه وسلم، كلمه الله لما أسري به، وأسمعه كلامه لما أمره بخمسين صلاة فرجع وقال: (يا رب! خفف عن أمتي. فقال: خففت عنك عشراً، وهكذا تردد إليه حتى صارت خمس صلوات، فقال الله: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي).

ففي هذا أنه كلمه تكليماً، فعلى هذا يكون قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم الخلة التي لإبراهيم، وحصل له الكلام الذي لموسى، وكذلك بقية الفضائل التي لبقية الأنبياء.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2714 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2630 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2590 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2564 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2408 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2386 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2300 استماع