شرح زاد المستقنع - كتاب الديات [1]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب الديات: كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته، فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني حالّة، وشبه العمد والخطأ على عاقلته، وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية أو أصابته صاعقة أو مات بمرض، أو غل حراً مكلفاً وقيده فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية.

فصل: وإذا أدب الرجل ولده أو سلطان رعيته أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به، ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمنه المؤدب، وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي، ولو ماتت فزعاً لم يضمنا، ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه، ولو أن الآمر سلطان كما لو استأجره سلطان أو غيره].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (كتاب الديات).

تقدم لنا ما الذي يجب في العمد: هل يجب القصاص عيناً، أو أن الواجب أحد شيئين القصاص أو الدية؟ وذكرنا خلاف أهل العلم في هذه المسألة، وما الذي يترتب على هذه المسألة الخلافية.

والديات: جمع دية، وهو المال المؤدى إلى المجني عليه أو وليه بسبب الجناية.

قال رحمه الله تعالى: (كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته).

الجناية إما أن تكون مباشرة، أو تكون تسبباً، فالمباشرة أن يباشر الجاني الجناية، والتسبب أن يتسبب في الجناية دون أن يباشرها، كما لو حفر حفرة وسقط فيها شخص.. إلخ، فهذا من قبيل التسبب، فالجناية سواء كانت مباشرة أو تسبباً تجب فيها الدية.

قال رحمه الله: (كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته، فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني حالة) وهذا تقدم الكلام عليه، وذكرنا ما الذي يتفق فيه قتل العمد وشبه العمد، وما الذي يختلفان فيه.

وأيضاً تقدم أن تكلمنا عن الأشياء التي يتفق فيها شبه العمد والخطأ، والأشياء التي يختلف فيها شبه العمد عن الخطأ.

المهم مما يتفق فيه العمد وشبه العمد: أن الدية في العمد وشبه العمد مغلظة كما سيأتينا إن شاء الله. أما الخطأ فإنها مخففة.

وكذلك أيضاً مما يتفق فيه العمد وشبه العمد: قصد الجناية، ففي العمد قصد الجناية، وفي شبه العمد أيضاً قصد الجناية، إلا أن الجناية في العمد تقتل غالباً، والجناية في شبه العمد لا تقتل غالباً، وتقدم الكلام على ذلك.

كما أن شبه العمد والخطأ يتفقان في عدم القصاص، وأن الدية على العاقلة، إلا أن الدية في العمد تكون مغلظة، وعلى الجاني، وأما في شبه العمد فإن الدية تكون على العاقلة مؤجلة، وتكون مغلظة.

قال المؤلف رحمه الله: (فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني).

هذا هو الأصل أن الدية في مال الجاني، لكن خولف هذا الأصل في شبه العمد، وكذلك أيضاً في الخطأ لكونه لم يقصد القتل، يعني: إذا لم يقصد القتل فروعي فيه التخفيف.

قال رحمه الله: (وشبه العمد والخطأ على عاقلته).

أي: عاقلة الجاني، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأتين اللتين اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، كما في الصحيحين.

من غصب أو حبس حراً فهلك

قال: (وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية، أو أصابته صاعقة، أو مات بمرض).

قال: (غصب حراً صغيراً) يعني: حبسه عن أهله، فنهشته حية فمات، أو أصابته صاعقة، أو مات بمرض، وجبت الدية؛ لأنه تسبب في قتله، وهذا مما لا يقتل غالباً، يعني: كونه غصبه وحبسه عن أهله، فجاءت الحية ولدغته، هنا لم يقصد قتله، أو أصابته الصاعقة... إلخ، فيكون هذا من قبيل شبه العمد؛ لأن هذا لا يقتل غالباً، أو جاءته الصاعقة أو مرض ثم هلك، هذا من باب شبه العمد؛ لأنه كما تقدم لنا في ضابط العمد: قصد الجناية، وأن تكون الجناية مما يقتل غالباً.

وهذا الذي مشى عليه المؤلف: أنه تجب في ذلك الدية لكونه تسبب، هذا وجه في المذهب.

والرأي الثاني: أنه لا يلزمه شيء، وهذا الوجه الثاني هو المذهب، وما مشى عليه الماتن هو أحد الوجهين في المذهب، وهو الصواب في هذه المسألة؛ لأنه تسبب في القتل، وهذا في شبه العمد -كما سلفنا- لكن المذهب أنه لا يجب شيء؛ لأنه لم يباشر القتل، وهو صحيح؛ إلا أنه تسبب في القتل، فالصحيح ما مشى عليه المؤلف.

قال رحمه الله: (أو غل حراً مكلفاً وقيده فمات بالصاعقة أو الحية، وجبت الدية).

لأنه هلك بغير تعدٍ؛ لكونه غل هذا الحر المكلف وقيده فمات بالصاعقة، أو جاءت الحية ونهشته ونحو ذلك، نقول: هذا تسبب في القتل، وما دام أنه تسبب في القتل، فإنه تجب فيه الدية.

من أدب غيره ولم يسرف فتلف

قال: (فصل: وإذا أدب الرجل ولده أو سلطان رعيته أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف بيده).

مسألة: هل يضمن المؤدب أو لا يضمن؟ نقول: إن تعدى يضمن، وإن لم يتعد لا يضمن.

إذاً: التأديب يشترط له شروط:

الشرط الأول: ألا يزيد على عشر جلدات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله).

الشرط الثاني: ألا يزيد في الكيفية، أي: لا يضربه ضرباً مبرحاً، كما أنه لا يزيد في الكمية، هذا لا يجوز.

الشرط الثالث: أن ينوي امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينوي الانتقام لنفسه؛ لأنه إذا نوى الانتقام لنفسه لم يكن هذا الأدب لله سبحانه وتعالى.

الشرط الرابع: أن يكون المؤدَب ممن يحتمل التأديب، فإن كان صغيراً لا يحتمل التأديب والضرب ونحو ذلك، فإنه لا يجوز له أن يؤدبه إلا بما يليق به من الزجر والتوبيخ، أما بالضرب ونحوه وهو لا يحتمل التأديب فإن هذا لا يجوز.

الشرط الخامس: أن يكون له سلطة التأديب، كالأب مع أولاده، والسلطان مع رعيته، والزوج مع زوجته، والسيد مع رقيقه، والمعلم مع تلميذه .. إلخ، فإذا كان كذلك فإن هذا جائز.

قال رحمه الله: (وإذا أدب الرجل ولده أو سلطان رعيته أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف بيده)؛ لأنه فعل ما له فعله شرعاً، وما ترتب على المأذون غير مضمون.

قال رحمه الله: (ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمنه المؤدب).

لأنه تسبب في إسقاطه، كما يؤدب الزوج زوجته وهي حامل فأسقطت الجنين؛ فإنه يضمن هذا الجنين، وسيأتينا إن شاء الله ما يتعلق بدية الجنين؛ لأن الحامل ليس له أن يؤدبها بالضرب ونحو ذلك؛ لأنه قد يحصل إجهاض، وإنما يؤدبها بما يليق بها من الزجر والوعظ والتوبيخ ونحو ذلك.

مسألة إسقاط المرأة إذا طلب السلطان

قال رحمه الله: (وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى، أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت؛ ضمنه السلطان والمستعدي).

إذا طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى، فأسقطت ما في بطنها، فزعت لطلب السلطان لها لأمر من الأمور، ربما أنها اتهمت بشيء فيريد أن يستكشف هذا الشيء وأن يصل إلى حق الله عز وجل، ففزعت وأسقطت، يقول المؤلف رحمه الله: يضمن السلطان؛ لأنه تسبب.

(أو استعدى عليها رجل بالشرط) يعني: رجل أقام عليها الحق ادعى عليها دعوى وأحضر الشرطة لهذه المرأة، فأسقطت؛ ضمنه المستعدي؛ لكونه تلف بسببه، وهذا هو المذهب، وأيضاً قال به الشافعية.

والرأي الثاني: أنه لا يلزمهما شيء؛ لأنهما فعلا ما لهما فعله، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه، وقضاء علي في المرأة التي طلبها عمر رضي الله تعالى عنه فأسقطت، فاختلف فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم، هل يضمن شيئاً أو لا يضمن شيئاً؟ فأفتاهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه يضمن؛ لأنه أفزعها.

والذي يظهر والله أعلم والذي يصار إليه هو ما دل عليه هذا الأثر عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما، يعني: الراجح الأثر بإذن الله.

من أمر شخصاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك

قال رحمه الله: (ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه، ولو أن الآمر سلطان كما لو استأجره سلطان أو غيره).

أي: لو أنه أمر مكلفاً بالغاً عاقلاً أن يصعد هذه الشجرة، فصعد ثم سقط، لا شيء عليه؛ لأن هذا مكلف بالغ عاقل، ويؤخذ من كلام المؤلف أنه لو أمر غير مكلف وهلك كمن أمر صغيراً أن يصعد الشجرة، أو أمر المجنون أن يصعد الشجرة فهلك فإنه يضمن، فإذا أمر المكلف وصعد الشجرة فلا ضمان عليه لو هلك؛ لأنه لم يكرهه، بخلاف ما إذا أمر غير مكلف.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2818 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2731 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2677 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2644 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2639 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2558 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2554 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2528 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2521 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2498 استماع