شرح زاد المستقنع - كتاب الجنايات [2]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن سقط القود أدوا دية واحدة ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما، وإن أمر بالقتل غير مكلفٍ أو مكلفاً يجهل تحريمه أو أمر به السلطان ظلما من لا يعرف ظلمه فيه فقتل، فالقود أو الدية على الآمر، وإن قتل المأمور المكلف عالماً تحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر، وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها، فالقود على الشريك، فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية،

باب شروط القصاص:

وهي أربعة: عصمة المقتول، فلو قتل مسلم أو ذمي حربياً أو مرتداً لم يضمنه بقصاص ولا دية، الثاني: التكليف، فلا قصاص على صغير ولا مجنون، الثالث: المكافأة بأن يساويه في الدين والحرية والرق، فلا يقتل مسلم بكافر، ولا حر بعبد، وعكسه يقتل، ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر، والرابع: عدم الولادة، فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل، ويقتل الولد بكل منها.

باب استيفاء القصاص

يشترط له ثلاثة شروط: أحدها كون مستحقه مكلفاً].

تقدم لنا شيء من المقدمة في اللغة والاصطلاح، وأن الجناية في اللغة أعم منها في الاصطلاح، فهي الاعتداء على البدن أو المال أو العِرض، وأما في الاصطلاح فهي: الاعتداء على البدن بما يوجب قصاصاً أو مالاً.

وذكرنا أن الجنايات تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فأنواع القتل ثلاثة أنواع:

النوع الأول: قتل العمد، وذكرنا ضابطه، والنوع الثاني: قتل شبه العمد، وذكرنا الخلاف فيه هل هو ثابت أو ليس بثابت؟ وعرفنا أن جمهور العلماء يثبتونه خلافاً للمالكية فإنهم لا يثبتونه في الجملة، والقسم الثالث: قتل الخطأ، وذكرنا صوره.

وذكرنا أن الحنفية رحمهم الله تعالى يرون أن قتل العمد لا بد أن يكون بحديد، أو ما يقوم مقام الحديد في تفريق أجزاء البدن، وتكلمنا على هذه، وأن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر في ذلك صوراً.

ثم بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله في قتل الجماعة بالواحد، وعرفنا أن العلماء رحمهم الله لهم في ذلك رأيان:

الرأي الأول: وهو رأي جمهور أهل العلم: أن الجماعة تُقتل بالواحد، وذكرنا أدلتهم.

الرأي الثاني: أن الجماعة لا تقتل بالواحد، وهو قول الظاهرية.

واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، وأجبنا عن هذا الاستدلال بأن المراد بقوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، المقصود بذلك هو جنس النفس.

وعرفنا متى تُقتل الجماعة بالواحد؟ وقلنا تُقتل الجماعة بالواحد في صورتين:

الصورة الأولى: إذا تمالئوا، بمعنى تواطئوا على قتله فإنهم يُقتلون، حتى النظير، يعني يشمل النظير والمباشر والممسك وغير ذلك، المهم مادام أنهم تواطئوا وتمالئوا على قتله فإنهم يُقتلون به.

الصورة الثانية: إذا لم يتمالئوا، فالفقهاء رحمهم الله يقولون: لا بد أن يصلح فعل كل واحد منهم للقتل، فإذا صلح فعل كل واحد منهم للقتل فإنهم يُقتلون جميعاً.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن سقط القود أدوا دية واحدة).

إذا سقط القود -يعني: القصاص- عن هؤلاء الجماعة، يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يلزم هؤلاء الجماعة إلا دية واحدة؛ لأن القتل واحد، فلا يلزم به أكثر من دية، نقول: بأن القتل واحد، وإذا كان كذلك فإنه لا يلزم به أكثر من دية!

الجناية في قتل المكافئ بين الآمر والمباشر

قال رحمه الله: (ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما).

إذا حصل إكراه على القتل، بأن أكره شخص شخصاً على أن يقتل من يكافئه. وقول المؤلف رحمه الله: (على قتل مكافئه)، سيأتينا إن شاء الله في شروط وجوب القصاص بيان المكافأة بين القاتل والمقتول.

فإذا حصل إكراه بأن قال: اقتل فلاناً وإلا قتلتك ونحو ذلك، فقتله، فعلى من القصاص في هذه الحالة؟

للعلماء رحمهم الله في ذلك ثلاثة آراء:

الرأي الأول: ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، قال: (عليهما)، أي: على القاتل والمكره، فالقاتل يُقتل؛ لأنه باشر القتل، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178].

الرأي الثاني: أن القصاص على المكرِه، أما المكرَه فإنه لا قصاص عليه، وهذا قال به أبو حنيفة ؛ لأن المكرَه رُفع عنه قلم التكليف، فالمباشر مكرَه. وإذا كان مكرَهاً فإن التكليف يُخفف عنه، كما قال الله عز وجل في الكفر: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

ويُجاب عن ذلك أن الإكراه وإن كان سبباً من أسباب التخفيف لكنه ليس كذلك دائماً، فليس له أن يقتل غيره لكي يقي نفسه، فنفسه ليست أولى بالبقاء من نفس المقتول.

الرأي الثالث: عكس هذا الرأي، وأن القصاص على المكرَه، وأما المكرِه فإنه لا قصاص عليه، وهذا ذهب إليه بعض الحنفية، ودليلهم على ذلك: أن المكرَه هو الذي باشر القتل، فيُقتل، وأما المكرِه فلم يباشر، ويجاب عن ذلك: بأنه وإن لم يباشر القتل فإنه تسبب إليه، والضمان كما يكون في المباشرة أيضاً يكون في التسبب.

فالصواب في ذلك: هو ما ذهب إليه المؤلف، وهو قول أكثر أهل العلم، وأن كلاً من المكرِه والمكرَه يُقتص منه.

وإذا سقط القود وعفا ولي الجناية، فإنهم يؤدون دية واحدة؛ لأن القتل واحد، فلا يلزم به أكثر من دية.

ذكر بعض الصور التي تجعل القصاص على الآمر دون المباشر

قال رحمه الله: (وإن أمر بالقتل غير مكلف أو مكلفاً يجهل تحريمه، أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه فقتل، فالقود أو الدية على الآمر).

هذه عدة صور، إذا حصل أمر بالقتل فنفذ المأمور ما أمر به الآمر، فعلى من يكون القود؟

الصورة الأولى: قال: وإن أمر غير مكلف، أمر صبياً له عشر سنوات دون البلوغ، أو أمر مجنوناً بالقتل، فالقود هنا على الآمر، أما المأمور فإنه لا قود عليه؛ لأن المأمور كالآلة فلا يمكن إيجاب القصاص عليه، فوجب على المتسبب به. هذه الصورة الأولى.

قال رحمه الله: (أو مكلفاً يجهل تحريمه).

هذه الصورة الثانية، أمر مكلفاً يجهل تحريم القتل، كأن يكون حديث عهد بإسلام، فقال: اذهب واقتل فلاناً، فالقصاص هنا على الآمر دون المأمور؛ لأن المأمور ليس محل القصاص لكونه معذوراً بالجهل، فهو آلة للآمر، فيجب القصاص على الآمر؛ لأنه هو الذي تسبب إليه.

قال رحمه الله: (أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه).

هذه الصورة الثالثة: السلطان أمر بالقتل ظلماً، لكن المأمور لا يعرف أن السلطان ظالم، ويظن أن السلطان قتله بحق، فالقود هنا على الآمر وليس على المأمور؛ لأن المأمور معذور، وإذا كان كذلك فلا يكون محل قصاص.

ويُفهم من كلام المؤلف رحمه الله قوله: (من لا يعرف ظلمه فيه)، أنه إذا كان يعرف أن السلطان ظالم، وأن القتل بغير حق فقتل فإن القصاص على المأمور.

قال رحمه الله تعالى: (فقتل فالقود أو الدية على الآمر)، يعني: إذا أمره السلطان فالمباشر لا قصاص عليه ولا دية؛ لأن طاعة السلطان واجبة، وهو يجهل أن السلطان ظالم في هذه المسألة، ويظن أنه محق فهو معذور، فنقول: بأنه لا شيء على المأمور لكونه معذوراً.

قال رحمه الله تعالى: (وإن قتل المأمور المكلف عالماً تحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر)، هذه كما قلنا: إذا كان يعرف أن السلطان ظالم في هذه المسألة، وأقدم على القتل، فإن الضمان يكون على المأمور؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

صور القود على الشريكين في القتل المختلفين في الحكم حال الانفراد

قال رحمه الله تعالى: (وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً؛ لأبوة أو غيرها، فالقود على الشريك).

صورة هذه المسألة: حصل قتل عمد اشترك فيه اثنان، سقط القود عن أحدهما لتخلف شرط وجوب القصاص.

ومثال ذلك: أب ورجل أجنبي قتلا ابن الأب، وكما سيأتينا من شروط وجوب القصاص عدم الولادة، يقول المؤلف رحمه الله تعالى: القصاص على شريك الأب، وإن كان الأصل أن القصاص عليهما جميعاً، لكنه سقط عن الأب لتخلف شرط وجوب القصاص.

فيشترط لوجوب القصاص عدم الولادة بين القاتل والمقتول.

مثال آخر: لو اشترك مسلم وكافر في قتل كافر، فالقصاص على الكافر، وأما المسلم.. فلا قصاص عليه؛ لأنه تخلف فيه شرط من شروط وجوب القصاص، وهو المكافأة في الدين، وهنا لا مكافأة.

وهذا قول جمهور أهل العلم: أنه إذا سقط القصاص لتخلف الشرط عن أحد الشريكين، فإنه يبقى في الشريك الآخر الذي توفرت فيه شروط وجوب القصاص؛ لأن الأصل وجوب القصاص، ولتوفر الشروط فيه.

وعند الحنفية أنه لا يجب القصاص، لا على الأب ولا على غيره، ولا على الكافر ولا على المسلم، واستدلوا على ذلك: بأن القتل هنا تركب من أمرين: من موجب للقصاص وغير موجب للقصاص، فلا يجب القصاص.

والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وأن القصاص واجب؛ لما تقدم من أن الأصل وجوب القصاص، لكنه سقط عن الشريك لتخلف شرط وجوب القصاص فيه، وإلا فإن العمدية متمحضة فيه.

صورة أخرى: لو اجتمع في القتل مكلف وغير مكلف، كما لو اجتمع عاقل ومجنون، أو بالغ وصغير، أو آدمي وسبع في قتل هذا الشخص، فالعلماء يقولون: لا قصاص؛ لأن القتل هنا لم يتمحض في العمدية، بخلاف الصورة الأولى، إذا اشترك الأب وغير الأب، فالقتل هنا متمحض في العمدية لكنه سقط عن الأب لتخلف شرطه فيه، بخلاف السبع والآدمي، فالسبع لا يمكن منه القصد وإنما هو مفترس، وطبعه الافتراس، وكذلك الصبي ليس محلاً للقصد، والمجنون كذلك، فلم تتمحض العمدية في هذه الصور، بخلاف ما تقدم فلا يجب القصاص.

قال رحمه الله تعالى: (فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية).

إذا عدل ولي القصاص إلى طلب المال، يقول: (لزمه نصف الدية)، يلزم شريك الأب، أو شريك المسلم نصف الدية.

ومثال ذلك: لو اجتمع أب وغير الأب في قتل هذا الولد، ثم إن ولي القصاص عفا عن القود إلى الدية، فإنه يلزم شريك هذا الأب نصف الدية.

قال رحمه الله: (ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما).

إذا حصل إكراه على القتل، بأن أكره شخص شخصاً على أن يقتل من يكافئه. وقول المؤلف رحمه الله: (على قتل مكافئه)، سيأتينا إن شاء الله في شروط وجوب القصاص بيان المكافأة بين القاتل والمقتول.

فإذا حصل إكراه بأن قال: اقتل فلاناً وإلا قتلتك ونحو ذلك، فقتله، فعلى من القصاص في هذه الحالة؟

للعلماء رحمهم الله في ذلك ثلاثة آراء:

الرأي الأول: ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، قال: (عليهما)، أي: على القاتل والمكره، فالقاتل يُقتل؛ لأنه باشر القتل، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178].

الرأي الثاني: أن القصاص على المكرِه، أما المكرَه فإنه لا قصاص عليه، وهذا قال به أبو حنيفة ؛ لأن المكرَه رُفع عنه قلم التكليف، فالمباشر مكرَه. وإذا كان مكرَهاً فإن التكليف يُخفف عنه، كما قال الله عز وجل في الكفر: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

ويُجاب عن ذلك أن الإكراه وإن كان سبباً من أسباب التخفيف لكنه ليس كذلك دائماً، فليس له أن يقتل غيره لكي يقي نفسه، فنفسه ليست أولى بالبقاء من نفس المقتول.

الرأي الثالث: عكس هذا الرأي، وأن القصاص على المكرَه، وأما المكرِه فإنه لا قصاص عليه، وهذا ذهب إليه بعض الحنفية، ودليلهم على ذلك: أن المكرَه هو الذي باشر القتل، فيُقتل، وأما المكرِه فلم يباشر، ويجاب عن ذلك: بأنه وإن لم يباشر القتل فإنه تسبب إليه، والضمان كما يكون في المباشرة أيضاً يكون في التسبب.

فالصواب في ذلك: هو ما ذهب إليه المؤلف، وهو قول أكثر أهل العلم، وأن كلاً من المكرِه والمكرَه يُقتص منه.

وإذا سقط القود وعفا ولي الجناية، فإنهم يؤدون دية واحدة؛ لأن القتل واحد، فلا يلزم به أكثر من دية.

قال رحمه الله: (وإن أمر بالقتل غير مكلف أو مكلفاً يجهل تحريمه، أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه فقتل، فالقود أو الدية على الآمر).

هذه عدة صور، إذا حصل أمر بالقتل فنفذ المأمور ما أمر به الآمر، فعلى من يكون القود؟

الصورة الأولى: قال: وإن أمر غير مكلف، أمر صبياً له عشر سنوات دون البلوغ، أو أمر مجنوناً بالقتل، فالقود هنا على الآمر، أما المأمور فإنه لا قود عليه؛ لأن المأمور كالآلة فلا يمكن إيجاب القصاص عليه، فوجب على المتسبب به. هذه الصورة الأولى.

قال رحمه الله: (أو مكلفاً يجهل تحريمه).

هذه الصورة الثانية، أمر مكلفاً يجهل تحريم القتل، كأن يكون حديث عهد بإسلام، فقال: اذهب واقتل فلاناً، فالقصاص هنا على الآمر دون المأمور؛ لأن المأمور ليس محل القصاص لكونه معذوراً بالجهل، فهو آلة للآمر، فيجب القصاص على الآمر؛ لأنه هو الذي تسبب إليه.

قال رحمه الله: (أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه).

هذه الصورة الثالثة: السلطان أمر بالقتل ظلماً، لكن المأمور لا يعرف أن السلطان ظالم، ويظن أن السلطان قتله بحق، فالقود هنا على الآمر وليس على المأمور؛ لأن المأمور معذور، وإذا كان كذلك فلا يكون محل قصاص.

ويُفهم من كلام المؤلف رحمه الله قوله: (من لا يعرف ظلمه فيه)، أنه إذا كان يعرف أن السلطان ظالم، وأن القتل بغير حق فقتل فإن القصاص على المأمور.

قال رحمه الله تعالى: (فقتل فالقود أو الدية على الآمر)، يعني: إذا أمره السلطان فالمباشر لا قصاص عليه ولا دية؛ لأن طاعة السلطان واجبة، وهو يجهل أن السلطان ظالم في هذه المسألة، ويظن أنه محق فهو معذور، فنقول: بأنه لا شيء على المأمور لكونه معذوراً.

قال رحمه الله تعالى: (وإن قتل المأمور المكلف عالماً تحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر)، هذه كما قلنا: إذا كان يعرف أن السلطان ظالم في هذه المسألة، وأقدم على القتل، فإن الضمان يكون على المأمور؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.