شرح زاد المستقنع - كتاب الطلاق [3]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن طلق من دخل بها في حيض أو طهر وطئ فيه فبدعة يقع، وتسن رجعتها.

ولا سنة ولا بدعة لصغيرة وآيسة وغير مدخول بها ومن بان حملها.

وصريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه غير أمر ومضارع، ومطلقة اسم فاعل فيقع به، وإن لم ينوه جاد أو هازل، فإن نوى بطالق من وثاق أو في نكاح سابق منه، أو من غيره أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً، ولو سئل: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، وقع، أو: ألك امرأة؟ فقال: لا، وأراد الكذب فلا.

فصل: وكنايات الظاهرة نحو: أنت خلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وأنت حرة وأنت الحرج، والخفية نحو: اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، واعتدي، واستبرئي، واعتزلي، ولست لي بامرأة، والحقي بأهلك، وما أشبهه، ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلا بنية مقارنة للفظ إلا في حال خصومة وغضب وجواب سؤالها، فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً، ويقع مع النية الظاهرة ثلاث وإن نوى واحدة، وبالخفية ما نواه].

تقدم لنا جملة من أحكام الطلاق، ومن ذلك أنه يشترط في المطلق أن يكون مختاراً، وعلى هذا إذا كان مكرهاً فإن الطلاق لا يقع، وذكرنا أن الإكراه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون بحق، فهذا يقع طلاقه، والقسم الثاني: أن يكون بغير حق، فهذا لا يقع طلاقه.

وتقدم لنا أيضاً ما يتعلق بشروط الإكراه، ومما يدخل في الإكراه طلاق الغضبان، هل يقع طلاق الغضبان أو لا يقع؟ وذكرنا أن هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وبينا حكم كل قسم.

وتقدم لنا ما يتعلق بطلاق الموسوس، وطلاق المسحور.

ثم شرعنا بعد ذلك فيما يتعلق بطلاق السنة وطلاق البدعة، وأن طلاق السنة ما جمع أربع صفات:

الصفة الأولى: أن يطلقها طلقة واحدة.

والصفة الثانية: أن يكون في طهر.

والصفة الثالثة: ألا يكون قد جامع في هذا الطهر.

والصفة الرابعة: أن يتركها حتى تنقضي عدتها، بحيث لا يتبعها طلقة في أثناء العدة.

وشرعنا في الصفة الأولى وهي أن يطلقها طلقة واحدة، وذكرنا أنه إذا طلقها أكثر من طلقة فإما أن يطلقها ثلاثاً، وإما أن يطلقها اثنتين، وبينا الحكم التكليفي لطلاق الثلاث، وطلاق الاثنتين، وأن الصواب أنه محرم ولا يجوز، فلا يجوز للزوج أن يطلق زوجته ثلاث طلقات، ولا يجوز له أن يطلقها طلقتين.

وأما الحكم الوضعي ففيه ثلاثة آراء: الرأي الأول: وهو رأي جمهور أهل العلم، أن الثلاث تقع، سواء جمعها بلفظ واحد، فقال: أنت طالق ثلاثاً، أو كرر الجملة فقال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وبعض العلماء فصل، فقال: إن جمعها فهي طلقة، وإن كرر فهي ثلاث.

الرأي الثاني: أنها طلقة واحدة.

والرأي الثالث: رأي ابن حزم أنها لغو، وأنه لا يقع به شيء، وذكرنا أدلة الجمهور، وانتهينا من أدلتهم، وذكرنا أيضاً رأي شيخ الإسلام، وذكرنا من أدلته حديث ابن عباس ، وقول الله عز وجل: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، بمعنى أن يكون دفعة بعد دفعة، بحيث تستقبل في كل طلقة عدة، ومن أدلته قول الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والطلاق للعدة أن يطلق طلقة تستقبل بها عدة، ولا يطلق طلقة لا تستقبل بها عدة، وعلى هذا إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، وقلنا: بأنه يقع طلقتين، فالطلقة الثانية لم تستقبل بها عدة، استقبلت العدة بالطلقة الأولى، أما الثانية فليس لها عدة.

ومن الأدلة على ذلك: حديث ركانة رضي الله تعالى عنه أنه طلق امرأته ثلاثاً، فحزن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( واحدة )، لكن هذا الحديث مضطرب، لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة على ذلك: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: فعمله مردود عليه، ولا شك أن طلاق الثلاث عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون مردوداً.

بقي كلام ابن حزم رحمه الله، حيث يقول بأنه لغو، وغير معتبر، ودليله على ذلك أن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، يعني أن عمله مردود عليه، وهذا الكلام الذي ذكره ابن حزم صحيح، لكن لا نقول بأنه مردود جملة، نقول: الذي ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم هو المردود، أما الذي عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فليس مردوداً، فهذا الرجل قال: أنت طالق، فقوله: أنت طالق، هذا عمل عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقع ثم قال الثانية: أنت طالق، فهذه ليس عليها أمر الله ولا أمر رسوله، فلا تقع.

وإذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فقوله: أنت طالق، هذا عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله: ثلاثاً، هذا ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والأصل في كلام المكلف إعماله لا إهماله، فكوننا نهمله بالكلية هذا فيه نظر، فالصواب في هذه المسألة هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو قول لبعض الحنفية وبعض المالكية وبعض الحنابلة، أن الطلاق الثلاث يكون واحدة، لكن كما جاء في حديث ابن عباس إذا رأى القاضي أو الإمام أن يمضيه من باب التعزير، وأن المصلحة تقتضي ذلك، فإنه يمضيه، هذه الصفة الأولى من صفات طلاق السنة، وهي: أن يطلقها طلقة واحدة.

الصفة الثانية: أن يطلقها في طهر، فإذا طلقها في غير طهر فإن هذا لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يطلقها في حال الحيض، الأمر الثاني: أن يطلقها في النفاس. ‏

طلاق الحائض

أما الطلاق في الحيض فالحكم التكليفي له أنه محرم، والعلماء مجمعون على ذلك، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق زوجته وهي حائض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غضب، وقال لـعمر: ( مره فليراجعها )، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بردها، مما يدل على أنه محرم، فكون النبي صلى الله عليه وسلم غضب، هذا يدل على أنه محرم، وأما الحكم الوضعي، هل يقع طلاق الحائض، أو لا يقع؟ فالأئمة الأربعة متفقون على أنه يقع.

الرأي الثاني: وهو قول الظاهرية والخوارج، والشيعة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن طلاق الحائض غير واقع، ولهذا قال ابن عبد البر رحمه الله: هذا القول لم يقل به إلا أهل الأهواء والبدع، لكن هذا هو الحق، وقد دل عليه القرآن والسنة، وهذه من المسالك التي خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأئمة الأربعة، ولكل منهم دليل.

أما الذين قالوا بأنه يقع فاستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عمر أن يأمره بمراجعتها قال: ( مره فليراجعها )، والرجعة فرع عن الطلاق، وهذا يدل على أن الطلاق وقع، وورد في البخاري معلقاً من حديث ابن عمر قال: حسبت علي تطليقة.

وورد عن ابن عمر نفسه كما في صحيح مسلم أنه قال: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها.

وفي سنن أبي داود والدارقطني أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هي واحدة )، هذا في سنن أبي داود وسنن الدارقطني، فهذه أدلة الجمهور الذين يقولون بأن طلاق الحائض يقع.

الرأي الثاني: الذين قالوا بأنه لا يقع، استدلوا بقول الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والطلاق للعدة أن يطلق في حال الطهر، ولهذا في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء )، والله عز وجل يقول: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والنبي صلى الله عليه وسلم بين طلاق العدة: أن يطلقها في الطهر قبل الجماع، فدل على أن الطلاق في حال الحيض ليس طلاقاً للعدة، وإذا كان كذلك فإنه يكون مردوداً، لأنه ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

والنبي صلى الله عليه وسلم غضب، وأمر ابن عمر أن يراجع زوجته، مما يدل على أنه ليس واقعاً، وليس كما يقول الجمهور بأنه واقع، وسنبين هذه المسألة.

شيخ الإسلام يقول بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها يدل على أن الطلاق ليس واقعاً، والجمهور يقولون بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها يدل على أن الطلاق واقع، لأن الرجعة فرع عن الطلاق، وسيأتي كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وكلام تلميذه ابن القيم .

واستدلوا على ذلك بقول ابن مسعود في قول الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، قال ابن مسعود : طاهرات من غير جماع، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر في سنن أبي داود ، أن ابن عمر طلق امرأته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يرها شيئاً، وأيضاً ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الرجل أيطلق امرأته وهي حائض؟ قال: لا يعتد بذلك، رواه عبد الرزاق وصححه الحافظ ابن حجر وابن حزم ، مما يدل على أن الآثار عن ابن عمر مختلفة، فتارة كما في صحيح مسلم أنه حسب الطلقة، وتارة أفتى بأن من طلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك.

وكيف الجواب عن أدلة الجمهور الذين قالوا: بعدم الوقوع؟

الدليل الأول حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها، أجيب عن الأمر بالمراجعة بجوابين:

الجواب الأول: قال شيخ الإسلام: لا يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالمراجعة وقد وقع الطلاق، لأنه سيطلق، فإذا قلنا بأن الطلاق واقع وأنه أمره بالمراجعة، ففي ذلك إضرار؛ لأنه سيترتب عليه وقوع طلقة ثانية، وتطويل العدة، فلا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: راجعها والطلاق واقع، ما الفائدة من أن يقول له راجع وهو سيطلق؟

الجواب الثاني: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن المراجعة في لسان الشارع أعم منها في لسان الفقهاء، فالمراجعة في لسان الشارع تطلق على إطلاقات: المراجعة بعد الطلاق، والرد إلى الحالة الأولى، وهذا هو المراد هنا، ومن ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم للنعمان بن بشير لما نحل ولده دون بقية أولاده، أمره أن يرتجع هذه الهبة، أي: أن يردها إلى الحالة الأولى، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم هو أن ترد إلى الحالة الأولى، بمعنى أن الطلاق ليس واقعاً.

وتطلق المراجعة في لسان الشارع على ابتداء النكاح، فالمراجعة في لسان الشارع أعم منها في لسان الفقهاء، وأما قول ابن عمر : وحسبت لها التطليقة التي طلقتها، فنقول: الآثار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مختلفة.

وجاء في البخاري معلقاً وحسبت من طلاقها، لا يدرى من الحاسب، ليس فيه تصريح بأن الذي حسبها هو النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود : ( هي واحدة )، لا يدرى من قالها كما ذكر ابن القيم رحمه الله، هل قالها ابن وهب أم نافع أم ابن أبي ذئب ؟

ويظهر والله أعلم أن الرأي الثاني وهو عدم وقوع طلاق الحائض أنه أقوى دليلاً، وهذا يعني التمسك بالأصل، فالأصل هو بقاء النكاح، مع أن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

طلاق النفساء

الحالة الثانية: طلاق النفساء، هل هو طلاق سنة أو ليس طلاق سنة؟ هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، والذي يظهر والله أعلم أن طلاق النفساء طلاق سنة واقع؛ لأن المرأة في طلاق النفساء تشرع في العدة مباشرة، أما الطلاق في حال الحيض فلا، فإذا طلقها في حال الحيض فهذه الحيضة ليست معتبرة من العدة، بل تنتظر حتى تطهر ثم تستقبل بعد ذلك ثلاثة قروء.

الصفة الثالثة من صفات طلاق السنة: أن يطلقها في طهر لم يجامع فيه، والكلام في هذه المسألة كما سلف، إذا طلقها في طهر جامعها فيه، فالحكم التكليفي أنه محرم ولا يجوز، لأنه خلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهل يقع أو لا يقع؟ جمهور العلماء الأئمة الأربعة يرون أنه يقع، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه لا يقع، والدليل على ذلك حديث ابن عمر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حتى تحيض ثم تطهر، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء )، وتقدم أثر ابن مسعود أنه قال: طاهرات من غير جماع.

طلاق المعتدة

الصفة الرابعة: ألا يتبعها طلقة في العدة، فلا تقع طلقة أخرى حتى يراجع، أو يعقد عقداً جديداً، وعند جمهور أهل العلم شرعت في العدة، ثم قال: أنت طالق، فقد أتبعها طلقة أخرى في العدة، فيرون أنه واقع، والكلام في هذه المسألة كالكلام في المسألة السابقة، شيخ الإسلام يرى أنه لا يقع، وأنه لابد أن يراجع لكي تستقبل في الطلقة الثانية عدة جديدة، أو يعقد عليها من جديد، أي بعد أن تنتهي العدة ويعقد عليها مرة أخرى.

وعلى هذا لو راجع لكي يطلق، فهل يجوز ذلك أو لا يجوز؟ نقول: لا يجوز لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، فالرجعة من شروطها إرادة الإصلاح كما سيأيتنا إن شاء الله.

قوله: (وإن طلق من دخل بها).

هنا قيد يخرج غير المدخول بها، وسيأتينا الكلام عليها.

وقوله: (فبدعة يقع، وتسن رجعتها).

هذا على القول بأن الطلاق واقع، قال بعض العلماء: يجب أن يراجعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمراجعة، أما إذا قلنا بأن الطلاق ليس واقعاً فهي لا تزال زوجة.

أما الطلاق في الحيض فالحكم التكليفي له أنه محرم، والعلماء مجمعون على ذلك، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق زوجته وهي حائض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غضب، وقال لـعمر: ( مره فليراجعها )، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بردها، مما يدل على أنه محرم، فكون النبي صلى الله عليه وسلم غضب، هذا يدل على أنه محرم، وأما الحكم الوضعي، هل يقع طلاق الحائض، أو لا يقع؟ فالأئمة الأربعة متفقون على أنه يقع.

الرأي الثاني: وهو قول الظاهرية والخوارج، والشيعة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن طلاق الحائض غير واقع، ولهذا قال ابن عبد البر رحمه الله: هذا القول لم يقل به إلا أهل الأهواء والبدع، لكن هذا هو الحق، وقد دل عليه القرآن والسنة، وهذه من المسالك التي خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأئمة الأربعة، ولكل منهم دليل.

أما الذين قالوا بأنه يقع فاستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عمر أن يأمره بمراجعتها قال: ( مره فليراجعها )، والرجعة فرع عن الطلاق، وهذا يدل على أن الطلاق وقع، وورد في البخاري معلقاً من حديث ابن عمر قال: حسبت علي تطليقة.

وورد عن ابن عمر نفسه كما في صحيح مسلم أنه قال: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها.

وفي سنن أبي داود والدارقطني أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هي واحدة )، هذا في سنن أبي داود وسنن الدارقطني، فهذه أدلة الجمهور الذين يقولون بأن طلاق الحائض يقع.

الرأي الثاني: الذين قالوا بأنه لا يقع، استدلوا بقول الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والطلاق للعدة أن يطلق في حال الطهر، ولهذا في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء )، والله عز وجل يقول: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والنبي صلى الله عليه وسلم بين طلاق العدة: أن يطلقها في الطهر قبل الجماع، فدل على أن الطلاق في حال الحيض ليس طلاقاً للعدة، وإذا كان كذلك فإنه يكون مردوداً، لأنه ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

والنبي صلى الله عليه وسلم غضب، وأمر ابن عمر أن يراجع زوجته، مما يدل على أنه ليس واقعاً، وليس كما يقول الجمهور بأنه واقع، وسنبين هذه المسألة.

شيخ الإسلام يقول بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها يدل على أن الطلاق ليس واقعاً، والجمهور يقولون بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها يدل على أن الطلاق واقع، لأن الرجعة فرع عن الطلاق، وسيأتي كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وكلام تلميذه ابن القيم .

واستدلوا على ذلك بقول ابن مسعود في قول الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، قال ابن مسعود : طاهرات من غير جماع، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر في سنن أبي داود ، أن ابن عمر طلق امرأته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يرها شيئاً، وأيضاً ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الرجل أيطلق امرأته وهي حائض؟ قال: لا يعتد بذلك، رواه عبد الرزاق وصححه الحافظ ابن حجر وابن حزم ، مما يدل على أن الآثار عن ابن عمر مختلفة، فتارة كما في صحيح مسلم أنه حسب الطلقة، وتارة أفتى بأن من طلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك.

وكيف الجواب عن أدلة الجمهور الذين قالوا: بعدم الوقوع؟

الدليل الأول حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها، أجيب عن الأمر بالمراجعة بجوابين:

الجواب الأول: قال شيخ الإسلام: لا يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالمراجعة وقد وقع الطلاق، لأنه سيطلق، فإذا قلنا بأن الطلاق واقع وأنه أمره بالمراجعة، ففي ذلك إضرار؛ لأنه سيترتب عليه وقوع طلقة ثانية، وتطويل العدة، فلا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: راجعها والطلاق واقع، ما الفائدة من أن يقول له راجع وهو سيطلق؟

الجواب الثاني: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن المراجعة في لسان الشارع أعم منها في لسان الفقهاء، فالمراجعة في لسان الشارع تطلق على إطلاقات: المراجعة بعد الطلاق، والرد إلى الحالة الأولى، وهذا هو المراد هنا، ومن ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم للنعمان بن بشير لما نحل ولده دون بقية أولاده، أمره أن يرتجع هذه الهبة، أي: أن يردها إلى الحالة الأولى، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم هو أن ترد إلى الحالة الأولى، بمعنى أن الطلاق ليس واقعاً.

وتطلق المراجعة في لسان الشارع على ابتداء النكاح، فالمراجعة في لسان الشارع أعم منها في لسان الفقهاء، وأما قول ابن عمر : وحسبت لها التطليقة التي طلقتها، فنقول: الآثار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مختلفة.

وجاء في البخاري معلقاً وحسبت من طلاقها، لا يدرى من الحاسب، ليس فيه تصريح بأن الذي حسبها هو النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود : ( هي واحدة )، لا يدرى من قالها كما ذكر ابن القيم رحمه الله، هل قالها ابن وهب أم نافع أم ابن أبي ذئب ؟

ويظهر والله أعلم أن الرأي الثاني وهو عدم وقوع طلاق الحائض أنه أقوى دليلاً، وهذا يعني التمسك بالأصل، فالأصل هو بقاء النكاح، مع أن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

الحالة الثانية: طلاق النفساء، هل هو طلاق سنة أو ليس طلاق سنة؟ هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، والذي يظهر والله أعلم أن طلاق النفساء طلاق سنة واقع؛ لأن المرأة في طلاق النفساء تشرع في العدة مباشرة، أما الطلاق في حال الحيض فلا، فإذا طلقها في حال الحيض فهذه الحيضة ليست معتبرة من العدة، بل تنتظر حتى تطهر ثم تستقبل بعد ذلك ثلاثة قروء.

الصفة الثالثة من صفات طلاق السنة: أن يطلقها في طهر لم يجامع فيه، والكلام في هذه المسألة كما سلف، إذا طلقها في طهر جامعها فيه، فالحكم التكليفي أنه محرم ولا يجوز، لأنه خلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهل يقع أو لا يقع؟ جمهور العلماء الأئمة الأربعة يرون أنه يقع، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه لا يقع، والدليل على ذلك حديث ابن عمر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حتى تحيض ثم تطهر، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء )، وتقدم أثر ابن مسعود أنه قال: طاهرات من غير جماع.

الصفة الرابعة: ألا يتبعها طلقة في العدة، فلا تقع طلقة أخرى حتى يراجع، أو يعقد عقداً جديداً، وعند جمهور أهل العلم شرعت في العدة، ثم قال: أنت طالق، فقد أتبعها طلقة أخرى في العدة، فيرون أنه واقع، والكلام في هذه المسألة كالكلام في المسألة السابقة، شيخ الإسلام يرى أنه لا يقع، وأنه لابد أن يراجع لكي تستقبل في الطلقة الثانية عدة جديدة، أو يعقد عليها من جديد، أي بعد أن تنتهي العدة ويعقد عليها مرة أخرى.

وعلى هذا لو راجع لكي يطلق، فهل يجوز ذلك أو لا يجوز؟ نقول: لا يجوز لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، فالرجعة من شروطها إرادة الإصلاح كما سيأيتنا إن شاء الله.

قوله: (وإن طلق من دخل بها).

هنا قيد يخرج غير المدخول بها، وسيأتينا الكلام عليها.

وقوله: (فبدعة يقع، وتسن رجعتها).

هذا على القول بأن الطلاق واقع، قال بعض العلماء: يجب أن يراجعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمراجعة، أما إذا قلنا بأن الطلاق ليس واقعاً فهي لا تزال زوجة.