شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [17]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: النشوز: معصيتها إياه فيما يجب عليها، فإذا ظهر منها أماراته بألا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة أو متكرهة وعظها، فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء، وفي الكلام ثلاثة أيام، فإن أصرت ضربها غير مبرح.

باب الخلع:

من صح تبرعه من زوجة وأجنبيٍ صح بذله لعوضه، فإذا كرهت خلق زوجها أو خلقه أو نقص دينه أو خافت إثما بترك حقه، أبيح الخلع وإلا كره ووقع، فإن عضلها ظلمًا للافتداء، ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضًا ففعلت].

بسم الله الرحمن الرحيم.

تقدم لنا جملة من أحكام القسم بين الزوجات، وذكرنا من ذلك أن للعلماء رحمهم الله في حكم القسم بين الزوجات رأيين:

فعند جمهور أهل العلم أنه يجب عليه أن يقسم لزوجاته، فإذا قسم فعليه أن يعدل بين زوجاته بالاتفاق، وذكرنا ما المراد بالقسم، وما الذي يجب عليه أن يعدل فيه، وما الذي لا يجب عليه أن يعدل فيه؟ وذكرنا أقسام ذلك، وتطرقنا لمسقطات القسم، وأن القسم يسقط بمسقطات.

قال رحمه الله تعالى: (فصل: النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها، فإذا ظهر منها أماراته بألا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمةً أو متكرهة).

النشوز في اللغة يطلق على معانٍ، منها: الارتفاع، وأما في الاصطلاح: فهي معصية الزوجة زوجها فيما يجب عليها، والنشوز قد يكون من قبل الزوجة وقد يكون من قبل الزوج، وكلا النشوزين بينه الله عز وجل في القرآن.

أما نشوز الزوجة فقول الله سبحانه وتعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34] ، وأما نشوز الزوج فبينه الله عز وجل بقوله: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128] وسيأتي إن شاء الله بيان النشوزين.

فإذا نشزت المرأة، يعني: عصت زوجها فيما يجب عليها أن تقوم به، فقال المؤلف رحمه الله تعالى فيه: (فإذا ظهر منها أماراته) يعني: علامات النشوز.

المرتبة الأولى: الوعظ

قال رحمه الله: (وعظها).

هذه المرتبة الأولى من مراتب علاج النشوز وهي: الوعظ، والتذكير، قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] والنشوز محرم وهو معصية، ويدل لهذه المرتبة ما تقدم من قول الله عز وجل: فَعِظُوهُنَّ [النساء:34] يعني: ذكروهن بحقوق الزوج وما يترتب على ذلك من شؤم المعصية وعظيم الذنب، ويذكر لها الزوج ما ورد في ذلك من أدلة كحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) خرجاه في الصحيحين، والأحاديث كثيرة في حق الزوج.

وهذه هي المرتبة الأولى، وهي: مرتبة الوعظ، وليس لها حد، بل يستمر في وعظها إلى أن تقوم القرينة على أنها لا تستجيب، فينتقل إلى المرتبة الثانية.

المرتبة الثانية: الهجر في المضجع

قال رحمه الله: (فإن أصرت هجرها في المضجع).

هذه المرتبة الثانية: إذا أصرت على النشوز ولم تستجب، فإن الزوج يهجرها في مضجعها، وللعلماء في تفسير الهجر رأيان:

الرأي الأول: أنه هجر الفراش، وهذا هو المشهور من المذهب: أنه يهجر فراش زوجته؛ وعلى هذا لا ينام معها في فراشها، وقال بعض العلماء: بل إذا كانت له زوجة أخرى.

والرأي الثاني: أن المراد بذلك عدم هجر الفراش وإنما يهجر المرأة، فينام في الفراش ويهجر المرأة، بألا ينظر إليها ولا يتحدث معها ونحو ذلك، وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34] ولم يقل: اهجروا المضاجع، وهذا القول هو الصواب، ولأن هذا أيضًا أبلغ في الردع والزجر والتأديب.

قال رحمه الله: (وفي الكلام ثلاثة أيام).

للعلماء رحمهم الله في مدة الهجر في المضجع رأيان:

الرأي الأول، وهو قول جمهور أهل العلم: أن مدة الهجر غير مقدرة، وهذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا على ذلك بإطلاق الآية.

والرأي الثاني: أنها تقدر بشهر، ويدل لذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، لما آلى منهن حين طالبنه بالنفقة وهو لا يجد، فآلى النبي منهن شهرًا، وهذا قول المالكية.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يقدر بمدة؛ لأن الهجر يقصد منه التأديب، وإذا كان كذلك فإذا كان الزوج يرى أن المصلحة قائمة في الهجر فإنه يهجر، سواء كان لمدة شهر أو أقل أو أكثر.

والهجر ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الهجر الذي يقصد منه التأديب، كهجر الزوج زوجته إذا لم تقم بحقوقه، وهجر الوالد لولده إذا عصاه، وهجر العاصي المذنب، وهذا لا يتقدر بمدة، وإنما مرجعه إلى المصلحة، فإذا كان هناك مصلحة فإنه يهجر بمقدار تلك المصلحة، ويدل لهذا هذه الآية، فإن الله سبحانه وتعالى أطلق، وهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المخلفين في غزوة تبوك خمسين ليلة.

القسم الثاني: الهجر الذي لا يقصد منه الإصلاح والتأديب، وإنما الهجر الذي سببه الخصام والمغاضبة، كما لو حصل بين شخصين شيء من الخصام والمغاضبة والتنازع ونحو ذلك، فهذا لا يجوز أن يزيد على ثلاثة أيام؛ لأن الأصل في المسلم أن يقوم بحق أخيه المسلم، و( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ) ، والحديث محمول على هذا القسم، وبهذا تجتمع الأدلة، فنقول: لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ) ، ولأن الأصل أن يقوم المسلم بحق أخيه المسلم: ( حق المسلم على المسلم خمس - وفي رواية: ست -: إذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا عطس فحمد الله فشمته ) إلى آخر الحديث.

فتلخص لنا: أن الهجر ينقسم إلى هذين القسمين.

والمؤلف رحمه الله تعالى يقول: يهجرها في الكلام ثلاثة أيام فقط، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ لما تقدم من حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ) .

والرأي الثاني: أنه لا يتقدر بمدة.

وهذا الحديث كما قلنا محمول على الهجر الذي يكون في حال المخاصمة، فلو وقع بينك وبين شخص مخاصمة ونزاع وشجار، فقد رخص لك الشارع أن تهجره إلى ثلاثة أيام، أما أكثر من ذلك فلا تهجره، وأما الهجر الذي يقصد منه الإصلاح والتأديب، فهذا لا يتقيد، وهذا القول هو الصواب.

وعلى هذا نقول: الهجر في الكلام لا يتقيد بثلاثة أيام، ما دام أن المقصود هو الإصلاح والتأديب.

المرتبة الثالثة: الضرب

قال رحمه الله تعالى: (فإن أصرت).

يعني: لم تنجح المرحلة السابقة، وهي مرتبة الهجر، فإنه يصير إلى المرتبة الثالثة: وهي مرتبة الضرب، والضرب دليله القرآن كما تقدم: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34].

وما ثبت من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبعٍ، واضربوهم على ذلك وهم أبناء عشر ).

وحديث أبي بردة أيضًا في الصحيحين: ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله ) والمقصود بالجلد هنا: جلد التأديب، كما حمله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

قال رحمه الله: (غير مبرح).

هذا الشرط الأول من شروط الضرب: أن يضربها ضربًا غير مبرح، يعني: لا يكون الضرب ضارًا، ولا يكون شاقًا؛ لأن المقصود من الضرب هو التأديب والإصلاح، وليس المقصود منه الإتلاف والإضرار والإشقاق؛ وعلى هذا نقول: بأنه ضرب يؤلم لكن لا يشق، فإذا كان يترتب على المضروب مشقة أو ضرر فإنه لا يجوز؛ لأن الأصل في بدن المسلم الحرمة: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ).

الشرط الثاني: ألا يزيد هذا الضرب على عشرة أسواط، ودليله ما تقدم من حديث أبي بردة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله ) .

الشرط الثالث: أن يجتنب المقاتل، ففي البدن مقاتل: كالفؤاد والفرج والقلب والكليتين ونحو ذلك من المقاتل، لقول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] .

الشرط الرابع: أن يقصد بذلك امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يقصد الانتقام، وهذه المسألة تغيب عن كثيرٍ من الناس، فتجد أنه إذا خولف يقصد أن ينتقم لنفسه وأن يطفئ غضبه، ولا يقصد بالضرب أن يمتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجد أن الشيطان يستولي عليه فيشق في ضرب المؤدب وهذا خطأ، بل الواجب عليه أن يمتثل؛ لأنه إذا نوى أن يمتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كان ضرب هذا عبادة يؤجر عليه، وإذا قصد أن ينتقم لنفسه وأن يطفئ غضبه ونحو ذلك فلا يؤجر بل يأثم على ذلك؛ لأن الأصل في بدن المسلم الحرمة.

الشرط الخامس: أن يكون المؤدب ممن يحتمل التأديب، فإن كان لا يحتمل التأديب لصغره أو لكونه مريضًا أو نحو ذلك، فإنه لا يؤدبه وإنما يكون تأديبه بالتوبيخ ونحو ذلك.

المرتبة الرابعة: بعث حكمين من أهل الزوجين

هذه مراتب علاج النشوز الثلاث، بقي مرتبة رابعة، ويضيف الفقهاء الحنابلة رحمهم الله مرتبة رابعة ثم خامسة، فأما الرابعة فلا دليل عليها: وهي أن ينصب القاضي ثقةً يشرف عليهما، يعني: إذا ادعى كل من الزوجين ظلم صاحبه فإن القاضي ينصب ثقةً يشرف عليهما ويلزمهما الحق، وهذا المشرف ليس عليه دليل، لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا؛ فالصواب في ذلك أنه يصار إلى المرتبة الخامسة، وهي مرتبة بعث الحكمين، ودليلها قول الله عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، وهذان الحكمان ما كيفيتهما؟ هل هما وكيلان، أم أنهما حكمان، أي: قاضيان؟ للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:

الرأي الأول: أنهما وكيلان وليسا حكمين، وهذا هو المذهب، وهو مذهب الحنفية: وعلى هذا لا يملكان التفريق بين الزوجين إلا بإذنهما؛ ودليلهم قول الله عز وجل: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35] ولا يكون الإصلاح إلا إذا كان ذلك بإذن الزوجين.

الرأي الثاني وهو رأي المالكية، وقول عند الشافعية: أنهما حكمان، يعني: أنهما بمنزلة القاضيين، ودليل ذلك ظاهر القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] ولأن هذا هو الوارد عن علي رضي الله تعالى عنه، وهذا القول هو الصواب، وعلى هذا؛ إذا رأى هذان الحكمان أن يفرقا بين الزوجين فرقا، وإن رأيا أن يجتمعا اجتمعا، سواء كان ذلك بعوض أو كان ذلك بغير عوض.

ويشترط لهذين الحكمين شروط:

الشرط الأول: التكليف؛ لأن الصغير والمجنون لا ينظران لأنفسهما فلا ينظران لغيرهما.

والشرط الثاني: الإسلام؛ لقول الله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] .

والشرط الثالث: الذكورة، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى؛ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) وهذا ما عليه أكثر أهل العلم خلافًا للحنفية، والحنفية كما سيأتينا في باب القضاء يتوسعون في ولاية المرأة، وهم أوسع الناس فيما يتعلق بولاية المرأة، لكن الصواب في ذلك هو ما عليه جمهور أهل العلم.

الشرط الرابع: العدالة، ويشترطها جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، والصواب كما تقدم: أننا نشترط بدل العدالة: الأمانة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اشترطها بقوله: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26] .

والشرط الخامس: علم الحكمين، يعني: أن يكون الحكمان عالمين بالجمع والتفريق وما يصلح الزوجين، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو أيضًا مذهب المالكية، والرأي الثاني: أن هذا ليس شرطًا؛ لأن الواجب هو الإصلاح، والإصلاح لا يتطلب علمًا، والذي يظهر -والله أعلم- هو الرأي الأول.

الشرط السادس: أن يكون الحكمان من أهل الزوجين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] وهذا قول المالكية للآية، وعند جمهور أهل العلم: أن هذا سنة وليس شرطًا؛ لأن المقصود هو الإصلاح، والذي يظهر -والله أعلم- هو رأي المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام : أنه لا بد أن يكون الحكمان من أهل الزوجين.

فإن عجز الحكمان فيصار إلى الطلاق، وأنت تنظر إلى أن الإسلام حريص على عدم إيقاع الطلاق، وأنه إذا حصل شقاق بين الزوجين فإنه لا يصار إلى الطلاق ابتداءً، وإنما يكون في آخر المراحل، فيعالج نشوز الزوجة بما ذكره الله عز وجل وتقدم بيانه من مراتب، ثم إذا تعذرت الحياة الزوجية فحينئذٍ يصار إلى الطلاق، هذا فيما يتعلق بنشوز الزوجة.

نشوز الزوج

وأما نشوز الزوج فبينه الله عز وجل بقوله: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [النساء:128] فإذا خافت المرأة من زوجها أن يطلقها، أو وجدت منه الإعراض عن القيام بحقوقها، وخصوصًا إذا كبرت في السن أو مرضت أو نحو ذلك، فالإصلاح هو المطلوب بدلًا من أن تطلق؛ لأن الطلاق كسر للمرأة، وذلك بأن تتنازل عن شيءٍ من حقوقها، فتتنازل عن شيءٍ من النفقة أو شيءٍ من القسم، أو شيءٍ من السكنى، حتى تدوم الحياة الزوجية.

وكون الزوجة في ظل زوج خير لها من أن تظل بلا زوج، ولا شك أن الزوج وإن قصر في بعض حقوق الزوجة إلا أنه يكفي أن تكون في ظله، وأن لها من يقوم عليها ويكفلها ويحصل لها شيء من الأنس والألفة وحفظ البيت والأولاد ونحو ذلك.

قال رحمه الله: (وعظها).

هذه المرتبة الأولى من مراتب علاج النشوز وهي: الوعظ، والتذكير، قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] والنشوز محرم وهو معصية، ويدل لهذه المرتبة ما تقدم من قول الله عز وجل: فَعِظُوهُنَّ [النساء:34] يعني: ذكروهن بحقوق الزوج وما يترتب على ذلك من شؤم المعصية وعظيم الذنب، ويذكر لها الزوج ما ورد في ذلك من أدلة كحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) خرجاه في الصحيحين، والأحاديث كثيرة في حق الزوج.

وهذه هي المرتبة الأولى، وهي: مرتبة الوعظ، وليس لها حد، بل يستمر في وعظها إلى أن تقوم القرينة على أنها لا تستجيب، فينتقل إلى المرتبة الثانية.

قال رحمه الله: (فإن أصرت هجرها في المضجع).

هذه المرتبة الثانية: إذا أصرت على النشوز ولم تستجب، فإن الزوج يهجرها في مضجعها، وللعلماء في تفسير الهجر رأيان:

الرأي الأول: أنه هجر الفراش، وهذا هو المشهور من المذهب: أنه يهجر فراش زوجته؛ وعلى هذا لا ينام معها في فراشها، وقال بعض العلماء: بل إذا كانت له زوجة أخرى.

والرأي الثاني: أن المراد بذلك عدم هجر الفراش وإنما يهجر المرأة، فينام في الفراش ويهجر المرأة، بألا ينظر إليها ولا يتحدث معها ونحو ذلك، وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34] ولم يقل: اهجروا المضاجع، وهذا القول هو الصواب، ولأن هذا أيضًا أبلغ في الردع والزجر والتأديب.

قال رحمه الله: (وفي الكلام ثلاثة أيام).

للعلماء رحمهم الله في مدة الهجر في المضجع رأيان:

الرأي الأول، وهو قول جمهور أهل العلم: أن مدة الهجر غير مقدرة، وهذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا على ذلك بإطلاق الآية.

والرأي الثاني: أنها تقدر بشهر، ويدل لذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، لما آلى منهن حين طالبنه بالنفقة وهو لا يجد، فآلى النبي منهن شهرًا، وهذا قول المالكية.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يقدر بمدة؛ لأن الهجر يقصد منه التأديب، وإذا كان كذلك فإذا كان الزوج يرى أن المصلحة قائمة في الهجر فإنه يهجر، سواء كان لمدة شهر أو أقل أو أكثر.

والهجر ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الهجر الذي يقصد منه التأديب، كهجر الزوج زوجته إذا لم تقم بحقوقه، وهجر الوالد لولده إذا عصاه، وهجر العاصي المذنب، وهذا لا يتقدر بمدة، وإنما مرجعه إلى المصلحة، فإذا كان هناك مصلحة فإنه يهجر بمقدار تلك المصلحة، ويدل لهذا هذه الآية، فإن الله سبحانه وتعالى أطلق، وهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المخلفين في غزوة تبوك خمسين ليلة.

القسم الثاني: الهجر الذي لا يقصد منه الإصلاح والتأديب، وإنما الهجر الذي سببه الخصام والمغاضبة، كما لو حصل بين شخصين شيء من الخصام والمغاضبة والتنازع ونحو ذلك، فهذا لا يجوز أن يزيد على ثلاثة أيام؛ لأن الأصل في المسلم أن يقوم بحق أخيه المسلم، و( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ) ، والحديث محمول على هذا القسم، وبهذا تجتمع الأدلة، فنقول: لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ) ، ولأن الأصل أن يقوم المسلم بحق أخيه المسلم: ( حق المسلم على المسلم خمس - وفي رواية: ست -: إذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا عطس فحمد الله فشمته ) إلى آخر الحديث.

فتلخص لنا: أن الهجر ينقسم إلى هذين القسمين.

والمؤلف رحمه الله تعالى يقول: يهجرها في الكلام ثلاثة أيام فقط، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ لما تقدم من حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ) .

والرأي الثاني: أنه لا يتقدر بمدة.

وهذا الحديث كما قلنا محمول على الهجر الذي يكون في حال المخاصمة، فلو وقع بينك وبين شخص مخاصمة ونزاع وشجار، فقد رخص لك الشارع أن تهجره إلى ثلاثة أيام، أما أكثر من ذلك فلا تهجره، وأما الهجر الذي يقصد منه الإصلاح والتأديب، فهذا لا يتقيد، وهذا القول هو الصواب.

وعلى هذا نقول: الهجر في الكلام لا يتقيد بثلاثة أيام، ما دام أن المقصود هو الإصلاح والتأديب.

قال رحمه الله تعالى: (فإن أصرت).

يعني: لم تنجح المرحلة السابقة، وهي مرتبة الهجر، فإنه يصير إلى المرتبة الثالثة: وهي مرتبة الضرب، والضرب دليله القرآن كما تقدم: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34].

وما ثبت من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبعٍ، واضربوهم على ذلك وهم أبناء عشر ).

وحديث أبي بردة أيضًا في الصحيحين: ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله ) والمقصود بالجلد هنا: جلد التأديب، كما حمله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

قال رحمه الله: (غير مبرح).

هذا الشرط الأول من شروط الضرب: أن يضربها ضربًا غير مبرح، يعني: لا يكون الضرب ضارًا، ولا يكون شاقًا؛ لأن المقصود من الضرب هو التأديب والإصلاح، وليس المقصود منه الإتلاف والإضرار والإشقاق؛ وعلى هذا نقول: بأنه ضرب يؤلم لكن لا يشق، فإذا كان يترتب على المضروب مشقة أو ضرر فإنه لا يجوز؛ لأن الأصل في بدن المسلم الحرمة: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ).

الشرط الثاني: ألا يزيد هذا الضرب على عشرة أسواط، ودليله ما تقدم من حديث أبي بردة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله ) .

الشرط الثالث: أن يجتنب المقاتل، ففي البدن مقاتل: كالفؤاد والفرج والقلب والكليتين ونحو ذلك من المقاتل، لقول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] .

الشرط الرابع: أن يقصد بذلك امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يقصد الانتقام، وهذه المسألة تغيب عن كثيرٍ من الناس، فتجد أنه إذا خولف يقصد أن ينتقم لنفسه وأن يطفئ غضبه، ولا يقصد بالضرب أن يمتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجد أن الشيطان يستولي عليه فيشق في ضرب المؤدب وهذا خطأ، بل الواجب عليه أن يمتثل؛ لأنه إذا نوى أن يمتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كان ضرب هذا عبادة يؤجر عليه، وإذا قصد أن ينتقم لنفسه وأن يطفئ غضبه ونحو ذلك فلا يؤجر بل يأثم على ذلك؛ لأن الأصل في بدن المسلم الحرمة.

الشرط الخامس: أن يكون المؤدب ممن يحتمل التأديب، فإن كان لا يحتمل التأديب لصغره أو لكونه مريضًا أو نحو ذلك، فإنه لا يؤدبه وإنما يكون تأديبه بالتوبيخ ونحو ذلك.

هذه مراتب علاج النشوز الثلاث، بقي مرتبة رابعة، ويضيف الفقهاء الحنابلة رحمهم الله مرتبة رابعة ثم خامسة، فأما الرابعة فلا دليل عليها: وهي أن ينصب القاضي ثقةً يشرف عليهما، يعني: إذا ادعى كل من الزوجين ظلم صاحبه فإن القاضي ينصب ثقةً يشرف عليهما ويلزمهما الحق، وهذا المشرف ليس عليه دليل، لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا؛ فالصواب في ذلك أنه يصار إلى المرتبة الخامسة، وهي مرتبة بعث الحكمين، ودليلها قول الله عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، وهذان الحكمان ما كيفيتهما؟ هل هما وكيلان، أم أنهما حكمان، أي: قاضيان؟ للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:

الرأي الأول: أنهما وكيلان وليسا حكمين، وهذا هو المذهب، وهو مذهب الحنفية: وعلى هذا لا يملكان التفريق بين الزوجين إلا بإذنهما؛ ودليلهم قول الله عز وجل: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35] ولا يكون الإصلاح إلا إذا كان ذلك بإذن الزوجين.

الرأي الثاني وهو رأي المالكية، وقول عند الشافعية: أنهما حكمان، يعني: أنهما بمنزلة القاضيين، ودليل ذلك ظاهر القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] ولأن هذا هو الوارد عن علي رضي الله تعالى عنه، وهذا القول هو الصواب، وعلى هذا؛ إذا رأى هذان الحكمان أن يفرقا بين الزوجين فرقا، وإن رأيا أن يجتمعا اجتمعا، سواء كان ذلك بعوض أو كان ذلك بغير عوض.

ويشترط لهذين الحكمين شروط:

الشرط الأول: التكليف؛ لأن الصغير والمجنون لا ينظران لأنفسهما فلا ينظران لغيرهما.

والشرط الثاني: الإسلام؛ لقول الله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] .

والشرط الثالث: الذكورة، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى؛ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) وهذا ما عليه أكثر أهل العلم خلافًا للحنفية، والحنفية كما سيأتينا في باب القضاء يتوسعون في ولاية المرأة، وهم أوسع الناس فيما يتعلق بولاية المرأة، لكن الصواب في ذلك هو ما عليه جمهور أهل العلم.

الشرط الرابع: العدالة، ويشترطها جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، والصواب كما تقدم: أننا نشترط بدل العدالة: الأمانة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اشترطها بقوله: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26] .

والشرط الخامس: علم الحكمين، يعني: أن يكون الحكمان عالمين بالجمع والتفريق وما يصلح الزوجين، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو أيضًا مذهب المالكية، والرأي الثاني: أن هذا ليس شرطًا؛ لأن الواجب هو الإصلاح، والإصلاح لا يتطلب علمًا، والذي يظهر -والله أعلم- هو الرأي الأول.

الشرط السادس: أن يكون الحكمان من أهل الزوجين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] وهذا قول المالكية للآية، وعند جمهور أهل العلم: أن هذا سنة وليس شرطًا؛ لأن المقصود هو الإصلاح، والذي يظهر -والله أعلم- هو رأي المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام : أنه لا بد أن يكون الحكمان من أهل الزوجين.

فإن عجز الحكمان فيصار إلى الطلاق، وأنت تنظر إلى أن الإسلام حريص على عدم إيقاع الطلاق، وأنه إذا حصل شقاق بين الزوجين فإنه لا يصار إلى الطلاق ابتداءً، وإنما يكون في آخر المراحل، فيعالج نشوز الزوجة بما ذكره الله عز وجل وتقدم بيانه من مراتب، ثم إذا تعذرت الحياة الزوجية فحينئذٍ يصار إلى الطلاق، هذا فيما يتعلق بنشوز الزوجة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2814 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2725 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2674 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2639 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2636 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2554 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2549 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2524 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2518 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2493 استماع