شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [36]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [... ولا راع لم يتعد، ويضمن المشترك ما تلف بفعله، ولا يضمن ما تلف من حرزه، أو بغير فعله ولا أجرة عليه، وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل، وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة، ومن تسلم عينا بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل.

باب السبق: يصح على الأقدام وسائر الحيوانات والسفن والمزاريق، ولا تصح بعوض إلا في إبل وخيل وسهام، ولابد من تعيين المركوبين، واتحادهما، والرماة، والمسافة بقدر معتاد، وهي جعالة لكل واحد فسخها].

تقدم لنا أن الأجراء ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: أجير خاص: وهو من أجر نفعه بالزمن.

والقسم الثاني: أجير مشترك: وهو من قدر نفعه بالعمل، وضربنا لذلك أمثلة، وذكرنا أن كثيراً من الناس اليوم من باب الأجراء الخاصين، فمثلاً الموظف: إذا كان يعمل في هذه المؤسسة من الساعة السابعة إلى الساعة الثانية، ونحو ذلك، فهذا أجير خاص، ومثال آخر: سائق المركبة إذا كان عمله مقدراً بالأشهر، فهذا أجير خاص، وأما الأجير المشترك فهو من قدر نفعه بالعمل، وذلك مثل: الخياط، والغسال، والطباخ، وأصحاب الورش، سواء كانت هذه الورش في صناعة الأثاث، أو إصلاح السيارات، أو غير ذلك، فهؤلاء كلهم من قبيل الأجراء المشتركين.

لكن هل يضمن الأجير الخاص، أو لا يضمن؟ قال المؤلف رحمه الله: بأنه لا ضمان عليه، إلا إن تعدى وفرط، وتكلم أيضاً المؤلف رحمه الله عن الطبيب: هل يضمن الطبيب، أو لا يضمن؟

وذكرنا ثلاث حالات للطبيب، ومثله البيطار، والحجام، والختان.

الحالة الأولى: أن يكون حاذقاً ولا تجني يده، فهذا لا ضمان عليه.

الحالة الثانية: أن يكون حاذقاً وتجني يده، فالمؤلف رحمه الله تعالى يرى أنه يضمن، وتكلمنا على هذه المسألة فيما سبق.

الحالة الثالثة: أن يكون غير حاذق، كأن يكون متطبباً جاهلاً، فهذا يضمن، وذكرنا دليل ذلك.

الحالة الرابعة: وهي أن يكون حاذقاً؛ لكن يقوم بالمداواة بلا إذن فهل يضمن أو لا يضمن؟

للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:

الرأي الأول: وهو قول أكثر أهل العلم أنه يضمن؛ لأنه لم يؤذن له بالمداواة.

الرأي الثاني: وهو ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله، واختاره ابن القيم أنه لا ضمان عليه، لقول الله عزّ وجل: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:91]، وهذا محسن، فإذا كان كذلك فنقول: لا ضمان عليه.

وهذا الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا ضمان عليه، وخصوصاً بعض الحالات قد يتعذر فيها الإذن، كما لو كانت الحالة مستعجلة، كما لو حصل عنده نزيف أو نحو ذلك، أو صار له حادث، فقد يتعذر الإذن، وأيضاً بعض الحالات إذا لم يداو ربما أن المرض يكون معدياً وينتشر، وقد يأذن المريض أو وليه وقد لا يأذن، فيظهر والله أعلم أنه لا ضمان عليه.

قال المؤلف رحمه الله: (ولا راعٍ لم يتعد).

الراعي هذا من الأجراء الخاصين؛ لأنه يظهر أن نفعه مقدر بالزمن، وأنه يرعى كل شهر بكذا وكذا، فهو أجيرٌ خاص، وهذا الأجير الخاص كما سلف لنا لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.

قال رحمه الله: (ويضمن المشترك).

المشترك: من قدر نفعه بالعمل.

ضمان ما أتلفه الأجير بفعله

قال رحمه الله: (ويضمن المشترك ما تلف بفعله)، الأجير المشترك هل يضمن أو لا يضمن؟

نقول: هذا فيه تفصيل، فلا يخلو من أحوال:

الحالة الأولى: قال المؤلف: يضمن ما تلف بفعله، كيف ذلك؟ مثلاً: خاط الثوب، وأثناء الخياطة شق الثوب، هنا الآن تلف بفعله، أو لم يتلف بفعله؟ تلف بفعله، كذلك الطباخ لو رفع النار على اللحم، أو على الأرز ونحو ذلك، فاحترق، فتلف بفعله، يقول المؤلف رحمه الله: يضمن ما تلف بفعله.

وكذلك أيضاً: صاحب الورشة لإصلاح السيارات، أثناء عمله بالسيارة أخطأ، فتلف شيء من أجزاء السيارة، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: يضمن ما تلف بفعله، وهذا هو المشهور من المذهب، ويستدلون بحديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وإسناده ضعيف.

الرأي الثاني: وبه قال أبو حنيفة وهو الأظهر عن الشافعي : أنه لا ضمان عليه، لماذا؟ لأنه أمين، وكما أسلفنا أن كل من قبض المال بإذن الشارع، أو بإذن المالك، فإنه أمين لا ضمان عليه، والله عزّ وجل قال: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، فما دام أنه ليس ظالماً، لم يتعد ولم يفرط، فهو أمين لا ضمان عليه، وهذا القول هو الصواب.

وهناك آثار واردة عن الصحابة عن عمر وعلي في تضمين الصناع ونحو ذلك؛ لكن الصواب أنها ضعيفة ليست ثابتة عنهم، رضي الله تعالى عنهم.

ضمان ما تلف من حرزه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يضمن ما تلف من حرزه).

هذا القسم الثاني: ما تلف من حرزه يقول المؤلف رحمه الله: لا ضمان عليه، كيف ذلك؟ مثلاً هذا الخياط أعطيناه الثوب لكي يخيطه، أو الغسال أعطيناه الثوب لكي يغسله، فجاء السارق وكسر المحل، وسرق الثوب، فهل يضمن الغسال أو لا يضمن؟

قال المؤلف: لا يضمن ما دام أنه تلف من حرزه، ولم يثبت بفعله، فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه تلف بغير يده، ولأن العين بيده أمانة، فهو كالمودع، والمودع لا ضمان عليه.

ضمان ما تلف بغير فعل الأجير

قال: (أو بغير فعله).

أيضاً قال المؤلف إذا تلف بغير فعله، فلا ضمان عليه.

مثال ذلك: الغسال أخذ الثوب لكي يغسله، ثم احترقت المغسلة، واحترق الثوب معها، فهل يضمن أو لا يضمن؟

نقول: لا ضمان عليه؛ لأنه تلف بغير فعله، والحريق هذا خارج عن إرادته، فلو كان بيده ما احترق محله، والعين كما تقدم في يده أمانة، والمودع لا ضمان عليه.

فتلخص لنا أن الأجير المشترك تحته ثلاث حالات:

الحالة الأولى: ما تلف بفعله.

الحالة الثانية: ما تلف من حرزه.

الحالة الثالثة: ما تلف بغير فعله.

وأصحاب المذهب يرون أنه يضمن في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية والثالثة فإنه لا ضمان عليه، وذكرنا أن الصحيح: أنه لا ضمان عليه في جميع هذه الحالات.

قال رحمه الله: (ويضمن المشترك ما تلف بفعله)، الأجير المشترك هل يضمن أو لا يضمن؟

نقول: هذا فيه تفصيل، فلا يخلو من أحوال:

الحالة الأولى: قال المؤلف: يضمن ما تلف بفعله، كيف ذلك؟ مثلاً: خاط الثوب، وأثناء الخياطة شق الثوب، هنا الآن تلف بفعله، أو لم يتلف بفعله؟ تلف بفعله، كذلك الطباخ لو رفع النار على اللحم، أو على الأرز ونحو ذلك، فاحترق، فتلف بفعله، يقول المؤلف رحمه الله: يضمن ما تلف بفعله.

وكذلك أيضاً: صاحب الورشة لإصلاح السيارات، أثناء عمله بالسيارة أخطأ، فتلف شيء من أجزاء السيارة، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: يضمن ما تلف بفعله، وهذا هو المشهور من المذهب، ويستدلون بحديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وإسناده ضعيف.

الرأي الثاني: وبه قال أبو حنيفة وهو الأظهر عن الشافعي : أنه لا ضمان عليه، لماذا؟ لأنه أمين، وكما أسلفنا أن كل من قبض المال بإذن الشارع، أو بإذن المالك، فإنه أمين لا ضمان عليه، والله عزّ وجل قال: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، فما دام أنه ليس ظالماً، لم يتعد ولم يفرط، فهو أمين لا ضمان عليه، وهذا القول هو الصواب.

وهناك آثار واردة عن الصحابة عن عمر وعلي في تضمين الصناع ونحو ذلك؛ لكن الصواب أنها ضعيفة ليست ثابتة عنهم، رضي الله تعالى عنهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يضمن ما تلف من حرزه).

هذا القسم الثاني: ما تلف من حرزه يقول المؤلف رحمه الله: لا ضمان عليه، كيف ذلك؟ مثلاً هذا الخياط أعطيناه الثوب لكي يخيطه، أو الغسال أعطيناه الثوب لكي يغسله، فجاء السارق وكسر المحل، وسرق الثوب، فهل يضمن الغسال أو لا يضمن؟

قال المؤلف: لا يضمن ما دام أنه تلف من حرزه، ولم يثبت بفعله، فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه تلف بغير يده، ولأن العين بيده أمانة، فهو كالمودع، والمودع لا ضمان عليه.

قال: (أو بغير فعله).

أيضاً قال المؤلف إذا تلف بغير فعله، فلا ضمان عليه.

مثال ذلك: الغسال أخذ الثوب لكي يغسله، ثم احترقت المغسلة، واحترق الثوب معها، فهل يضمن أو لا يضمن؟

نقول: لا ضمان عليه؛ لأنه تلف بغير فعله، والحريق هذا خارج عن إرادته، فلو كان بيده ما احترق محله، والعين كما تقدم في يده أمانة، والمودع لا ضمان عليه.

فتلخص لنا أن الأجير المشترك تحته ثلاث حالات:

الحالة الأولى: ما تلف بفعله.

الحالة الثانية: ما تلف من حرزه.

الحالة الثالثة: ما تلف بغير فعله.

وأصحاب المذهب يرون أنه يضمن في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية والثالثة فإنه لا ضمان عليه، وذكرنا أن الصحيح: أنه لا ضمان عليه في جميع هذه الحالات.

قال المؤلف رحمه الله: (وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل).

تجب الأجرة بالعقد، ويدل لذلك: حديث سهل رضي الله عنه في قصة الواهبة التي جاءت تهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأت أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقض فيها شيئاً، قامت، فقال رجل: (يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصدقها؟ قال: إزاري)، والإزار: هو الثوب الذي يستر النصف الأسفل من البدن، يقول الراوي: عليه إزار ما عليه رداء لا يملك إلا هذا الإزار فقط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك )، أي: إن أصدقتها هذا الإزار فلا يكون لك إزار.

والشاهد من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( جلست ولا إزار لك )، هذا يدل على أنها ملكت الإزار بالعقد.

ومثلها أيضاً تكون الأجرة، فإذا استأجر البيت، فالمؤجر ملك الأجرة، فيجب على المستأجر أن يعطيه الأجرة؛ لأنه ملكها.

وقوله: (وتجب الأجرة بالعقد) أي: يجب عليه أن يسلمها إليه.

قوله: (إن لم تؤجل) فإذا أجلت الأجرة فالمسلمون على شروطهم، واليوم تجد أن المستأجر إذا استأجر بيتاً يسلم بعض الأجرة، ويؤجل الأجرة الباقية، ويجعلها أقساطاً، يعطيه دفعة في أول العقد، ودفعة في منتصف العقد، فالمهم أن المسلمين على شروطهم، والخلاصة في ذلك: إن كان شرط فنرجع إليه، وإن لم يكن فنرجع إلى كلام العلماء وهو أن الأجرة تجب بالعقد إذا لم يكن هناك تأجيل. هذا إذا كان العقد على منفعة.

فإن كان العقد على عمل، فقال المؤلف: (وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة)، إذا كانت الأجرة على عمل، فما يستحق الأجرة إلا إذا سلم المستأجر العمل، مثلاً: إذا استأجرت هذا الشخص لكي يقوم بالدهان، ولكي يقوم بعمل البلاط ونحو ذلك، هل يستحق الأجرة في بداية العمل عند العقد؟ أو يستحقها إذا سلمني العمل؟ الجواب إذا سلم العمل.

فيتلخص لنا أن الأجرة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون على منافع، مثاله: البيت، والدكان ونحو ذلك، فهذا -كما ذكر المؤلف- تجب الأجرة بالعقد، إن لم تؤجل.

القسم الثاني: أن تكون الإجارة على عمل من الأعمال، كما لو استأجرته لكي يبني مثلاً، أو لكي يدهن، أو لكي ينظف، أو لكي يصلح السيارة، فإنه لا يستحق الأجرة إلا إذا سلم العمل، ولهذا قال المؤلف: (الذي في الذمة) يعني: العمل الموصوف في الذمة، كما لو استأجرته لكي يبني البيت، أو لكي يدهن، بصفة كذا وكذا، فهذا عمل مقصود.

قال رحمه الله: (ومن تسلم عيناً بإجارة فاسدة، وفرغت المدة، لزمه أجرة المثل).

الإجارة الفاسدة ما فقدت شرطاً من شروط صحتها -مثلاً- إذا كانت الأجرة مجهولة، فنقول: هذه إجارة فاسدة، فلو أنه تسلم البيت بإجارة فاسدة كأن يكون استأجر البيت لمدة سنة بأجرة مجهولة، وتسلم البيت، فهذه الإجارة فاسدة لجهالة الأجرة، وفرغت المدة، يقول المؤلف رحمه الله: يجب عليه أجرة المثل.

وهنا قاعدة على المذهب -وستأتينا في باب الغصب- وهي: أن المقبوض في عقد فاسد حكمه حكم المغصوب، وسيأتينا في المغصوب أنه إذا غصب ما له منافع فإنه تجب عليه أجرة هذه العين، مثلاً: غصب بيتاً، أو غصب سيارة، ونحو ذلك، فإنه يجب عليه الأجرة مدة الغصب.