خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [17]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، ولا هبته ولا الحوالة به، ولا عليه، ولا أخذ عوضه ولا يصح الرهن والكفيل به].
تقدم لنا جملة من شروط السلم ومن ذلك: ذكر الجنس والنوع، وكل وصف يختلف به الثمن اختلافاً ظاهراً، وأن يسلم في الذمة، وقبض رأس مال السلم في المجلس، فإن تفرقا قبل القبض بطل العقد، وإن قبض البعض دون البعض صح فيما قبض، ولم يصح فيما لم يقبض.
وكذلك أيضاً تقدم لنا أين يجب الوفاء. وأن المؤلف رحمه الله تعالى قال: (يجب الوفاء في مكان العقد)، وذكرنا أن الأقرب في هذه المسألة: أن الوفاء يكون في مكان المسلم، وأن المؤلف رحمه الله رتب على ذلك قوله: (وإن عقد ببر، أو بحر شرطاه)، يعني: إذا عقد السلم في بر، أو بحر، أو جو -كما في وقتنا الآن- فلا بد أن يشرط مكان الوفاء؛ لأنه لا يمكن الوفاء في مجلس العقد.
وإذا قلنا: بأن الوفاء إنما يجب في مكان المسلم فإنه لا حاجة لذلك، فقوله: (فإن عقد في بر، أو بحر شرطاه)، هذا مبني على المشهور من المذهب أن الوفاء يجب في مكان العقد.
بيع المسلم فيه
المشهور عند الحنابلة رحمهم الله تعالى أنهم يشددون في دين السلم، وأما دين القرض فالأمر عندهم أخف، ففرق بين دين القرض وبين دين السلم، ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يباع دين السلم، ولا تجوز هبته، ولا الحوالة به، ولا الحوالة عليه، ولا أخذ الرهن به، ولا أخذ الكفيل.
أما بالنسبة لدين القرض -كما سيأتينا بعد هذا الباب- فيصح أن تأخذ عليه كفيلاً، ويصح أيضاً أن تأخذ عليه رهناً، ويصح أن تحيل به، وأن تحيل عليه، فهم يفرقون بين هذين الدينين؛ والعلة في ذلك: أنهم شددوا في باب السلم، وهذا كله مبني على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره )، فبناءً على هذا الحديث -كما سلف- شددوا في دين السلم.
وهذا الحديث كما تقدم ضعيف غير ثابت؛ لأن في إسناده عطية العوفي وهو ضعيف، وقد أعله أبو حاتم رحمه الله تعالى بالاضطراب، فهذه الأحكام والتي ستأتينا الآن مبنية على هذا الحديث، ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) .
فقول المؤلف رحمه الله: (ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه) يعني: دين السلم، فمثلاً: أسلمته ألف ريال على أن يعطيك ألف قلم صفته كذا وكذا، أو على أن يعطيك ألف ثوب فدين السلم -هذه الأثواب أو هذه الأقلام- هل يصح لك أن تبيعها؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح لك أن تبيعها، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو قول جمهور العلماء، ودليلهم ما سلف من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره )؛ فلئلا يصرف السلم إلى غيره منع من بيعه. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي المالكية رحمهم الله: أنه يصح بيع دين السلم، فيصح بيع المسلم فيه سواء كان المسلم فيه طعاماً أو كان غير طعام؛ لكنهم يشترطون لبيع دين السلم إذا كان طعاماً بعض الشروط، وهذا القول يعني: صحة بيع دين السلم هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فإنه قال: يصح بيع دين السلم؛ لكن يشترط أن يكون بسعر يومه وأن يكون حالاً، يعني: يشترط أن يكون بسعر يومه، أو أقل، لئلا يربح فيما لم يضمن.
ونقول: الراجح في هذه المسألة: أن بيع دين السلم يجوز إذا كان بمثل الثمن أو أقل، وكان حالاً، وعلى هذا نقول: بيع دين السلم على ما هو عليه يصح بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، أو أقل؛ لئلا يربح في ما لم يضمن.
الشرط الثاني: القبض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة.
فمثلاً: لو كان دين السلم براً، فأعطيته ألف ريال على أن يعطيك ألف صاع من البر، فهل يجوز لك أن تبيع هذه الأصواع على المسلم إليه؟ يعني: المسلم هل يجوز له أن يبيع هذه الأصواع على المسلم إليه أو لا يجوز؟ يعني: يبيع دين السلم على من هو عليه، فالمسلم طلب من المسلم إليه أن يعطيه الدين -الأصواع- فقال: ما عندي أصواع، فأنا أعطيك بدلاً من هذا البر التي تريد مني ثياباً، أو أعطيك أقلاماً، فهنا الآن باع دين السلم على من هو عليه فنشترط شرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، فهذه الأصواع التي هي ألف صاع من البر كم تساوي الآن؟ فإذا أردت أن أشتريها بثياب فكم تساوي من الثياب؟ فإذا كانت تساوي مائة ثوب فأشتريها بمائة ثوب، أو أشتريها بتسعين ثوباً؛ لكن أكثر لا يجوز؛ لئلا يربح الإنسان فيما لا يدخل في ضمانه.
الشرط الثاني: القبض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة فمثلاً: إذا كان دين السلم براً، وأردت أن أشتريه منه بشعير، فأنا أريد منه براً، فقلت: أعطني البر، فقال: ما عندي بر، لكن عندي شعير، فقلت: أعطني الشعير، فهنا يشترط القبض؛ لأن العوضين هنا يجري بينهما ربا النسيئة، فعندما تبادل براً بشعير، فإنه يشترط أن يكون يداً بيد، فنشترط هذين الشرطين.
هبة المسلم فيه
هبة دين السلم تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: هبته لمن هو عليه، فيقولون: هذا جائز ولا بأس به.
القسم الثاني: هبته لغير من هو عليه، فالمشهور من المذهب أن هذا غير جائز.
فمثلاً: إذا أسلمته ألف ريال على أن يعطيك ألف ثوب صفته كذا وكذا فيجوز لك أن تهب دين السلم للمسلم إليه لمن هو عليه الدين، لكن أن تهب دين السلم لغير من هو عليه فهذا لا يجوز، فمثلاً: لو وهبت دين السلم لعمرو وأنت تريده من زيد فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يجوز، والعلة في ذلك: أنه قد لا يقدر على تسليمه فيكون فيه شيء من الغرر، يعني: أن المسلم -صاحب الدين- قد لا يقدر على تسليم هذا الدين لمن وهب له، أو نقول: من وهب له هذا الدين قد لا يستطيع أن يأخذه من المسلم إليه.
وهذا ينبني على مسألة وهي: هل الغرر يجري في عقود المعوضات أو أن الغرر لا يجري في عقود المعاوضات؟
هذا سيأتينا إن شاء الله في ضابط الغرر، وسنتكلم إن شاء الله عن الغرر، وضوابطه، وروابطه.
لكن هل الغرر يجري في عقود المعاوضات أم أن الغرر لا يجري في عقود المعاوضات؟
جمهور العلماء يلحقون عقود المعاوضات بعقود التبرعات، يعني: هل هذا الغرر يجري في عقود التبرعات أم لا؟ جمهور العلماء يلحقون عقود التبرعات بعقود المعاوضات، فيرون أن الغرر في الجملة كما يجري في عقود التبرعات يجري في عقود المعاوضات. وأحسن شيء في ذلك مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الغرر لا يجري في عقود التبرعات، ويترتب على هذا مسائل كثيرة، مثلاً: هبة المجهول، تجد أن كثيراً من الفقهاء يقولون: هبة المجهول لا تجوز؛ لأنها غرر؛ لكن الصحيح أن هبة المجهول جائزة؛ لأن الموهوب له يدخل في هذه المعاملة وهو إما غانم، أو سالم، فلا يدخل وهو مخاطر أو غارم. ومثل هبة المجهول هبة المعدوم.
وكما سلف أن هبة الشيء الذي لا يقدر على تسليمه هل يصح أو لا يصح؟ كما لو وهب سيارته المسروقة أو المغصوبة أو نحو ذلك، فالكلام السابق يجري هنا، فالصحيح أن الغرر لا يجري في عقود التبرعات، وأن عقود التبرعات أوسع من عقود المعاوضات؛ لأن عقود التبرعات يقصد بها الإرفاق والإحسان بخلاف عقود المعاوضات؛ فإنه يقصد بها الكسب والربح، ولهذا تحصل فيها المشاحنة.
والصواب في هذه المسألة: أن دين السلم تصح هبته مطلقاً سواء كان ذلك لمن هو عليه أو كان ذلك لغير من هو عليه.
الحوالة بالمسلم فيه
أي: لا تصح الحوالة بدين السلم.
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يأخذ منه ألف قلم، فحل الأجل وجاء المسلم للمسلم إليه، وقال: اعطني المسلم -فيه الأقلام- فقال: ما عندي الأقلام، فالأقلام هذه ليست موجودة عندي لكن أحيلك على عمرو لتأخذ منه هذه الأقلام، فهنا الحوالة بدين السلم هل يجوز ذلك أو لا يجوز؟
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: إن الحوالة به لا تجوز، ودليل ذلك: أن هذا كالبيع، والحوالة مبادلة كالبيع، فهو الآن يريد منه هذه الأقلام، فبدلت هذه الأقلام بأقلام أخرى، ولما جاء المسلم للمسلم إليه، قال: اعطني هذه الأقلام، قال: ليست عندي هذه الأقلام؛ لكن أحيلك على صاحب الأقلام فاذهب وخذها منه، فهنا حصلت الآن مبادلة أقلام بأقلام أخرى، وهذا نوع من البيع.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) وهنا صرفه إلى غيره، وكما أنه لا يجوز بيع المسلم فيه فأيضاً لا تجوز الحوالة به، لكن كما سلف أن الحديث في ذلك ضعيف، وقد تقدم أن بيع المسلم فيه جائز ولا بأس به، بل سيأتينا إن شاء الله أنه كما يصح أن تبيع دين السلم على من هو عليه، كذلك أيضاً يصح أن تبيع دين السلم على غير من ما هو عليه.
فالمؤلف رحمه الله يقول: (لا تصح الحوالة به)، والصحيح في ذلك: أنه تصح الحوالة به.
الحوالة على المسلم فيه
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يعطيه مائة صاع من التمر، وزيد يريد من المسلم تمراً، فجاء إلى المسلم وقال: اعطني التمر الذي أريد، قال: أنا أحيلك على المسلم إليه، أي: أنا أريد من فلان المسلم إليه كذا وكذا من التمر، فهل تصح الحوالة على دين السلم؟ فيقول المؤلف رحمه الله: لا تصح الحوالة على دين السلم.
وتوضيح ذلك أكثر: زيد أسلم عمراً ألف ريال على أن يعطيه كذا وكذا من التمر فإذا كان صالح يريد من زيد -المسلم- كذا وكذا: من التمر، فجاء صالح لزيد المسلم، قال: اعطني التمر، قال: أنا أحيلك على عمرو المسلم إليه فأنا أريد منه كذا وكذا من التمر، فهنا أحال المسلم غريمه على المسلم إليه، لكي يأخذ منه دين السلم الذي يريده منه.
فيقول المؤلف: لا تصح الحوالة على دين السلم، لكي يستوفى منه، وهذا يبنونه على مسألة: وهي أنه يشترط في الدين المحال عليه أن يكون مستقراً، يعني: ليس عرضة للسقوط، وهذه المسألة تأتينا في باب الحوالة إن شاء الله، هل يشترط في الدين المحال عليه أن يكون مستقراً أو أنه لا يشترط؟ فالمشهور من المذهب أنه يشترط في الدين المحال عليه أن يكون مستقراً، يعني: لا يكون عرضة للسقوط، والصواب في ذلك: أنه لا يشترط.
أخذ العوض عن رأس مال السلم
يعني: عوض رأس مال السلم لا يصح أخذه، فالضمير هنا يعود على رأس مال السلم، فيقول المؤلف: لا يصح أن تأخذ عوضه.
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يعطيه تمراً، فجاء الأجل ولم يتمكن المسلم إليه من تحصيل المسلم فيه الذي اتفق عليه، فنقول: للمسلم: أنت مخير، إما أن تصبر حتى يتحصل المسلم فيه، وإما أن تفسخ، فإذا قال: أنا أريد أن أفسخ، فيأخذ الثمن وهو ألف ريال، فهل له أن يأخذ عوض الثمن أو ليس له أن يأخذ عوض الثمن؟ يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يجوز أن يأخذ عوض الثمن، مثلاً: إذا كان الثمن ألف ريال فيعطيه ألف ريال إن كانت هذه الألف موجودة، وإلا المثل في المثليات، والقيمة في المتقومات.
فلو قال المسلم إليه: أنا أعطيك أثواباً بدلاً منها عوضاً عن رأس مال السلم، فيقول المؤلف: لا يجوز أخذ عوض عن رأس مال السلم. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي القاضي أبي يعلى رحمه الله: أن هذا جائز ولا بأس به، وعلى هذا يكون هذا من بيع الدين على من هو عليه، وعلى هذا نشترط شرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.
والشرط الثاني: التقابض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، مثلاً: رأس مال السلم ألف ريال عند المسلم إليه، فقال المسلم إليه: أنا أعطيك بدلاً من هذه الألف أثواباً، نقول: يجوز بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.
والشرط الثاني: القبض إن كان يجري بينهما ربا النسيئة.
ومثال ما يجري بينهما ربا النسيئة، قال: أعطيك بدل الألف ريال جنيهات أو دينارات، فالحكم يجوز، لكن لا بد من القبض؛ لأن الريالات مع الجنيهات أو مع الدينارات يجري بينهما ربا النسيئة، ولا بد أيضاً أن يكون بسعر يومه، أو أقل، لما تقدم.
أخذ الرهن والكفيل بدين السلم
معنى قول المؤلف رحمه الله: أي: لا يصح لك الرهن بدين السلم، ولا أخذ الكفيل بدين السلم.
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يعطيه ألف قلم، أو ألف ثوب، أو ألف كذا، فقال المسلم: أنا أعطيك ألف ريال على أن تعطيني كذا وكذا من البر، أو الشعير، أو الرز أو نحو ذلك؛ لكن بشرط أيضاً أن تعطيني رهناً؛ لأنك ربما لا تسدد الدين الذي عليك.
فيقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يصرفه إلى غيره، فإذا تعذر دين السلم فإنه يصرف إلى الرهن، فيقول المؤلف رحمه الله: إن هذا غير جائز.
كذلك أيضاً أخذ الكفيل بدين السلم، مثلاً: أسلمه دراهم على أن يعطيه مثلاً ثلاجات، وقال: عطني كفيلاً؛ لأن المسلم إليه قد لا يسدد هذه الثلاجات، فهل يجوز أن يأخذ المسلم كفيلاً على المسلم إليه أو لا يجوز؟ فيقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز؛ لئلا يصرفه إلى غيره، والصحيح في ذلك: أن هذا كله جائز ولا بأس به، وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى: أن أخذ الرهن والكفيل جائز ولا بأس به؛ لأن الأصل في ذلك الحل، وهذه عقود توثقة، وكما ذكرنا أنهم يفرقون بين دين السلم وبقية الديون.
فالدين: هو كل ما ثبت في الذمة، فيشمل دين السلم، ويشمل القرض، ويشمل ثمن المبيع المؤجل، ويشمل قيم المتلفات، ويشمل أروش الجنايات، فهذه الديون يصح أن تأخذ فيها الرهن، ويصح أن تأخذ فيها الكفيل، أما دين السلم فإنهم لا يرون أنه يصح أن تأخذ به الرهن والكفيل.
والصواب في ذلك: أن هذا يصح ولا بأس بذلك إن شاء الله.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يصح بيع المسلم فيه).
المشهور عند الحنابلة رحمهم الله تعالى أنهم يشددون في دين السلم، وأما دين القرض فالأمر عندهم أخف، ففرق بين دين القرض وبين دين السلم، ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يباع دين السلم، ولا تجوز هبته، ولا الحوالة به، ولا الحوالة عليه، ولا أخذ الرهن به، ولا أخذ الكفيل.
أما بالنسبة لدين القرض -كما سيأتينا بعد هذا الباب- فيصح أن تأخذ عليه كفيلاً، ويصح أيضاً أن تأخذ عليه رهناً، ويصح أن تحيل به، وأن تحيل عليه، فهم يفرقون بين هذين الدينين؛ والعلة في ذلك: أنهم شددوا في باب السلم، وهذا كله مبني على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره )، فبناءً على هذا الحديث -كما سلف- شددوا في دين السلم.
وهذا الحديث كما تقدم ضعيف غير ثابت؛ لأن في إسناده عطية العوفي وهو ضعيف، وقد أعله أبو حاتم رحمه الله تعالى بالاضطراب، فهذه الأحكام والتي ستأتينا الآن مبنية على هذا الحديث، ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) .
فقول المؤلف رحمه الله: (ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه) يعني: دين السلم، فمثلاً: أسلمته ألف ريال على أن يعطيك ألف قلم صفته كذا وكذا، أو على أن يعطيك ألف ثوب فدين السلم -هذه الأثواب أو هذه الأقلام- هل يصح لك أن تبيعها؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح لك أن تبيعها، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو قول جمهور العلماء، ودليلهم ما سلف من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره )؛ فلئلا يصرف السلم إلى غيره منع من بيعه. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي المالكية رحمهم الله: أنه يصح بيع دين السلم، فيصح بيع المسلم فيه سواء كان المسلم فيه طعاماً أو كان غير طعام؛ لكنهم يشترطون لبيع دين السلم إذا كان طعاماً بعض الشروط، وهذا القول يعني: صحة بيع دين السلم هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فإنه قال: يصح بيع دين السلم؛ لكن يشترط أن يكون بسعر يومه وأن يكون حالاً، يعني: يشترط أن يكون بسعر يومه، أو أقل، لئلا يربح فيما لم يضمن.
ونقول: الراجح في هذه المسألة: أن بيع دين السلم يجوز إذا كان بمثل الثمن أو أقل، وكان حالاً، وعلى هذا نقول: بيع دين السلم على ما هو عليه يصح بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، أو أقل؛ لئلا يربح في ما لم يضمن.
الشرط الثاني: القبض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة.
فمثلاً: لو كان دين السلم براً، فأعطيته ألف ريال على أن يعطيك ألف صاع من البر، فهل يجوز لك أن تبيع هذه الأصواع على المسلم إليه؟ يعني: المسلم هل يجوز له أن يبيع هذه الأصواع على المسلم إليه أو لا يجوز؟ يعني: يبيع دين السلم على من هو عليه، فالمسلم طلب من المسلم إليه أن يعطيه الدين -الأصواع- فقال: ما عندي أصواع، فأنا أعطيك بدلاً من هذا البر التي تريد مني ثياباً، أو أعطيك أقلاماً، فهنا الآن باع دين السلم على من هو عليه فنشترط شرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، فهذه الأصواع التي هي ألف صاع من البر كم تساوي الآن؟ فإذا أردت أن أشتريها بثياب فكم تساوي من الثياب؟ فإذا كانت تساوي مائة ثوب فأشتريها بمائة ثوب، أو أشتريها بتسعين ثوباً؛ لكن أكثر لا يجوز؛ لئلا يربح الإنسان فيما لا يدخل في ضمانه.
الشرط الثاني: القبض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة فمثلاً: إذا كان دين السلم براً، وأردت أن أشتريه منه بشعير، فأنا أريد منه براً، فقلت: أعطني البر، فقال: ما عندي بر، لكن عندي شعير، فقلت: أعطني الشعير، فهنا يشترط القبض؛ لأن العوضين هنا يجري بينهما ربا النسيئة، فعندما تبادل براً بشعير، فإنه يشترط أن يكون يداً بيد، فنشترط هذين الشرطين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا هبته).
هبة دين السلم تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: هبته لمن هو عليه، فيقولون: هذا جائز ولا بأس به.
القسم الثاني: هبته لغير من هو عليه، فالمشهور من المذهب أن هذا غير جائز.
فمثلاً: إذا أسلمته ألف ريال على أن يعطيك ألف ثوب صفته كذا وكذا فيجوز لك أن تهب دين السلم للمسلم إليه لمن هو عليه الدين، لكن أن تهب دين السلم لغير من هو عليه فهذا لا يجوز، فمثلاً: لو وهبت دين السلم لعمرو وأنت تريده من زيد فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يجوز، والعلة في ذلك: أنه قد لا يقدر على تسليمه فيكون فيه شيء من الغرر، يعني: أن المسلم -صاحب الدين- قد لا يقدر على تسليم هذا الدين لمن وهب له، أو نقول: من وهب له هذا الدين قد لا يستطيع أن يأخذه من المسلم إليه.
وهذا ينبني على مسألة وهي: هل الغرر يجري في عقود المعوضات أو أن الغرر لا يجري في عقود المعاوضات؟
هذا سيأتينا إن شاء الله في ضابط الغرر، وسنتكلم إن شاء الله عن الغرر، وضوابطه، وروابطه.
لكن هل الغرر يجري في عقود المعاوضات أم أن الغرر لا يجري في عقود المعاوضات؟
جمهور العلماء يلحقون عقود المعاوضات بعقود التبرعات، يعني: هل هذا الغرر يجري في عقود التبرعات أم لا؟ جمهور العلماء يلحقون عقود التبرعات بعقود المعاوضات، فيرون أن الغرر في الجملة كما يجري في عقود التبرعات يجري في عقود المعاوضات. وأحسن شيء في ذلك مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الغرر لا يجري في عقود التبرعات، ويترتب على هذا مسائل كثيرة، مثلاً: هبة المجهول، تجد أن كثيراً من الفقهاء يقولون: هبة المجهول لا تجوز؛ لأنها غرر؛ لكن الصحيح أن هبة المجهول جائزة؛ لأن الموهوب له يدخل في هذه المعاملة وهو إما غانم، أو سالم، فلا يدخل وهو مخاطر أو غارم. ومثل هبة المجهول هبة المعدوم.
وكما سلف أن هبة الشيء الذي لا يقدر على تسليمه هل يصح أو لا يصح؟ كما لو وهب سيارته المسروقة أو المغصوبة أو نحو ذلك، فالكلام السابق يجري هنا، فالصحيح أن الغرر لا يجري في عقود التبرعات، وأن عقود التبرعات أوسع من عقود المعاوضات؛ لأن عقود التبرعات يقصد بها الإرفاق والإحسان بخلاف عقود المعاوضات؛ فإنه يقصد بها الكسب والربح، ولهذا تحصل فيها المشاحنة.
والصواب في هذه المسألة: أن دين السلم تصح هبته مطلقاً سواء كان ذلك لمن هو عليه أو كان ذلك لغير من هو عليه.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا الحوالة به).
أي: لا تصح الحوالة بدين السلم.
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يأخذ منه ألف قلم، فحل الأجل وجاء المسلم للمسلم إليه، وقال: اعطني المسلم -فيه الأقلام- فقال: ما عندي الأقلام، فالأقلام هذه ليست موجودة عندي لكن أحيلك على عمرو لتأخذ منه هذه الأقلام، فهنا الحوالة بدين السلم هل يجوز ذلك أو لا يجوز؟
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: إن الحوالة به لا تجوز، ودليل ذلك: أن هذا كالبيع، والحوالة مبادلة كالبيع، فهو الآن يريد منه هذه الأقلام، فبدلت هذه الأقلام بأقلام أخرى، ولما جاء المسلم للمسلم إليه، قال: اعطني هذه الأقلام، قال: ليست عندي هذه الأقلام؛ لكن أحيلك على صاحب الأقلام فاذهب وخذها منه، فهنا حصلت الآن مبادلة أقلام بأقلام أخرى، وهذا نوع من البيع.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) وهنا صرفه إلى غيره، وكما أنه لا يجوز بيع المسلم فيه فأيضاً لا تجوز الحوالة به، لكن كما سلف أن الحديث في ذلك ضعيف، وقد تقدم أن بيع المسلم فيه جائز ولا بأس به، بل سيأتينا إن شاء الله أنه كما يصح أن تبيع دين السلم على من هو عليه، كذلك أيضاً يصح أن تبيع دين السلم على غير من ما هو عليه.
فالمؤلف رحمه الله يقول: (لا تصح الحوالة به)، والصحيح في ذلك: أنه تصح الحوالة به.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] | 2816 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] | 2730 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] | 2676 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] | 2643 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] | 2638 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] | 2556 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] | 2553 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] | 2526 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] | 2520 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] | 2497 استماع |